أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سهر العامري - حسين السراج*















المزيد.....


حسين السراج*


سهر العامري

الحوار المتمدن-العدد: 2924 - 2010 / 2 / 21 - 16:38
المحور: الادب والفن
    



لقد قرر الشيخ عباس أخيرا الفرار من العرض الجنسي ( الستربتيز ) ، تاركا وراءه كل شيء لتلك الفتاة ، الشراب ، باقة الورد ، وعلبة الدخان ، وهذا ما اضطر زميله حميد للخروج معه وفاء للرفقة رغم أنه كان بوده أن يظل متابعا للعرض على خشبة المسرح ذاك .
وعقابا لحميد فقد قرر الشيخ عباس ، وفي تلك الساعة المتأخرة من الليل الباريسي ، أن يعود الى الفندق في شارع سانت جاكسون من الحي اللاتيني سيرا على الأقدام رغم شحط المسافة ما بين هذا الحي ، وحي بيكال الشهير ، ولكن حميد ، وبعد أن اكتشف نية الشيخ عباس تلك ، أخذه الى شارع فرعي من ذاك الحي ، يزخر بعدد من المباغي التي اصطفت في باب كل واحد منها مجموعة من الفتيات الفرنسيات الجميلات اللائي كشفن عن بعض مفاتهن إغراءً للناظرين ، وطلبا للمضاجعة لقاء خمسين فرنكا فرنسيا ، ويبدو أن الشيخ عباس قد وقعت عينه على واحدة من هؤلاء الفتيات ، فشغف فيها أيما شغف ، وراح يمهد للدخول معها ببعض الكلمات المرتبكة التي يقولها وهو في حالة من شبق عاصف ، لزميله حميد الذي راح يضحك في سره رغم أن الخمرة قد لعبت برأسه ، وسرت في كل عرق من عروق .
: ـ إنك لا تجد مثلها ، يا شيخ عباس ! فاتنة هي غاية الفتنة ، وإذا كنت لم تصدق ، فما عليك إلا أن تنظر الى فخذيها الممتلئين.
لقد ترك حميد زميله الشيخ عباس يستعر في نار اللذة المتأججة ، وهذا ما جعله أن يندفع دون وعي منه نحو تلك الفتاة ، ويمسكها من يدها بقوة ويمضي معها الى غرفتها في الطابق الثاني من تلك البناية ، ولم تنس هي أن تحية بلغة فرنسية صافية ، وبلهجة باريسية ناعمة ، قائلة له مع ابتسامة يتطاير منها الجمال ألوانا : بنجور ميسو !
رد الشيخ عباس عليها التحية بذات اللفظ ، فقد تعرف هو على بعض الكلمات الفرنسية خلال وجوده في الجزائر ، وكان حريصا على تسجيل البعض المهم منها في كراس لديه يحمل معه حين يسافر هو من الجزائر الى فرنسا ، ولهذا كان هو قادرا على تمشية متطلباته الحياتية خلال وجوده في المدن الفرنسية ، يضاف الى ذلك إجادته الحسنة للهجة الجزائرية التي تحتوي على الكثير من الألفاظ الفرنسية رغم أن اللسان الجزائري كان يطوعها للصيغ العربية فيما يسمى بتصريفها اللغوي ، وهذا ما سهل على الشيخ عباس كثيرا على معرفة تلك الألفاظ قبل أن يتعرف عليها في تصريفها في اللسان الفرنسي ، هذا على الرغم من أنه لم يكن على حظ وافر من اللغة العربية التي كان يدرسها لطلابه الجزائريين في تلك المدرسة المعلقة على سفح الجبل ذاك.
