أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ليندا كبرييل - من أندونيسيا عليكم سلام أحمد















المزيد.....


من أندونيسيا عليكم سلام أحمد


ليندا كبرييل

الحوار المتمدن-العدد: 3098 - 2010 / 8 / 18 - 22:20
المحور: الادب والفن
    


  من أندونيسيا عليكم سلام

أحمد
( وقائع القصة حقيقية , مع تعديلات بسيطة للضرورة )
29 أيار _ مايو 2010
شددتُ نظري إليه من بين قضبان السرير . بهتُّ لرؤيته . التبس أمره عليّ وأنا في شبه غيبوبة , فما الذي سيأتي به إلى هنا ؟ ترنّحتْ نظراتي من أثر المخدر بعد العملية الجراحية وأجبتُ الممرضة أني أشعر بالعطش الشديد وبألم في يدي اليمنى . لكن صورته اقتحمت المنطقة المظلمة في ذهني فعدت أغالب جفوني وأركز نظراتي عليه .
إنه " أحمد " دون شك , هو لا غيره !!
ما أن سمع صوت الممرضة حتى تنبّه وقام يتجه يساري .. قبّل يدي وبنبرة باكية صاح : الحمد لله على سلامتكِ . تحاملتُ على نفسي وابتسمت له وأنا بين اليقظة والخدر , وزوجي يسألني ببعض امتعاض من صخبه : منْ هذا ؟ أجبته بوهن : صديق عزيز !
بينما زوجي يستمع لتعليمات الممرضة , سألت أحمد وأكاد لا أضبط إيقاع صوتي عما جاء به ؟ لكني لم أستوعب ردّه فقد غشتني الظلمة ثانية . وكأني بجارتي أسمعها تنهره وتطلب منه أن يخرج من غرفة المرضى , وأحاديث لا أفهم منها شيئاً . دنت الممرضة ترجوني بصوت خفيض أن يكفّ هذا الغريب عن البكاء . ركع أحمد عند طرف السرير يحمل المسبحة في يده ولسانه يلهج بالدعاء لله أن يشفيني .
اليوم صباحاً وأنا أنظف أرضية بيتي وقعتُ إثر اختلال توازني فانكسرت يدي اليمنى . هرعنا إلى المستشفى وكان الألم بدأ ينهشني ولم يهدأ إلا بإبرة مخدر حتى جاء الطبيب وأكد وجوب إجراء عملية . عند الظهر كنت تحت الأضواء في غرفة العمليات , والممرضات رائحات غاديات ثم غبت عن الوعي ..
كانت آثار المخدر بدأت تخفّ . وعندما وعيت كان أحمد متربعاً على الأرض مستغرقاً في نوم عميق . هذه أول مرة أحدّث زوجي بالتفصيل عن أحمد , صديقي ( الزبّال ) الذي تعرفه الشوارع جيداً !!
يا زوجي العزيز إنه ذلك ........
حقاً ..... ؟؟؟ آه , يا للضعيف المسكين !!
......................................................................
الحديث عنه يستحق أن يُروى , تعالوا أحدثكم أنتم أيضاً عنه . منْ " أحمد " ؟؟
يوم التقيته قبل شهور قليلة , كانت محنة مروعة أصابتني وأفقدتني توازني النفسي والجسدي . إشراقة نورانية هلتْ عليّ ودفعتني للخروج إلى الطريق لئلا أستسلم للمصير المأساوي , على أمل لقاءٍ بالمصادفة ينسيني صدمتي , هيا بكِ " ليندا " لعلك تستردّين بعضاً من حالكِ في غفلة من الزمن .
آه من الزمن ! هذا المجرم الأكبر الذي يسرق أعمارنا , سأغافله وأنتزع أنا أيضاً عمري من أنيابه , وأعيش حيوات لا حياة واحدة تكرّم بها عليّ باستعلاء !
مشيتُ طويلاً ..
كل ما حولي يشي بخشونة الحياة وامتحانها القاسي لأناس لا تعرف : هل نفذتْ مواد الخلق فلما أراد المبدع أن يخلقهم صاغهم من القصاصات التي تناثرتْ فما عادوا من بني جلدتك ولا هم من الدرجة الأدنى ؟؟
أو شريحة سقطتْ سهواً من ذاكرة الزمن فنسي أن يحملهم معه إلى عصرنا ؟؟
أم أن الأحزان لا يحلو لها أن ترتع إلا في بلاد الموحّدين !!؟؟
ها هم المتسولون منتشرون على أرصفة الطرقات , لا يكاد نظركَ يرصد حالة تعيسة حتى تصرفكَ عنها بجوارها حالة أشقى .. كادت المشاهد وأنا أمشي تنسيني ما بي .
