|
الخيال
سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي
(Saoud Salem)
الحوار المتمدن-العدد: 2673 - 2009 / 6 / 10 - 04:53
المحور:
الادب والفن
إن الخيال كمكون أساسي للإنسان، مثل التفكير، والإدراك الحسي، والإدراك المعنوي “اللغوي”، وكمصدر لأحد النشاطات الإنسانية المهمة “الخلق والإبداع الفني”، قد يمثل أحد المفاتيح المحتملة لفهم ظاهرة تكوين وتطور الفكر الديني عموما، والفكر الديني الإسلامي بصفة خاصة. أو على الأقل إلقاء الضوء على المجال الذي حدثت فيه القطيعة بين الشعر وبين الدين، رغم توحد المصدر الجغرافي والفني والثقافي. ولعله من المهم التأكيد في هذا المجال، أنه من خلال الفكر الديني ذاته، جاءت المحاولات الأولى لتحليل البنية اللغوية للقرآن، واستنباط الأشكال الفنية التي يحتويها، ودراسة هذا النص في حدوده التاريخية واللغوية، واعتبار الخيال أحد العوامل المهمة في تركيبه، والتي أدت إلى استقباله وفهمه كلغة مجازية تصويرية. ويكفي الإطلاع على كتاب سيد قطب “التصوير الفني في القرآن”، لإدراك ما نقصد إليه في هذا المجال. حيث أن إدراك وتحليل النص القرآني كعمل إبداعي، يلعب فيه الخيال دورا أساسيا، وحيث تبدو فيه البنية المجازية كوحدة مركزية ورئيسية. “فالتصوير هو الأداة المفضلة في أسلوب القرآن” حسب قول سيد قطب، حيث “الحوادث والمشاهد والقصص والمناظر، فيردها شاخصة حاضرة، فيها الحياة، وفيها الحركة. فإذا أضاف إليها الحوار، فقد استوت لها كل عناصر التخيل، فما يكاد يبدأ العرض حتى يحيل المستمعين إلى نظارة، وينقلهم نقلا إلى مسرح الحوادث الأولى الذي وقعت فيه، أو ستقع، وحيث تتوالى المناظر وتتجدد الحركات، وينسى المستمع أن هذا كلام يتلى، ومثل يضرب، ويتخيل أنه منظر يعرض، وحادث يقع..”. ويستمر سيد قطب قائلا ” فهو تصوير باللون، وتصوير بالحركة، وتصوير بالتخيل. كما أنه تصوير بالنغمة تقوم مقام اللون في التمثيل، وكثيرا ما يشترك الوصف والحوار وجرس الكلمات، ونغم العبارات وموسيقى السياق، في إبراز صورة من الصور تتملاها العين والأذن والحس والخيال والفكر والوجدان..”.ولا شك أن مواجهة النص القرآني كعمل أدبي أو فني، وتحليله من منظور استيطيقي دون السقوط في متاهات الفكر الميتافيزيقي ـ الغيبي، يعتبر مدخلا ولو كان ضيقا لتنفس القليل من الهواء البارد، والإنفتاح على مجال عقلي يسمح بإمكانية الحوار. ورغم أن سيد قطب لم يكتب هذا الكتاب لهذا الغرض، وإنما ليؤكد على العكس من ذلك، أن هذا الجانب الفني والخيالي يضاف إلى معجزة اللغة العربية ذاتها، والتي تتخذ صفة السحرـ سحر اللغة العربية ـ كأحد الأسباب التي دفعت العرب منذ البداية لاعتناق الإسلام. وهو يفصل بين طريقتين لتوصيل المعاني إلى القارئ أو المستمع:1ـ طريقة نقل المعاني الذهنية والحالات النفسية، وإبرازها في صور حسية بواسطة الخيال. 2ـ نقل المعاني والحالات النفسية في صورتها الذهنية التجريدية. وسيد قطب يؤكد بأن القرآن استعمل الطريقة الأولى لتوصيل المعاني، “ولهذه الطريقة فضلها ولا شك كأداة للدعوة لكل عقيدة، ولكننا إنما ننظر إليها هنا من الوجهة الفنية البحتة. فوظيفة الفن الأولى هي إثارة الإنفعالات الوجدانية وأشاعة اللذة الفنية”. ونحن لا نشك لحظة واحدة في ضرورة دراسة البعد الفني في القرآن، وكذلك البعد الأسطوري، والبعد الشعري والخيالي. ذلك أن القصص المتراكمة في الأدب الديني منذ جلجامش والطوفان وقصص الخلق المختلفة في الكتب الدينية، لا يمكن فهمها بطريقة من الطرق، دون الأخذ في الإعتبار بأنها تنتمي إلى الإبداع الفني الفردي أو لجماعي. وبأنها تصوير أو أساطير لا علاقة لها بالأحداث التاريخية التي وقعت فعلا في زمن أو آخر. إنها صور فنية تعني بطبيعة الحال شيئا آخر غير ما تعبر عنه مباشرة، وفي هذه الحالة نجد