أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - راندا شوقى الحمامصى - المخ (الدماغ)، الوعي، الروحانية















المزيد.....



المخ (الدماغ)، الوعي، الروحانية


راندا شوقى الحمامصى

الحوار المتمدن-العدد: 2975 - 2010 / 4 / 14 - 23:16
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


الجزء التالي، مع أنه يخاطب الفرد، إلا أنه ينسحب ً على المجتمع الإنساني برِمّته.
إن أقصى ما يهدف إليه كثير من الناس هو السعي إلى تخفيف التوتّر وتوفير الهدوء وراحة البال وتحرير طاقات الفكر والجسم مما يتطلبه الصراع النفسي والنزاع مع الآخرين، ثم تحقيق السعادة في نهاية المطاف. وما سرّ السعادة الإنسانية حقاً إلاّ في تحقيق الوحدة؛ وحدة تجمع بين ما نفكر فيه وما نحسّه ونفعله، ووحدة مع جميع أفراد الجنس البشري. إلا أنه مع الأسف غالباً ما نستبدل سعينا نحو السعادة وحاجتَنا إلى الوحدة في تحقيقها بذاك اللهاث وراء المتعة والملذات مبررين أفعالنا بأسباب منطقية ومشروعة بشكل من الأشكال خاصة إذا كانت تُشبع أنانيتنا وتطلعاتنا الذاتية. لقد أصبح طبيعياً أن تجد أناساً أقاموا علاقات خارج بيت الزوجية مدنّسين ذلك الرباط المقدس ومدمّرين كيان العائلة وهم يعلنون بصوت مسموع ’لقد احتجت إلى عاطفةٍ حرمَتْني إيّاها شريكة حياتي.‘ إنه سلوك لا يعبّر إلا على أقصى غايات السعي نحو إشباع الذات، متجاهلاً تماماً ما سيؤدي إليه مثل هذا الجُنوح من آثار سلبية وما يخلقه من صراع داخل النفس البشرية ومع الآخرين. ثم إنه كثيراً ما نجد أناساً، ممن اعتدَوْا على آخرين وآذوهم، يعلّلون فِعلتهم تلك بقولهم ’ذلك الشخص أثار غضبي‘ ليبدو لهم تبريراً منطقياً لسلوك عدواني.
إن السّمة الرئيسة لكل هذه الأنماط من السلوك تبيّن بأن أصحابها يقدّمون الغرائز الجسمانية على الفطرة الروحانية لديهم. وبكلمات أخرى، فإن أشخاصاً كهؤلاء يَعتبرون الغرائز الجسمانية تفوق في أهميتها وقوتها تلك الطاقات الإنسانية الأخرى مثل القدرة على المعرفة والمحبة والإرادة. إلا أن الحقيقة تقول بأن هذه القدرات هي الأعظم والأهمّ من تلك الغرائز إلى أبعد الحدود. فالهدف الكلي لحياةٍ متكاملة وسيكولوجيةٍ روحانية إنما هو حصر الغرائز الجسمانية ضمن إطار المعرفة والمحبة والإرادة ووضْعها تحت إمرة مبادئ الحقيقة والوحدة والخدمة. إذ بعملنا هذا سنكتشف أن بإمكاننا أن نحيا دون الحاجة إلى التركيز على محور ذاتنا، وبمقدورنا النجاح دون اللجوء إلى ممارسة القوة والنفوذ على الآخرين، وأن باستطاعتنا تحقيق السعادة بمشاركة الآخرين أفراحَهم ومسراتِهم. فالهدف بمجملِهِ هو التحوُّل من نمط للحياة شبيه بالحيوان إلى حياة إنسانية فريدة في نوعها.
ففي صلب جميع المساعي الرامية إلى العلاج يجب أن يكون هناك التحوّل والتغيير- تحوُّلٌ في جوهره السموّ والرفعة، وهو ما يشير بالطبع إلى رَوْحَنَة اهتماماتنا القديمة المتصلة بأُولَى مراحل تطوّرنا. وإذا ما تفهمنا تكوين مخّنا وأدركنا طبيعة عمله نستطيع فهم مسيرة تطوّرنا وكيف يكون التسامي ممكناً.
المخ ووظائفه وأداؤه – ملخّص
يُعتبر مخّ الإنسان من أعقد التركيبات الموجودة في الكون. فهو يتكون من خمسة عشر ألف بليون خلية عصبية، أي ما يقرب من عدد نجوم "درب اللّبّانة" "Milky way". إن البحث في المخّ يساعدنا على فهمه إذا تناولناه في سياق وحدات ثلاث عاملة: التنبُّه، ومعالجة المعلومات، والقيام بالفعل. فليست لهذه الوحدات مواقع في المخ، بل هي عمليات تُعتَبر نتاج قيامه بوظائفه بوجه عام. فالمخ البشري هو الأعقد والأكثر تطوراً من بين المخلوقات الأخرى التي تمتلك مخّاً. فلو أخذناه من منظور مراحل نشوئه وتطوّره نجده في ثلاثة مِخاخ على الأقل: المخ الزاحفي "Reptilian brain"، المخ الثديي العتيق "Paleomammalian brain"، المخ الثديي الجديد "Neomammalian brain".(4) لقد أفاض بول ماكلين "Paul Maclean" في بحثه - وهو مدير أبحاث تطوّر المخ والسلوك في المعهد القومي للصحة العقلية في الولايات المتحدة - وركّز اهتماماً خاصاً على عمل الجزء الزاحفي من المخ البشري وبما يتعلق بالإنفعالات الإنسانية بشكل خاص. فما يعتقده ماكلين أن الإنسان قد ورث أشكالاً عتيقة من الأداء الفكري الحيواني وما يسمى بالأداءات العقلية العتيقة "Paleopsychic processes". من هذا المنظور يمكن التعرّف على المِخاخ الثلاثة التي يعتبرها ماكلين بمثابة "ثلاثة أجهزة حاسوب حيوية متصل بعضها ببعض، ولكلٍ ذكاؤه الذاتي وتفاعلاته الخاصة وإحساسه بالزمن والمكان وله ذاكرته وأعماله الأخرى."(5) إن أكثر هذه المخاخ بدائية هو المخ الزاحفي أو جذع المخ "Brain stem" الذي يتعلق عمله بالحماية الذاتية وبقاء النوع والجنس. ويعتقد بعض العلماء أن سلوكاً إنسانياً من قبيل المَيْل إلى تقسيم الأرض إلى أقاليم، وإثارة النعرات، والبحث عن سبل العيش، والحرص على اختزان المؤونة، ثم تقبُّل الآخرين وتكوين مجموعات بشرية متعايشة، إنما هي أمور تقع ضمن أعمال المخ الزاحفي.(6)