شعب في سلوكيات حياته اليومية , ينتهج ما يُنتج تلوثاً بيئياً مخيفاً . الضجيج ليلاً نهاراً من الدراجات النارية عماد حياته , المنفثة للهباب , لو أرسلوا بضعاً منها لبلادنا لأيقظتْ أمة العرب النائمة ! الباعة الجوالون على مدار اليوم لا يكفون عن الضرب الرتيب على آلات حديدية طنينها له صدى مثير للأعصاب تتضخم أبعاده في سكون الليل , الأكشاك التي بمثابة المطاعم المتحركة تجهّز الأطعمة بطرق لا يتوفر فيها أدنى شروط السلامة , القنوات الصحية المكشوفة , مكبّات للزبالة , ولا يدهشك وأنت سائر أن تلمح تحت نظرك أحدهم , اتخذ منها مرحاضاً ! فإن فاجأك المشهد وحملقت مثلي دهشة ألقى سلاماً جميلاً وعاد يتابع فعلته , وإن أصررت على البحلقة كما فعلتُ فستتمتع بمشاهدة حية لصور بانورامية بالألوان الطبيعية !!   
أمشي .. وأنا أتطلع هنا وهناك لأقطع الشارع إلى الرصيف المقابل . انطلقتُ مقتحمة تيار مرور سِمته الأنانية . وقفتُ على الرصيف الضيق الذي يفصل الشارع إلى قسمين , أتحيّن اللحظة التي أنفذ فيها بجلدي . جهّزتُ أسلحتي : يداي مرفوعتان كمستسلم لعدوه , ووجهي ينطق بأسمى آيات الرجاء ..... عندما أقبل البؤسُ شاباً متهادياً بهيئةٍ مزريةٍ وهو يعرج ووقف بجانبي !
لحظتُ بدهشة شكله الغريب , وظننته يحدجني بنظرة مقتحمة كأجنبية في مجتمعه . هززتُ رأسي محيية لكنه لم يرد , ولما التفتَ برأسه صوبي .. فهمتُ !
عينه اليمنى شتراء وحدقتها البارزة تركن في أقصى الزاوية الخارجية من شق العين فيبدو للناظر على جانبه كأنه يتطلع إليه , وهو ليس كذلك .. يده اليسرى على قصرها تبدو سليمة نسبة إلى مقاسات جسمه غير المتوازنة , لكن اليمنى اختصرها حظه التعيس إلى مجرد بروز لساعد ينتهي بكرة لحمية تبرز منها إصبعان فقط متفاوتان في الطول وثالث كالزرّ بالكاد يعلن عن وجوده !
سرتْ رعدة في جسدي لم أستطع السيطرة عليها . ماذا جرى لي ؟ ظللتُ لثلاث عشرة سنة متواصلة , متطوّعة لوجه ضميري في خدمة المعاقين , ورأيتُ ما فتت قلبي وأوجعه , فماذا حصل لي الآن ؟ صرفتُ بصري منعاً لإحراجه , لكن فضولي تلبّسني وعادتْ نظرة عينه تقتحم عالمي بلا استئذان . من تحت غلالة دمعة راقبته .
تميّزه الشفة العليا التي تفترش برحابة بطانة عظمية بارزة تظلل كالشمسية شفته السفلى , وحولها تجلس الأسنان بغير انتظام . عجز أنفه المشوّه أن يتكرّم بالأنفاس عليه فظلّ فمه مفتوحاً يلتقطها منه ليظهر كظلمة قبر دحرج أحجاره التماساً لنسمات الحياة !!
أين الرحمة والشفقة والعدل في ابتلائه هذا ؟
لا أريد أن أفهم الحياة بهذه المعادلة الطائشة !
هو ككل أفراد هذا الشعب : جلودهم امتصتْ لون تراب الأرض , ومساماتهم تتنفس الفقر , وعيونهم اعتادتْ ألا ترى إلا الشقاء ويدهشها هجوم رغد العيش ولا يستزيدون منه , فهو مُربك لعملية شهيقهم وزفيرهم , إذ يخشون ألا يلحقوا بزفر النفس الذي أخِذ اطمئناناً لهذه المسرّة المستحسَنة حتى يداهمهم شهيق الحسرة المستهجَنة !