انفسنا وسط البنية المجازية، وندخل عالم الشعر. نخرج من عالم الوقائع التاريخية الذي لم ندخله مطلقا في حقيقة الأمر. غير أننا هنا نواجه أحد هذه الجدران العالية التي لم يستطع الفكر العربي أن يتجاوزها.. جدار قدسية النص، وأولويته على أي تفكير عقلي أو حوار فكري، ذلك أن هذا النص يرفض منذ البداية علاقته بالشعر والشعراء. إن البنية المعرفية العربية قائمة على أولوية النص كثابت طبيعي مثل الصحراء والجبال والأنهار. والحقيقة المعرفية توجد ضمنا في النص على المستوى الطبيعي. في النص الشعري كتعبير عن البداهة والفطرة العربية، على المستوى الميتافيزيقي في النص الديني ـ القرآن. وهنا نكتشف أن القطيعة المزعومة بين الشعر والنص القرآني ليست قطيعة شكلية أو استيطيقية، فمن هذا الجانب ليست هناك قطيعة على الإطلاق، وإنما إستمرارية داخل نفس المساحة الفنية. ونكتشف فشل هذه المحاولة الوقائية، لأن الدين ذاته كان ملغما من الداخل باللغة الشعرية. فالدين لا يستطيع أن يحمي نفسه من الشعر دون أن يلغي نفسه كلغة أولية ودينية. والشعر من جانبه لا يستطيع أن يلغي الدين أو ينفيه من لغته المجازية ـ مهما كانت هذه البنية خاصة ومحدودة ـ دون أن تتفتت لغته وبنيته اللغوية ذاتها. الدين والشعر وجهان لعملة واحدة، عملة الخيال والخلق والإبداع الفني. ومن هذه الزاوية.. من هذه الزاوية فقط نستطيع أن نبدأ عملية النقد الحقيقية لما يمكن أن يسمي بالمعرفة الدينية والمعرفة الشعرية. فربما تمكنا بعد ذلك من فهم الأسباب التي أدت إلى غياب المعرفة التي تهمنا في هذا المقام. لأنها ربما كانت الوحيدة القادرة على فك الحصارـ أي المعرفة الفلسفية. غير أننا لا نستطيع أن نؤكد ذلك قبل تحليل ودراسة جميع الجوانب المتعلقة بالأسوار العديدة التي تشكل خارطة الحصار.. والشعر والدين معطيات أولية، وثوابت يجب أخذها كما هي ولا تسمح للنقاش والحوار والجدل، لأنها تقع خارج حدود العقل، ولا تدخل نهائيا في مجاله الضيق. غير أن هذا لا ينفي إمكانية تحليلها داخل حدودها المعرفية ـ أي الخيال ـ وذلك بواسطة منهج علمي فلسفي مناسب.
#سعود_سالم (هاشتاغ)
Saoud_Salem#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الخطوة الأولى لفك الحصار... تسريح الجيوش
-
الوعي المحاصر
-
الله والشاعر والفيلسوف
-
عن الأسرة والكراسي
-
طبيعة الكارثة
-
مناورات لفك الحصا ر
المزيد.....
-
محمد حلمي الريشة وتشكيل الجغرافيا الشعرية في عمل جديد متناغم
...
-
شاهد رد فعل هيلاري كلينتون على إقالة الكوميدي جيمي كيميل
-
موسم أصيلة الثقافي 46 . برنامج حافل بالسياسة والأدب والفنون
...
-
إندبندنت: غزة تلاحق إسرائيل في ساحات الرياضة والثقافة العالم
...
-
إندبندنت: غزة تلاحق إسرائيل في ساحات الرياضة والثقافة العالم
...
-
مسرح الحرية.. حين يتجسد النزوح في أعمال فنية
-
مسرح الحرية.. حين يتجسد النزوح في أعمال فنية
-
أبحث عن الشعر: مروان ياسين الدليمي وصوت الشعر في ذروته
-
ما قصة السوار الفرعوني الذي اختفى إلى الأبد من المتحف المصري
...
-
الوزير الفلسطيني أحمد عساف: حريصون على نقل الرواية الفلسطيني
...
المزيد.....
-
الرملة 4000
/ رانية مرجية
-
هبنّقة
/ كمال التاغوتي
-
يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025
/ السيد حافظ
-
للجرح شكل الوتر
/ د. خالد زغريت
-
الثريا في ليالينا نائمة
/ د. خالد زغريت
-
حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول
/ السيد حافظ
-
يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر
/ السيد حافظ
-
نقوش على الجدار الحزين
/ مأمون أحمد مصطفى زيدان
-
مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس
...
/ ريمة بن عيسى
-
يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|