فالمخلوقات البشرية بشكل عام يُظهِرون نمطاً من السلوك شبيهاً بالزاحفي، وبعضهم يعيشون حياتهم الطبيعية ضمن تلك الميول. من هذه الملاحظات يمكن الإستنتاج بأن البشرية، من خلال عملية تطورها في وقت ما، كانت تعيش حياة شبيهة بحياة الزواحف. ومع ذلك، فإنه لا يعني أن نستمر في حياتنا كالزواحف ونعطّل مجهوداتنا في ارتقاء مستوى أرفع يسمو فوق الحياة الزاحفية. فإذا لم نعمل على تطوير المخ لنمتلك مخاً أكثر قُدرة ووعياً إنسانياً فريداً، سنكون عندها بالطبع أشبه بالزواحف ونعمل على شاكلتها ونُعتَبَر "عاديين" بنظر مخلوقات أخرى أرفع مستوى ولديها المقدرة على التفكير والتحليل والإستنتاج. فالحقيقة تخبرنا بأننا آدميون، وبمقدورنا أن نقرر ما إذا كنا نرغب أو لا نرغب في اتباع نزعات الحياة الشبيهة بالزاحفية. وهذا ما يقع في صلب الإشكال الذي يواجهه البحث العلمي المعاصر.
من المسلّم به أن ما يتوصل إليه الباحثون في استنتاجاتهم لا يمكن فصله عن رؤيتهم وفهمهم للحقيقة، إلا أن تلك الإستنتاجات تبقى مصطبغة بلون وُجهة نظر الباحث تجاه الطبيعة البشرية وفهمه لما يحدث في العالم مهما كان الباحث موضوعياً نقيّاًً في أبحاثه. دعونا نمعن النظر فيما قاله ماكلين:
"إذا استثنينا السلوك الإيثاري ومعظم أوجه السلوك الأبوي، سنرى كم من الأنماط السلوكية التي نشاهدها في الزواحف موجودة عند المخلوقات البشرية أيضاً."(7)
وقد يتساءل أحدنا ما الذي سيتبقى إذا استثنينا السلوك الإيثاري والأبوي! لأن بذلك نكون قد نَحَّيْنَا جانباً قدرة الإنسان على الوعي والمعرفة والمحبة والإرادة والتضحية والإبداع والتخيُّل وألم الإنفصال وبهجة اللقاء، ثم الغِناء ومتعة مشاهدة الجمال ونظم الشِّعْر وإظهار مبادئ الرحمة والعدالة والنّماء والوحدة. فإذا ما وضعنا كل ذلك جانباً فما هو الباقي إذن؟ ربما يبقى بعض أنماط السلوك الزاحفي، وعندها قد نقف أيضاً متسائلين: وما الغرابة في ذلك!!. لا شك أننا كمخلوقات بشرية لدينا ما يضمن استمرار حياتنا وبقاء الجنس البشري وفي هذا نشبه الزواحف. ويقول ماكلين بأن سلوكاً محدداً عند الإنسان مثل تمسّكه بطقوس ما وخشيته من السلطة قد يكون له علاقته وارتباطه بالمخ الزاحفي، وقد يكون الأمر فعلاً هكذا. إلا أن أنماطاً من السلوك كهذه لا شك أنها غير بنّاءة ولا تساهم أبداً في نموّ الفرد أو المجتمع.
ما ينتظر البشرية عملٌ جادٌّ في استخدام طاقاتها الفريدة في العقل والوعي من أجل التخفيف من النزعات المدمّرة الموروثة من مخلّفات ماضينا التطوّري، إلا أن الطريق إلى ذلك ليست بعدُ واضحة المعالم. فهل يا تُرى لوَعْيِنا (روحنا) ذلك التأثير على تطوّر مخّنا، وإذا كان الأمر كذلك فكيف؟ ولو تركنا قوى العقل جانباً فما الذي سيؤثّر على نُضْجنا الجماعي؟ هل يمكن للتعاليم الروحانية التي أتت بها الأديان السماوية أن تلعب دوراً أساسياً هاماً في تطوّر الوعي الإنساني؟. إنها أسئلة تدور في فَلَك سيكولوجية الروحانية وتحتاج منا مزيداً من دراسةٍ أكثرَ شمولية. ولنتابع أولاً حديثنا عن أداء المخّ ووظائفه.
جهاز الفصّ الجوفي للمخ "Limbic system"
يقع جهاز الفصّ الجوفي تحت القشرة المخّية "Cortex" ويُعرف أيضاً بالمخ الثديي "Mammalian brain". فجميع الحيوانات الثديية يملكون مثل هذا الجهاز الذي تنحصر وظيفته الرئيسة في المساعدة على الحفاظ على الوضع الداخلي للجسم في حالة من الثبات والتوازن، إلى جانب أنه هو الذي يتحكم بانفعالاتنا. فجهاز الفصّ الجوفي لا يعمل على "الحفاظ على البقاء" فحسب، بل يتحكّم أيضاً بالكثير من عمليات المخ. فمثلاً يقوم الجزء المسمى ﺒ الوطاء المخي "Hypothalamus"، وهو جزء مهم في جهاز الفص الجوفي، بتنظيم عملية: الطعام (الشهية) والشرب (العطش) والنوم والإستيقاظ ثم حرارة الجسم وسرعة نبضات القلب والهرمونات والدوافع الجنسية والإنفعالات والتوازن. وكلها أعمال من أجل البقاء يؤدّيها جهاز الوطاء المخي ولا يزيد في حجمه عن حبة البازيلاء.