قبل أن تتاح لي فرصة للنفاذ إلى الرصيف الآخر , أردتُ التعطف عليه . فتحتُ حقيبتي .. وبدون تفكير وانتباه .. امتدتْ يدي إلى الورقة المالية الوحيدة , وقدمتها له . أخذها مذهولاً وهو يردد عينيه المضطربتيْ الحركة بيني وبين الورقة في يده . هززتُ رأسي محيية وتابعتُ طريقي متطلعة إلى السيارات لعلي أظفر بثغرة تنقلني إلى هدفي .
شعرتُ خلفي بأصوات شبيهة بالنباح , ثم .. بغتة .. أحدهم يمسك طرف قميصي ويشده , التفتُ جزعة وقد ندتْ عني صيحة توقّع الشر !! فإذا به تبعني يمدّ يده نحوي بالورقة النقدية , وبلسان متلعثم تمتم بكلمات أندونيسية فهمتُ منها أنه يعيدها لي . أجبته بالعربية مع إشارات بيدي : إنها لك . لكنه حرك رأسه بعنف رافضاً . أخذتها من يده ووضعتها في جيب قميصه وقلت له جادة : هذه لك .
كان راكعاً . حملق في وجهي لحظات .. ثم انكبّ على يدي شاكراً بحرارة . ربتّ على كتفه قائلة : سلامتك . تناول الورقة من جيب قميصه البالي وتأملها فرحاً , قبّلها ونظر للأعلى رافعاً كفيْه شاكراً الله على هذه النعمة غير المحسوبة !
غير محسوبَيْن لي وله : النقمة التي حلتْ .. والنعمة التي هلتْ .
هنا أدركتُ .. ماذا فعلتُ ؟ الورقة من فئة ما قيمته ( عشرة دولارات ) تحمل اللون الأحمر الزهري , أما الورقة ما قيمتها ( دولار ) فتحمل اللون الأحمر القاني . قدمتُ له الزهري المورّد وفي ظني أنه القاني !!
أنَلته بلحظة عدَميّة لي ما لم يكن ليناله إلا بشق النفس .. ليزهر حظه ويتورّد !!!
لم يكن معي غيرها . حتى أجرة ركوب ميكروباس ( الفقراء ) لا تكفيني , فيا ويلي من عودة مرهقة بعد مشي طويل , ومن تقدم معدوم الفائدة .
أن تقدم عشرة ( سنت ) لشحاذ , يعني سخاء منك , فقد سددتَ ثمن وجبة طعام له , فكيف لو كان الأمر عشرة ( دولارات ) ؟؟ إنه يانصيب العمر !!
آآه .. نزلتُ عنها وإني لشديدة الحاجة إلى قروش قليلة منها تكفيني للعودة ..
لو يتدلل عليها ثانية ... .. لو .. ! ! بدأ الناس ينفذون من الثغرة الصغيرة المتاحة بين السيارات إلى الطرف الآخر . ضحكتُ من نفسي على المفارقة : فبينما كنتُ أراوغ أبو موتوسيكل مجنون على حقي في الحياة كان عقلي يفكر في أطرف مأزق وضعت نفسي فيه ! ماذا أفعل الآن وما معي قرش بالجزدان وقد أصبحتُ بلا أمان ؟؟
كانت النقطة التي وقفتُ فيها مكاناً معروفاً لتجميع القمامة . ها هم الزبالون بدؤوا يتوافدون ويفرغون حاوياتهم أرضاً , ولك أن تتخيّل الروائح الكريهة المثيرة للغثيان . الدنيا في ضجيج وصخب وأنا واقفة لا أتحرك , لا يمكنني التقدم ولا يمكنني التراجع .
تنبّهتُ على أصوات مشاحنة . التفتُ .. فوجدته أمامي ! هو هو أبو اليانصيب الزهري , وقد انحنى أرضاً يجمع ما وقع من عبوات بلاستيكية فارغة من كيس كان معه , وبدا الجزع على وجهه , وبصره معلق بأحد الأشقياء الواقف على تل القمامة في سيارة شاحنة , يتلفظ بكلمات غاضبة وملامح وجهه تبدّتْ شرسة تنذر بالشر .
