أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سعود سالم - العدمية وأسطورة الكينونة ... الحلقة الثانية















المزيد.....

العدمية وأسطورة الكينونة ... الحلقة الثانية


سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي

(Saoud Salem)


الحوار المتمدن-العدد: 2905 - 2010 / 2 / 2 - 18:00
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


المستحيل ليس نقيضا للممكن وانما احد تجلياته، كذلك الموت ليس نقيض الحياة وانما حدها الأقصى. نقيض الممكن هو الضروري، أما الحياة فانها لا تتحمل نقيضا لأنها تحتوي الكل ولا يمكن وجود أي شئ خارجها. فالموت ليس ظاهرة تطرأ على الحياة فجأة. الموت يلغم الحياة من الداخل. وفي نفس اللحظة التي تبتدئ فيها الحياة يبدا مشروع الموت. ورغم اختلاف فكرة العدم عن فكرة العبث فان هاتين المقولتين تلتقيان وتتقاطعان في هذه النقطة الواحدة المحددة، لحظة اختيار الموت الارادي واطلاق الرصاصة.
الانسان في بعض لحظات الارهاق، وبعد يوم طويل من العمل المضني، لايسعه الا أن يفكر وهو ينزع حذاءه ليستلقي ويستريح للحظات من تعب النهار، بان هذه الحياة ليست سوى لعبة مضحكة تتخذ صورة تراجيدية فاجعة، وأن العالم مجرد كابوس مستمر ودائم التجدد. ويعاود التفكير وهو يتقلب على سريره أرقا: الحياة حقا رديئة ومزعجة ومملة ومضحكة وتافهة وقذرة، تفوح منها رائحة نتنة تبعث على الغثيان، غير أنه على ما يبدو لا يوجد في الكاتالوج أحسن من ذلك، بل لا يوجد أي شىء آخر. فالحياة هي البضاعة الوحيدة المتوفرة في السوق، والخيار محدود ولا امكانية للمساومة أو تخفيض الأسعار... ويأخذه النوم في النهاية، ويغرق لساعات طويلة في غياب لذيذ خارج الزمان والمكان، حتى يستيقظ في اليوم التالي على رنبن المنبه، فينهض ليغسل وجهه، ثم يشرب قهوته، ويرسل الأطفال الى معسكر التعليم أو التدريب على العمل، ويخرج الى الشارع ليركب الباص أو السيارة أو الدراجة حسب الامكانيات المتاحة، أو ينزل تحت الأرض ليأخذ المترو وهو ما يزال يفكر: ماذا أفعل هنا..؟! وفي داخل جمجمته عاصفة وزوبعة، تختلط الأفكار السوداء، وتتراكم الصور والاختيارات، وتتراطم الامكانيات. ويبحث عن نقطة ثابثة يتشبث بها كي لا يفقد توازنه ويسقط في الفراغ، نقطة ثابثة مضيئة تريحه من السؤال القديم، من الفكرة الشيطانية المنغرزة في لحمه، والتي تحتل جسده ووعيه... في أية لحظة يمكن أن ينزلق ويسقط، في أية لحظة يمكن أن يثور ويرفض مواصلة اللعبة الهزلية أوينزل الستار ويعلن نهاية المسرحية، ويقطع الخيط الرفيع الذي يربطه بالبيت والعائلة والاطفال والعمل والسياسة والمجتمع... وقائمة الأثقال والأشغال الشاقة تبدو شديدة الطول وبلا نهاية. وقد يقرر فجأة أن يتوقف في هذه اللحظة بالذات، هنا في هذه المحطة بعينها، ويعلن نهاية الرحلة، وبدلا من أن يركب القطار ليصل الى عمله في الوقت المحدد كالعادة، فانه يقفز ويلقي بجسده على السكة الحديدية أمام القاطرة، أو يقفز من أعلى الجسر ليغرق في مياه النهر الباردة. وهنا بالظبط.. هنا ينهض الفيلسوف متثاقلا من كرسيه وهو ينفث دخان سيجارته، معلنا تجلي العبث وظهوره ساطعا كنور يضئ الموقف ويشرح أسبابه ومكوناته.
وقد لا تساوي فكرة "العبث" أكثر من عدة سنتيمات في سوق الفلسفة، الا أنها ساهمت في انتاج العديد من الأعمال الفنية والأدبية الرئيسية طوال القرن الماضي، لذلك يجب الاحتفاظ بها ولو مؤقتا. فالنظر للانتحار من هذه الزاوية وتفسيره بواسطة هذا المفهوم المجرد، يوحي في النهاية بأن هذا الاحساس أو الوعي بعبثية الحياة وبعدم جدواها، هو ظاهرة عامة ومنتشرة على جميع المستويات، نظرا لانتشار ظاهرة الموت الاختياري وعموميتها. فحين نلقي نظرة على الاحصائيات المتعلقة بهذه الظاهرة، حيث ينتحر انسان كل 30 ثانية، أي أكثر من مليون شخص سنويا، بالاضافة الى عدة ملايين من المحاولات الانتحارية الفاشلة، نجد أن الأمر لا يتعلق بحالات خاصة مثل الفنانين والشعراء ذوي الحساسية المرهفة والـ"انا" الشديدة الحضور، ولا بالمراهقين أو العشاق الرومانتيكيين، ولا يتعلق الأمر بالعاطلين عن العمل الذين فقدوا الأمل في مستقبلهم ومستقبل أطفالهم، أو المساجين اللذين يفتقدون الشمس والهواء. الأمر يتعلق بالانسان العادي، الشديد العادية ـ والذي يشمل كل هذه النماذج وغيرها ـ أي الانسان الذي لا يختلف عن الآخرين سوى بهذه الخطوة الاضافية التي يخطوها في الفراغ. واذا ألقينا نظرة على الدراسات الاجتماعية ودراسات علم النفس المتخصصة في هذا المجال، نجد أغلبها يعتبر الانتحار عملا ذا دوافع فردية خاصة، ويجب دراستها كنماذج فريدة رغم امكانية وجود عوامل مشتركة بين بعض الحالات، ويعتبرون أن الانتحار الجماعي مجرد خرافة لا يمكن أن تشكل ظاهرة اجتماعية باعتبار الحالات القليلة والنادرة المعروفة. غير أن هذا لا يمنع وجود انتحارات عديدة في مكان وزمان واحد، فنحن نعرف اليوم أن هناك ظروفا اجتماعية واقتصادية ونفسية خاصة لكل حالة فردية يمكن