ولمّا كانت المخلوقات البشرية والثدييات تمتلك هذا الفص الجوفي، فلا غرابة إذن في أن يجد الباحثون كثيراً من المتشابهات بين الإنسان والحيوان فيما يتعلق ببعض النواحي الأساسية في حياتنا اليومية. وعليه، فإن دور الإنفعالات هام في هذا السياق خاصة وأننا لم نطوّر لدينا بعدُ قدْراً كبيراً من المعرفة حول كيفية عمل انفعالاتنا، ولم نختبر طرقاً نتعامل فيها مع تلك الإنفعالات بأسلوب بنّاء وخلاّق.
معظم الأبحاث التي تُجرى على المخ فيما يتعلق بالإنفعالات يدور حول تنبيه مراكز المخ التي تثير إما الغضب أو الخوف أو تلك التي تجلب البهجة والإثارة، وهي انفعالات يشترك فيها الإنسان والحيوان. كثير من الناس يستسلمون للإنفعالات وكأنهم لا يستطيعون كَبْح جِماحها أو لا يُفتَرَض بهم التخفيف منها. مثال ذلك علماء السلوكيات في عالمنا المعاصر ومِثْلُهم بعض عامة الناس الذين يعتقدون أن هذه الإنفعالات يجب إطلاقها والتعبير عنها، وأن تلك الرغبة في المتعة يجب إشباعها، وهم بذلك يتجاهلون بكل ارتياح نفسي بأن الإنسانية، عبر تاريخها، قد ذهبت إلى الإستنتاج بأن هذه الإنفعالات يجب التحكّم بها، وأن الإستهتار حِيالَها يمكن أن يسبب المصاعب والمشاكل للمجتمع. إن تعبيرنا عن الغضب إذا لم يكن له ضوابطه يمكن أن يتسبب في الآلام والمعاناة وحتى في الموت. وبالمثل فإن عدم تحكّمنا بمشاعر الفرح والسرور يمكن لها أن تسبب مشاكل فردية واجتماعية. نخلُصُ في ذلك إلى القول بأن هناك دائماً تلك المواجهات الحاصلة بين الذين ينادون بحرية إطلاق الإنفعالات، وأولئك الذين يؤيِّدون ضبطها. وهي مواجهة عادة ما أخذت دورها في مجالات مناقشة موضوع الحقوق الشخصية وتحقيق الصالح العام ومفهوم الحرية والإنضباط ثم العلم والدين. ففي عالمنا المعاصر نرى في هذه الميادين نشاطاً محموماً وأكثرها حِدّة بين العلم والدين، ويبدو أن الدين يخسر بعض مساحاته لصالح حياة زحافية وثديية كاملة بين الناس باتت على الأبواب.
فلو حدث ذلك بكل ما فيه من تداعيات يمكن عندها أن نعود إلى حياة ما قبل التاريخ. إن خير مثال على الصراع بين العلم والدين ما عبّر عنه إدوارد ولسون "Edward O. Welson" أستاذ علم الحيوان "Zoology" في جامعة هارفارد ومؤلف كتاب "Sociobiology: The New Synthesis". إذ يؤمن ولسون – نقلاً عن رتشارد رستاك "Richard Restak" مؤلف كتاب "The Brain: The last Frontier" – بأن "ما في أعماقنا، ومنها أحياناً معظم قِيَمنا الإنسانية، إنما تُقَرَّر جسمانياً وهذا ما يُفسِّر ’ميلَنا الشديد في التعبير عن حالة حزننا أو غضبنا أو ربما إثارتنا الجنسية ببعض الحركات الخاصة في وجهنا."(8)
دعونا ندرس المسألة السابقة بتمعّن؛ يتكلم ولسون عن "ما في أعماقنا وأحيانا معظم قيمنا الإنسانية"، ويذهب إلى تحديدها من قبيل الحزن والغضب والإثارة الجنسية، ثم يوضح بأن تلك التي في "الأعماق" و"معظم القيم الإنسانية" تُقَرَّر جسمانياً، بسبب "ميلنا الشديد في التعبير عنها بحركات خاصة في وجهنا". قد نتساءل هنا لماذا يَعتبر الحزن والغضب والإثارة الجنسية من أعماق القيم الإنسانية؟ إذ هي في الحقيقة استجابة طبيعية لحالات من الحرمان والتهديد والإثارة التي يتشارك فيها الإنسان والحيوان. فكيف إذن وصفَ هذه الإنفعالات على أنها ضمن القيم الإنسانية؟ إن ما يُحيل هذه الإنفعالات إلى قِيَم إنسانية لأننا نملكها ليس بالكيفية التي يملكها الحيوان، بل بطبيعتنا البشرية الفريدة التي بها نملك القدرة والميل نحو الإرتقاء بهذه الإنفعالات المتجذّرة فينا جسمانياً إلى عوالم روحانية تمدّنا بالخلاّقية وتبيّن لنا المعنى والهدف. فالحزن يصبح عند الإنسان موصولاً بالمحبة وبالوحدة وكذلك في الإنفصال، والغضب يوجَّه نحو رفض الظلم أو الفقر أو الجهل، والشهوة الجنسية تصبح أداة مسخّرة للتعبير عن تَوْق الروح الإنساني إلى الوحدة بين الزوجين وإلى الخلاّقية والإبداع. في هذه المستويات فقط تأخذ الإنفعالات مكانتها الرفيعة ضمن القيم الإنسانية الفريدة. ولكن ماذا عن حركات الوجه التعبيرية التي اعتبرها ولسون دليلاً على أن القيم الإنسانية يحدِّدها الجسد؟ فكما لاحظنا سابقاً فإن الجسد هو وسيلة التعبير عن حقيقة الحياة الإنسانية؛ فكِلا قوانا المادية ومناقبنا الروحانية تَظهر للعيان على شكل حركات وأفعال هذا الجسد، بحركات في الوجه أو أجزاء أخرى من الجسم. وبما أن جسدنا هذا هو آلة التعبير عن انفعالاتنا (وعن أفكارنا وقِيَمنا أيضاً)، فإنه لا يناقض الحقيقة بأننا إذن نملك الخيار في كيفية استخدام انفعالاتنا. فالإنسان الروحاني يوجِّه غضبه نحو تحقيق العدالة بدل إيقاع الظلم وإشباع الأنانية، والجنس هنا يغدو ممارسة سامية بين الطرفين لا اغتصاباً في شكل هجوم وحشي، والحزن يصبح وثيق الصلة بالمعنى والمحبة بدل أن يكون تعبيراً خالياً من أي معنى مسبِّباً الإرتباك لا غير. في حالات كهذه تغدو تعبيرات الوجه ثانوية في الأهمية.
