أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - عبدالخالق حسين - مجموعة مقالات















المزيد.....



مجموعة مقالات


عبدالخالق حسين

الحوار المتمدن-العدد: 780 - 2004 / 3 / 21 - 08:02
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
    


الطائفية خطر كبير وتجاهلها أخطر..!! (1-3)
مقدمة
الطائفية مرض خبيث عانى منه الشعب العراقي كثيراً خلال قرون عديدة. وهي ليست من صنع العراقيين، بل من نتاج القوى الخارجية التي اتخذت من العراق مسرحاً لحروبها وفتوحاتها، منذ الإحتلال العثماني بالتناوب مع الدولة الصفوية.
بينما يعتقد البعض خاطئاً، أنه من الأفضل الابتعاد عن الخوض في المشكلة الطائفية، إذ يرى هؤلاء أن في إثارتها ضرراً على وحدة المعارضة، ويذهب آخرون إلى أبعد من ذلك، فينكرون وجود هذه المشكلة أساساً، ويكتفون بإلقاء اللوم على صدام حسين أنه وحده المسبب للنعرة الطائفية وكل ما حدث في العراق.
إن موقف أولئك وهؤلاء ليس فقط لا يقدم تفسيراً للمعضلة العراقية المزمنة بل ويلقيها في مستنقع من الضبابية ويضفي عليها طابعاً هلامياً لا يفيد إلا المنتفعين بالطائفية ذاتها. أعتقد أنه قد آن الأوان لتجنب سياسة النعامة في طمس الحقيقة في الرمال.
يقول الأستاذ حسن العلوي في كتابه (الشيعة والدولة القومية في العراق): "لم تحظ الظاهرة الطائفية إلا بالقليل من اهتمام الباحثين بسبب الاعتقاد المنتشر في الوسط الثقافي بأن أحداً يتورط في هذه الكتابة لا يستطيع أن يخرج منها دون تهمة. إذ جرى العرف على  إعتبار الإسهام في إدانة التمييز الطائفي إسهاماً في العمل الطائفي."1
أعتقد إن مشاكل اليوم لم تأتي من فراغ، بل هي من نتاج الماضي واستمراره. لذا يجب العودة إلى تاريخنا لنتفهم على ضوئه، الحاضر ومآسيه ونخطط لمستقبل أفضل. كما إن الاكتفاء بإلقاء اللوم على صدام حسين وحده لما حل في العراق، ليس إلا جانباً من هذه المشكلة المعقدة وليس الحقيقة كلها، ومن الصعب الاتفاق مع الرأي القائل بان الوضع المأساوي الذي يعيشه الشعب العراقي الآن هو نتيجة سياسات وممارسات شخص واحد اسمه صدام حسين. فصدام حسين ونظامه خلقا من جراء احتدام عوامل تاريخية وجغرافية، موضوعية وذاتية في تاريخ العراق الحديث. وما النظام الدكتاتوري الحالي إلا نتيجة لانتصار قوى الظلام في نهاية المطاف في الدولة العراقية التي تأسست على مبادئ خاطئة واعتمدت الطائفية فزرعت الألغام في هياكل الدولة وبنيتها الإدارية والسياسية  لتنفجر في الوقت المناسب. وقد حدث ذلك في الماضي ويحدث الآن.
إن فضح الطائفية لا يعنى الدعوة لتأجيجها. والحكام الذين مارسوا الطائفية، فرضوا السكوت عنها لاستمرارهم في مواقع السلطة والامتيازات والنفوذ. أما الضحايا فكانوا يسكتون، خوفاً من الاضطهاد وذعراً من تهمة الطائفية، فتعايشوا معها وسكتوا على مضض كقدر مكتوب!!.
إن الطائفية سياسة خبيثة يمارسها سياسيون علمانيون ويتجنبها المتدينون. لأن فقهاء المذاهب الإسلامية الأجلاء هم أبعد وأسمى من أن يكونوا طائفيين. فالإمام الأعظم أبو حنيفة (رضي الله عنه) كان من أقرب الناس إلى الإمام موسى الكاظم (ع)، فكلاهما عانى السجن والاضطهاد معاً وبواسطة  الحاكم نفسه ومن أجل القضية ذاتها.
فالمذهب بمعناه الكهنوتي شيء والتمذهب (الطائفية) شيء آخر. المذهب مدرسة فكرية وإجتهاد من إمام بلغ درجة عالية من العلم والتفقه في الدين، فيما الطائفي هو سياسي علماني، غالباً غير متدين، وجاهل في أمور الدين، يستثمر المذهب لخدمة أغراضه السياسية الدنيوية ومصالحه الخاصة للاستحواذ على السلطة والنفوذ والامتيازات، مستغلاً أبناء طائفته مثيراً فيهم النعرة الطائفية البغيضة لحمايته، ولإضطهاد وإذلال أبناء الطوائف الأخرى. وبذلك فأبناء طائفة الحاكم هم أيضاً مضطهَدون ومستغَلون لخدمة الحاكم الطائفي.
ومن السذاجة بمكان ترك حل مشكلة الطائفية للسياسيين وحدهم، فهي من واجبات المثقف الذي تقع على عاتقه مسئولية توجيه السياسيين والرأي العام. وهذا يثبت مقولة فولتير: "أينما وجد الظلم فالكتاب هم المسؤولون عنه".

نبذة تاريخية
إن الشعب العراقي، كأي شعب في العالم، يتكون من أعراق وديانات ومذاهب متعددة. وقد تعايشت هذه المكونات البشرية والفكرية في البلاد عبر قرون متآخية ومتحدة حتى جاء الإحتلال العثماني في بداية القرن السادس عشر، ثم الصراع بين الدولة العثمانية السنية والدولة الصفوية الشيعية. فعندما كانت تنتصر الدولة الصفوية، تقوم بارتكاب المذابح ضد السنة ونبش قبور أئمتهم وحرق مكتباتهم. وإذا ما انتصرت الدولة العثمانية، تقوم هذه بإرتكاب المجازر ضد الشيعة بدورها، وحرق مكتباتهم أيضاً ولكن دون نبش القبور!. وفي خضم هذه الحروب كان الخاسر الوحيد هو الشعب العراقي بما فقده من أرواح ومنشئات وكنوز فكرية. 
لقد حكم الأتراك البلاد العربية باسم الإسلام. وأعلن السلطان التركي نفسه خليفة على المسلمين خلافاً للفقه الشيعي الجعفري الذي لا يجيز الخلافة في غير العرب عملاً بحديث نسب إلى النبي محمد (ص) قوله:(الخلافة في قريش). لذلك نكل بهم الأتراك ولم يعترف بمذهبهم وحرموا من الرعاية والثقافة إلى جانب الاضطهادات الأخرى. وإذ ما اجهرت السلطة العثمانية بعدائها للشيعة واعتنقت المذهب الحنفي فإن ذلك لأسباب سياسية بحتة.

