|
الاغتراب وقضايا أخرى في الشعر الحديث
علم الدين بدرية
الحوار المتمدن-العدد: 2631 - 2009 / 4 / 29 - 09:27
المحور:
الادب والفن
من الخطأ والتعميم ، وصف التعبير الشعري بأنه شبه تعبير ، لأن الأجدر به أن يسمى تعبيراً عميقاً ، ينطلق من عبارات عميقة ثرية بالمعاني والدلالات والمفارقات ، تحمل رسالة ، أو قضية ما ، يريد الشاعر أن يوصلها إلى القارئ المجهول .. إلى العالم .. إلى ذاته ووجوده .
وهنالك رأيان متناقضان في الشعر الحديث ، الأول يؤكد انفصال الشعر عن الفلسفة ، وحسب هذا القول ، فالقصيدة لا ينبغي عليها أن تعني شيئاً ، وإنما ينبغي عليها أن تكون . وعلى الشاعر أن يكون صانعاً وليس متنبئاً أو روائياً متبصراً يرسم صوراً للمجهول ، مستمدة من واقع الحياة الراهن والماضي .
والرأي الثاني يقول .. أن الشعراء فلاسفة ، بلغوا أسمى درجة من الخلق والقوة والوعي ، وأن الشعر هو مركز كل معرفة ومحيطها . فالشاعر هو فيلسوف ضمني غير صريح ، وحسب هذا التعبير فأن ملكة التكوين هي الملكة التي يصور بها الشاعر ويبدع ، وتتيح قوة التشكيل أو ملكة التكوين ، أي الخيال الخصب للشاعر أن يوحد بين الشعر والفلسفة ، وينتج أشكالاً مفردة ، تتجسد فيها أفكار كلية أو تجريدية .
أترك هذا الموضوع بين آراء الباحثين والمحللين ، لأنتقل إلى موضوع آخر لا يقل عنه أهمية واستقطاباً ، وهو موضوع الاغتراب في الشعر الحديث . فنحن نلاحظ لدى معظم شعرائنا المحليين نوعاً من الغربة الدفينة أو نوعية ما من الاغتراب في هذا العصر المادي الفظيع ، حيث تضيع فيه الجذور والأصل ، والقيمة الروحية والإنسانية ، وتتبعثر فيه أصالة النفس والروح . ولهذا الاغتراب وجوه عديدة يمكننا تحديدها في ثلاث صور وأشكال متداخلة .
1-اغتراب الإنسان عن العالم والكون ، وهو اغتراب ميتافيزيقي أو اغتراب أساسي ملازم لوعيه بوجوده وتناهيه . 2-الاغتراب عن الجماعة التي ينتمي إليها بما لها من ماض ، وقيم وتقاليد . 3-الاغتراب عن الذات وهو أخطر هذه الأشكال الثلاثة وأهمها !!
قد نرى اغتراب الشاعر عن ذاته ومجتمعه وعصره ، بحيث يتغنى بلوعة واشتياق وحنين إلى الماضي ، فهو ينكر هذه العصرية الإباحية ، ويعود بفكره إلى الجذور ، مهرولاً إلى الصحراء .. إلى .. وعندما يعيش ويحيا الشاعر في الزمن الصعب ، زمن المحنة ، يتساءل ويتمنى أن يزول ويتغير هذا الزمن المأفون في وضعنا الراهن !! فالشقاء والظلام هما حقيقة واقعة على الإنسان والأرض ، واغتراب الأرض والإنسان يقودان الشاعر ليصبح باحثاً منقّباً ومتسائلاً عن هذه المعاناة والمحن !! متى يزول زمن الغبن هذا ؟ وتزول معه الغربة ، ويظهر وجه الحق ، ويسطع نور الحقيقة في الواقع والحلم !!
وقد يذهب شاعرنا المحلي في مواقف الاغتراب مذهباً معقداً ، فغربته مضاعفة ، وهي غربة عن الزمن والتاريخ والمجتمع ، تبلغ حد التمزق والثورة على الواقع ، والرفض المطلق في بعض الأحيان ، فيكون بلا هوية أو تاريخ ، يبحث تائهاً عن سراب الأشياء في اللغة ، فيثور متمرداً على الواقع الحاضر والأليم ، مغترباً ثائراً على حضارة تغرق وتسقط ، يصارع أمواجاً لا تهدأ من الهزائم والإحباطات .
هذا هو شاعرنا الحديث فارساً مهزوماً ، يحمل سيفاً لا يقتل ، وصوفياً محبطاً صلبت كلماته على أعمدة الريح !!
لا بد أن نقول في مقالنا المختصر والمقتضب حول الاغتراب ، أن الشاعر الراهن هو ككل إنسان ، محدد ومؤقت ، ومحاصر بواقع أمته الكبيرة ، التي يحاصرها خطر أكبر ، هو خطر الوجود ، أو الانقراض الحضاري ، على أيدي حضارات وثقافات أخرى ، تغزو واقعنا من الداخل ، فتفتته إلى أجزاء متناثرة ، من الصعب تجميعها من جديد .