لقد كان حميد مبهورا ليلتها ، فقد أخذته أمواج دهشة عارمة ، وذلك حين رأى زميله الشيخ خارجا من باب ذلك المبغى ، وهو يسوي من وضع حزام سرواله الذي نساه دون شد محكم ، ثم راح يتفقد شيئا ما في الجيب الأيمن من ذاك السروال ، وساعتها تذكر الخمسين فرنكا التي كانت مستقرة فيه ، ومن ثمة دفعها هو ثمنا لتلك اللذة التي لم تدم إلا دقائق معدودة ، غفا في واحدة منها على صدر فتاة طافح ، ناعم ، شعر معه أنه يطوف في سماء صافية ، زرقاء ، تحفه فيها أجنحة من سعادة أبدية لم تخطر على باله صورة لها من قبل ، ولكنه حين وعى وجد نفسه في غرفة ضيقة ، متسخة الجدران ، يتوسطها سرير عريض ، ومد عليه فراش قذر ، نام عليه أكثر من واحد قبله ، ومع ذلك فقد هان عليه كل هذا ، ولم يعره اهتماما مطلقا ، مثلما اهتم بأمر الخمسين فرنكا ، تلك الضالة التي راح يبحث عنها في جيبه الأيمن مع علمه بأنه قد أنفقها في نزوة من نزوات النفس التي طالما حاول هو كبح جماحها .
:ـ أتفتش عن الخمسين يا شيخ عباس ! ؟ قال حميد ذلك ، وهو مستغرق في ضحك متصل .
:ـ كان المفروض بي أن لا أرفاق شخصا مثلك ، فلقد ذهبت مئة من الفرنكات هذه الليلة مني .
:ـ ولكنك غرقت في بحر لذة لم تر مثله من قبل ، بدلا من المئة تلك .
:ـ ما الذي ربحته أنا من تلك اللذة العابرة ؟ فلقد خسرت ثمن عدد كبير من علب الشمة التي حملتها بين حنايا أضلعي من الجزائر والى باريس كما تعلم ، ولكنها غواية الشيطان على ما أظن .
:ـ عن أي شيطان تتحدث أنت يا شيخ عباس ! ؟ لقد تركنا الشيطان هناك خلفنا في الشرق ، أما تعلم أنت أن الشيطان قد فر من هذه الأرض منذ مئات السنين ، ساعة أن أرعبته أصوات القطارات ، وحركة السيارات ، ومصابيح الكهرباء ، ثم استوطن البلاد التي أتينا منها ، لا تكن واهما يا شيخ ! لن يطاردك شيطان في هذه الأرض أبدا ، فليس لديه زاوية مظلمة في عقل إنسان هنا ليختبئ بها ، فها أنت تشاهد أعدادا كثيرة من الناس في هذا الحي المكتظ يدخلون البيوت العديدة ، والملاهي الكثيرة ، فهل دخل هذا الجمع الكبير في غواية شيطان ، مثلما دخلت أنت ؟ أما رأيتهم كيف يضحكون مسرورين ؟ وكيف تتعالى أصواتهم في مزاح لا يجد الشيطان من خلاله طريقا يبث غوايته بينهم كما تدعي أنت ذلك عنه . مثلما قلت لك يا شيخ ! لقد تركنا الشيطان وراءنا ، هناك في الزوايا المعتمة من عقول الناس في الشرق ، أولئك الذين يقطعهم الحنين الى الماضي الذي لا يعود أبدا ، ومهما بذلوا من محاولات مستميتة من أجل ذلك ، فهم لن يستطيعوا إحياء جثة همدت ، وهذا الحقيقة يجب أن تقتنع بها ، وما عليك إلا أن تقتطف اللذات في رحلة الحياة القصيرة هذه ، ودع عنك غواية الشيطان هذه ، أنت نفسك اعترفت لي قبل لحظات على أنك غرقت في بحر لذة لم يغرق به واحد من أهل مدينة قورينيا من قبل ، أولئك البشر الذين أقاموا بها مدرسة لفلسفة لذة التي وجدوا فيها طريقا للخير يبعدهم عن آلام الحياة وشرورها ، فأنت محظوظ يا شيخ ! حين مس جسدك جسد فتاة يانعة الصدر ، رمتها أقدار لعينة لتنام تحتك ، وتحت آخرين غيرك ، ولقاء ثمن بخس ، مازلت أنت تذرف الدموع عليه بسخاء رغم أنك عبثت مثلما طاب لك العبث بجسد بض ، رقيق طري ، يتمايل بين يديك ميل غص ندي ، وأنت الذي ما مست يدك من قبل ثوب امرأة قالوا : إنها عورة ! فبادروا الى لف جسدها بسجف من ظلام حالك ، ومن دون أن تملك هي إرادة في ذلك .