الطائفية والإحتلال البريطاني
اتبع الإنكليز في تعاملهم مع الشعوب المستعمرة، سياستهم المشهورة (فرق تسد). وكانواً يعتمدون على الأقلية ويسندون لها السلطة على حساب الأغلبية في أي بلد تحت سيطرتهم، وذلك من أجل خلق فجوة عميقة بين هذه الأقلية وبقية الشعب. فمن جهة، تؤدي هذه السياسة على تفتيت الوحدة الوطنية وتجعل الشعب مفككاً وضعيفاً في نضاله من أجل التحرر. كذلك تجعل هذه الأقلية ضعيفة إزاء الأغلبية، ومن أجل استمرارها في السلطة، تضطر إلى أن تعتمد على الدعم الخارجي (المستعمر) واضطهاد الأغلبية في الداخل. وبذلك تسهل سيطرة المستعمر على ذلك الشعب بربط ديمومة حكم النخبة مع مصالح المستعمرين.
وعملاً بسياستها -دعم الأقلية- كانت الحكومة البريطانية قد انتصرت للشيعة في العراق إبان الحكم العثماني، لأن الطائفة الشيعية كانت تشكل الأقلية في الإمبراطورية العثمانية. فهناك الكثير من المناسبات التي تدخلت القنصلية البريطانية في العراق للدفاع عن الشيعة في أواخر القرن التاسع عشر، عندما كانت تتعرض للاضطهاد من قبل السلطات العثمانية. وكانت تعمل ذلك على أمل زعزعة الحكم التركي بالإعتماد على الأقليات من شعوبها.
ولكن تغيرت هذه السياسة (نصرة الإنكليز للشيعة) بعد الحرب العالمية الأولى وبعد طرد الأتراك من العراق، حيث برز الشيعة العرب كأكثرية في العراق، لذلك قرر المستعمرون الإنكليز، معاملة العرب كسنة وشيعة بشكل مختلف، وحكمهم على أساس التمييز العرقي والطائفي والاعتماد على الأقلية العربية السنية وإثارة النعرة الطائفية.
وهناك عامل آخر دفع الإنكليز إلى إضطهاد العرب الشيعة وحرمانهم من التمتع بالحقوق وتكافؤ الفرص في بلادهم، ألا وهو أن المرجعية الشيعية وعشائر الوسط والجنوب، قد أعلنوا الجهاد ضد الإحتلال البريطاني ووقفوا إلى جانب الأتراك على أساس الدفاع عن الدولة الإسلامية ضد "الكفار". كذلك ثورة العشرين التي كان الهدف منها هو الإستقلال التام للعراق والدفاع عن كيانه وقيام حكم دستوري، ديمقراطي، برلماني مستقل.
إن ثورة العشرين وإن لم تحقق جميع أهدافها، فإنها قد حققت بعضها، وأهمها: إرغام بريطانيا على التخلي عن مشروعها الإستعماري الإستيطاني وتأسيس الدولة العراقية الحديثة. وهذا بحد ذاته يعد مكسباً عظيماً من مكاسب الثورة. وهناك مقولة فرنسية تفيد: (يقوم بالثورة الشجعان ويموت فيها المجانين ويقطف ثمارها الجبناء). وهذا ما حصل لأبطال ثورة العشرين. لقد استلم الحكم الأهلي أولئك الذين وقفوا إلى جانب الإنكليز إثناء الثورة، فيما نفي معظم قادتها إلى الهند ومن ثم تم تهميشهم في حكم بلادهم.
وهناك إعترافات من قبل الحكام الإنكليز في العراق على أهمية ثورة العشرين. فتقول المس بيل في أوراقها بهذا الخصوص: ((لم يكن يدور بخلد أحد ولا حكومة صاحبة الجلالة، ان يمنح العرب مثل الحرية التي سنمنحهم إياها الآن كنتيجة للثورة -ثورة 1920-))2 . كذلك يعترف ناجي شوكت في مذكراته أنه لولا ثورة العشرين لما تأسست الدولة العراقية.
لقد أثارت الثورة ضغينة الإنكليز ضد الشيعة. فقد أوضحت المس بيل وبانفعال شديد موقفها من الشيعة قائلة: "أما أنا شخصياً فأبتهج وأفرح أن أرى الشيعة الأغراب {الأوباش} يقعون في مأزق حرج. فإنهم من اصعب الناس مراساً وعناداً في البلاد"3.
لذلك قرر الإنكليز تشكيل حكم أهلي في العراق وإعطاء المناصب لأولئك الذين ناصبوا الثورة العداء، وعزل الشيعة. لقد اختير عبد الرحمن النقيب رئيساً للحكومة الأهلية، مكافئة لإخلاصه للمحتلين. وينقل المؤرخ مير بصري في كتابه (أعلام السياسة في العراق)، عن النقيب قوله: "إن الإنكليز فتحوا هذه البلاد وأراقوا دماءهم في تربتها، وبذلوا أموالهم من أجلها، فلا بد لهم من التمتع بما فازوا به".
قرر الإنكليز تنصيب الأمير فيصل ملكاً على العراق بعد استفتاء صوري. وقد بايعه قادة ثورة العشرين على شروط وهي: تحقيق الاستقلال الناجز، والديمقراطية والدستور وبرلمان منتخب. لكن الإنكليز أرادوا أن يحكموا البلاد من وراء الكواليس وربطها بالمعاهدات الجائرة. الأمر الذي لم يرض عنه قادة ثورة العشرين، فتم نفيهم، لأنهم أرادوا تحقيق كل شيء بدفعة واحدة.
وهكذا تأسست الدولة العراقية الحديثة على أساس الطائفية ومارستها ببشاعة ضد أغلبية الشعب العراقي، جميع الحكومات العراقية المتعاقبة، باستثناء حكومة ثورة 14 تموز المجيدة، لأن قائدها الشهيد الزعيم الوطني الخالد عبد الكريم قاسم أصر على معاملة العراقيين بالتساوي وبدون أي تمييز عنصري أو طائفي، لذلك انتقموا منه شر انتقام.

الطائفية خطر كبير
وتجاهلها أخطر..!! (2-3)

د.عبدالخالق حسين

"الشيعة عجم"
"الشيعة عجم"، هذه مقولة ولدت مع ولادة الدولة العراقية. وكما ينقل الأستاذ حسن العلوي مقولة: " كل شيعي هو إيراني" هذا القانون العام الذي استحدث لأول مرة على لسان السيد مزاحم الباججي، في خطابه الذي ودع فيه الكولونيل ولسن -وكيل المندوب السامي البريطاني- بعد أن أجهز عسكرياً على ثورة العشرين. (راجع الخطاب في {الثورة العراقية} للكولونيل ويلسون ترجمة جعفر الخياط)4 .
وقد بقيت تهمة التبعية الإيرانية سيفاً مسلطاً على رقاب الأغلبية العربية في نزع العروبة والمواطنة العراقية عنهم وتهجيرهم إلى إيران في أية لحظة ومتى ما شاءت السلطة، ابتداءً من حكومة عبد المحسن السعدون التي نفت المجاهد الكبير الشيخ مهدي الخالصي أحد قادة الجهاد ضد الإحتلال الإنكليزي وثورة العشرين إلى إيران بتهمة التبعية الإيرانية بالرغم من كونه من عشيرة بني أسد العربية، وانتهاءً بحكومة البعث التي نفت مئات الألوف من العراقيين الشيعة العرب والكرد الفيليين إلى إيران في السبعينات والثمانينات تكملة لذلك النهج الطائفي المتعسف.
وكما اتهم مزاحم الباججي وعبد المحسن السعدون وغيرهما الشيعة بالعجمة وأن ثورتهم كانت بتدبير وتدخل الإيرانيين، كذلك وصف صدام حسين عرب الجنوب بأنهم مستوردون من قبل محمد القاسم مع الجواميس من الهند، ورفع شعار لا شيعة بعد اليوم، كما اتهم انتفاضة آذار 1991 بكونها من صنع الإيرانيين. إن منطق السلطة المتمذهبة واحد في كل زمان ومكان.