أن تساعد على تفسير الإقدام على هذا العمل، وعلى انتشاره أو انحساره في فترة معينة، أو في مجتمع، أو طبقة اجتماعية أكثر من غيرها. الحالة التي يمكن ذكرها على سبيل المثال، هي انتحار أكثر من 30 موظفا وعاملا سنة 2009 في شركة الكهرباء الفرنسية، وذلك في فترة قصيرة، نتيجة ظروف العمل المرهقة، والضغط النفسي، وجو التنافس الخانق الذي فرضته الادارة على موظفي وعمال الشركة لرفع الانتاج، وزيادة ساعات العمل دون زيادة الرواتب، وذلك نتيجة لتطور هذه الشركة من مؤسسة حكومية للخدمات الكهربائية، الى شركة شبه خاصة هدفها الأساسي الربح السريع والمباشر، وبأقل ما يمكن من العمال. كما يمكن ذكر الاحصائيات العديدة التي تعالج هذه الظاهرة بصورة عامة وشمولية، والتي تؤكد أن عدد حالات الانتحار في البلدان الشمالية الباردة يفوق عدد الحالات في بقية البلدان، وأن الرجال ينتحرون أكثر من النساء، أو أن السجناء ينتحرون في فترة الصيف أكثر من الشتاء ... الخ. فالموت الإرادي اذا ظاهرة اجتماعية لها أسبابها ودوافعها، ويمكن تحليلها بدقة على المستوى العام وعلى المستوى الفردي لكل حالة. وهناك بالضرورة بعض الحالات التي تكون دوافعها فكرية أو فلسفية، غير أنها خاصة ونادرة وتنحصر في الغالب في العالم الثقافي المكون من الشعراء والفنانين، وحتى في هذه الحالات يمكن تتبع المسار النفسي والاجتماعي لها، وايجاد الخيط الدقيق الذي قد يربط بين هذه الحالات التي ادت الى اتخاد مثل هذل القرار. فالشاعر بول تسيلان الذي انتحر في باريس قافزا في نهر السين سنة 1970، هو شاعر مهاجر من أصل روماني، عانى من الفقر والاضطهاد والتغريب مما انتج العديد من المشاكل النفسية والاجتماعية، مثله مثل جيراسيم لوكا الذي هاجر بدوره الى باريس سنة 1952، وعاش طوال حياته كمهاجر بدون أوراق حتى لحظة انتحاره في نهر السين أيضا سنة 1994، وهو يعتبر من دعائم الشعر الصوتي المعاصر. ويمكن ان توجد بعض الحالات التي تندرج تحت ما يمكن تسميته بالانتحار الفلسفي، أي الناتج مباشرة عن قناعة متينة بعدم جدوى الحياة وتفاهتها، غير أن الأمثلة قليلة ونادرة، لأن أغلب الذين فكروا في الإنتحار بطريقة عقلية أو فلسفية، لم يواصلوا رحلتهم ومغامرتهم الفكرية حتى نتائجها القصوى. فشوبنهاور، ورغم تشاؤمه المبالغ فيه، فانه على ما يبدو لم يفكر في القضاء على حياته لحظة واحدة، وكذلك الأمر مع ألبير كامو الذي اعتبر الانتحار القضية الأولى في الفلسفة، مات بحادث سيارة مثل آلاف المواطنين غيره. اما الشاعر إميل سيوران، والذي كانت حياته كلها مجرد مشروع عبثي فاجع سيوصله حتما إلى مرحلة الموت الإرادي، هو الذي يمكن اعتباره الشاعر والمفكر العدمي الأول والذي كان يردد "حين أخرج إلى الشارع لا تخطر ببالي سوى فكرة واحدة: فكرة الإبادة". إلا أنه في نهاية الأمر مات بمرض آلزهايمر دون أن يتمكن من إيصال مشروعه إلى نهايته. ولا شك أن سيوران كان غاضبا على العالم وعلى البشر، وكان يعتقد مثل خياط بيكيت، بأن العالم شئ ردئ الصنعة، وكان سخطه على العالم لا يضاهيه سوى ثقته بنفسه "لست أنا من لا يصلح للعالم... بل هو العالم الذي لا يصلح لي". أما المفكر بول نيزان، وهو مثقف من نوع آخر، والذي اعتبر الأمر من زاوية ثانية "حياتي فارغة ولا تستحق الموت"، حيت يأخذ الموت صورة إيجابية ولا يستحقه إلا من عاش حياة ممتلئة بالفعل، وحيث أن امتلاء أو فراغ هذه الحياة يعود في نهاية الأمر إلى الفرد ذاته، وإلى تحمله لمسؤولياته الإجتماعية والسياسية. هذه المواجهة ـ المسرحية ـ بين الإنسان والعالم ومن منهما يستحق الآخر، ظهرت في الغرب بوضوح وحدّة في بداية القرن الماضي، وبالذات بعد الحرب الأولى ثم الثانية، حيث واجه الإنسان الغربي شراستة وضراوته، ورأى قدرته على التدمير الذاتي وتدمير الآخرين. ومن تحت الأنقاض والخرائب، كان طبيعيا أن تنمو وتترعرع فكرة عبثية الحياة وعدم جدوى الإنسان، وأن العالم لا معنى له. وانعكست هذه الرؤية على الإنتاج الأدبي والفني عموما، وبطريقة اكثر ثراء واكثر قوة ونضوجا في الإنتاج المسرحي، وبالذات مسرح المهاجرين الذين استعملوا اللغة الفرنسية في الكتابة مثل يونيسكو وبيكيت وأداموف وغيرهم. وهذا التساؤل عما إذا كانت الحياة تستحق أن تعاش، رغم قدمه، ورغم اللامعنى الذى يحيط به، ورغم احتوائه على نفس التناقضات والمفارقات الأصلية القديمة، ورغم كونه سؤالا عبثيا في ذاته، فإن مقولة العبثية ما تزال تلبس نوعا من الجدية الفلسفية المزيفة. فالحياة لا يمكن أن تكون موضوعا للتساؤل، فنحن لا نقرر أن ندخل الحياة ذات يوم أو في لحظة ما. لا ندخل الحياة كما ندخل بيتا أو مكتبا أو محلا تجاريا.. ندفع الباب، ونقف على العتبة، ونتردد: ندخل أو لا ندخل. الموقف الأصلي والأساسي هو إننا نتواجد داخل الزنزانة أولا وقبل كل شئ، نحن نستيقظ لنجد أنفسنا أحياء ولا امكانية ولا اختيار لا للدخول ولا للخروج. الحياة ليست موضوعا فلسفيا، ولكنها الحقل الذي تتواجد فيه الفلسفة وإمكانياتها المختلفة.