ما أن هممتُ بمساعدته حتى اقترب سوقيّ فظ آخر , أخذ يركل عبوات البلاستيك بعيداً بقدمه , ثم يضربه بما يقع تحت يده من قمامة علقتْ بثيابه وشعره , والمسكين يحاول تفاديها بساعدَيْه المعاقين . شعرت بانكسار الإنسانية في تعابير وجهه عندما جاء قرص طماطم عفن قرب فمه .. فهببتُ لنجدته .
مأساته من متاع الحزن الغليظ الذي يلهب العواطف , فكيف خرس وجدانهم وسفل ؟؟
أخذت ألملم معه حاجته وهو يتمتم بكلمات لمستُ أنها تعبر عن سخطه على الغوغاء .
ترى أحد هؤلاء الأشقياء يعلو مظاهرة الزبالة , ويبدأ بشوكة كبيرة ينكش فيها ليستخرج الخلاصة من الذهب الأسود . إنها ثروة تدرّ خيراً على مافيا القمامة , ففيها ما يباع كالبلاستيك والزجاج والخشب ... وفيها أطعمة فائضة يمكن الإستفادة منها ... والباقي يتمّ تعبئته في شاحنات يتوالى ظهورها كلما انتهت السابقة ليجففونه ويصبح وقوداً لأعمال أخرى . كل هذا ونحن في وسط البلد !
وكان صاحبنا " أحمد " يريد أن يأخذ نصيباً من هذا الكنز , فهو ممنْ يبحثون عن عبوات البلاستيك المرمية بلا مبالاة في الشوارع , فأبعدوه عن دائرة منجمهم بشراسة لم أرَ مثيلاً لها إلا في العالم المتخلف والمتديّن , المجاهر بنفاق وكذب لمبادئ الأديان , والمُقصي للضعيف , الناكر لحقوق الانسان , والهازئ بالمساواة !
للسياسة رجالها . للسلاح زلمه . للمخدرات قبضاياتها . وللزبالة أيضاً أهلها ورجالها !
المنطق واحد في كل الأحوال : فكما تقوم قائمة أهل الزبالة على تلال النفايات , كذلك يقوم أهل السياسة على تلال من الجماجم , وينكشون بالقضايا الشائكة المهترئة شعوبهم التي تباع لأول سمسار من ( بني العم ) , والفضلة منهم تبقى وقوداً , مُساقة بالباصات لمظاهرات ال ( نعم ) !
هكذا أيضاً السلاح والمخدرات , يقومان على تلال من صراعات القبائل , تنكشها مافيا الحروب بادعاءاتٍ وهمية لضمان بقائهم , يبيعون المخدَرين رؤيا الجنة بديلاً عن الواقع الجهنم !
انتهيتُ من مساعدة " أحمد " مما تبعثر , وحملتُ له الكيس إلى طرف الرصيف كي أخفف عنه , فلحقني يشدّه من يدي , لعله ظن أني سأهرب بالكيس ! أشار لنفسه قائلاً بالعربية : هذا لي . راعتني المفاجأة , التفتُ إليه بين الدهشة وعدم التصديق : أتتكلم العربية !!؟ تلجلج صوته مجيباً : قليلاً .. أنا .. خريج المدرسة الدينية .. التابعة لمسجد البركة . لم أدرك ما قال في البداية , لكني بدأت أتبيّن لفظه مع متابعة الجواب على أسئلتي , وسعادته في التحدث بالعربية بفخر أمام الجمع المحتشد الذي دهش أن تتفضل أجنبية أنيقة في التنازل لمحادثة زريّ الهيئة رثها ! عربيته التي يفخر على كل رفاقه الأصحاء أنه يجيدها ويبرع بها , هكذا قال له أستاذه المصري , ولما قلت له إنه يتكلم الفصحى أفضل بمراحل من طلابنا الجامعيين ضحك حتى دمعت عيناه .. وعيناي أيضاً !
كتبت له عنواني , وأشرتُ عليه أن يأتيني  لأعطيه ما يفيض عندي . فعاد ينكبّ على يدي يقبلها شاكراً فلا أملك إلا سحبها وأنا أزيل ما علق على شعره من أوساخ القمامة , وأؤكد عليه ألا يتأخر .
عدتُ إلى بيتي متهالكة , وارتميتُ على سريري كما أنا , ونمت نوماً عميقاً , حلمت خلاله بأحمد يقع من أعلى جبل وأوغاد يضحكون .