فالشاعر وضمن إبداعه ونتاجه يتجه إلى هؤلاء المهددين الذي هو واحد منهم ، في لحظته التاريخية الراهنة ، منبهاً من خطر الانهيار والانقراض ، ومن الانتحار الذاتي !! وتتعدد المواقف وتختلف الآراء بين الشعراء ، فنرى أحدهم يركض لاهثاً وراء جذوره البدوية ورواسبه القبلية والخرافية ، معبّراً عنها بمناجاة وشوق ، ومشاعر صادقة ، وآخر يثور حانقاً على التخلف والقمع وخنق الحريات والحوار الحر والتعصب المقيت ، متمنياً أن يعيش زمناً آخر وواقعاً آخر .
نعم هذا هو الواقع المر الرهيب ، الذي يعيشه الشاعر ، الباحث عن الحرية والكرامة الإنسانية ليصوغها في إبداعه الأدبي . فهو يعاني ثقل الانحطاط الحضاري الذي شوه الإنسان العربي وأفقده إنسانيته طوال ستة قرون خلت ، منذ إحراق مكتبات بغداد ، ووصولاً إلى العثمانيين ، ونير حكمهم الذي أورثنا الجهل والمرض والفقر ، وامتداداً إلى الدول الاستعمارية وأثرها السلبي حتى يومنا هذا ، ضمن الاضمحلال والتقهقر في غياهب العالم الثالث وتآمر الدول العظمى ، والزعامات التقليدية على مصادر الاقتصاد والثروات الوطنية ، والقضايا المصيرية ، فالشاعر يعيش كفاحاً طويلاً ومضنياً لاكتشاف ذاتيته والدفاع عن مبادئه وعقيدته ووطنه وعروبته ، مبعثراً في مستنقعات الفساد والتخاذل والتردد ، بين التوفيق والازدواجية ، يعيش في أحواله المتردية من سيئ إلى أسوأ ، فالأنظمة الفاسدة والقيم المنهارة والمجتمع المتفكك ، تبعث به أن يبحث عن حل .. وأي حل ينقذنا من ظلام النفس وغربة العقل والروح .. وهو يتساءل وينبئ ويعكس نتاجه شعراً ، نقوشاً وجدانية في وعي القارئ المجهول ووجدانه .
إنّها مأساة وقضية ، فالكوارث والمحن تمر بنا في ليل آلامنا الطويل ، ليل التساؤل والغبن عاصفة هائجة ، تثير الشكوك !! نحن نجهل ما سوف يجيء .. وما يخبئ لنا القدر ! ماذا بعد هذا الحمل الطويل ؟! والمخاض العسير ؟! هل يتمخض الحاضر عن مستقبل آخر ، وفجر مغاير ، ورؤية أخرى مشرقة مشرفة !! وهل تتحول الكلمة في رحلة العدمية هذه ، إلى منارة وهدى ، فتكون مسيرتنا الثقافية علامة فارقة وشاهداً علينا وعلى الطريق ، وعلى التغيير نحو الأفضل ؟!
أم أنها تبقى نذير شؤم ، وصدى صور وأحلام ، وأطلال ذكرى وغربان بين ، تنعب على بقايا أمة صنعت التاريخ يوماً .. وتؤلف المعلقات والأهازيج ؟! وتقودنا من اغتراب إلى اغتراب !!
#علم_الدين_بدرية (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رِحْلَةُ يَقِيْن
-
ذِكْرَيَاتٌ وَحَنِيْن
-
نهوض
-
سَامَرَّاءْ
-
انعتاق في البعد الآخر
-
* رُوحٌ لا جَسَدْ *
-
ضَحَالةُ فِكْر
-
خِدَاعُ الْعِشْق
-
سحايا الذاكرة
-
المَلْهَاةُ
-
دَيْمُومَةُ الذَّاتِ
-
مَتاهَةٌ
-
بعضُ رثاءٍ
-
تَمَنِّي
-
حُلُمُ يَقْظَتي
-
حَضَارةٌ آفِلَةٌ
-
معاناة
-
هَوَاجِسُ الْرُّوحِ
-
مَخَاضٌ قَبْلَ الفَجْرِ
-
هروب نحو الجذور
المزيد.....
-
فنانة مصرية شهيرة: سعاد حسني لم تنتحر (فيديو)
-
وفاة المخرج ميشائيل فيرهوفن وساسة ألمانيا يشيدون بأعماله الف
...
-
-الماتريكس 5-.. حكاية المصفوفة التي قلبت موازين سينما الخيال
...
-
-باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
-
فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
-
مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
-
إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر
...
-
مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز
...
-
الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
-
اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
المزيد.....
-
صغار لكن..
/ سليمان جبران
-
لا ميّةُ العراق
/ نزار ماضي
-
تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي
/ لمى محمد
-
علي السوري -الحب بالأزرق-
/ لمى محمد
-
صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ
...
/ عبد الحسين شعبان
-
غابة ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
اسبوع الآلام "عشر روايات قصار
/ محمود شاهين
-
أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي
/ بدري حسون فريد
-
أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية
/ علي ماجد شبو
المزيد.....
|