لم يرد الشيخ عباس على زميله حميد طوال تلك المسافة التي قطعاها مع مترو باريس ، وهو يقطع عباب الأرض في ساعة متأخرة من الليل ، متجها صوب محطة سانت ميشيل ، تلك المحطة التي ينشدها الشيخ عباس وزميله ، حميد ، اللذان آثرا التنزه في تلك الساعات المتأخرة من الليل الباريسي عند شواطئ نهر السين قبل أن يذهبا مع خيوط الفجر الجميل ليناما في فندق متواضع تديره امرأة باريسة ، كبيرة السن ، تعرفت على الكثير من العراقيين العاملين في الجزائر بعد أن كان الواحد منهم يسلم عنوان ذلك الفندق للآخر حين يريد التوجه الى باريس بهدف السياحة أو التجارة ، حتى صار الرقم 184 من شارع سانت جاكسون ، والخاص بذلك الفندق معروف لديهم ، ويستطيعون نطقه بالعربية والفرنسية على حد سواء ، وذلك حين يريدون الوصول له عن طريق سيارة إجرة يكون سائقها عربيا أحيانا ، وأحيانا يكون فرنسيا ، وبعد أن يخرج الواحد منهم من باب مطار أورلي الدولي ، متوجها الى الحي اللاتيني الشهير ، حيث يقع الفندق ذاك على مقربة منه .
نام الشيخ عباس ما تبقى من تلك الليلة وهو مبحر في خيال طالما كان يبحر فيه من قبل حين يأوي الى فراشه ، فقد كان يفكر في الساعة التي تسبق نومه بالكيفية التي يبع بها علب الشمة على العمال الجزائريين المهاجرين ، أو بالطريقة التي يمكنه الحصول بها على الفرنك الفرنسي بدلا من الدينار الجزائري الذي سلمه الى ذوي أحد العمال الجزائريين في تلك القرية المعلقة على سفح ذلك الجبل الذي صار له لقبا يتداوله المعلمون والمدرسون العراقيون ، العاملون معه في الجزائر ، فقد كان البعض منهم يسميه بعباس جبل بدلا من عباس شمة ، وكان هو نفسه يعرف أن لا عيب في كلا اللقبين ما داما يوفران له مبلغا من الفرنكات الفرنسية كل سنة ، يستطيع بواسطتها شراء سيارة بيجو من باريس ، ليبيعها بعد ذلك في العراق.
لقد كان يحلم أن يبني بيتا جميلا ، وعددا من الدكاكين يقوم بتأجيرها الى آخرين ، لينتفع هو مما تدر عليه من إيجار شهري متواصل يفوق ما يحصل عليه من راتب متدن ٍ ، لا يصل به الى ما يرسمه من آمال بعيدة في ثراء فاحش كثير ما أرهقه التفكير في تحقيقه . .
:ـ أبنيت الدكاكين يا عباس ! ؟ سأله حميد بعد أن شعر أن النوم لم يطبق أجفان الشيخ عباس ، وذلك من خلال تقلبه على الفراش ، ذاك التقلب الذي أزعج حميد ، فسأله سؤاله المار ساخرا .
:ـ عن أية دكاكين تتحدث ؟
:ـ عن السوق الذي ستبنيه في مدينة بابل ، فأنا أعرف أنك لا تنام أبدا كل ليلة دون أن تقوم برسم صورة لتلك الدكاكين رغم أنك تعيش في باريس الآن ، فأنت لا تفكر مثلي بامرأة جميلة أقاسمها الفراش ، وأطوف معها لساعات في بحر من اللذة ، أقبلها تارة ، وأستاف عبير أنفاسها تارة أخرى . هكذا أحلم أنا ، بينما تحلم أنت براحة الطابوق والحجارة ومواد البناء ، متصورا أن السعادة ستهبط عليك من سماء بعيدة بتحقيق بنائك للدكاكين تلك .