انتظرتُ أحمد أياماً ... وبعدين ؟ فلأبادرْ .
ذهبت إلى دار الأيتام التابع لمسجد البركة حيث يسكن . سألت عنه فقيل لي إنه كان مريضاً . تركت له رسالة تأكيد أني أنتظره .
وجاءني .. وقف مدهوشاً في باحة البناء يتأمله ويقول للحارس الذي يقلّم الأشجار : يا الله ! كأني في حلم , هل هذه جنة ؟ رحبت به ورجوته ألا يشعر بالحرج عندما يزورنا . فتحت له كيساً مليئاً بما فاض عندي , فضحك وجهه واستبشر سعيداً شاكراً . ثم .. فتحت علبة ملأتها من طعام غدائنا . وزيّنتها بالفواكه والحلويات , وأخذت أشير للمحتوى وأنا أشرح له المكونات . شعرت به لا يردّ عليّ .
رفعت وجهي .. لأراه واجماً وقد جمدت تعابيره للحظات , ثم ..
أخذتْ جبهته تضطرب , وعضلات وجهه ترتعش , وشفته ترتجف , فأطرافه ترتعد , والكلمات ترتبك , فلا أفهم حرفاً , وما هي إلا أن انهمرتْ دموعه , وإذا ببكائه يعلو شيئاً فشيئاً ويتردد في صدره ويقطّع صوته تقطيعاً , وندتْ عنه آهة مبحوحة انكتم صوته على إثرها , ثم شهق شهقات متتالية بتوجّع , وساعِده المعاق ذو الإصبعين وزر يتحرك صاعداً هابطاً في الهواء ويده الأخرى تغطي وجهه الباكي .. ليعود صوته بصيحة ممطوطة ملتاعة : أمميييي ~~~~
تذكريني بأمي يا سيدة ..
آ آ آ ~~~ .. تذكريني بأمي ...
خلع صوته قلبي .
إني لأنسى كل شيء قبل هذه الآهة المفجعة الموجعة .
وإني لأذكر دموعي تطهّرني من شعور أني كنتُ في ثقلٍ من خطب جلل .. يا للخجل !
هه ! لو تستنجزين نصائحكِ التي تغدقينها مجاناً على الآخرين ..
آه .. يا حسرتي على شبابه الغضّ .
لو يعلم الإنسان أنه في خير مما ينزل بالآخرين من خطوب !!!
لو يعلم ~~~
هرع الحارس العجوز فزعاً ليستطلع المشهد الدرامي ويهدئه , فرمى رأسه على صدر الحارس وهو يقول باكياً : حتى الحلم ضنّ علي أن أرى أمي ..
تداخلت اللغات الثلاث , فالباكي يشكو بالأندونيسية , والمعزّي يترجم لي بالإنكليزية , وأنا أهدئه بالعربية .
اصطحبه الحارس بعطف إلى جانب من الحديقة ليشربا الشاي معاً , وحملت لهما بعض الحلويات . هدده الحارس إن ظل يبكي فسيأتي على كل الحلو لوحده ! ضحك أحمد وبدأت نفسه تسكن . وإن كان شهيق البكاء المكتوم ما زال يتردد في كلامه , وخيّم الهدوء على وجهه شيئاً فشيئاً . وصّاه العجوز قبل أن يتركنا أن يزوره دوماً .
كيف حالك الآن ؟؟ سألته مبتسمة . رمى ببصره الحزين إلى الأفق البعيد وقال : أخشى أن أستيقظ غداً لأرى أني كنت في حلم جميل ! هوّنتُ الأمر عليه , لكنه بادرني : كما ترين , قدّمتْ لي الوراثة بنياناً بالغ الرعونة , فرّق بين عقل الانسان وقلبه , وبين معتقده وإيمانه , فانتصبتْ لي الحماقات أينما حللتُ .
سألتُ أحمد بحرج عن عائلته راجية ألا يزعجه سؤالي , فأفاض بالجواب الصادم :  مات أبي بحادث سير وأنا في الثالثة , فتزوجت أمي من سكير مقامر لعلها تضمن لقمة عيشنا . لكن فاقد الرحمة كان يستخدمني لعاهتي , ليحصل على بعض النقود . كنت غالباً ألوذ بأمي الضعيفة رافضاً , فكان زوج أمي يضربني ويلسعني بالنار ليرغمني على التسول ..