إنه موضوع على جانب كبير من الأهمية ويحتاج منا مزيداً من الإهتمام. فلنرجع إلى ولسون وما جاء في كتابه آنف الذكر:
... إن المعرفة الذاتية تتشكل وتُختَزن داخل مراكز التحكُّم في الإنفعالات في الجزء الجوفي والوطئ من المخ، ومنها يأتينا الوعي بهذه الإنفعالات – الكراهية والحب والشعور بالذنب والخوف وغير ذلك – وهي التي يتشاور فيها فلاسفة الأخلاقيات الذين يرغبون في وضع معايير الخير والشرّ وقواعده. وهنا علينا أن نتساءل: ما الذي كوّن هذه الأجزاء الجوفية والواطئة؟ لقد تكوّنت نتيجة "الإصطفاء الطبيعي".( ) ولذلك يحتاج هذا الواقع البيولوجي إلى متابعته حتى نجد تفسيراً للسلوكيات والفلسفة السلوكية.(9)
نجد هنا أمامنا مثالاً جيداً عن المعركة الدائرة بين العلم والدين حيث العلم فيها هو المهاجِم. فلنعد إلى المقولة وندرسها. هي تبدأ في الإشارة إلى المعرفة الذاتية غير المحددة. "فالمعرفة الذاتية" هنا خاضعة للفحص الدقيق لأنها ظاهرة إنسانية فريدة، إلا أننا ندرك على الأقل أنه لا وجودَ لجنس آخر يملك المعرفة الذاتية، وأننا كمخلوقات إنسانية ننفرد بهذه المعرفة. فإذا كان هدف علماء التطور (من بين العلماء الآخرين) أن يثبتوا أن المخلوقات البشرية ما هي إلا من فصيلة الحيوانات، وأن المعرفة الذاتية شيء موهوم ومشكوك فيه، عندها تغدو مهمتهم أكثر يُسراً وسهولة.
فالمقولة المذكورة التي تشهد بأن "المعرفة الذاتية تتشكل وتُختزن داخل مراكز التحكّم في الإنفعالات..." تبدو لنا صحيحة لو أخذناها سطحياً، ذلك لأنه في كثير من الأحيان تتأثر معرفتنا الذاتية بانفعالاتنا، ولكنها مع ذلك لا تنبع منها أو تكوّنها. فالمعرفة الذاتية لها حقيقتها الواضحة المميّزة وقد تتأثر بعواطفنا وانفعالاتنا. وفي واقع الأمر تقول الحقيقة عكس ذلك بأن انفعالاتنا تُشكّل وتُختزن بفضل معرفتنا الذاتية مما جعل حتى ملاحظة ولسون تبدو منطقية.
إن تاريخ الحضارة الذي يشهد تطوّر الإنسانية اجتماعياً وروحياً لهو مثال حيّ على مدى تأثيرات المعرفة الذاتية على انفعالاتنا. فهو يرينا بأن الإنفعالات قد استُخدمت لصالح المساعي
البنّاءة، إلا أنه في الوقت نفسه هناك الدلائل التاريخية الوفيرة على فشلنا في استعمالها إيجابياً أيضاً. وهذا ما يجب أن يحظى باهتمام كبير: كيف يمكن لنا أن نطوّر معرفتنا الذاتية بحيث تصل بنا إلى تغلُّب الجانب الروحاني على الغرائزي؟ هذا هو جوهر الكيان الإنساني – التسامي عن غرائزنا الموروثة وتحطيم قيودها بالدخول في فضاء الحرية الحقيقية، أي التحرر من عبودية توجهات ميولنا الشبيهة بالحيوان.
وتذهب نظرية ولسون إلى القول بأن مراكز التحكم في كل من الفصّ الجوفي والجزء الوطئ تغمرُ وعْيَنا بالإنفعالات بأنواعها، وبهذه الطريقة تُخزّنها وتشكّل معرفتنا الذاتية. حسناً، ولكن ربما نتساءل ما هو الوعي، هل هو مطابق للمعرفة الذاتية؟ من أين ينبع ويتولّد؟ وكيف يستطيع الوعي المغمور بالإنفعالات أن يشكّل معرفتنا الذاتية؟ أليس هذا ما يشكل إحدى الفوارق الأساسية بين الحيوان والإنسان بأن الحيوان لديه انفعالات ولكنها تفتقر إلى الوعي أو التحكم بها، بينما الإنسان لديه تلك الإنفعالات ويعرف أنه يملك الخيار في أسلوب التعبير عنها؟
يشير ولسون بشكل أساسي إلى أن الجزء الوطئ (جزء من الفصّ الجوفي) هو موقع انفعالاتنا، وأن تلك الإنفعالات هي التي تؤثر على وعينا. إنه محقّ في ذلك، وصحيح أيضاً أن الجزأين الوطئ والجوفي قد تطوّرا عَبر ملايين السنين طبقاً لنظرية التطور والإرتقاء.