:ـ أتعرف أنك لم تصب هذه الليلة ، وقد حالفك الخطأ . رد الشيخ عباس بلسان واثق ، وجلس من رقاده بعد أن طرح الوسادة ما بين ظهر وحائط الغرفة التي ينامان فيها ، وكأنه أعد نفسه لحديث طويل مع صديقه ،حميد.
:ـ بمن كنت تفكر إذاً ؟
عاد الشيخ عباس الى النوم ثانية ، دون أن يجيب حميد على سؤاله ، فقد كان هو معتاد على الحديث مع حميد بشأن حلم كرّس له كل وقته من أجل تحقيقه ، ذلك الحلم الذي طالما حمله بأجنحة من خيال الى صفين متقابلين من الدكاكين يدران عليه دخلا متصلا ، مثلما يحمله الى دار فسيحة يريدها أن تكون مأوى له ، فلقد سئم هو العيش في بيت قديم ، متداع ٍ ، خلفه أبوه له ولإخوة وأخواته بعد وفاته التي مضت عليها سنوات قليلة ، عاش فيه حتى بعد تعينه معلما في ريف محافظة بابل . ورغم أن الشيخ عباس كان معلما مضت عليه أكثر من سنة في مهنته هذه إلا أنه كان محدود المعارف ، نزر المعلومات ، لم يطلع على الكثير من أحداث التاريخ ، حتى أنه كان يؤمن بخرافات تاريخية كثيرة، طالما سطرها قراء المنابر الحسينية في عقول الناس هناك في بلده ، العراق .
لقد ستنكر ذات صباح على أستاذ سمير قولا قاله له ، حين جمعتهما الصدفة في مقهى النهاية المطلة على البحر المتوسط من الجزائر العاصمة ، ذلك القول الذي أراد من خلاله أستاذ سمير أن يقنع الشيخ عباس به هو أن الخير كله هو ما يؤدي الى اللذة في هذه الحياة .
:ـ الحياة ـ يا شيخ عباس ـ ليست هي أن تعيش في جبل ، وتجمع من المال كثيره . الحياة هي أن تتمشى هنا على هذا البحر الطامي ، المترامى الأطراف ، ويدك تطوق خصر فتاة ، مثلما يفعل الجزائريون ذلك ، قال أستاذ سمير ذلك بإسلوب تراوح بين الجد والهزل .
:ـ ولكنني سأتزوج !
:ـ نعم . ستتزوج ، ولكن بعد أن تبني الدكاكين والدار ، وهذا يحتاج منك الى جهد ووقت طويل ، تجانب الخير فيه ، لأنك تحرم نفسك من لذة حبتها السماء لك ، وتمنعها من الدخول الى جنة تضوع عطرا من أنفاس فتاة تنام بين يديك ، وتمنحك من عيونها سموات بعيدة لتحلق فيها ، وتسمعك خفق قلبها من تحت نهدين يرتجان بين يديك مثل موجتين مسافرتين في بحر أحلام فسيح ، لا يمكن لك أن تصله ما دمت لا تؤمن أنت بفلسفة اللذة تلك ـ يا شيخ ـ !
:ـ لم أفهم ما تقول ، ولم أسمع بفلسفة اللذة من قبل !
:ـ ما سمعت باسم قورينيا ؟
:ـ امرأة هي ؟
:ـ لا . ليست امرأة ، إنما هي مدينة صعدت على ساحل هذا البحر الذي ترمي بصرك عليه ، وذلك حين يمر ذاك الساحل على جهة الشرق من ليبيا ، إنها مدينة ( شحات ) ، تلك هي التي أبدع أهلها فلسفة اللذة التي تميزت عن كثيرين آخرين ادعوها .
:- كيف ؟ سأل الشيخ عباس. .
