أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صبحي حديدي - فلسطين التي تقتل














المزيد.....

فلسطين التي تقتل


صبحي حديدي

الحوار المتمدن-العدد: 838 - 2004 / 5 / 18 - 04:30
المحور: الادب والفن
    


في الشريط الوثائقي الذي أنجزه المخرج السينمائي السوري المتميّز عمر أميرالاي عن الكاتب والمسرحي السوري سعد الله ونوس (1941 ـ 1997)، يطلق الراحل عبارة وجيزة صاعقة تضيف المزيد من الرهبة على ذلك الحوار الثقيل الجارح المثقَل المرير الذي يتسيّد الشريط بأسره: "فلسطين قتلتني"! وكان مدهشاً أن ينتهي صراع ونوس الطويل مع السرطان يوم 15 أيار (مايو)... يوم النكبة، دون كلّ الأيام!
وفي الذكرى السادسة والخمسين للنكبة لم أتذكّر ونوس وحده، بل تلك الثلة اللامعة من الأدباء والمفكرين السوريين الذين فتك بهم السرطان (الياس مرقص، بوعلي ياسين، هاني الراهب...)، وتصحّ فيهم وفي الكثير سواهم عبارة ونوس الصاعقة، عن فلسطين التي تقتل! صحيح أنه قَتْل بالإرادة، بمعنى أنّ انخراط ونوس وأمثاله من آلاف المثقفين والكتّاب العرب في الهمّ الفلسطيني حتى النخاع، كان خياراً طوعياً، بل كان على نحو ما ذاتياً وموضوعياً في آن معاً. إلا أنّ من الصحيح أيضاً، في الماضي كما اليوم وغداً وحتى إشعار آخر طال الزمان به أم قصر، أنّ ذلك الإنخراط اتخذ وجهة قصوى لمعنى الإلتزام والانحياز والوفاء، وكان قاتلاً بالمعنى الذي قصده ونوس: قتلٌ لرفاه الكتابة المتخففة من أعباء التاريخ، وقتلٌ لرفاه الفنّ الذي يترفّع عن الآني واليومي والطارىء، وقتلٌ لرفاه المكوث في أبراج عاجية عالية من أيّ نوع... بعيداً عن ضجيج الأرض وعذابات أهل الأرض.
ذلك لأنّ الراحل أوشك، في بداياته الأولى المبكرة، على حيازة حقّه (الذي لا يُجارى) في ممارسة كلّ أنماط الرفاه السابقة، لولا أنّ فلسطين هبطت به وبسواه إلى حقائقها الكبرى أولاً، ثمّ إلى الحقائق إياها وقد فضّت عنها هزيمةُ 1967 كلّ الأختام. وفي أواسط الستينيات كان وعي ونوس منشطراً بين أقصيَين: العبث الوجودي كما عكسه مسرح ألبير كامو، والموقع الكفاحي للمثقف وللنصّ الأدبي كما عكسه مسرح بيتر فايس أوّلاً وبرتولت بريخت ثانياً. وكانت العواصف التي يطلقها جان جينيه وأنتونين آرتو في فرنسا تبلغ أسماع ونوس وهو بين القاهرة ودمشق وباريس، مثلما تقلقه الأسئلة التي طرحها مسرح العبث عند توفيق الحكيم، ومسرح التغريبة الملحمية عند ألفريد فرج وجلال خوري.
وبهذا كان الموضوع الوجودي والفلسفي أكثر ضغطاً من الموضوع السياسي، الأمر الذي جعل ونوس يكتب النصّ المسرحي لكي يُقرأ أولاً، أو لكي يُقرأ قبل أن يُؤدّى علي الخشبة. هذه هي السمة الأولى التي طبعت أسلوبية ونوس في مسرحياته المبكرة، فكان السرد الروائي يطغى على الحوار، وكانت اللغة تميل إلى الإغراق في وصف الحالات الشعورية الكثيفة التي تذكّر بتقنيات تيار الوعي في روايات مارسل بروست وجيمس جويس أكثر من تذكيرها بأي تصاعد درامي في خطوط الحوار. وكانت اللغة مشحونة بمفردات ومجازات شعرية عالية الإيحاء، حتى في عبارات الإرشاد المسرحي (أي تلك الموجهة إلى مخرج المسرحية بصفة أساسية).
وبعد المسرحية الشهيرة "حفلة سمر من أجل 5 حزيران"، التي كتبها على امتداد سنتَي 1967 ـ 1968 وعُرضت للمرّة الأولى في دمشق سنة 1970، تعاقبت النقلات والانعطافات والتبدّلات الحاسمة التي أنزلت الراحل، مرّة وإلى الأبد، من الأبراج العاجية العالية كافة:
ـ "مغامرة رأس المملوك جابر"، 1971، حين استخدم المادّة التاريخية لصناعة حكاية قادرة على إعادة إنتاج الحاضر في شكل إسقاطات سياسية واجتماعية معاصرة؛
ـ "سهرة مع أبي خليل القباني"، 1973، حين اختار تقنية المسرح داخل المسرح وعالج ألوان الفرجة الشعبية ومسرح خيال الظل بمصطلحات التغريب البريختية لكي يكيل السهام للخطاب الأصولي والمؤسسة الدينية المتحالفة مع السلطة؛
ـ "الإغتصاب"، 1990، حين بلغت شحنة الرسالة السياسية في النصّ المسرحي ذروة دراماتيكية جلبت على ونوس تهمة التبشير بالسلام مع الدولة العبرية؛
ـ "منمنمات تاريخية"، 1993، حين خضعت صورة المثقف العربي ــ ممثّلاً هنا بالمؤرّخ وعالم الاجتماع ابن خلدون ــ لنقد توبيخي بالغ القسوة؛
ـ وأخيراً "الأيام المخمورة"، 1996، حيث أخذت المحنة الذاتية (داء السرطان) شكل يأس داخلي متعاظم يطمس قدرة الوعي على إدراك وتحليل اليأس الخارجي.
ترى ما الذي كان الراحل سيقوله اليوم تحديداً، هو الذي أغمض العينين على مشاهد أقلّ قتامة وقسوة وبشاعة ممّا نشهد اليوم: في فلسطين التي قتلته، أو في العراق حيث كان احتلال بغداد سيتكفّل بقتله مرّة ثانية، أو في موطنه سورية حيث كان على الأرجح سيقسم نفسه في جسوم كثيرة لكي يموت كلّ يوم ميتة مختلفة؟ وإذا كان جسمه ذاك قد تعب في مراد نفسه الكبيرة، فأيّ جسم آخر كان سيحتمل وقوف النفس أمام المزيد من مشاهد انحطاط النظام العربي، وانحدار فرسانه الدجالين إلى درك من النذالة والخسة والضعة ليس بعده حضيض أسفل؟




