|
الموظف الكبير والتاجر
عبدالله خليفة
الحوار المتمدن-العدد: 3055 - 2010 / 7 / 6 - 19:34
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
لقد احتاجت تحولات الغرب التقليدي ليصير حداثياً إلى عشرات الحروب الدينية والقومية والعالمية، أي سفكت دماء مئات الملايين من الضحايا رغم وجود الفلسفات والعلماء. وفي عالمنا العربي الإسلامي العالمي لا توجد عمليات وعي لما يدور لكي لا نكررَ تاريخيةَ الغرب، أي كيف نعي سببيات حداثته، ونقفزُ فوق حروبِهِ ونستفيد من منجزاته. المسألةُ تبدأُ من خلايا صغيرة. بين التاجرِ والموظفِ المسيطرِ فروقٌ كبيرة. إن ظهورَ التاجر في العالم العربي الإسلامي كان صعباً، فبعد قرونٍ من هيمنةِ قطاعِ الطرق وفوضوية السلطات، كان التجارُ في الدولة العباسية هم ضحايا الأزماتِ الماليةِ للحكم، فكلما فشلَ الموظفُ الكبيرُ (وهو هنا أميرُ المؤمنين)، في تحصيلِ الخراج وفرغتْ الأموالُ من الخزائن لجأ إلى الضرائب ومصادرة أموال التجار. كان ظهورُ التاجر صعباً، واستمراره كان أصعب، وثقافته وجلبه لثقافةٍ جديدةٍ أشد خطورة. لكن الموظفَ الكبيرَ بين العصر العباسي والعصر الراهن لم يختلفْ نوعياً، فالموظفُ الكبيرُ يطلع وتكون الأرزاق بين يديه، يغدو عقلهُ معطلاً، فالأموالُ تحضرُ بين يديه، يغرق في الدواوينية والكسل، يتضخمُ جسمهُ من الطعام الذي هو ليس بحاجةٍ إليه، تكثرُ به الأمراضُ الجسدية، يعيش ليلاً وينامُ نهاراً، يتقوقعُ دمهُ في أسرته، يعيشُ على التسليات الكثيرة نظراً لضخامةِ الملل الذي يرتبط بعقله الصغير وجسمه الكبير، لا يعرف كيف ينمي الثروة العامة، يلجأ للطرق السهلة السريعة، يجعل الخراج (الأموال العامة) يصلُ إلى جيوبه أكثر مما يصل لعروق المصالح العامة ويمدها بأسباب الحياة. التاجر يخرج في العصر الحديث العربي مُحاصراً من كل الجهات، التاجر الذي يرتبط بالسلطات ويطلب الحماية والرزق الوفير يخضع لمتطلبات السلطة، يحصرُ تجارتَهُ في متعِ الموظفِ الكبير، وقد ظهرتْ السياراتُ الفخمةُ في الخليج قبل السيارات العادية بعقود (فورد أولاً)، وقبل آلات الحرث، ولم تجئ تراكتورات الحرث، وصار مستوردوُ السياراتِ الفخمةِ ملاكاً متجمدين. حين يُخضع الموظفُ الكبيرُ التاجرَ لمتطلبات الاستهلاك البذخي تخسرُ التجارةُ على المدى البعيد، فلا تتحول إلى صناعاتٍ تفجر الأرباح بل تغدو استنزافاً للميزانيات. فتنشأ الأزمات المالية الاقتصادية الكبرى فيما بعد من كثرة العارضين للسلع المتماثلة المستوردة. وبعدها تجيءُ جحافلُ التجارِ الصغار التابعين للتاجر الكبير التابع للموظف الكبير. والموظف الكبير لا يترك الاستهلاك البذخي الآكل لموارد الأمة. فالقصورُ والتحف الثمينة، والأعراس الباذخة، والفساتين والعطور تُحضرُ من باريس على طائراتٍ خاصة، والقرميدُ الغالي يُستورد ليزهو فوق السطوح، وحفلاتُ الأعراسِ تكلفُ الأمةَ أكثر من المصانع، ويُجلب الشعراءُ صانعو قصائد المديح، والمطربون والمطربات للغناء في ختان أولاده، وأعراسهم، ويتوجه الموظف الكبير ليقطف ثمار الثروة ولآلئ البساتين والجزر والشواطئ والخلجان، والذهب يستنزف والموارد تضيع. التاجرُ يظهرُ في دكانٍ بسيط، يجمعُ الدرهمَ على الدرهم، يخففُ من الشموع، ويطفئُ القناديلَ خوفاً من ضياعِ الزيت، يدققُ في البضاعة، يرى الأرباحَ الصغيرةَ تفلتُ من يده، يجمعُ الأموالَ بصعوبةٍ شديدة عبر عشراتِ السنين، ينشئ عائلته على التوفير، يوجهُ أولادَهُ للأعمال المدرة للأرباح، وللزيجات العامرة بالكثير من المال والقليل من العيال، وبعد عقودٍ مرهقةٍ يسخرُ الناسُ من بخله ويمدحون