:ـ لقد كان أهل قورينا يطلبون اللذة كائنا ما كان نوعها ، وأفضلها هي تلك التي يتحد فيها جسدا امرأة ورجل ، فاللذة عند هؤلاء القوم هي حياة سعيدة أبدية ـ يا شيخ ـ ! هي تلك الساعات التي تنسيهم الألم والموت ، وتريهم الخير يطوف على شفتين رقيقتين ينفذان بسحريهما في أوصال جسدك كله ، فتحلق أنت مثل طائر مد جناحيه في فضاء رحب ، تسبح فيه بحرية لا حدود لها ، وفوق يم عميق الزرقة ، مترامي الأطراف ، حتى يخيل إليك أن سباحتك على جسد امرأة ما هي إلا أمواج ناعمة تسافر بك في ذلك البحر اللجي الذي سافرت على مياهه من قبل غانيات يونانيات عاريات من مدينة قورينا ، وفي لحظة من لذة كن لا يلتفتن فيها الى الماضي الذي لا يعود ، ولا الى المستقبل الذي لا يعرف ، إنها اللحظة التي تمتزج بها الأنفاس ، وتشتعل بنيرانها النفوس ، وكما يبدو لي ـ يا شيخ ـ ! أن لحظة لذة مثل تلك اللحظة لم تمر بها أنت ، وكيف تريدها أن تمر ، وأنت معلق بذاك الجبل الشاهق ، وفي مدرسة لن يزورك فيها إلا طيف من مجموعة الدكاكين التي تخطط لبنائها ، هناك في مدينتك التي ما اكتشفت فيها ما اكتشفه أهل قورينا منذ عصور خلت .
لقد كان المفروض بك ـ يا شيخ ـ أن تجرب لحظة من تلك اللحظات ، وعندها سترى صدق ما أقوله لك ، ستكتشف أن الحياة يمكن أن تكون من دون دموع وبكاء ، وذلك حين ترى الفرح الجارف الذي يسيل من عيون أنثى كانت تحلم باشتياق الى أن تقاسمك الخير كله ، وتبعدك عن الشر كله ، وأنتما مبحران على فراش واحد .
حين أعاد الشيخ عباس حديث الأستاذ سمير على مسامع صديقه، حميد ، الذي يغالب النعاس على سرير وثير في قبالته كان هو نفسه قد استولى عليه سلطان النوم ، أبحر بعدها في يم عميق الزرقة ، ورأى إله البهاء والضياء ، أبوللو ، يقف على شاطئه المنحدر من الجبل الأخضر ، هناك حيث تبسط قورينيا رواحها دورا ، وحدائق ، ودروبا ، رأى فيها دافني تلك الفتاة الأغريقية الحسناء التي أسرت أبوللو بحب جارف ما استطاع أن يقاوم أمواج لذته العاتية رغم أنه إله .
:- إله !
ردد الشيخ عباس كلمة : إله ، أكثر من مرة ، ولكنه أفاق على صوت ضحكة عالية انطلقت من فم حميد ذلك الرجل الذي عرفه المدرسون العراقيون بضحكاته الصاخبة .
:- عن أي إله تتحدث - يا شيخ عباس - !؟
فتح سؤال حميد أجفان عيني عباس المثقلة بنوم عميق بعد أن أفرغ ما حمل في ظهره لسنوات طويلة خلت ، ما كان يعلم أنه سيضع حمولته تلك في دقائق لذة لم يره طوال حياته دقائق مثلها منذ أن حبا على أرض مدينته هناك في محافظة بابل التي طالما أخافه فيها أسدها الذي افترس إنسان في معركة غير متكافئة ، بينما أبحر هو في ليلته الفائتة على جسد غض ، رقراق ، وبثمن بخس لم يتجاوز خمسين فرنكا فرنسيا .
:- كم الساعة ؟ سأل الشيخ عباس ، وهو يفرك عينيه بكلتا يديه .
:- الثانية بعد الظهر ! رد حميد .
:- لقد تأخرت عن موعدي مع سي رمضان !