#سعود_سالم (هاشتاغ)       Saoud_Salem#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العدمية وأسطورة الكينونة
- كوكا كولا... إشكالية المثقف
- سفر العدم والجنون
- الخيال
- الخطوة الأولى لفك الحصار... تسريح الجيوش
- الوعي المحاصر
- الله والشاعر والفيلسوف
- عن الأسرة والكراسي
- طبيعة الكارثة
- مناورات لفك الحصا ر


المزيد.....




- عاصفة رملية شديدة تحول سماء مدينة ليبية إلى اللون الأصفر
- واشنطن: سعي إسرائيل لشرعنة مستوطنات في الضفة الغربية -خطير و ...
- -حزب الله- يعرض مشاهد من استهدافه دبابة إسرائيلية في موقع ال ...
- هل أفشلت صواريخ ومسيرات الحوثيين التحالف البحري الأمريكي؟
- اليمن.. انفجار عبوة ناسفة جرفتها السيول يوقع إصابات (فيديو) ...
- أعراض غير اعتيادية للحساسية
- دراجات نارية رباعية الدفع في خدمة المظليين الروس (فيديو)
- مصر.. التحقيقات تكشف تفاصيل اتهام الـ-بلوغر- نادين طارق بنشر ...
- ابتكار -ذكاء اصطناعي سام- لوقف خطر روبوتات الدردشة
- الغارات الجوية الإسرائيلية المكثفة على جنوب لبنان


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سعود سالم - العدمية وأسطورة الكينونة ... الحلقة الثانية