على أن هذه المشاهدات ليس فيها ما يعالج الإعتبارات الجوهرية وهي الأصول التي انبثقت منها المعرفة الذاتية والوعي. وهنا يمكننا التساؤل ما هي قوة التطور؟ هل هي قدرة الإصطفاء الطبيعي لوحده؟ وماذا عن انجذاب الوعي الإنساني الذي يستحثّ العقل باستمرار نحو التطور والعمل في مستويات أرفع وأعلى؟ فبينما نظرية التطور تبحث عن تفسيراتٍ للسلوك الإنساني من منطلق أهمية تطوره في التكيُّف عبر ملايين السنين، فإن سيكولوجية الروحانية تروم تفسير السلوك الإنساني من منطلق رد فعلنا التلقائي تجاه قوى تطور العقل (أو الروح). وبمعنى آخر فإن التطور الإنساني كان وسيبقى يجمع ما بين التطوريْن البيولوجي والروحي معاً. وبينما نحن نمتلك معرفة أوفر عن تطورنا البيولوجي، فإننا بالكاد بدأنا خطواتنا في الدراسة والبحث في تطورنا الروحي. فالعلاقة بين هذين التطوريْن تغدو واضحة جلية عندما ندرس قشرة المخ الخارجية "Cortex"، إلا أنه قبل أن نتحدث في عمل هذه القشرة هناك نقطة أخرى يجب التطرق إليها.
في نقاشه مع ولسون لاحظ رستاك أنه طبقاً لما يراه ولسون فإن المحبة تشارك الكراهية، والعدوان، والخوف... إلخ في جهاز الفص الجوفي. وهنا أشار رستاك إلى أنه إذا كان الأمر كذلك أليس من الأجدى أن نتغلب على القيود البيولوجية المفروضة علينا بواسطة جهازنا الجوفي في المخ. يجيب ولسون بقوله: "مع أننا نستطيع التغلب على تلك القيود، إلا أن ذلك يكلّفنا ثمناً باهظاً اقتصادياً واجتماعياً من حيث الوقت والجهد والوسائل." ويذهب عندئذٍ ولسون إلى القول كم هو صعب، على سبيل المثال، إذا كان علينا تجاهل برنامجنا التطوري الذي أصبحنا فيه من "أكلة اللحوم" إلى برنامج نصبح فيه "نباتيين". أو كيف يكون الأمر لو حاولنا "تجاهل الفروق البيولوجية" لنخلق مساواة بين جنسَيْ الرجال والنساء. ويشعر ولسون بأن الشيء نفسه صحيح لو طبقناه على العدوان، ذلك لأن تحقيق السلام له ثمنه. ﻓ"التعايش السلمي لا يأتي ’بشكل طبيعي‘ بل يتطلب ثمناً قوامه الوقت والجهد والمال." ومع ذلك، فإن رغبة ولسون فيما يتعلق بالسلام أن يكون على الأقل "مُتَكَلَّفاً"، ويعتبره "هاماً يستحق كل هذا الثمن". ويذهب إلى قوله بأنه شخصياً أقل درجة في تأكيده على حِكْمة تحقيق أهداف أخرى."(10)
إن هذه الرؤى بعيدة عن أن تكون لها قيمة في المشاهدات العلمية الحرة. فهي نتاج العقول والقلوب وقريبة من الحقائق الروحانية وتقف على حدود التشابه الجسماني بين الإنسان والحيوان. فالنظريات العلمية لها طبيعتها المغرية لأنها تغنينا عن الحاجة إلى تحمُّل مسؤولية سلوكنا العنيف والهدّام ونمط من الحياة قائم على التساهل والإنطلاق بكل حرية. كما أن هذه التفاسير مغرية أيضاً لأنها تبدو مستندة إلى حقائق علمية. إلا أنه كما رأينا سابقاً فإنها قائمة على قِيَم مادية منحرفة.
قشرة المخ "Cortex"
لم يظهر مخّ الثدييات في شكله الحالي إلا قبل حوالي خمسين مليون سنة، ومنذ ذلك الحين ونموّ مخّ الثدييات وتطوّره يستحقان الإهتمام. ومع ذلك فإن هذا التطور الجدير بالملاحظة لا يُقارَن بتطور مخ الإنسان في غضون المائتين وخمسين ألف سنة الماضية. ذلك لأنه تطورٌ فريد خاص بالمخ البشري "Homo sapiens". والحقائق التالية لها أهميتها الخاصة. فقد كتب رستاك:
"... إن ما وصل إليه المخ من حجم في معظم الثدييات قد حصل في باكورة التطور وظل على حاله حتى الآن. أما مخ الإنسان فكان على العكس من ذلك إذ مرّ بطفرة هائلة في المائتين وخمسين ألف سنة الماضية. وحتى الدلافين التي تشاركنا في نسبة حجم المخّ إلى الجسم فإنها تملك مِخاخاً لم تتطور كثيراً في العشرين مليون سنة الماضية. والحقيقة تقول بأن دلافين اليوم تقارب دلافين السلف قبل ملايين السنين في ذكائها."(11)
ويمضي رستاك ليضع بعض الأسئلة المحددة المُفحِمة: لماذا تطوّر مخّ الإنسان بهذه السرعة في مدة قصيرة من الوقت؟ ماذا كان الحافز لذلك النموّ؟ وكيف تلاءم مع تطور الأشياء؟ ثم يُبدي ملاحظته بأن "النمو المطّرد لمخّ الإنسان في المائتين وخمسين ألف سنة الماضية كان فريداً في تاريخ التطور"، ويضيف قوله: "وحتى في هذا اليوم فإننا نفتقر إلى تفسير مقنع لما حدث."(12)
فأي تفسير من هذه التفاسير يمكن أن يكون مقبولاً من وجهة نظر السيكولوجية الروحانية؟ إن حقيقة تطور المخّ، بحيث فاق احتياجات إنسان ما قبل التاريخ بكثير، يعدّ طفرة فريدة من نوعها في تاريخ التطور. ذلك لأن نظرية التطور تقول بأن التطور يحدث من خلال عملية الإصطفاء الطبيعي ويأتي بالتدريج خطوة خطوة. فالكائن الحي ينمو ويتطور بغريزة البقاء وحتمية النموّ فيحصل بذلك على فُرَص التفوق على غيره لبقائه وتطوره. أما عند الإنسان فلا يحدث الأمر هكذا بل بالعكس، فإن الجنس البشري مزوّدٌ بعضوٍ (المخ) منذ مائتين وخمسين ألف سنة، والذي ما زلنا لم نتعلم كيف نستخدمه كاملاً. إنه أمر فريد بالنسبة للإنسان ويُظهِر واضحاً أن تطور الجنس البشري لم يحدث من خلال الإصطفاء الطبيعي. هذه الحقيقة الهامة كانت حقاً معلومة لدى آباء نظرية التطور: تشارلز داروين و أ. ر. والاس "A. R. Wallace". فقد كتب والاس إلى داروين عام 1869: "لا يمكن للإصطفاء الطبيعي إلا أنه قد أعطى الإنسان الهمجي "savage" مخاً أرفع بقليل من مخ القرد، بينما ذلك الإنسان الهمجي يمتلك مخاً أقل بقليل عن الإنسان متوسط الذكاء في مجتمعنا المثقف." فأجابه داروين: "آمل ألا تكون قد قتلت تماماً طفلي وطفلك." ويشير داروين في ذلك إلى نظريتيهما في التطور التي تستنتج أن النوع الإنساني قد ظهر بالتدريج من نوع القردة. فالتطور الفريد لمخ الإنسان كان ولا يزال يضعنا في حيرة ٍ كوننا لا ندرك حقيقة ما يحدث للمخ في تطوره هذا.
