أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رباح آل جعفر - عبد الغني الملاح يستردّ للمتنبي أباه !..














المزيد.....

عبد الغني الملاح يستردّ للمتنبي أباه !..


رباح آل جعفر

الحوار المتمدن-العدد: 2757 - 2009 / 9 / 2 - 10:04
المحور: الادب والفن
    


أعرف المثل العربي القائل : ( إذا أقبلت الدنيا على أحد أعارته محاسن غيره، وإذا أدبرت عنه سلبته محاسن نفسه ) .. وأعرف أن هذا المثل يكاد ينطبق بالتمام على أديبنا الكبير الراحل الأستاذ عبد الغني الملاح ، الذي قيل فيه كلام كثير .. بعضه تميّز بالعدل والإنصاف ، وأعطى ما لله لله وما لقيصر لقيصر، وبعضه الآخر تميّز بالظلم والإجحاف ، ولم يعط شيئاً لا لله ولا لقيصر!.
فهذا الملاح الذي بدأ الرحلة من الموصل سنة 1920 وتخرّج في مدارسها، وأشار إلى عبقريته مفكرون عرب كبار في مصر والمغرب وبلاد الشام، وعزّز فلسفته بمعادلات الفيزياء، وأنثروبولوجيا الإنسان، وكانت الجدلية الرياضية أساساً لبلورة آرائه في التاريخ والحياة .. هو الملاح الذي لم يأخذ حقه في بلده، وأخذه من هو دون منزلته في الثقافة ، ودون منزلته في الأكاديمية ، وأهملت دار الشؤون الثقافية طبع كتبه، بل وأهملته الدولة العراقية منذ تأسيسها ، وبدلاً من أن تطرّز صدره بالنياشين ، فإنها أعطته أذناً من طين وأذناً من عجين ، وكانت تلك مفارقة مضحكة ، وكان يريد أن يطلق صرخة احتجاج من أعماقه ، لكن لا حياة لمن تنادي !.
وهذا الملاح الذي شرع يكتب القصة منذ سنة 1938 وينظم الشعر منذ سنة 1940، وكان (مجد الزهور) أول كتاب يخرج من أنامله سنة 1949، حتى بلغت كتبه المطبوعة (17) كتاباً ، وكان يقول لي : إنه يؤلف كتبه ويصوغ كلماتها حواراً بين عاشق ومعشوق ، لا حواراً بين الطرشان ، ويوظف عقله وقلمه لتكريس المنهج الديمقراطي في الأدب والفكر... هو الملاح قارئ التاريخ الدؤوب ، من الطراز الذي لا يرثي ولا يمتدح، فأبديت احتراماً نحوه وأحببته ، وأذكر انه قال لي يوماً ، وكنت أجلس بجانبه وهو طريح فراش أقعده المرض: إن اشدّ ما يخشاه بعد رحيله عن هذه الدنيا، أن تمتدّ يد آثمة نحو قبره فتخلع شاهدته وتلصقها بقبر آخر غير قبره !.
هو الملاح الذي صحبته أياماً ودنوت منه وتابعته وتأملته ، مثلما يتأمل العطشان لقيان الماء العذب ، فلم أر منه ولا فيه إلا ما يؤيد أن الذهب يبقى ذهباً ، ووجدت أن رأسه ظلّ شامخاً ، لم ينحرف لحظة عن صراط الوطن المستقيم ، وعرفت منه أنه اعتقل وسجن أربع مرات في العهد الملكي ، ووجدته يدرس الفلسفة بالحماسة التي يدرس فيها الأدب ودواوين الشعراء ، ويقرأ الجبر والمثلثات ، بالحماسة التي يقرأ فيها كتب علم النفس ، ويقرأ تراجم المفكرين والأدباء بالحماسة التي يقرأ فيها علوم الكيمياء.
وأشهد أنني كنت استمتع دائماً بكل لقاء يجمعني بالأستاذ عبد الغني الملاح ، وهو يركب أجنحة النسور بخيال أديب ملهم يحلّق في السماء ويحاول أن يقطف نجومها بكلتا يديه ، وكنّا نتبادل الآراء والأفكار ، أديب وصحفي كلاهما له رأيه ، وبالرغم من أننا اختلفنا في بعض القضايا ، فإنني لم أشعر أننا اختلفنا ، وكان الملاح يفخر في كل مرة ، أنه استطاع أن يستردّ للمتنبي أباه بعد أن ضاع دمه بين القبائل والأفخاذ والأطراف والأجنحة والبطون ، ولقد حظي كتابه ( المتنبي يستردّ أباه ) بشهرة واسعة في المستشرقين والعرب ، وكذلك فجّر كتابه ( رحلة في ألف ليلة وليلة ) جدلاً مثمراً في نقد التراث .. وإذا كان في حلول المصائب يرهف الإحساس ، فمن الحق أن يقال إن الملاح كان مثل الشاعر الفرنسي ( دي موسيه ) ، كلاهما أعطى أمتع إنتاجه وهو مريض .
في الأيام الأخيرة من حياته غامت الدنيا في عينيه وتكاثفت الغيوم واسودّت ، ولم يقدر على بلع ريقه ، وكان صدره يضيق أحيانا ، ولم يكن صبره قادراً على الاحتمال ، فقد طفح الألم ، وشطّ القلم ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، وكنت أزوره بين الحين والآخر في منزله ، فأسمعه يردّد شعراً من المقامة البغدادية للحريري بخاطر منكسر حزين وصوت خجول ، قائلاً: ( أشكو إلى الله اشتكاء المريض... ريب الزمان المتعدّي البغيض ) ، ثم يجيش بالبكاء وهو يكمل البيت الثاني ، بقوله : ( يا قوم إني من أناس غنّوا... دهراً وجفن الدهر عنهم غضيض )، وكنت أسمعه دائم الاستشهاد بثلاث كلمات يحفظها عن فيلسوف إغريقي ، تقول: ( ولدت، فتعذبت، فمت ) ، وكانت في أحاديثنا لمسة من المرارة ، وسواها من الكلمات فإنها لم تلامس شفاهنا غير مرة أو مرتين، وكان ينام نومة المهموم ، وقد أصابه الوهن وفتك به المرض ، وهو يعرف إن هذه المعاناة لا تعالجها الأدعية وكتابة الرقى والتعاويذ ، وكان مجروحاً من قمة رأسه إلى أخمص قدمه بجراحٍ لم يبرأ منها قط حتى وفاته .
كان الملاح يعيش نوعاً من حياة الملل ، ويشعر أن اليوم مثل الغد ، وأن الغد كبعد الغد ، وكان يعتقد أن النوم هو الوسيلة الوحيدة للهروب من هذا الملل ، وقد أدرك جفاف الحياة وعقمها ، ولعلّ الحقيقة النهائية تبقى مع الأسف ، وهي أن أستاذنا عبد الغني الملاح وصل في آخر عمره، إلى أن أصبح هيكلاً عظمياً يُدار بيد إبنته، وهو قابع في فراش المرض وحيداً وتلفّ جسده يقظة الموت ، ويبحث عن العافية والأصدقاء ، ولا يعثر للاثنين على اثر!.
وإذا كان أصعب شيئ في الدنيا هو التفاهم مع الناس أو التفاهم بين الناس ، فلعلّ المريض هو وحده القادر على أن يرى الناس بوضوح لأنه بعيد عنهم... وفي الأيام الأخيرة استطاع الملاح أن يحوّل عزلته إلى فضيلة مبتعداً عن الناس ، خصوصاً وان الرياء كان ولا يزال هو العملة السائدة ، وظل طوال الثمانين سنة من حياته مثل سيزيف يحمل صخرته على رأسه ، ويريد أن يصعد بها إلى رأس الجبل .