الموظف الكبير الكريم! بعد أن يؤسسَ التاجرُ الاقتصاد بأموالهِ وبالضرائب التي عليه، وتظهر الطرق والمؤسسات، يسرقُ الكثيرون دورَهُ السياسي، أي التتويج النضالي للحداثة الذي تهربَ هو نفسهُ من ختامها الكبير، نظراً لخوفه من مصادرةِ رأسمالهِ الذي شقي في تجميعه، في حين يتقدم أناسٌ بلا رأس مال، غير خائفين من مصادرة سنين من حياتهم، ولكنهم لا يملكون سبيل الحداثة الرأسمالية الوحيدة في شق طريق التطور. وبعد سنوات طويلة يكتشفون ضياعَ سنوات أعمارهم وعدم تكوين رأس المال، إلا من تحايل بين الطرق الاجتماعية، وغدا حاوياً على الحبال الاجتماعية. لا يجتمع الموظفُ الكبير والتاجرُ على مائدةٍ مشتركة لإدارة وضع الأمة الاقتصادي، هما منهجان مختلفان: فهنا منهج تضييع وبذخ وعدم تخطيط للاقتصاد، وهناك منهج تخطيط وحرص، لكن التجار الصغار ورجال الدين والموظفين الصغار والثوار يتوجهون للاستفادةِ من هذا النزاع التاريخي الطويل، يحتلون مقاعدَ السلطات، ينظرون لملءِ الفراغ، يخطفون عقوداً طويلة من تاريخ الأمة، يصنعون بعضَ الأشياء المفيدة، ثم يدخلون حروباً طاحنة، تنسفُ الكثيرَ من الإيجابيات التي صنعوها، ويصيرُ الموظفُ الكبير عقيداً يلتهم وأسرتهُ مزارعَ النفط وخراجَ الأرض. حتى الآن لم تستطع الأمةُ أن توجد العلاقة الديمقراطية بين الموظف الكبير والتاجر بعد كل هذه التجارب الطويلة. ولايزالُ الموظفُ الكبير يتحكمُ بغيمةِ الزراعة أو بغيمةِ النفط التي تمطرُ في جيوبه.
#عبدالله_خليفة (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في الحالة الشمولية
-
إمكانيات الليبرالية الوطنية
-
التقدم صناعة الحاضر
-
أزمة المعارضة الإيرانية
-
الأحزاب المذهبية السياسية في العراق (2)
-
الأحزابُ المذهبيةُ السياسية في العراق (1)
-
الإصلاحيون الإيرانيون (4)
-
الإصلاحيون الإيرانيون (3)
-
الإصلاحيون الإيرانيون (2)
-
الإصلاحيون الإيرانيون (1)
-
الحقوق والأوضاع العامة
-
هاشمي رفسنجاني (3-3)
-
هاشمي رفسنجاني (2)
-
هاشمي رفسنجاني(1)
-
تركيا مستقبلٌ مرئي للمسلمين
-
من تركيا الحرية لفلسطين
-
عالم جديد يتشكل
-
أزمةُ كتلٍ رأسماليةٍ مختلفة
-
العلمانية الإسلامية والتضحية
-
النظامُ البرلماني البريطاني المبكر
المزيد.....
-
تحليل.. سبب رفض الهند إرادة ترامب بوقف شراء النفط الروسي؟
-
لحظة ابتلاع انهيار طيني قرية هندية بعد فيضانات قاتلة مفاجئة
...
-
السودان.. بيان إماراتي ردا على -مزاعم باطلة لسلطة بورتسودان-
...
-
المساعدات من الجو على غزة... غيث لا يروي وغذاء لا يسد الرمق
...
-
-بعوض الفيل- .. الصين تحشد جهودها لمكافحة فيروس شيكونغونيا
-
هيروشيما تحيي ذكرى مرور 80 سنة على إلقاء القنبلة الذرية
-
روسيا تحتج لدى إسرائيل بسبب هجوم على سيارة دبلوماسية
-
السعودية تدعو لتأييد وثيقة -مؤتمر حل الدولتين-
-
ترامب يهدد بسيطرة الحكومة على العاصمة واشنطن.. ما القصة؟
-
قبل انتهاء المهلة.. موفد ترامب يزور موسكو للقاء مسؤولين روس
...
المزيد.....
-
المدخل الى موضوعة الحوكمة والحكم الرشيد
/ علي عبد الواحد محمد
-
شعب الخيام، شهادات من واقع احتجاجات تشرين العراقية
/ علي الخطيب
-
من الأرشيف الألماني -القتال في السودان – ينبغي أن يولي الأل
...
/ حامد فضل الله
-
حيث ال تطير العقبان
/ عبدالاله السباهي
-
حكايات
/ ترجمه عبدالاله السباهي
-
أوالد المهرجان
/ عبدالاله السباهي
-
اللطالطة
/ عبدالاله السباهي
-
ليلة في عش النسر
/ عبدالاله السباهي
-
كشف الاسرار عن سحر الاحجار
/ عبدالاله السباهي
-
زمن العزلة
/ عبدالاله السباهي
المزيد.....
|