دور ساطع الحصري في الطائفية
أستورد الإنكليز ساطع الحصري -التركي الأصل- وادعموه بالنفوذ لتحقيق مخططهم الخطير. هناك ملاحظة يجب الإنتباه إليها وهي أن أشد غلاة القومية العربية هم ليسوا من أصول عربية وحتى منظروها من أمثال ساطع الحصري ومشيل عفلق وغيرهما. عمل ساطع الحصري كمنظر للقومية العربية في العراق وبناء الدولة العراقية الحديثة على الطائفية وإضطهاد ثلاثة أرباع عرب العراق وزرع الشكوك حول عروبتهم وإتهامهم بالشعوبية وحرمانهم من حقوق المواطنة في بلدهم. وبذلك فقد ألحق الحصري والنخبة الحاكمة عن سوء قصد، أشد الأضرار بالقومية العربية والدولة العراقية.
 كان الحصري يجهل اللغة العربية وكان يحتاج إلى مترجم في السنوات الأولى من تعيينه مديراً عاماً للمعارف. (راجع كتاب ذكرياتي للجواهري ج1) كذلك كتاب الكاتب الإمريكي ويليام كليفلاند: (الحصري من المفكرة العثمانية إلى العروبة).
اضطهد الحصري الشاعر محمد مهدي الجواهري حيث فصله من التعليم لأنه وصف في قصيدة له أحد مصايف إيران عام 1927، متهما إياه بالشعوبية والتبعية الإيرانية، وأصر على فصله من التدريس رغم تدخل المرحوم الملك فيصل الأول. تصور نفوذ الحصري أقوى من نفوذ الملك، مما أضطر الملك تعويض الجواهري بتعيينه موظفاً في البلاط.. ومحاولة أنيس النصولي باتت معروفة في إثارة الفتن الطائفية وبتدبير من الحصري نفسه.
لم يقتصر حقد الحصري على الشيعة فحسب، بل كان ضد الشعب العراقي ككل. وكان يصر على عدم تعيين العراقيين المقتدرين في سلك التدريس. ويفضل عليهم المعلمين من سوريا ولبنان ومصر، علماً بان كان هناك الآلاف من خريجي المدارس الدينية في النجف وكربلاء والكاظمية  وبغداد وسامراء، يصلحون للتدريس في اللغة العربية وآدابها ومادة التاريخ.. وغيرها.
ولما طالب الملك فيصل الأول فتح دار للمعلمين في الحلة وأخرى في الموصل، رفض الحصري المشروع بشدة. وذكر في مذكراته فيما بعد، أنه رفض المشروع لأنه يفيد في الحلة الشيعة وفي الموصل المسيحيين.
وكان يرفض الإعتراف بخريجي المدارس الجعفرية وأصر على عدم تعادل شهادتها بالشهادة الثانوية الحكومية. وكانت تُرفض طلبات الطلبة الشيعة في القبول في كلية الحقوق. ولما كثرت الإحتجاجات على هذا السلوك، أوعز الملك بفتح صف إضافي لقبول الطلبة الشيعة من خريجي المدارس الجعفرية. ولقيت محاولة الملك هذه مقاومة عنيفة من النخبة المتمذهبة.

محاولة الملك لحل مشكلة الطائفية
نصت المادة السادسة من الدستور الصادر عام 1925 على (أن لا فرق بين العراقيين في الحقوق أمام القانون، وأن اختلفوا في القومية والدين واللغة). لكن الدستور كأي شيء في العهد الملكي، كان حبراً على ورق موضوعاً على الرفوف العالية.
بعد اثنى عشر عاماً من حكمه، وجهاد مرير من قبل الزعماء الشيعة والأكراد في المطالبة بالتخلي عن السياسة الطائفية والعنصرية، ومنها مذكرة المرحوم الإمام كاشف الغطاء وبسبب التذمر الذي طفح على الصحف في تلك الفترة، شعر الملك فيصل الأول ان هناك عزلاً مذهبياً في الوسط والجنوب وعزلاً عنصرياً في الشمال يشمل الأكراد، وقد أحس الملك ان إنفجاراً سيحصل إن عاجلاً أم آجلاً. ولتلافي الموقف، بادر إلى كتابة مذكرة يطالب فيها حل الأزمة ويعترف بوجود هذا التمييز العنصري والطائفي من قبل حكومته. وكان الملك خائفاً على سلطته، وذلك لعلمه ان عدد قطع السلاح عند الحكومة لا يزيد عن 15 ألف، مقابل مائة ألف قطعة عند الشعب.
يعترف الملك فيصل في الفقرة الثالثة من المذكرة ((بأن العراق مملكة تحكمها حكومة عربية سنية مؤسسة على أنقاض الحكم العثماني وهذه الحكومة تحكم قسماً كردياً وأكثرية شيعية منتسبة عنصرياً إلى نفس الحكومة. إلا إن الإضطهادات كانت تلحقهم من جراء الحكم التركي الذي لم يمكنهم من الإشتراك في الحكم وعدم التمرن عليه والذي فتح خندقاً عميقاً بين الشعب العربي المنقسم إلى هذين المذهبين))5 .
ومما جاء في مذكرة الملك قول زعماء الشيعة: ((.. إن الضرائب على الشيعي والموت على الشيعي، والمناصب للسني، ما الذي هو للشيعي؟ حتى أيامه الدينية لا إعتبار لها، ويضربون الأمثلة على ذلك، مما لا لزوم لذكرها)).
أما المعالجة التي اقترحها الملك فكانت هامشية للغاية. فإنه يقترح: ((لطمأنة معنويات إخواننا الشيعة أن تعطى تعليمات إلى قاضي بغداد لتوحيد أيام الصيام والإفطار وعلينا أن نعمّر العتبات المقدسة وان نفكر بشمول رجال الدين الشيعة بالأوقاف الإسلامية))6 .
وكان رد فعل جعفر أبو التمن الذي كان من القلة الذين اطلعوا على المذكرة آنذاك، هو اليأس من جدية الملك فأكتفى بالرد عليه بسطرين فقط. أما السياسيون الآخرون فاستكثروا مقترحات الملك، وانكروا ان يكون الأكراد والشيعة مضطهدين وان ما أعطوا كان كافياً.
ومن المؤسف ان الملك فيصل قد توفى بعد أشهر من هذه المذكرة. وتحولت مقترحاته إلى مجازر دموية شملت مناطق بارزان وسنجار والدغارة وعفك وسوق الشيوخ والرميثة والمشخاب، وكان المشرفون عليها هم الساسة الذين خصهم الملك بمذكرته، كياسين الهاشمي، ورشيد عالي الكيلاني وجعفر العسكري وجميل المدفعي وحكمت سليمان.
 
خرافة الأغلبية الشيعية الجاهلة
لتبرير حرمان الشيعة من حقوق المواطنة، بذلت النخبة الطائفية الكثير من الجهد لإقناع الناس أن سبب عدم مشاركة الشيعة في السلطة والإدارة هو عدم وجود مثقفين شيعة. ونشرت مصطلح (الأغلبية الشيعية الجاهلة)، التهمة التي لم تصمد أمام الواقع.
ففي الوقت الذي كان مجموع طلبة المدارس المتوسطة في العراق لا يتجاوز 360 طالباً عام 1932، كان في المدارس الدينية في النجف الأشرف وحدها أكثر من عشرة آلاف طالب، يدرسون اللغة العربية وآدابها والفقه الإسلامي والتفسير والتاريخ والاقتصاد والفلسفة وغيرها. بالإضافة إلى المدارس الدينية في كربلاء والكاظمية وسامراء. وهذا عدد كاف لتفنيد بدعة "الأغلبية الشيعية الجاهلة"!.

كذلك لم يكن الذين احتلوا المقاعد الوزارية من السنّة جميعاً يعرفون القراءة والكتابة. وحتى أولئك الذين يعرفون القراءة والكتابة، فكانت ثقافتهم باللغة التركية وكانوا عاجزين عن كتابة التقارير الحكومية باللغة العربية، وفي هذه الحالات، كان الوزراء يلجأون إلى الوزير الشيعي الوحيد من بينهم، أو موظف خريج إحدى مدارس النجف لكتابة تلك التقارير والبيانات7 .
ومن المفيد ان نذكر جدولاً نشره ناجي شوكت، رئيس وزراء سابق، في مذكراته، يبين نسبة الوزراء الأميين وأشباههم حتى نهاية عهد فيصل  :   
المجلس الذي تم إنتخابه أيام الوزارة الوزراء الأميون وأشباههم %
وزارة نوري السعيد عام 1930 73%
وزارة يسين الهاشمي عما 1935 60%
وزارة ناجي شوكت عام 1932 50%
وإذا كانت حجة عدم وجود مثقفين شيعة لإشغال مناصب في الدولة في العشرينات والثلاثينات، فما هي الحجة في عهد الحكومات القومية التي حكمت العراق منذ شباط 1963 ولحد سقوط النظام البعثي يوم 9 نيسان/أبريل 2003 ؟ كم شيعي احتل منصب رئيس أركان الجيش، أو وزير داخلية، أو قادة فرق، أو عمداء كليات ورؤساء جامعات، ومحافظين وغيرها من المناصب؟

