كامل السعدون
الحوار المتمدن-العدد: 907 - 2004 / 7 / 27 - 09:23
المحور:
الادب والفن
قصة قصيرة
بقلم
بيت هامل
ترجمة كامل السعدون
( مهداة إلى الصديقة الرائعة الفنانة ( ن
كانوا ستة شبابٌ من الجنسين ، ثلاثة فتية وثلاث فتيات ، ارتقوا الحافلة من محطة نيويورك ، وهدفهم النهائي هو فيلادلفيا . ، كانوا يحملون سندويتشاتهم وزجاجات
الكولا والبيرة في أكياس ورقية .
كانوا يتحدثون بحماس وقد بدت الاستثارة على وجوههم وهم يستعرضون أحلامهم القادمة ومغامراتهم التي سترى النور في الغد أو بعده على سواحل فيلادلفيا الذهبية وبحرها الأزرق . مخلفين ورائهم هذا الربيع النيويوركي البارد الكئيب . لمحوه جالساً في المقدمة … إذ كان قد سبقهم إلى ارتقاء الحافلة من محطةٍ أخرى يعلم الله من تكون .رجلٌ يبدو من تقاطيع وجهه وتلك الدوائر العريضة أسفل العينين ، أنه لا يقل عن الخمسين .
حين تجاوز الباص نيوجيرسي ،لاحظ الفتية أن الرجل الصامت لم يتحرك من مكانه ، كان يبدو وكأنه مستغرقٌ في حلم يقظةٍ طويلٍ ، لا يبدو أنه سار .
لاحظوا أنه كان يرتدي زياً لا يناسب عمره ، وإن كان يبدو جديداً إلى حدٍ ما .
كانت أطراف أصابعه ثقيلة الصفرة من أثر التبغ ، وبدت شفتاه متقرحتان متورمتان وكان يمضغهما بين الفينة والأخرى ، ربما لأنهما تؤلمانه .
كان الرجل غارقاً في الصمت وقد بدت في عيناه مرارةٌ وحزنٌ ثقيل ، وإن كانتا مشدودتان متصلبتان وكأنه كان يعمد إلى شدهما بإرادته ليمنع انفجار سيل من الدمع المنسي منذ دهر .
عند منتصف الليل تقريبا ، أنحرف الباص بخفة جهة الرصيف حيث المقاهي والمطاعم المنتشرة على الطريق
، ونزل الجميع باستثناء الرجل ، وإذ نزل الفتية ، وجدوا أنفسهم ينشغلون بهم هذا الغريب ، ويناقشون حالته ويضربون الأخماس بالأسداس في تعاطفٍ إنسانيٍ جميل .، افترضوا الفروض العديدة … حاولوا إعادة رسم حياته بريشة خيالهم الفتي البريء .
ربما كان بحارا … ربما هو هارب من زوجته … يمكن أن يكون من قدامى المحاربين وها هو عائدٌ إلى البيت بعد غيابٍ طويل .
أو ربما هو أعزب وحيد …..!
حين عادوا إلى الباص ، تطوعت إحدى الفتيات للجلوس بجواره ، وأستكناه سرّه :
وبعد أن حيته وعرّفته باسمها قالت بلطف لكسر جليد صكته وانطواءه على نفسه :
- نحن ذاهبين إلى فلوريدا … أو ذاهب أنت إلى هناك يا أبي ؟
- لست أدري ( أجاب الرجل بصوتٍ خفيض وقد بدا ممتعضا لهذا التطفل ) .
- أنا لم أرى فلوريدا سابقا ( علقت الفتاة… لقد سمعت أنها جميلة )
- أنها … كذلك …( أجاب الرجل بصوتٍ متردد … ثم غامت عيناه وغرق في موجةٍ من الحزن جديدة ، إذ بدا وكأنه يتذكر شيئا لا يود استذكاره )
- أتقيم هناك يا سيدي … ( سألت الفتاة بصوتٍ رقيقٍ ينم عن إشفاق غامر )
- كنت هناك في … أيام الخدمة في البحرية …
- أترغب ببعض الشراب … سيدي …!
سألته الفتاة بصوتٍ هامس وهي تلتفتُ نحوه بكامل كيانها . أبتسم الرجل بلطفٍ وأجاب بالإيجاب .
تجرع جرعة من عصير البرتقال البارد . شكرها وأعاد العلبة الملونة … ثم غرق في الصمت من جديد …!
أستيقظ ركاب الباص في الصباح التالي عند مقهى آخر في مكان أبعد على الطريق إلى فيلادلفيا ، هذه المرة نزل الغريب الصامت مع النازلين .
أصرت الفتاة عليه أن ينظم إلى مجموعتهم . بدا تلك اللحظة في غاية الخجل . طلب لنفسه قهوة سوداء ودخن بعصبية ، بينما كان الشباب يستمتعون بالدردشة عن الأيام الممتعة الموعودة التي تنتظرهم على سواحل فلوريدا .
عندما عادوا إلى الحافلة ، اتخذت الفتاة مكانها إلى جواره . كانت قد قررت أن تستكشف المزيد عنه . بعد برهة ، بدأ يتحدث ببطيء وقد بدا على وجهه علائم ألم رهيب …!