#رباح_آل_جعفر (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مدني صالح يدفن زمان الوصل في هيت
- ( صانع ) بلند وحسين مردان .. صفاء الحيدري لا عذاب يشبه عذابه
- أبو جهل يتوحم على دمائنا
- عندما تغضب الكلمات
- علي الوردي وأنا في حوار من الأعظمية إلى الكاظمية
- عبد الوهاب البياتي .. الأول في روما


المزيد.....




- البروفيسور عبد الغفور الهدوي: الاستشراق ينساب في صمت عبر الخ ...
- الموت يغيب الفنان المصري عماد محرم
- -محاذاة الغريم-... كتاب جديد في أدب الرحلات لعبد الرحمن الما ...
- -أصيلة 46- في دورة صيفية مخصصة للجداريات والورشات التكوينية ...
- -نَفَسُ الله-.. هشاشة الذات بين غواية النسيان واحتراق الذاكر ...
- جبل كورك في كردستان العراق.. من خطر الألغام إلى رفاهية المنت ...
- لماذا يفضل صناع السينما بناء مدن بدلا من التصوير في الشارع؟ ...
- الذكاء الاصطناعي يختار أفضل 10 نجوم في تاريخ الفنون القتالية ...
- شباب سوق الشيوخ يناقشون الكتب في حديقة اتحاد الأدباء
- الجزيرة 360 تشارك في مهرجان شفيلد للفيلم الوثائقي بـ-غزة.. ص ...


المزيد.....

- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رباح آل جعفر - عبد الغني الملاح يستردّ للمتنبي أباه !..