الطائفية في عهد قاسم
لقد تربى قائد ثورة 14 تموز 1958، الزعيم عبد الكريم قاسم في بيئة غير طائفية. فوالده كان سنياً ووالدته شيعية، لذا كان محايداً ويمقت التمييز بين العراقيين على أساس عرق أو دين أو مذهب. وفي عهده كادت الطائفية أن تختفي تدريجياً، حيث أكد على عدم رفض الطلبة الشيعة في الكلية العسكرية والضباط الشيعة في كلية الأركان لأول مرة وكذلك في مناصب الدولة الأخرى. كان سلوك قاسم في عدم التمييز بين أبناء العراق على أساس مذهبي يعتبر خروجاً على أحد أهم أركان السياسة العراقية التي أسسها الإنكليز والموروث التركي.
"لقد أوعز سياسي كبير وهو السيد عبد العزيز القصاب رئيس مجلس النواب في العهد الملكي، قيام ثورة 14 تموز 1958 إلى خطأ أرتكبته لجنة قبول طلبة الكلية العسكرية لأنه اعتقد أن عبد الكريم قاسم كان شيعياً. فقد وجه وبإنفعال شديد سؤالاً إلى زميله السياسي العراقي السيد عبد الهادي الجلبي وكان كل منهما قد خرج من العراق إلى بيروت بعد الثورة قائلاً: من أين أتيتم أيها الشيعة بهذا الرجل البغيض؟. وكيف عبر على هؤلاء المغفلين في الكلية العسكرية إسم عبد الكريم قاسم؟
"فاستغرب الجلبي من سؤال زميله، وكلاهما متضرر بالثورة، وكأن الجلبي هو الذي أتى بعبد الكريم قاسم. فأجابه قائلاً: أنت تعلم إن عبد الكريم قاسم ليس شيعياً. ولكنه (ترباة شيعة) مشيراً إلى والدة عبد الكريم قاسم." . (راجع حسن العلوي، المصدر السابق، في حديث مع السيد عبد الهادي الجلبي يوم 1/1/1988 في منزله في لندن وقد توفى إلى رحمة الله بعد هذا اللقاء بشهرين.)8
لقد أنصف الزعيم الشيعة والطوائف الأخرى وأراد التخلص من الطائفية تدريجياً ولم يلتزم بالعزل المذهبي، أو الفحص الطائفي للمتقدمين لإشغال المناصب الكبيرة في الدولة، بل كان يعتمد على كفاءة المتقدم وسمعته الوطنية وتاريخه النزيه. لقد أصر قاسم على تعيين الدكتور عبد الجبار عبد الله رئيساً لجامعة بغداد وهو من أبناء الصابئة الأقلية لمكانته العلمية، والعلامة الدكتور مهدي المخزومي (شيعي) عميداً لكلية الآداب. وشدد على تجاوز الأعراف الطائفية في القبول في الكلية العسكرية وكلية الأركان.
لذلك أعتبرت هذه السياسة خروجاً على المألوف من قبل غلاة الطائفية الأمر الذي أدى إلى التحالف بين ممثلي المدرسة التركية والقوميين الجمهوريين والملكيين وممثلي المصالح الغربية وغيرهم من المتضررين من الثورة. لذلك أتهم عبد الكريم قاسم بالإنحراف عن مبادئ الثورة كما واتهم بالشعوبية ومخالفة الإسلام. إن الكراهية لعبد الكريم قاسم قد حققت وحدة بين خصومه قلما يحصل في التاريخ. وحدة جمعت بين شخصيات وأحزاب ودولٍ مختلفة (-فزعة عربية!- على حد تعبير العلوي).
وكما يقول العلوي بحق: إن عملية إغتيال حكومة عبد الكريم قاسم أدت إلى حرمان العراقيين من نظام سياسي غير متعصب، لم يلتزم بتعميم تمذهب الدولة. وما أن تم القضاء على ثورة تموز وقائدها، حتى انفرطت تلك الوحدة التي ضمت القوى والشخصيات المتناقضة وعادت إلى صراعاتها الدموية فيما بينها. وكان بعض علماء الإسلام، والبعثيون، والضباط، والوزراء الشيعة الذين شاركوا في إسقاط عبد الكريم قاسم من ضحايا هذه السياسة.
"وفي أيامنا هذه، وحيث يحتدم الصراع الدموي بين البعثيين والحركة الإسلامية الشيعية، يلتقي الفريقان مرة في السنة على موقف واحد، في قضية واحدة، عند الذكرى السنوية لمقتل عبد الكريم قاسم، فيركزان وبمصطلحات واحدة على جهود كل منهما في إسقاط "الدكتاتور قاسم"، و"سيطرة الشيوعيين العملاء" ويهاجمان عبد الكريم قاسم وحكومته بمفردات واحدة"9 .
 
الطائفية في عهد عارف
ان عبد السلام عارف هو الآخر كان يسمي الشيعة عجماً. وجعل مبدأ النقاء العرقي والطائفي أساساً للتقرب إلى السلطة والمناصب الحكومية. كان عارف رائد الحق العرقي والعزل المذهبي في العمل السياسي.. ولأول مرة يجري العمل بالهوية العرقية والطائفية علناً.
وهناك الكثير من الشواهد تؤكد على طائفية عبد السلام عارف وعلى سبيل المثال لا الحصر، يذكر السيد هديب الحاج حمود وزير الزراعة في عهد قاسم: " إن عبد السلام عارف ذكر لأحد الضباط الأحرار الموجودين معه في الفوج ليلة 14 تموز 1958، بأنهم سينفذون الثورة وهناك ثلاث جماعات يجب إستئصالها وهم: الأكراد، والمسيحيون والشيعة ".*
ويقول المرحوم هاني الفكيكي عضو مجلس قيادة الثورة بعد إنقلاب 8 شباط 1963 عن عبد السلام عارف في كتابه أوكار الهزيمة: ((ونظرة عبد السلام إلى الأكراد لم تكن أفضل حالاً من نظرته إلى المسلمين الشيعة، إذ كان يردد بإستمرار كلمة "الشعوبية"، بالمعنى والقصد اللذين كان يستعملهما بعض الطائفيين في محاربتهم لعرب العراق الشيعة. وأذكر إننا، محسن الشيخ راضي وأنا، وصلنا مرة متأخرين إلى إحدى جلسات مجلس قيادة الثورة فقال عبد السلام: جاء الروافض..)).

الطائفية في عهد البكر-صدام
لقد بلغت الطائفية ذروتها في عهد النظام الفاشي الحالي، حيث تم تهجير أكثر من نصف مليون عربي شيعي وكرد فيليين إلى إيران بتهمة التبعية بعد تجريدهم من جميع ممتلكاتهم وشهاداتهم الدراسية وثائقهم الرسمية وحتى إجازة السياقة. وقصفت مراقد أئمة الشيعة ورفعت لافتات كتب عليها (لا شيعة بعد اليوم) إبان انتفاضة آذار 1991. والمناطق الشيعية عانت من الإهمال أكثر من غيرها. وقد تم إغتيال العشرات من رجال الدين الشيعة، وإعدام العديد من قادتهم.
وكان النظام البعثي الصدامي يتعامل مع الشيعة بمنتهى الخبث "ففي الصين الشعبية تحدث مندوب منظمة التحرير الفلسطينية الطيب عبد الرحيم أحمد إلى الراحل هادي العلوي قائلاً: (انه سأل السفير العراقي في بكين الدكتور عيسى سلمان التكريتي من هم الأكثر في العراق.. السنة أم الشيعة؟ فأجاب الدكتور عيسى.. ان العجم أكثر من العرب في العراق. لكن إذا اجتمع الأكراد والعرب، فسيكونون أكثر من العجم. فسأله هل يعني ان الشيعة في العراق عجم؟ قال السفير نعم. فسأله الطيب عبد الرحيم، لكنهم موجودون في الحزب بكثرة على ما أعلم.. وانتم في حرب مع الإيرانيين، فكيف ينسجم هذا مع ذاك؟ قال الدكتور عيسى سلمان: إن القيادة تأخذ الاحتياطات اللازمة وتعرف كيف تتصرف مع الشيعة في الحزب والدولة فلا تقلق". (نقل السفير الفلسطيني هذه المحادثة إلى هادي العلوي الذي كان في الصين آنذاك وبدوره نقلها إلى أخيه حسن)10 .