وفي سعيه نحو الجواب أرسل رستاك هذا التساؤل إلى إدوارد ولسون. وفيما يلي جزء من الرد كما أورده رستاك في تقريره:
يبقى ضمن الإحتمال بأن المخ، وقد أصبح على ما هو عليه من حجم وتعقيد، قد فقدَ علاقته بباكورة نظام تطوره الجنيني "genetic". بمعنى أن تأثير الثقافة أصبح غالباً ومهيمناً على الإعتبارات البيولوجية في حدّ ذاتها...(14).
إنه تعليل له دلالته الهامة ولكنه يبقى غير كافٍ. فإما أن تنطبق نظرية الإصطفاء الطبيعي على مخ الإنسان أو لا تنطبق. فنظرية الإصطفاء الطبيعي، من وجهة نظر السيكولوجية الروحانية، يمكن أن تنطبق على التطور البيولوجي للإنسان، أما تطوره الروحاني وما يتعلق بتطور مخه فإننا بحاجة إلى مزيد من تفسير أكثر شمولية.
أقرّ ولسون بأن "لا أحد بالطبع يستطيع أن يضع تفسيراً للمخ بكل بساطة طبقاً لقاعدة التطور، ولا يعتمد ذلك كلياً، في الوقت نفسه، على البيئة والمحيط الثقافي فقط."(15) وقد نتساءل هنا كيف يمكن أن يكون عليه التفسير المحتمل للتطور الإستثنائي لمخ الإنسان بعيداً عن التأثيرات البيولوجية والثقافية!
من المفيد أن نتذكر في هذا السياق أن جنين الإنسان يمرّ في أشهُره التسعة داخل الرحم بمراحل شبيهة بتلك التي يمر بها الجنس البشري في ملايين السنين من عُمُرِ تطوُّرِه داخل رحم هذا الكوكب. وبالأسلوب نفسه، فإن الجنين في شهره الثالث يتطوّر لديه مخٌّ كبير ومعقّد ليس لاستمرار حياته داخل الرحم بل بالأحرى استعداداً للوعي الهائل الذي يتزايد بعد الولادة في هذا العالم؛ وبالمثل قد يكون من الجائز أن إنسان ما قبل التاريخ قد طوّر لديه عقله الإستثنائي مسبقاً استعداداً لبزوغ عهد التقدم الهائل للوعي الإنساني المرتقب. يمكن لنا أن نفترض أن أسلافنا الشبيهين بالحيوان، قبل مائتين وخمسين ألف سنة، قد بدأوا في تطوير مخّهم المميَّز حقاً في مسيرتهم ليصبحوا مخلوقات شبيهة بالإنسان.
أما العالِم الشهير جوناس سالْك "Jonas Salk"، مكتشف المصل الواقي من شلل الأطفال، فإنه يقدم ملاحظة مماثلة عن العلاقة بين عملية التطور وحياة الجنين في الرحم فيقول:
... نلاحظ خلال فترة الحمل البالغة تسعة أشهر تطور الكائن الفرد من خلية واحدة إلى خلايا متعددة، والجنين في تطوره يتخذ أشكالاً عدة متغيرة شبيهة بأحوال الإنسانية في تطورها منذ أن كنا تراباً كونياً إلى أن أصبحنا كائنات من خلية واحدة في مياه البحار البدائية ثم بعد وقت من ذوات القوائم الأربعة ثم زواحف تعيش على اليابسة إلى أن وصلنا إلى ما نحن عليه من مخ كبير نمشي على ساقين ومن ذوات الثدييات. ولهذا فإن البشرية تبدو أنها تمثّل ذلك الكمّ الهائل الكامل من التجربة منذ بداية الكون.(16)
فالجانب الهام والمميَّز للحياة داخل الرحم هو نموُّ وتطورُ مخٍ كبير ومعقد، الأمر الذي يدعونا إلى الإفتراض بأنه تمّ استعداداً للتجاوب مع الوعي الإنساني الهائل المتزايد في هذه الحياة. وبالمثْل فإن إنسان ما قبل التاريخ يمكن أن يكون قد طوّر لديه مخّه الإستثنائي استعداداً لفجر عهدٍ مُفْتَرَضٍ من تقدُّمٍ هائل في الوعي الإنساني.