:- عدنا ثانية الى الشمة ! قال حميد ذلك ، ثم أطلق ضحكة عالية، في حين حاول عباس شمة أن يهرب بعينه عنه ، بينما استمر حميد يقهق بصوت قوي يملأ أرجاء الغرفة المطلة على شارع سانت جاكسون في الحي اللاتيني من بارس ، ذلك الشارع الذي نزلته الشمس بأشعة صيفية دافئة منذ ساعات الصباح الأولى ، وقتها دبت الحياة فيه على العادة في أغلب أيام الصيف بعد أن تهبط على أرض ذلك الحي أقدام بعيدة وقريبة ، تحملها إليه دروب طويلة ومختلفة .
لقد كانت قهقة حميد العالية شبيهة بتلك الضحكة الشريرة التي فجرها كيوبيد بن فينوس المكلف بإلقاء الحب في قلوب البشر ، وهو يرفرف بأجنحته فوق رأس أبوللو إله الضياء ورمز الشمس والبهاء بعد أن جعله متعلقا بدافني تلك الفتاة الحسناء التي تطاردها العيون على شواطئ البحر المتوسط ، حتى أن الحاج علي الحرايري وعلى كبر سنه والذي زار مدينة قورينا ذات مرة تمنى من أعماقه أن يعيش لحظة واحدة في تلك المدينة زمن أن كانت تسبح بأمواج اللذة ، وساعات الازدهار ، ولكي يرى دافني الحسناء وهي تعذب بدلها وغنجها أبوللو إله الضوء والبهاء بعد أن ألقى الشقي كيوبيد سهم الحب على صدره ومن ساعتها جن جنونه بالفاتنة التي كانت تنظر إليه كوحش يطاردها أينما اتجهت، وأينما حلت بعد أن تلقت هي من كيوبيد سهما رصاصيا جعلها تفيض بالكره والازدراء الدائمين لأبوللو الذي سخر منه كيوبيد ذات صباح بعد أن انشق البحر المتوسط ليبتلع دافني الحسناء ، وساعتها أطلق أبوللو صيحات الذل والانكسار ، معترفا بقدرة كيوبيد الذي وصفه ذات مرة بأنه طفل ضعيف وليس له أهمية تذكر في المجتمع القوريني السابح في فلسفة اللذة قبل أن يفتح عينيه على فلسفة الكتاب الأخضر .
ورغم أن الأستاذ سمير كان قد قدم شرحا مبسطا عن فلسفة اللذة في الترح والفرح ، وفي الانشراح والألم للشيخ عباس ، لكن الشيخ لم يستوعب منها سوى رقة جسد الفتاة الفرنسية التي ضاجعها في دار للبغاء في حي بيكال من باريس ، حتى كأنه والحال هذه لا يختلف عن الحاج علي الحرايري الذي كان يحلم برؤية دافني الحسناء ، وليس بمضاجعتها مثلما هي الحال مع الشيخ عباس الذي اكتشف الحياة من جديد وراح يمني نفسه في أن يتخلى عن أفكار حملها منذ سنوات بعيدة عن أبيه الذي علمه الشح والبخل ، وغرس فيه حب الملك والمال على طريقة جارهم القادم من إيران الذي أفنى عمره بجمع الدراهم والدنانير والذي كان يردد باستمرار قولة له لا زالت تطن في أذنيه طنين النحل ، وهو يحث الخطى في الدروب من باريس : من عنده بيت عنده رب !
لقد كان هذا اللهاث وراء المال هو الذي جعل الشيخ عباس أن يستوطن ذلك الجبل ، وأن يسعى الى تبديل ما يملك من دنانير جزائرية بفرنكات فرنسية من خلال تودده لطلابه الذين يعمل آباؤهم في باريس والمدن القريبة منها ، وفوق هذا كان هو يحمل معه أثناء مغادرته للجزائر علب التبغ ( الشمة ) ليبعها على الكادحين من العمال الذين هجروا أسرهم من أجل توفير لقمة العيش التي شحت عليهم في وطنهم.
كانت فكرة فلسفة اللذة تسير في عقل الشيخ عباس وهو يسير في شارع الأوبرا الذاهب من متحف اللوفر الى الساحة الأوبرا التي تطل عليها بناية أوبرا باريس الشهيرة ، ومن هناك كان عليه أن ينطلق الى محطة قطار St.Lazare القريبة منها .