الطائفية خطر كبير
وتجاهلها أخطر..!! (3-3)
د. عبدالخالق حسين

الحلول المقترحة للمشكلة الطائفية (ما العمل؟)
بعد خلاص العراق من أبشع نظام عرفه التاريخ، انفجرت التناقضات والصراعات الأثنية والدينية والطائفية وكلها نتيجة للقمع عبر قرون. الحالة التي نشاهدها اليوم تشبه ما حصل بعد ثورة 14 تموز وبشكل أشد وذلك بسبب تعقيدات الحالة الراهنة، وجود قوات التحالف وغياب السيادة الوطنية وتدفق الإرهاب الخارجي. لحسن حظ الشعب العراقي أن النظام سقط عن طريق غزو خارجي فرض سيطرته على البلاد. ولو سقط النظام الفاشي عن طريق انتفاضة مسلحة أو انقلاب عسكري لانفجرت النزعات الانتقامية وسالت الدماء انهاراً واحترق الأخضر بسعر اليابس كما بقول المثل. لذلك فما حصل من أعمال النهب وزعزعة الأمن يعتبر شيئاً مخففاً بالقياس إلى ما كان يمكن حصوله لو سقط النظام عن طريق الانتفاضة. وحتى هذه الصراعات الأثنية والطائفية حول ضمان الحقوق مسألة متوقعة بعد قرون من الإضطهاد.
الطائفية لا تعالج بطائفية مضادة كما العنصرية لا تعالج بعنصرية مضادة. إن الحل يكمن في النظام العلماني الديمقراطي الذي يعامل جميع أبناء الوطن الواحد على أساس الانتماء للوطن الواحد وليس العرق والدين والطائفة. نظام يؤمن بالتعددية السياسية والعرقية والدينية والمذهبية والفكرية وقيام ودعم المؤسسات المدنية وتنشيط دورها في مواجهة السلطة. كذلك احترام حرية الصحافة ومنظمات الضغط لتشديد المراقبة على سلوك السلطة ومحاسبتها وفضح المحسوبين والانتهازيين والمفسدين في السلطة تماماً كما هي الحال في الدول الديمقراطية الغربية.
نعم هناك بعض المخاطر من الديمقراطية نفسها خاصة في شعب لم يمارسها في التاريخ. إذ توجد تصورات مختلفة عن الديمقراطية لدى الناس وخاصة المرشحين لاستلام السلطة في العراق الجديد. فهناك مخاطر تطبيق النموذج اللبناني أي الديمقراطية الطائفية. إن تجربة الحرب الأهلية اللبنانية تعطينا الحق برفض هذا النموذج.
وكما يعترض البعض على الديمقراطية الغربية بسب وجود بعض الشرور في هذه المجتمعات، يجب أن لا ننسى، انه لا يمكن أن يخلو أي مجتمع من سلبيات ومشاكل التي سوف تستمر ما استمرت الحياة البشرية ولو بنوعية ودرجات مختلفة. فالديمقراطية ليست دواء لكل علة (Panacea ). ولكن سلبيات الأنظمة الديمقراطية أقل بكثير من سلبيات وخطايا الأنظمة الديكتاتورية، وإيجابياتها كثيرة بدون أن تكون للديكتاتورية أية إيجابية. ومن المفيد أن نعيد قول تشرتشل إن "الحكومة الديمقراطية ليست حكومة مثالية، ولكن المشكلة أنه لحد الآن لا توجد حكومة أفضل من الحكومة الديمقراطية".
ومن الجدير بالذكر إن الانتماء إلى طائفة لا يعني طائفية، والالتزام بشريعة مذهب لا يعني الطائفية، ولكن معاداة الآخرين وحرمانهم من حقوق المواطنة ممارسة طائفية بغيضة.
إن محاربة الطائفية وتبني النظام العلماني الديمقراطي مسؤولية تقع على عاتق المثقفين العراقيين للعمل الجاد وبنشاط للترويج للديمقراطية ومحاربة الطائفية وإقناع أبناء شعبنا بأن الكوارث التي حلت بالعراق خلال ما يقارب الثمانين عاماً كانت نتيجة تبني الحكومات العراقية المتعاقبة سياسة تمذهب السلطة أساساً، وأنه لا يمكن حرمان أية فئة من فئات الشعب بحقوق المواطنة الصحيحة لأسباب اختلاف مذهبي أو عنصري. ويجب نبذ سياسة التشكيك بعروبة الشيعة والإنتماء الوطني للكرد الفيلية. كما ويلزم بنا إدانة سياسة العزل المذهبي والعرقي وجميع أشكال التمييز بين المواطنين. ويجب ان تؤخذ الكفاءة والولاء للوطن مقياساً لإحلال المناصب والوظائف في الدولة. واعتبار الناس متساوين في الحقوق والواجبات وتكافؤ الفرص.
كذلك العمل الجاد على تثقيف أبناء شعبنا على روح التسامح ونبذ العنف والتعود على قبول واحترام الرأي الآخر واحترام معتقدات الآخرين الدينية والمذهبية والفكرية والسياسية والإجتماعية وغيرها والتعايش معها بسلام. لا ديمقراطية بدون روح التسامح والتعايش مع المختلف، سواء في القومية أو الدين أو المذهب أو الرأي السياسي والفكري.
نعم هذه المقترحات سهلة على الورق وصعبة التطبيق في البداية، لأن كل بداية صعبة، ولكنها ليست مستحيلة وليس هناك حل آخر أفضل، وبدونها سيكون هناك المزيد من الدماء والكوارث. وعلى المثقفين والسياسيين أن يكونوا قدوة لغيرهم في هذا المضمار، ليتبعهم الآخرون. لذلك فالمطلوب من المثقفين والسياسيين المخلصين النضال والعمل الجاد لتحقيق هذه الأهداف النبيلة.
"لقد ارتبط تمذهب الدولة القومية في العراق بقانونين لا يمكن أن تعيش بدونهما.. الاستبداد والتهمة الشعوبية. وسيظل كل منهما قائماً في الحياة السياسية والثقافية والإجتماعية للدولة ومؤسساتها وأتباعها حتى ينتبه العراقيون إلى هذه الحقيقة، ويتم التخلي عن تمذهب الدولة وهذه رغبة تنسجم مع منطق العصر وشروط التكوين القومي.)11

يقول العلامة علي الوردي بهذا الخصوص:" قد يستغرب القارئ إذا علم بأن كلتا الطائفتين -السنة والشيعة- كانتا في أول الأمر من حزب واحد، وإن الذين فرقوا بينهما هم السلاطين ووعاظ السلاطين.. ففي عهد الدولة الأموية كان الشيعة وأهل السنة يؤلفون حزب الثورة. إذ كان الشيعة يثورون على الدولة بسيوفهم، بينما كان أهل السنة يثورون عليهم بأحاديثهم النبوية- هؤلاء كانوا ينهون عن المنكر بألسنتهم، وأولئك ينهون عنه بأيديهم."
"وإذا أراد الشيعة وأهل السنة في هذا العصر أن يتحدوا فليرجعوا إلى شعارهم القديم الذي اتخذه زيد بن علي وأبو حنيفة، أي شعار الثورة على الظلم في شتى صوره… لا فرق في ذلك بين الظالم الشيعي أو الظالم السني. إن هدف الدين هو العدل الإجتماعي. وما الرجال فيه إلا وسائل لذلك الهدف العظيم."12.


المصادر:
1،4،7،8،9،10،11، حسن العلوي: الشيعة والدولة القومية في العراق.
2،3،  من أوراق المس بيل .
5، 6، عبد الرزاق الحسني: تاريخ الوزارات/ج3.
*- الدكتور ليث الزبيدي، ثورة 14 تموز 1958، ص404-405 (مقابلة شخصية بين المؤلف مع  السيد هديب الحاج حمود، بتاريخ 21-6-1977).
12-الدكتور علي الوردي، وعاض السلاطين، ص247.


الطائفية خطر كبير
وتجاهلها أخطر..!! (3-3)

الحلقة الأولى
الحلقة الثانية

 

 

هل يستفيد العراقيون من التجربة الإيرانية؟

د.عبدالخالق حسين

شاءت الأقدار أن تمر الشعوب في تطورها الحضاري عبر طريق شائك ومتعرج، محفوف بالآلام والكوارث والحروب والثورات والانتفاضات والدماء والدموع. فكل مرحلة جديدة تلد من مرحلة سابقة بعد إجراء عملية قيصرية. فلو درسنا التاريخ السياسي للأمم لتوصلنا إلى نتيجة مفادها أن التاريخ يسير بصورة عشوائية وليس كما يخطط له صناع التاريخ من قادة الحكومات والإمبراطوريات. فحركة التاريخ تسير وفق فرضية تفيد أن "الناس يصنعون التاريخ عادة دون علمهم. وحتى حينما يعتقدون أنهم يصنعون التاريخ بشكل واع ومقصود، فإن النتائج غالباً ما تكون في إتجاه آخر لم يخططوا له أو يحلموا به". ورغم النتائج الكارثية لبعض المنعطفات التاريخية، إلا إنه على المدى البعيد ومن خلال هذه المسيرة الصعبة يتحقق التقدم نحو الأفضل. وكما يرى الفيلسوف الألماني هيغل أن الخير والشر ضروريان لتحقيق التطور الحضاري، أو كما يصفهما علي الوردي هما الساقان اللتان تسير عليهما البشرية نحو التقدم.