وكا أرى، فإن أسلافنا الشبيهين بالحيوان قبل مائتين وخمسين ألف سنة، قد بدأوا في واقع الأمر بتطوير مِخاخٍ مميزة وهم في طريقهم لإكتساب المزيد من السمات الإنسانية كردّ فعل لمظهر مفاجئ وقويِّ من قِبَل شخص أو أكثر ممن يملكون وعياً أعلى من الباقين. هذه العملية تماثل التغيُّر الأحيائي "mutation"( ) في التطور البيولوجي. من النظرة الأولى لا يبدو أنها نظرية مستبعدة. فهناك الآن في واقع الأمر كثير من الدلائل على أن لفكر الإنسان ووعْيِه تأثيراتٍ كبيرةً على المخ من حيث شكله وأدائه.(17) إلى جانب أن صفحات التاريخ تروي لنا أن جميع الحضارات الرئيسة قد ظهرت بعد أن تمتّع العالم بنموذج جديد من الوعي. وتُرينا دراسة قريبة من هذا النمط الحضاري بأن الأوجه الأساسية والعالمية لهذه النماذج الجديدة للوعي هي التي تُعرِّف الطبيعة الإنسانية وتشرح لنا الهدف من حياة الإنسان وتضع معايير الأخلاق والآداب في العلاقات الإنسانية، وكل هذه الأمور روحانية في طبيعتها. ولا عجب إذن أن نرى الحضارات الكبرى قد تأسست على أسس وقواعد تعاليم مؤسسي الديانات السماوية العالمية مثل بوذا وموسى وزرادشت والمسيح ومحمد وبهاءالله والفلاسفة الروحانيين من قبيل سقراط وأفلاطون وكنفوشيوس وغيرهم.
وحتى لو اخذنا بهذه المشاهدات، فإن مسألة السبب في تطور مخ الإنسان بهذه السرعة تحتاج إلى مزيد من الشرح والتفصيل، ولنا عَوْدٌ عليها لاحقاً إذ يجدر بنا الآن إتمام بحثنا عن أداء المخ.
إن لقشرة المخ مهامّاً تُعزِّز فيها إلى حدٍّ كبير قدرتَنا على التكيُّف والتطور، وبهذه القشرة نتخذ القرارات وننظِّم عالمنا ونحلّل الظروف المعقدة التي تواجهنا، وبها نصيغ حديثنا ونفهمه ونبتكر الفنون والرسم والموسيقى.
يتكوّن المخ من فصّيْن رئيسيْن – وهو ما يندرج على الحيوانات الرئيسة من الثدييات أيضاً – إلا أنهما مميزان عند الإنسان فقط لاختلاف وظائفهما وأدائهما. فهذه الخصوصية هي التغيير الأحدث في التطور الإنساني. ورغم الأبحاث الواسعة المكثفة التي تركزت على أداء فَصَّي المخ، هناك إجماع بسيط على حقيقة أدائهما. ومع ذلك يمكننا، من خلال هذا الكمّ من الأبحاث، أن نُعِدّ قائمة (ليست كاملة بأي شكل من الأشكال) للأعمال الرئيسة للمخ، وكلها متماثلة في سلسلة من الخبرات والدراسات الطبية، وتشير كلها إلى أن الفصّ الأيسر يتحكم بحركات الجانب الأيمن من الجسم؛ إذ يتحكم باللغة وما تتطلبه وبالنشاطات المنطقية، وهو خطّيٌّ في أسلوب التفكير (يسير في خطوط) ويختص بشكل رئيس بالتحليل المنطقي في التفكير وخاصة في الأداء الشفوي وما يتعلق بالرياضة الفكرية (الرياضيات). أما الفصّ الأيمن فإنه يتحكم بحركات الجانب الأيسر من الجسم وبالأعمال الفنية والنشاطات التي تحتاج إلى تحديد الوقت والمسافة ووضع الجسم، ويقوم بعمليات التحليل، وتعدّ قابليته في اللغة محدودة. وبفضل ما لهذا الفصّ من خصائص فإننا به نكيّف أنفسنا لمتطلبات المكان ونبتكر الفنون والأشغال اليدوية، ونعمل على تطوير مظهرنا، وبه نتعرّف على أصحاب الوجوه وندركها.
تجدر الإشارة هنا إلى أنه رغم أن لكل فصّ قدراته وأداءه الخاص، فإن لكل منهما القدرة على أن يعمل عمل الآخر بدرجة كبيرة أو صغيرة. فقد بَيَّنَتِ المشاهداتُ الطبية أن الطفل إذا ما أصيب في أحد فصّيْ مخّه، يأخذ الفص الآخر وظيفته إلى جانب أعماله،(18) والأعمال المتخصصة التي يقوم بها الفصّان الأيمن والأيسر لها تداخلاتها الهامة فيما يتعلق بقدراتنا الروحانية في المعرفة والمحبة والإرادة.
فالمحبة قوة روحانية من نوع خاص. فبينما المعرفة والإرادة تشكلان عملية نشاط وحركة، فإن المحبة تشكل عملية جذب وانجذاب وبها ننجذب نحو ما نحب. وعلى هذا النحو فإن المحبة تُشغِل كل كياننا في السعي وراء محبوبنا مسخّرين في ذلك أفكارنا وإرادتنا. ولهذا فإن للمحبة تلك القدرة العظيمة على الجمع بين طاقاتنا وقدراتنا. فعملها تتخلله قوة خفية هائلة وهي التي تشحن طاقاتنا الفنية الخلاقة.
من هذه المشاهدات يمكننا الإستنتاج بأن الإهتمام بقوى وقدرات الجانب الأيمن من المخ بإمكانه أن يعزّز لدينا إلى حدٍّ كبير طاقتنا في التعبير عن المحبة، وهو ما يُعدّ أمراً غاية في الأهمية في عالمنا اليوم. لقد تطورت الإنسانية عبر التاريخ وتقدمت مدنيتها على جناحي المعرفة والمحبة. وعلى أقل تقدير فإن معرفتنا بالقوانين الطبيعية والمادية قد منحتنا قوى وقدرات هائلة يمكن لنا أن نُحْسِن استعمالها أو نسيئه. وعنصر المحبة في الوجود لم يؤكِّدْ عليه العلماء فحسب، بل ومؤسسو الأديان الرئيسة في العالم وبعض أتباعهم. يبدو أن التقدم الهائل الحاصل في العلوم قد ساعد الفصّ الأيمن من مخ الإنسان على أن يصبح هو المهيمن على أدائه. فلا غرابة في ذلك لأن القوانين المادية والطبيعية أسهل وضعاً وظهوراً وتُعتبر سَلِسَةً في طريق التجربة والدراسة بحواسّنا لأنها قدرات ملموسة محسوسة يمكن الوصول إليها بطرق أكثر يسراً. أما المحبة والقيم الروحية مثل العدالة والوحدة والرحمة فليست بتلك السهولة خاصةً لإنسانية في مرحلة طفولتها ومراهقتها.