في هذه اللحظات بالذات تذكر الشيخ عباس حديث الأستاذ سمير الذي حدثه عن تلك الكنيسة التي أصبحت الآن حقيقة ماثلة أمام عينيه ، ولكنه لم ير رجلا أحدبا ! ذاك الرجل الذي مر عليه الأستاذ سمير في حديثه معه قبل أن يغادر الجزائر العاصمة ، وبدلا من ذلك فقد رأى هو عشرات من الشابات والشبان واقفين عند السياج الصخري ، المنحوت بشكل فني جميل والذي يتقدم الباب من تلك الكنيسة ، أو أنهم جالسون على المدرجات التي تأخذ زائرها الى بابها الرئيس العالي .
لم يسمح الشيخ عباس لنفسه أن يتوقف طويلا ، فهو على موعد مع سي رمضان ، ذلك العامل الجزائري الذي ترك أسرته معلقة في الجبل قريبا من مدينة البليدة التي لا تبعد كثيرا عن العاصمة الجزائرية بعد أن يأس من الوعود الكثيرة في التقدم والرفاه ، والتي كانت أغلب الأسر في قرية تسمعها من خلال المذياع بمناسبة أو دون مناسبة ، وحين لم ينجز من تلك الوعود الكثير حمل سي رمضان حقيبته ورحل تاركا وراءه زوجته وولدا له منها وبنتا يظلهم سقف من بيت خرب ، وكان كل همه من هجرته هذه هو أن يوفر له ولأسرته حياة مريحة وأن يعلم ولديه تعليما عاليا مثله في ذلك مثل كل الأسر الجزائرية التي كانت تحرص أشد الحرص على تعليم أبنائها وبناتها في المدارس التي انتشرت بعد انتصار الثورة والتي كان دخولها محرما على الجزائريين لعقود طويلة من السنين زمن الاستعمار الفرنسي .
حث الشيخ عباس الخطى باتجاه المحطة ، وكان يحاول بقدر استطاعته أن يزيل عن مخيلته صورة أستاذ سمير التي ظلت تلاحقه في شوارع العاصمة باريس ، كانت تصيح به عند كل منعطف من شارع : اغتنم الحياة يا شيخ عباس ! فهي فقاعة ماء سرعان ما تنفجر وتتلاشى ، وأجمل ما فيها أن يؤمن الإنسان باللذة التي يجب أن يعيش تحت ظلالها الوارفة ، هناك حيث تسافر في قطار يشق عباب مروج خضراء تعانق الأفق ، أو حيث ترفع نخبا من شراب لذيذ على رصيف من مقهى في سانت ميشيل ، أو تجعل العيون منك تمرح بوجوه نساء الدنيا اللائي يطفن حولك في شوارع تتراكض فيها الأقدام ، ولا تنسَ- يا شيخ عباس - ليلة مثل الليلة البارحة التي سبحت فيها في يم من لذة ساعة أن كنت تقلب بيديك ذلك الجسد المرمري في أحد بيوت حي بيكال الشهير.
:- لن أنسى . قال عباس بصوت مسموع ، حتى أن امرأة فرنسية كانت تسير الى جنبه التفت نحوه ، ظانة أن الشيخ كان يكلمها ، لكنها لم تفهم حرفا مما قاله .
:- ليس لك من مال هذه الدنيا إلا ما تنفقه ، وكل ما تخلفه خلفك أو تدخره ليس لك منه شيء ، فلا تثقل عقلك بفكرة تلك الدكاكين اللعينة ، هناك في مدينة بابل. فأنت - يا شيخ - مهما حاولت لم تطاول أبدا ملكها نبوخذنصر، ولن تستطيع أن تبني جنائن معلقة مثله ، ولكنه مع كل ذلك تركها ورحل رحلته الأبدية ، فدعك من الشح ، وخذ بقولة الأمام علي : مالك ما أنفقت !