وربما ستستمر هذه العشوائية والنتائج غير المتوقعة في حركة التاريخ إلى أن تتخطى الشعوب مرحلة المراهقة في تطورها الحضاري، الثقافي والسياسي، وتبلغ سن الرشد كما الحال في الشعوب الغربية الديمقراطية حيث بلغت مرحلة متقدمة في تطورها الحضاري وصار تاريخها الحديث، ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، يسير سيراً حثيثاً هادئاً نحو التقدم بصورة ووفق مخطط مسبق. فخلال الخمسين عاماً الماضية خضعت حركة التاريخ الأوربي تحت سيطرة قادة الفكر والسياسة لهذه الشعوب وليس عشوائياً كما هي الحال في الدول النامية، إذ تحث دول أوربا الغربية المتقدمة الخطى بثبات لإستكمال وحدتها الإقتصادية والسياسية منذ إتفاقية روما في أوائل الخمسينات من القرن الماضي ولحد الآن دون هزات عنيفة. ونتيجة لهذا الإستقرار وسيطرة العقل على العواطف والقلم على البندقية، حقق الغرب قفزات واسعة في العلوم والتكنولوجية والإقتصاد والفنون وجميع المجالات الأخرى.
كذلك يمكن القول إن أكثر الكوارث السياسية التي حلت بالشعوب وأدت إلى النكبات وتعطيل التنمية الإقتصادية والبشرية، كانت نتيجة أخطاء أرتكبها الحكام وكان بالإمكان تفاديها لو توفرت لديهم الحكمة والعقلانية.
والسؤال الذي نود طرحه هو: هل بلغت قيادات المعارضة العراقية سن النضج بحيث يمكن أن تستخلص الدروس والعبر من تاريخ العراق الحديث ومن تجارب الآخرين وتجنيب شعبنا العراقي المزيد من الكوارث والضياع بعد التغيير المرتقب؟ وتحديداً، هل ممكن الإستفادة من التجربة الإيرانية؟ ونحن إذ نؤكد على التجربة الإيرانية بالذات لأن يوجد، تيار إسلامي عريق له ثقله في المعارضة العراقية وتاريخه النضالي الدامي ضد النظام الفاشي، يسعى إلى قيام نظام إسلامي يشبه النظام الإسلامي في إيران.
فالمعارضة العراقية تتكون من طيف واسع من مكونات شعبنا العراقي، الأثنية والدينية والسياسية، تضم تيارات متعددة، إسلامي وماركسي وقومي وليبرالي. ويمكن إختصارها إلى تيارين كبيرين: علماني وإسلامي. ولحسن الحظ، فإن أغلبية المعارضة، بما فيها فصائل التيار الإسلامي، يقرون الديمقراطية كأفضل نظام سياسي لحكم عراق المستقبل. ولكن هناك مشكلة عدم الثقة ومخاوف العلمانيين من الإسلاميين. والخوف هنا ناتج من إحتمال هيمنة الإسلاميين على مقاليد الحكم وفرض نظام مثيل للنظام الإسلامي في إيران على الشعب العراقي أو على الأقل خلق مشاكل للحكومة الإئتلافية القادمة بفرض شروط على الدستور الدائم تفرغ الديمقراطية من معناها الحقيقي وتربك الوضع الهش وتزعزع الإستقرار وتطيل من معاناة الشعب.
فرغم التصريحات التي صدرت من قادة الفصائل الإسلامية المعتدلة على أنهم يدعون إلى قيام نظام ديمقراطي ولا ينوون قيام نظام إسلامي في العراق، إلا إنه مازالت هناك مخاوف وشكوك بأن هذه التصريحات هي مجرد تكتيك مرحلي فرضته الأوضاع الدولية بعد كارثة 11 سبتمبر ويمكن أن يتغير موقف الإسلاميين في عنفوان نشوة الإنتصار بعد سقوط النظام، مستفيدين من مشاعر الناس الدينية في زمن الإنهيار السياسي الحالي. إذ تفيد الدراسات بهذا الخصوص أن فترات الانهيار السياسي تكون عادة مصحوبة بتوجه الناس إلى الدين والغيبيات والخرافات كوسيلة للخروج من المحنة التي يعيشونها ونتيجة لليأس والإحباط. وهذا ما حصل بعد نكبة حزيران 1967 في مصر، حيث برزت قصة ظهور العذراء على إحدى كنائس القاهرة التي أشغلت الناس ردحاً من الزمن وأدت إلى مقتل العشرات من الأبرياء نتيجة التزاحم لرؤية العذراء. وكذلك الوضع في العراق الآن حيث الإنهيار السياسي المصحوب بتصاعد الموجة الدينية وظهور قبور أولياء جدد لم يسمع بهم من قبل، يزورها الناس طلباً للشفاء من الأمراض والخلاص من الوضع المزري. هذه المشاعر الدينية يمكن أن تزول بعد زوال النظام المسبب، ولكن يمكن أن تغري بعض السياسيين الإسلاميين لاستثمارها من أجل تحقيق مكاسب سياسية مؤقتة إلا إن لها تأثير مدمر بعيد المدى. وقد حصل مثل هذا الموقف إثناء إنتفاضة الشعب في آذار 1991 حيث رفعت شعارات مذهبية أثارت الرعب في نفوس دول الجوار وكذلك أمريكا، من أن البديل في العراق بعد صدام سيكون نظام إسلامي على غرار النظام الإسلامي في إيران، الأمر الذي لم تسمح له أمريكا أن يحصل، لذلك تم إجهاض الإنتفاضة وإطالة عذاب الشعب.
فهل يمكن إستنساخ التجربة الإيرانية في العراق وتعريض الشعب إلى سلسلة من الكوارث التي مر بها الشعب الإيراني، أم يجب الإستفادة منها بإختيار الطريق الأسلم؟
لقد مر ما يقارب ربع قرن على الثورة الإسلامية في إيران ولم تكن هذه المسيرة سهلة ولم تحقق الثورة أهدافها كما أراد لها قادتها، بل على الضد من ذلك، أعاقت الثورة التنمية الإقتصادية والبشرية طيلة هذه الفترة بالإضافة إلى الكوارث التي جلبتها عليها الحرب العراقية الإيرانية. والآن نرى قادة الحكومة الإيرانية في مأزق صعب لا يعرفون كيف الخروج منه وبأقل خسائر. قد يعترض البعض ويقول أن هناك ديمقراطية في إيران، حيث تجرى الإنتخابات بحرية وهناك برلمان منتخب ورئيس جمهورية منتخب.. الخ
لكن يجب أن لا يخفى عن بالنا أن الإنتخابات (البرلمانية والرئاسية وغيرها) ورغم أهميتها، لا تكفي لوحدها إضفاء صفة الديمقراطية على أي نظام. فكانت هذه الإنتخابات تجري في الدول الشيوعية وكذلك في العراق تحت حكم صدام حسين ونتائج ال 100% المعروفة. ولا يعني أن هذه الدول صارت ديمقراطية بمجرد إجراء هذه الإنتخابات. فالمعلومات الواردة من إيران تؤكد أن صنع القرار والسلطات الحقيقية ليست بأيدي الجهات المنتخبة (برلمان ورئيس الجمهورية) وإنما بأيدي الجهات غير المنتخبة، وتحديداً مرشد الجمهورية الإسلامية ومجلس ولاية الفقيه. وبذلك فالنظام الإيراني لا يمكن أن يعتبر ديمقراطياً. لذا فهناك صراع عنيف ودموي أحياناً بين الإصلاحيين بقيادة رئيس الجمهورية المنتخب والإسلاميين الأصوليين بقيادة مرشد الجمهورية غير المنتخب. ولحد الآن الجهة غير المنتخبة هي المهيمنة على أمور البلاد والعباد وأنظار العالم موجهة نحو إيران، تراقب هذا الصراع عن كثب ولا أحد يعرف كيف سينتهي ولصالح أية جهة. وهل سيحسم الصراع بسلام أو بانفجار دموي عنيف؟ كذلك يمكن القول أن المواطن الإيراني العادي لم يتحسن وضعه المعيشي بعد الثورة بل صار أسوأ بكثير مما كان عليه قبل الثورة، حيث راح الإيرانيون يتحسرون على أيام الشاه.
فهل يتحمل الشعب العراقي بعد سقوط النظام الفاشي المزيد من المعاناة ولمدة 20-30 سنة أخرى من الصراع الدموي ويمر في نفس الإرهاصات والعذابات التي مر بها الشعب الإيراني بعد سقوط الشاه؟
ومن هنا نتمنى على قادة الفصائل الإسلامية في المعارضة العراقية أن يعيدوا النظر في برامجهم وأهدافهم وتكتيكاتهم واستراتيجياتهم لعراق المستقبل ونجنب الشعب من المزيد من الويلات، فقد عانى من هذه الويلات أكثر مما يتحمله شعب.

