أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سمير الرسام - من مذكرات طفل عراقي















المزيد.....

من مذكرات طفل عراقي


سمير الرسام

الحوار المتمدن-العدد: 3052 - 2010 / 7 / 3 - 18:29
المحور: الادب والفن
    


من مذكرات طفل عراقي
- 1982 -

لم تكن هي المرة الأولى التي تسقط بها رطوبة سقف الغرفة على عيني ، مما يستدعي أمي إلى إخراجي إلى باحة الدار ، حيث ( حنفية الماء ) . تُتمتم أمي ببضع كلمات لا افهمها وهي تغسل عيني ، لكنني فهمت شيئاً واحداً . . أنها ناقمةٌ على هذه الغرفة المظلمة بكل تفاصيلها ، حتى لو أوقدت الفانوس الذي يعمل على النفط ، الفانوس الذي سبب لي مرضاً في جهازي التنفسي دوناً عن إخواني الثلاث .
العودة إلى الغرفة يعني لي الكثير ، فهي زنزانتي في النهار ، كما هي زنزانتي في الليل ، وحلمي كان بسيطاً جداً . . أن أنام على سطح الدار الذي يشغله عمي الكبير وعائلته . ففي الدار يقطن أعمامي الثلاث وعاوائلهم بالإضافة إلى عائلتنا .
جمال . . هو عمي الأصغر ، وهو الوحيد الغير متزوج من أعمامي ، يحبني كثيراً ولطالما كان الشخص الوحيد في الدار الذي يرعاني بعد أمي وأبي . . يملك دراجة هوائية ، يُقلني بها دائما إلى أماكن بعيد ، ودوماً يسألني نفس السؤال : إلى أين تريد أن آخذك ؟
وأجيب بنفس الإجابة دائماً : إلى البحر ؟
يبتسم كعادته ويقول : وتُسمي الساقية بحراً ؟
عندما نصل إلى البحر – على الرُغم من إصرار عمي جمال بتسميتها ساقية – أقف متأملا الماء الجاري . . الأعشاب التي على الجرف . . والحشرات التي استمتع بملاحقتها . وبعد عودتي إلى الدار ، أول من يستقبلني أمي ، وابدأ بسرد تفاصيل كل ما شاهدت ، وهي تزرع قبلاتها الحنونة على خدي ، الواحدة تلو الأخرى .
عمي جمال لم يكن مجردَ عم لي ، بل كان مصباحاً سحرياً طالما سمعت عنه ، وحلمت به ، وتمنيت أن لا افقده . فجيبه منجم للحلويات ، حلوياته لا تسرني بقدر حنانه وعطفه علي ، وعلي تحديداً دون بقية الأولاد في الدار .

الليل أسدل بردته السوداء ، أحال ظلمة الدار إلى ظلمة اكبر ، وبدأنا نشم رائحة الفوانيس ، وكالعادة فإنني ابدأ بالسعال حتى أنام . الصمت والظلام قاسمان مشتركان للدار بعد أن ينام الكل ، وعلى ما أظن أنني آخر من ينام ، لأنني أبقى انتظر عمي جمال حتى يأتي ، فهو يتأخر دوماً في قدومه للدار . وبعد قدومه بدقائق أغط في النوم .

*************

صراخ في الدار . . ركض الكل إلى الباحة ، نزل عمي جمال من السلم المؤدي للسطح مكبل اليدين وبرفقته ثلاثة رجال يرتدون ملابس عسكرية . ينتظره في باحة الدار اثنان ، كان احدهما بيده مسدس ، والذي سأله عن شيء أخفاه ، وعمي ينفي جاهلاً عما يسألون ، مما جعله يضربوه ضرباً مبرحا أمام كل من في الدار . نظرت في عيون الجميع فلم أجد إلا رقرقة الدموع ، كانت النسوة اشد قوة من رجالات الدار ، حتى إنني أتذكر أن عمي الكبير انزوى وبدا بلف سيكارة من أداته التي امقتها دوماً .
هجمت على من كان يضرب عمي بعصا ، كانت أمي تضعها لإخافتنا ، ضربته بها فآلمته . . استدار هو فضربني بمؤخرة المسدس على انفي فكسره . وبعدها بدأ بشتمي والتوعد بي وبكل من في الدار . لا زلت أتذكر لحد اللحظة بكاء أمي ، والترنيمة التي ترنمت بها جدتي الضريرة لفقدانها عمي جمال ، لا زلت أتذكر كل شيء ، وكأن هذا الشيء قد حدث البارحة . . لا بل اليوم . . لا . . بل قبل ساعات .
شيوعي . . أول مرة اسمع بهذه الكلمة . . عمي جمال شيوعي ، وماذا يعني ؟ انه عمي جمال الذي يحبني ويحبه الكل . . انه من يعطيني الحلويات . . انه من يقلني بدراجته الهوائية إلى البحر . . انه مصباحي السحري . . كيف يضربه ويأخذه رجال الجيش إلى السجن ؟! . . تقول أمي وهي تتحدث لزوجة عمي ( سيعدمونه . الحكومة لا ترحم من يقف ضدها ) . لم افهم الكلام في بادئ الأمر لكنني بعدها فهمت كل شيء .