#صبحي_حديدي (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مصطفى طلاس والتقاعد الخالي من الدلالات
- تكنولوجيا الروح!
- أنساق الإرهاب: -الحملة- في اشتداد والمنظمات في ازدياد!
- برابرة -أبو غريب-
- ما وراء الأكمة مختلف كلّ الاختلاف عن الروايات الرسمية: واقعة ...
- قلعة الرجل الإنكليزي
- الأصولية المسيحية وجذور الموقف الأمريكي من إسرائيل
- شهادة الفلسطيني
- جدول أعمال أمريكا: صناعة المزيد من مسّوغات 11/9!
- احتفال شخصي
- هل آن أوان ارتطام الكوابيس القاتمة بالأحلام الوردية؟ شيعة ال ...
- فـي نقـد النقـد
- الحلف الأطلسي الجديد: هل يشفي غليل الجوارح؟
- الاقتصاد السياسي للأدب: عولمة المخيّلة، أم مخيال العولمة؟ 2ـ ...
- الاقتصاد السياسي للأدب: عولمة المخيّلة، أم مخيال العولمة؟ 1 ...
- الوصايا الكاذبة
- استشهاد الشيخ أحمد ياسين: هل تنقلب النعمة إلى نقمة؟
- صباح الخير يا كاسترو!
- أهي مصادفة أنها اندلعت في المحافظات الشرقية المنبوذة المنسية ...
- العروس ترتدي الحداد


المزيد.....




- قناديل: أرِحْ ركابك من وعثاء الترجمة
- مصر.. إحالة فنانة شهيرة للمحاكمة بسبب طليقها
- محمد الشوبي.. صوت المسرح في الدراما العربية
- إيرادات فيلم سيكو سيكو اليومية تتخطى حاجز 2 مليون جنية مصري! ...
- ملامح من حركة سوق الكتاب في دمشق.. تجمعات أدبية ووفرة في الع ...
- كيف ألهمت ثقافة السكن الفريدة في كوريا الجنوبية معرضًا فنيا ...
- شاهد: نظارة تعرض ترجمة فورية أبهرت ضيوف دوليين في حدث هانغتش ...
- -الملفوظات-.. وثيقة دعوية وتاريخية تستكشف منهجية جماعة التبل ...
- -أقوى من أي هجوم أو كفاح مسلح-.. ساويرس يعلق على فيلم -لا أر ...
- -مندوب الليل-... فيلم سعودي يكشف الوجه الخفي للرياض


المزيد.....

- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري
- عشاء حمص الأخير / د. خالد زغريت
- أحلام تانيا / ترجمة إحسان الملائكة
- تحت الركام / الشهبي أحمد
- رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية ... / أكد الجبوري
- نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر ... / د. سناء الشعلان
- أدركها النسيان / سناء شعلان


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صبحي حديدي - فلسطين التي تقتل