 

 


رسالة إلى آية الله السيستاني حول قتل المسيحيين في العراق
د. عبدالخالق حسين
سماحة أية الله العظمى السيد على السيستاني دام ظله
السلام عليكم،
يساور العراقيين قلقٌ شديد، عما تنشره وسائل الإعلام من أنباء عن جرائم مروعة ترتكبها جماعات شيعية مسلحة في البصرة تحمل أسماء مثل «ثأر الله» و«حزب الله» و«منظمة قواعد الاسلام» ضد طالبات المدارس والجامعات وفرض الحجاب عليهن بالقوة بمن فيهن المسيحيات ومضايقة السافرات في الشوارع بعدوانية فضة. والأسوأ من ذلك أنهم يقومون بترويع المسيحيين وحتى تهديدهم بتغيير دينهم وقتل باعة الخمور منهم بطرق عشوائية. إن مهنة بيع الخمور مورست في البلاد الإسلامية منذ فجر الإسلام، مروراً بجميع مراحل دولة الخلافة الإسلامية وإلى الآن ولم تصدر أية مرجعية دينية فتوى بهدر دم من يمارسها أو حتى منعهم من ممارسة هذه المهنة.
إن فرض الحجاب على النساء بالقوة أمر مدان وقد أدانه حتى الشهيد السيد محمد باقر الحكيم بأسابيع قبل استشهاده، حينما قال، ولو أنه يفضل الحجاب إلا إنه ضد فرضه قسراً.
إن ما تقوم به هذه العصابات المتطرفة وبسم الشيعة بترويع وقتل مواطنين عراقيين مسالمين عاشوا في هذا البلد آلاف السنين، لا يشرف أبناء الطائفة الشيعية بشيء، بل يجلب لهم السمعة السيئة وهم الذين كانوا ضحايا الاضطهاد في جميع العهود السابقة. إن قتل الأبرياء أمر مخالف للإسلام «من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الارض فكأنما قتل الناس جميعا».
لقد فرض هذا النفر أنفسهم فوق القانون والدولة مستثمرين الفراغ السياسي والأمني، رغم مرور تسعة أشهر على سقوط النظام الجائر. وهذا مخالف لما كنا نناضل من أجله حيث كنا نحلم بقيام دولة العدالة والقانون، يأمن فيها الناس على كرامتهم وأمنهم وأعراضهم و بمارسوا طقوسهم الدينية بحرية، وليس دولة العصابات المنفلتة تنشر الرعب بين الناس وتنتهك الحرمات بسم القومية، كما كان في عهد صدام حسين أو بسم الدين كما يجري الآن. إن سيادة حكم القانون مسؤوليتنا جميعاً يجب أن لا نتساهل فيها، وإلا ستغرق البلاد في فوضى عارمة تهلك الحرث والنسل ولا يعرف نتائجها إلا الله سبحانه وتعالى. وبالتالي فستترحم الناس على عهد صدام حسين، بل البعض منها بدأت تترحم عليه من الآن، لأن الحكمة تقول (الاستبداد خير من الفوضى).
نحن نعرف أن الإسلام دين حنيف سمح يحترم حقوق الإنسان ويجعله مسؤولاً أمام الله عن أي قرار يتخذه وبملء إرادته. أي أن الإنسان في الإسلام مخير وليس مجبر وفق ما جاء في محكم كتابه الكريم:
(لا لإكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) (قل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) علماً بأن أخوتنا المسيحيين ليسوا من الكفار بل هم من أهل الكتاب كما جاء في القرآن الكريم:( ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى) . والإسلام يرفض الإكراه: (فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر)، (إدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن)، (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين. قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل) صدق الله العظيم. وكل هذه الآيات الكريمات تؤكد على عدم الإكراه في الإسلام وضمان حرية الإختيار عند الإنسان.
فإذا كان هذا هو الإسلام الحنيف، إذاً، فبأي حق يقوم هذا النفر الضال بقتل أخوتنا من المسيحيين وإجبارهم على تغيير دينهم؟ ما الفرق بين هؤلاء المتشددين وبين الطالبان في أفغانستان؟ تفيد الأنباء أن بلغ الوضع في محافظة البصرة حداًُ بحيث (.. دفَعَ الخوف من المستقبل اكثر من 2000 مسيحي في البصرة من بين اكثر من 100 ألف على الرحيل وتوجه اغلبهم الى مدن في شمال العراق مثل الموصل حيث كان يعيش أسلافهم.-الشرق الأوسط، 31/12/2003). إن أهل البصرة، وأنا منهم، معروفون بروح التسامح و الانفتاح على الآخرين ومن يختلف عنهم في الدين والمذهب أو القومية. ففي الستينات من القرن الماضي عندما قامت عصابات البعثيين في الموصل بحملة اغتيالات ضد المواطنين وأغلب الضحايا كانت من المسيحيين، رحلت الألوف منهم إلى البصرة. والآن تقوم العصابات الشيعية المتطرفة في البصرة بدور البعثيين في اضطهاد أخوتنا المسيحيين وإرغامهم على الرحيل إلى المدن الشمالية. فهل يقر الإسلام هذا السلوك؟
لذلك فإننا نهيب بسماحتكم، لما لكم من تأثير روحي على هؤلاء الشباب الذين أساءوا فهم الإسلام واتخذوا منه ذريعة لإشباع نزواتهم العدوانية وجعلوا من أنفسهم أوصياء على الناس وفوق القانون والدولة، فقاموا بالإعتداء على الآخرين، وحرصاً على سمعة الشيعة من سلوك هذا النفر الضال  الذين يرتكبون جرائم القتل وترويع الناس بإسم الإسلام والمذهب الشيعي بالذات، نناشدكم بالتدخل الشخصي وذلك بإصدار فتوى تمنعون فيها هذه العصابات من ارتكاب الجرائم ضد أخوتنا المسيحيين وغير المسيحيين والكف عن فرض الحجاب بالقوة وترويع النساء السافرات، ومنعهم من العبث بأمن الناس والتدخل فيما لا يعنيهم وترك هذه الأمور إلى السلطات المخولة بإسم القانون.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
المخلص
عبدالخالق حسين
مواطن عراقي مقيم في إنكلترا

 

 