*************
الأيام الثلاثة التي تلت اعتقال عمي جمال ، لم اذهب بعدها إلى المدرسة لا بسبب انفي الذي كُسر فقط بل لأنني كنت بانتظار عمي جمال ، فقد يعود في أي لحظة ، ماذا سيقول عني لو عاد ولم يجدني ؟!! . . . لكنه لا يأتي الا في الليل ، عندما ينام كل من في البيت ، ليكون حضوره آخر سطر في قصة اليوم ، وبعدها أغمض عيني .
السيارات البيضاء الثلاث وقفن قرب باب دارنا ، دارنا الذي لم يزره احد من جيراننا منذ أن اعتقل عمي جمال . نزل من السيارات الثلاث أشخاص مسلحون وسألوا عن أعمامي ، الواحد تلو الآخر . كان هو نفس الشخص الذي ضربته ، ابتسم بسخرية عندما شاهد الضمادة على انفي ، وقال لأبي :
_ يجب ان يأتي الطفل معنى أيضاً .
_ لكنه طفل ، لا يفقه شيء !!
_ هذا أمر من فوق ( تقرب من والدي حتى صار أمامه ) وقال بلهجة حادة : ألا تعرف ماذا يعني فوق ؟!!
احتضنني أبي وأدخلني معي في إحدى السيارات البيضاء ، وعندما تحركت لم نترك في البيت إلا صراخ النسوة .
وصلت السيارات إلى مدرستي التي تغيبتُ عنها لثلاثة أيام . والدي يمسك يدي بل شعرتُ بأنه يعصرها ، مررنا عبر الصفوف باتجاه الساحة الخلفية للمدرسة ، فوصلنا الى الصف الذي ادرس به . . الصف الثاني الابتدائي – شعبة ب . هكذا كُتب على الباب .
الفرق في المدرسة التي أخطو خطواتي بها الآن إنها صامتة ، كأنها تترقب مثل عيني أبي لما سيحدث . . " وماذا سيحدث في مدرسة ابتدائية تعلمنا فيها الدار والدور والداران " هكذا كنت اردد في سري .
عندما تخطو أول خطواتك في الساحة الخلفية يستقبلك العلم العراقي الذي يرفرف عاليا وسط الساحة . سرق من نظري وأنا أخطو مع أبي وأعمامي ، لكنه اليوم منكساً على غير عادته ، مكبلاً بحبل ، الحبل الذي كان يفكه احد الطلاب ، ويبدأ برفع العلم شيئاً فشيئاً ، وسط ترديدات الطلاب للسلام الجمهوري وبعض الاطلاقات النارية من حارس المدرسة .
وقفنا غير بعيدين عن العلم ، لم الحظ إن الشجرة العارية من الأوراق دوماً ، والتي هي غير بعيدة عن العلم ، قد ربط عليها شاب معصوب العينين . عرفت بعدها انه عمي جمال !!
توقف احد رجالات الجيش وبدأ بإلقاء ما مكتوب في الورقة ، الورقة التي تصف عمي جمال بالخائن ، ومصير الخائن هي الموت . اطرق أبي رأسه وهو يشاهد تأهب رجالات الجيش وهو يشهرون بنادقهم تجاه عمي جمال ، أتذكر أن أبي حبس رأسي بين فخذيه ، لكنه لم يستطع أن يمنع أذني من سماع الاطلاقات النارية ، التي لا زلت اسمعها حتى اللحظة في كوابيسي .

المخرج العراقي
سمير الرسام



#سمير_الرسام (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قمر ليس للموت . . باللغة الفرنسية للشاعر العراقي حسن رحيم ال ...
- أيدني الدكتور حسين الأنصاري.. وسرقني الدكتور لميس كاظم
- تجربتي في الفلم الوثائقي
- كيف غير جيمس كاميرون بفلمه الثلاثي الابعاد وجه السينما ؟
- المظلة - قصة قصيرة
- بداية النهاية ام نهاية البداية ؟
- المخرج ُ العراقي سمير ُ الرسام، بين ألوان الذاكرة ..ومن باب ...
- الفلم الوثائقي (لوعة وطن) قضية اللاجئ العراقي في السويد


المزيد.....




- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...
- -الضربة المصرية لداعش في ليبيا-.. الإعلان عن موعد عرض فيلم - ...
- أردوغان يشكك بالروايات الإسرائيلية والإيرانية والأمريكية لهج ...
- الموت يغيب الفنان المصري صلاح السعدني


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سمير الرسام - من مذكرات طفل عراقي