أخبرها أنه كان سجينا في نيويورك طوال السنوات الأربع الماضية ، وها هو عائدا إلى البيت .
- هل أنت متزوج ؟ "
- لست أدري "
- لست تدري ؟ " سالت باستغراب ، وقد فاجأتها الإجابة الغير متوقعة .
- حسنا … حين كنت سجينا ، كتبت إلى زوجتي . أخبرتها أني يمكن أن أتفهم شعورها ، أن كانت لم تعد راغبة بالاستمرار في الزواج مني . قلت لها أني مقبل على غياب طويل ، وإذا كانت ليست على استعداد للتحمل ، وإذا ما استمر الأطفال بطرح الأسئلة ،
- وكان كل هذا يسبب لها ما لا تحتمل من الآلام ، فأن عليها أن تنساني ، وأن من الممكن لها أن تتخذ زوجا آخر . أخبرتها أن ليس من الضروري أن تكتب لي ، وهذا ما فعلته ، على الأقل منذ ثلاث سنوات ونصف .
- وها أنت عائد الآن للبيت ، ولا تدري كيف هو الوضع بعد هذا الغياب الطويل ؟ "
- أجل … " قال الرجل وقد بان عليه الخجل .
- حسنا ، في الأسبوع الماضي وحيث تأكد لي أني سيطلق سراحي من السجن ، كتبت لها ثانية ، قلت لها أن كان لديها الآن رجلا جديدا ، فأني سأتفهم . لكن أن لم يكن لديها ، وإذا كانت لديها رغبة باستقبالي ، فأني أود أن أعرف ذلك سلفا . لقد عشنا أنا وزوجتي في ( برينسوايك ) وهي تقع عند مدخل المدينة على الطريق الرئيسي ، وهناك شجرة كبيرة بمحاذاة الطريق . أخبرتها أنها إذا كانت راغبة بعودتي فعليها أن تربط منديلا أصفرا إلى الشجرة ، عندها سأنزل عائدا إلى البيت ، أما أن لم أجد منديلا ، فسأستمر في طريقي إلى نهاية المشوار .
- يا إلهي … ! ( هتفت الفتاة بحزن )
تنقلت بين زملائها الآخرين وأبلغتهم بهذا الذي سمعته . صار الجميع في غاية الاستثارة والتعاطف ، اقتربوا جهة الرجل واحداً إثر الآخر ، جلسوا إلى المقاعد الشاغرة المحيطة به ، تحلقوا حوله فشكلوا باقةٍ من الوجوه الفتية الودودة المحبة التي طوقته بحنانها وتعاطفها .
أخرج ما كان في جيبه الكبير من صورٍ قديمةٍ لزوجته وأولاده .
وإذ غدت الحافلة على مبعدة عشرون ميلاً من ( برينسويك ) ، أتخذ الفتية والفتيات مقاعد خالية عند النوافذ ، كانوا في غاية الاستثارة ، كانت قلوبهم الفتية توشك أن تقفز من الضلوع ، أما العيون فقد توقفت عن التجوال في المحاجر وتجمدت في نظرةٍ لهفى مشوبةٍ بالتوتر ، رانية إلى البعد … إلى شجرةٍ قديمةٍ يفترض أن تكون لا زالت قائمةٍ منحنيةٍ برفق على كتف الشارع الإسفلتي العريض .
أما الرجل ، فقد توقف عن النظر ، وكأن عيناه قد فقدتا البصر إذ بدتا شاحبتان لا حياة فيهما …!
أما وجهه فكان متجهماً ، وكأنه غير منتظرٍ لأكثر من خيبة جديدة .
وتقلصت المسافة إلى عشرة أميال ، ثم خمسة .
كان وجه الرجل قد أصفر … وزادت مرّات مضغه لشفته السفلى ، أما جسمه فقد كان يرتجف بقوة .
وخبي ضجيج الفتية ، وتصاعد وجيب القلوب .
وفجأةٍ … فجأةٍ … نهض الشباب جميعا في قفزةٍ واحدةٍ ، …. صرخوا وهللوا وبكوا وتبادلوا العناق … والتفوا حول الرجل معانقين مقبلين ….!
ورسمت في الهواء علامات النصر… وارتفعت القبضاتُ مشدودةٍ وكأنهم في مباراة كرة قدم .
أما هو … فلم يعد قادراً على شد عضلات عينيه ليمنعهما من البكاء ، بل … أنفجر تيارٌ من الدمع … بينما الرايات الصغيرة الصفراء والحمراء والزرقاء … ترفرف من كل غصنٍ من أغصان الشجرة الرؤوم …!
كانت الشجرة قد استحالت إلى راية ترحيب كبيرة ، شاهقة بين الأرض والسماء .
بينما كانوا لما يزالوا يهللون ، كان الرجل ينهض بهمةٍ وقد أحتضن إلى صدره حقيبةٍ عتيقةٍ …!
نظر إلى الفتية بامتنان وعيناه لما تزالا غارقتان بالدمع … ونزل عند الشجرة …!
ترجمة عن : INC , New York - International Creative Managemet
#كامل_السعدون (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