وبينما نقترب الآن من مرحلة بلوغنا الجماعي، سنكون أكثر قدرة على فهم طبيعة المحبة وخصائصها. وإذا ما حقّقنا ذلك سنفوز بقدرات أكبر للفصّ الأيمن من المخ إلى أن يحين وقتٌ يتحقق فيه التوازن بين الفصّيْن. وبذلك يكون الوصول إلى عهد الوحدة بين العلوم والروحانيات معززاً بتطورٍ أعظم للفصّ الأيمن الذي بدوره سيعزّز تطوّر الفصّ الأيسر في طاقاته وقدراته.من كتاب-( سيكولوجية الروحانيّة-من نفس منقسمة إلى نفس متكاملة- د. حسين ب. دانش.تعريب-د.نبيل مصطفى ، أ. مصطفى صبري-مكتبة مدبولي –القاهرة)

المراجع
4.For more information about anatomy and the functions of the brain, see Richard M. Restak, The Brain: The Last Frontier.
5.Paul Maclean, cited in Restak, The Brain: The Last Frontier, 52.
6.Restak, The Brain: The Last Frontier, 53.
7..Paul Maclean, cited in Restak, The Brain: The Last Frontier, 53.
8.Edward O. Wilson as reported in Restak, The Brain: The Last Frontier, 74.
9.Edward O. Wilson, Sociobiology: The New Synthesis, cited in Restak, The Brain: The Last Frontier, 75.
10.Edward O. Wilson as reported in Restak, The Brain: The Last Frontier, 78-79.
11.Restak, The Brain: The Last Frontier, 82.
12.Restak, The Brain: The Last Frontier, 82.
13.A. R. Wallace and Charles Darwin, cited in Restak, The Brain: The Last Frontier, 76-77.
14.Edward O. Wilson as reported in Restak, The Brain: The Last Frontier, 77.
15.Edward O. Wilson as reported in Restak, The Brain: The Last Frontier, 77.
16.Jonas Salk, cited in the Omni Interviews, 99.
17.Russell Fernald, a neurobiologist at Stanford University, in his studies of the African cychild fish has discovered that certain behavioural changes resulted in the cellular change in their brain. Dr. Lawrence Hartman, in his presidential address at the 145th annual meeting of the American Psychiatric Association in 1992, referred to these findings and then observed: “With better (and less intrusive and harmful) tools (as, for example, some of our new neuroimaging techniques), we already are to some extent, and soon will be to a greater extent, able to demonstrate many similar bits of biosocial and biopsychosocial continuity in humans.” For further details see The American Journal of Psychiatry, 149, 9 (September 1992): 1135-41.
18.For more detailed description of left/right brain functions, see Robert Ornstein, The Psychology of Consciousness.



#راندا_شوقى_الحمامصى (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نحو قواعد عامة للسلوك الإنساني
- المحبة والإتحاد
- من المراهقة إلى النضج
- الحرية وإرادة الإنسان
- أسقام المعرفة في حالةٍ تعالج المصاعب السيكولوجية بالنسبة للف ...
- أسقام المعرفة
- عندما تتجه الأمور نحو الأسوأ-المعاناة أول الطريق نحو الحقيقة ...
- سيكولوجية الروحانيّة وخصائص الإنسان الأساسية
- رؤيا جوهرية نحو سيكولوجية متطورة- المحبة والإرادة و البحث عن ...
- رؤيا جوهرية نحو سيكولوجية متطورة-الغرض من الأحاسيس
- قراءة في كتاب أمتع روحي-سيكولوجيّة الروحانيّة-من نفسٍ منقسمة ...
- قراءة في كتاب أمتع روحي-سيكولوجيّة الروحانيّة-من نفسٍ منقسمة ...
- قراءة في كتاب أمتع روحي -المادية كنهج للحياة
- معنى الإسلام
- الحياة الروحانيّة-4/4- -الحياة الروحانيّة والمجتمع البهائي
- الحياة الروحانيّة-3/4- -التجارب والصعاب
- الحياة الروحانية-2/4-الممارسات الروحانيّة والتطوّر الروحاني
- الحياة الروحانية-1/4
- الكفاح من أجل العدالة: تغيير آليات التفاعل البشري
- القمة الألفية للسلام العالمي: منظور بهائي


المزيد.....




- محكمة العدل الدولية تعلن انضمام دولة عربية لدعوى جنوب إفريقي ...
- حل البرلمان وتعليق مواد دستورية.. تفاصيل قرار أمير الكويت
- -حزب الله- يعلن استهداف شمال إسرائيل مرتين بـ-صواريخ الكاتيو ...
- أمير الكويت يحل البرلمان ويعلق بعض مواد الدستور 4 سنوات
- روسيا تبدأ هجوما في خاركيف وزيلينسكي يتحدث عن معارك على طول ...
- 10 قتلى على الأقل بينهم أطفال إثر قصف إسرائيلي لوسط قطاع غزة ...
- إسرائيل تعلن تسليم 200 ألف لتر من الوقود إلى قطاع غزة
- -جريمة تستوجب العزل-.. تعليق إرسال الأسلحة لإسرائيل يضع بايد ...
- زيلينسكي: -معارك عنيفة- على -طول خط الجبهة-
- نجل ترامب ينسحب من أول نشاط سياسي له في الحزب الجمهوري


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - راندا شوقى الحمامصى - المخ (الدماغ)، الوعي، الروحانية