أمي ؟؟ أجابني بمرارة : المسكينة .. ابتلِيتْ بالأمرّ مبكراً , مرضتْ وغاب الحنان عن طفولتي بموتها وأنا في العاشرة , فترك غيابها ربيع عمري بلا حماية .
ضحك أحمد بألم وهزّ رأسه متأسفاً : عرفتُ مبكراً أني لست محسوباً على الحياة .. يحقّ لي أن أنغمس بكل الموبقات , لكن .. ليس من حقي أن أحلم .
انحدرتْ دمعة على خدّه وقال : لم أتمنّ إلا أن يجمعني الله بأمي , وألا يكِلني إلى هذا الكافر بأمره , فحياتي على الأرض لا معنى لها .
لكن الزمن جاء يستعرض عضلاته ويكسر وجه الهمجية في زوج أمي , فأماته شرّ ميتة بعد تناوله جرعة مخدرات , فاعتبرتها رحمة من الله عليّ . كنت آنذاك في نهاية المرحلة الوسطى في المدرسة , لا أهل لي ولا أقارب فضمّوني إلى دار الأيتام وما زلتُ أعيش هناك .
..............................................................
الأول من جون _ حزيران / 2010
اليوم موعد خروجي من المستشفى بعد انقضاء الأيام الثلاثة بعد عملية يدي اليمنى . كان وداع أهل المستشفى رائعاً . سحب أحمد بساط الدلال من تحتي , وكاد الممرضون والممرضات ينسون أني المريضة وتحولوا جميعاً لممازحته والتأكيد عليه أن يزورهم دوماً لإهدائه أنفس أنواع البلاستيك من مخلفات المستشفى ! وما هي إلا دقائق حتى جاءت مديرة القسم لتحيتي ثم نستني هي الأخرى والتفتتْ إلى أحمد وقدمتْ له كيساً مليئاً بالحلويات !
كان أحمد بطل لحظة الوداع بلا جدال . لم يضحك كما ضحك اليوم .
عدنا إلى البيت حيث كانتْ تنتظرنا مفاجأة .
الحلول الإنفرادية مرفوضة . عندما تتكاتف الجهود , لا يمكن إلا أن توصل إلى بصيص نور ليصبح إشعاعاً بعزيمة الانسان لا بعزيمة طعام . يد لوحدها لا تصفق .
ماذا أفعل لوحدي أكثر من هذا ؟
لقد تحدّث زوجي بأمر أحمد مع رئيس الهيئة الأكاديمية التي يتعاون معها فأوجدوا له عملاً دائماً مشمولاً بالضمان الصحي كمراقب في المكتبة , وسيبدأ عمله اعتباراً من أول سبتمبر القادم !
قدّمنا له هدية طقماً يليق بعمله الجديد .
من مراقب في شؤون الزبالة إلى مراقب في شؤون المكتبة !! ما أعجب حياة الانسان !!
وبعد ..
أتمنى لجميعكم أن تستقبلوا إشراق صباح مغرّد , ورجائي ألا تقعد بكم صدمات الحياة , ونتذكر دوماً أننا في خير مما ابتلِي به الآخرون . وكما أن الشمس تتمرّى بعيوننا التي تعطيها معنى التألق , كذلك نحن , نتمرّى بعيون الآخرين الذين يعطوننا معنى الوجود الجميل .
انظروا في عيون بعضكم .. وتأملوا !

ملاحظة :
( سنقيم احتفالاً خاصاً ل أحمد يوم الأحد 22 آب _ أغسطس وسيحضره جمع من طلاب الجامعة وبعض الممرضين والممرضات وسنقدم له هدية عبارة عن حقيبة جلدية وحذاء اختارهما بنفسه , وتلبية لرغبته سنقدم له مفاجأة علبة فيها خمس عشرة قطعة من شوكولا ( مارس ) التي أكل ذات يوم بقايا منها مرمية في القمامة وأحبها جداً , وعلبة أخرى فيها عشر قطع من شوكولا ( كيت كات ) , وسأضع نسخة من هذا المقال مع التعليقات التي سيتفضل بها القراء في باقة ورد وشكراً )



#ليندا_كبرييل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الأستاذ سيمون خوري : كنْ قوياً , لا تهادنْ !
- وداعاً قارئة الحوار المتمدن
- في بيتنا قرد


المزيد.....




- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ليندا كبرييل - من أندونيسيا عليكم سلام أحمد