تمنى الشيخ عباس أنه لم يلتق ِالأستاذ سمير ، ولم يتعرف عليه ويجالسه لقد أحبط في ذهنه مشروعا خطط له منذ سنوات طويلة، وصار الآن أكثر ترددا في تنفيذه ، ذلك المشروع الذي يرتسم في ذهنه منذ أن عزم على السفر الى الجزائر ، كان يراه مثل الجنائن المعلقة التي أرادها أن تكون له وحده ، فصورة الدكاكين المتخيلة كانت هي لذته ، لكن الأستاذ سمير هو الذي حدثه عن تلك اللذة التي ذاق طعمها للمرة الأولى في حياته ، وما كان يظن أن جسد امرأة معروضا للبيع في مبغى من مباغي حي بيكال الشهير سيشعل في جسده كل هذه النار الكامنة في جسده ، ولهذا السبب قرر هو الذهاب هذه الليلة الى هذا الحي ثانية بعد لقائه بسي رمضان ، وبعد أن يحصل منه على خمسة آلاف فرنك فرنسي لقاء خمسة آلاف دينار جزائري سلمها هو الى أسرة سي رمضان الذي كان يقضي ساعات طوال كل يوم بعمله في تلك المحطة ، يكنس أرضها ، ثم ينظفها بالماء الممزوج بالمواد المطهرة ، هذا في الوقت الذي كانت أقدام المسافرين المتراكضين نحو صفوف القطارات فيها ، أو نحو أماكن حجز تذاكر السفر تخرب عليه كل ما صرفه من جهد في عملية التنظيف المستمرة تلك ، هذه المهنة التي لم يمتهنها من قبل فهو قد صرف أيام شبابه الزاهرة هناك على سفوح الجبال في قتال أعدائه المحتلين لأرضه من الفرنسيين الذين عادوا مضيفيه اليوم بعد أن ضاقت به سبل العيش في بلده ، فشد الرحال مثل كثيرين غيره ، مخلفين وراءهم الثورة التي أكلت رجالها ، وشردت أبناءها .
----------------------------------------------------------------
* مجتزأ من رواية بذات العنوان ستصدر للكاتب عما قريب .



#سهر_العامري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الحكومة تتظاهر ضد المعارضة !
- مقلب غوار الطوشي يرتد عليه !
- غبش الليل !
- مماليك بغداد وطغاة طهران
- حديث الفكة ونبوءة موسى النداف!
- امرأة سمراء
- شارع المتنبي : المظاهرة والقمع !
- إيران : الثورة والبطيخ ( 2 )
- إيران : الثورة والبطيخ
- دونما حب*
- الوحدة اليمنية : الوقت والظرف الخطأ(3)
- الوحدة اليمنية : الوقت والظرف الخطأ ( 2 )
- الوحدة اليمنية : الوقت والظرف الخطأ (1)
- الدينار
- رحلة في السياسة والأدب ( 4 )
- رحلة في السياسة والأدب (3)
- قصيدتان من زمن الصبا
- على أطراف المتوسط *
- الحريق الأمريكي – الإيراني للعراق
- المنهج الدراسي في العراق : تاريخنا وتاريخهم !


المزيد.....




- منها متحف اللوفر..نظرة على المشهد الفني والثقافي المزدهر في ...
- مصر.. الفنانة غادة عبد الرازق تصدم مذيعة على الهواء: أنا مري ...
- شاهد: فيل هارب من السيرك يعرقل حركة المرور في ولاية مونتانا ...
- تردد القنوات الناقلة لمسلسل قيامة عثمان الحلقة 156 Kurulus O ...
- مايكل دوغلاس يطلب قتله في فيلم -الرجل النملة والدبور: كوانتم ...
- تسارع وتيرة محاكمة ترمب في قضية -الممثلة الإباحية-
- فيديو يحبس الأنفاس لفيل ضخم هارب من السيرك يتجول بشوارع إحدى ...
- بعد تكذيب الرواية الإسرائيلية.. ماذا نعرف عن الطفلة الفلسطين ...
- ترامب يثير جدلا بطلب غير عادى في قضية الممثلة الإباحية
- فنان مصري مشهور ينفعل على شخص في عزاء شيرين سيف النصر


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سهر العامري - حسين السراج*