مرجعية السيستاني السياسية... إلى أين؟

د.عبدالخالق حسين

كان المعروف عن آية الله السيد علي السيستاني أنه إمام متفرغ لشؤون الدين وضد زج الدين بالسياسة. كما عرف عنه أنه على النقيض من المرحوم الإمام الخميني، كان أيضاً يعارض نظرية حكم ولاية الفقيه التي طبقها الأخير والمعمول بها في إيران الآن. ولم نعرف أن كان ذلك تكتيكاً مؤقتاً تبناه السيد دفعاً للعواقب الوخيمة التي كانت عادة تجلبها السياسة في عهد صدام على من يمارسها أم عن قناعة فكرية وفلسفية. ففي عهد صدام حسين كان أي نشاط سياسي خارج حزب البعث الحاكم يعني مجازفة انتحارية.
ونتيجة لموقفه هذا كسب السيد احترام الكثيرين في العراق وخارجه. وحتى عندما بدأ بإدلاء آرائه في القضايا السياسية بعد سقوط النظام حيث كان يحذر رجال الدين من الإنخراط في السياسة وقبول مناصب حكومية والخلط بين الدين والسياسة كما لم يؤيد مقاومة قوات التحالف وحذر من مخاطر تسلل البعثيين إلى الحوزة العلمية..الخ. وكانت لهذه الآراء وقع حسن عند مختلف الأوساط السياسية والثقافية والإعلامية المناصرة للقضية العراقية وحتى أن الكاتب والصحفي الإيراني اللامع أمير طاهري المناصر لقضية شعبنا، قد فسر مواقف السيد هذه بأنها حكيمة يريد بها سحب البساط من تحت أقدام الإسلاميين السياسيين في العراق ويجنب العراق من الوقوع في فخ حكم ولاية الفقيه والنظام الإسلامي الشمولي بعد أن تحرر من نظام شمولي قومي.
ولكن بمرور الزمن، أخذ دور السيد السياسي يتصاعد حيث راح يتدخل في الأمور السياسية مثل قانون الجنسية الجديد والدستور والإنتخابات ومواعيدها. وراح أتباعه ينظمون المظاهرات في المدن وهي تهتف: (يا سيستاني سير سير وحنا وياك للتحرير) رافعة صوره وصور الخميني وغيرهما من قادة الإسلام السياسي، حيث صار السيد، شاء أم أبى، زعيماً سياسياً بالإضافة إلى كونه زعيماً دينياً، أي صار خميني العراق، يقود الجماهير إلى التحرير. والجدير بالذكر أن هذه الجماهير هي ذاتها التي هتفت بالأمس لمقتدى الصدر وبعد أن خبا نجم الأخير راحت تهتف للسيستاني. وليس مستبعداً أن فلول صدام حسين التي حذر السيستاني منها، هي ذاتها تلعب الآن دوراً بارزاً في هذه المظاهرات بغية قلب المعادلة وخلط الأوراق وإغراق العراق في حالة من الفوضى.

يبدو أن السيد يلعب ورقته السياسية بذكاء شديد ويعرف كيف يحرك الأطراف دون أن يتحمل نتائج أعمال تلك الأطراف، بحيث يستطيع أن يتدخل بالسياسة ويقول أن هذا ليس عمل سياسي بل ديني. وكما قال الدكتور عزيز الحاج في إيلاف: (... يقولون أيضا إن دعوات السيستاني حول الانتخابات العاجلة ليست تدخلا في السياسة وإن سماحته يدعو لعدم زج رجال الدين في السياسة. هنا نرى أغرب حجة هي المغالطة بعينها، فإن لم يكن موضوع الانتخابات سياسة فما هي السياسة إذن؟! ).
ويحيط السيد نفسه بجدار من العزلة ويمتنع عن لقاء الصحفيين والمسؤولين الأجانب كما رفض لقاء السفير بول بريمر، رئيس الإدارة المدنية لقوات التحالف إلا إنه اشتهر بقول له نقل إلى بريمر (أنا أجنبي وأنت أجنبي فلماذا لا نترك العراقيين يقررون بأنفسهم). ورغم نصيحته هذه إلى بريمر، إلا إن السيد الأجنبي (إيراني) لم يترك العراقيين يقررون بأنفسهم، إضافة إلى ترك المجال لممثليه بإطلاق التصريحات النارية المختلفة نيابة عنه، فإن مرت بسلام، فبها، وإن كان رد الفعل مضاداً وعنيفاً، راح هؤلاء يفسرون بأن أسيء فهم ما قاله السيد.
وهنا أود أن أذكر بعض الأمثلة للتوضيح كإجراء من تكتيكات السيد التي تدل على دهاء سياسي نادر:
1- قال ممثل السيد السيستاني في كربلاء، أن أمريكا تعمدت في قطع الكهرباء في الشهر الذي كان الإسلامي، السيد عبدالعزيز الحكيم، رئيساً دورياً لمجلس الحكم وذلك لخلق العراقيل أمامه (كذا). لا شك أن القصد من وراء هذا القول هو الإثارة والتحريض ضد قوات التحالف، وهو قول لا يدل على الشعور بالمسؤولية من رجل دين نتوخى منه الدقة في القول والعدالة في الأحكام وكأن الطاقة الكهربائية كانت متوفرة في العراق بما يسد حاجة الشعب قبل رئاسة السيد الحكيم فقطعها الأمريكان خلال رئاسته ثم أعادوها فيما بعد.
2- قبل أسبوعين، التقى السيد السيستاني بوفد من رؤساء عشائر الفرات الأوسط، وصرح أحدهم بعد الإجتماع قائلاً أن السيد وعدهم بأنهم إذا أيدوا خطته في إجراء الانتخابات المبكرة، فإنهم أولى بالسلطة من القادمين من الخارج. ولما كان رد الفعل عنيفاً من قبل العراقيين في الخارج الذين فسروا القول بأنهم هم المستهدفون ب(القادمين من الخارج)، انبرى أتباعه بالنفي أن السيد كان يقصد الأجانب وليس العراقيين في الخارج. ولا أدر لماذا كان السيد بحاجة إلى التأكيد لشيوخ العشائر على أولويتهم في حكم بلادهم من الأجانب، خاصة في ظروف تعالت فيها صيحات من مفرقي الصفوف ضد عراقيي الخارج (ساكني فنادق خمس نجوم!!!!). وفي أحسن الأحوال والذي لم ينكره هؤلاء أن السيد وعد بتسليم السلطة إلى شيوخ العشائر، أي إعادة العراق إلى عام 1920. وهذا يعني أن النظام القادم هو نظام حكم يتولاه شيوخ العشائر يختارهم رجل دين إيراني. فهل هذا هو ما سيفطر عليه العراقيون بعد صيام طويل؟ وإذا دشن السيد عبد العزيز الحكيم رئاسته بإلغاء قانون الأحوال الشخصية وفرض حكم الشريعة، فهل أول ما سيدشن شيوخ العشائر به حكمهم هو إلغاء قانون الإصلاح الزراعي وبمباركة من رجال الدين؟
3- عندما طالب السيد بإجراء انتخابات عاجلة لاختيار أعضاء مجلس الحكم المؤقت القادم وواجه معارضة من عدد من أعضاء المجلس الحالي، قال أنه يوافق على تأجيل الإنتخابات فقط إذا أيدت الأمم المتحدة ذلك وطالب المنظمة الدولية إرسال وفد إلى العراق لتقدير الحالة الأمنية، علماً بأن السياسيين العراقيين هم أعرف بالأوضاع الأمنية من أي شخص أجنبي في الخارج. ولكن في هذا القرار تكتيك ذكي. فإذا أقر وفد الأمم المتحدة بعدم صلاحية الظروف الأمنية الحالية لإجراء الانتخابات، فالسيد في حل من الداعين للانتخابات وأنه بذل ما في وسعه ولكنه لا يستطيع أن يقف ضد قرار المنظمة الدولية. وإذا وافقت اللجنة الدولية على إجراء الانتخابات وانتهت بالمجازر، فإنه في حل من المسؤولية لأنها أجريت بتوصية من الأمم المتحدة. لذلك نقول للمخلصين العراقيين من الآن، أن الإصرار على الانتخابات العاجلة قبل توفر الظروف الملائمة لها لا يخدم إلا أعداء الشعب العراقي وعلى رأسهم النظام الإيراني الذي يعمل على خلق التعقيدات في هذه الظروف الصاخبة في وقت يكون العراق فيه بأشد الحاجة إلى فترة راحة وهدوء ليسترد أنفاسه؟

وختاماً، كل الدلائل تشير إلى أن المتشددين في النظام الإيراني يعملون على جعل العراق ساحة لهم في حربهم مع أمريكا بدلاً من بلادهم. لذلك وضعوا كل ثقلهم المادي والبشري والديني والإعلامي في الساحة العراقية، فمهما كلفهم ذلك هو أفضل لهم من نقل المعركة إلى إيران. لذا، يسعون بكل ما أوتوا من طاقة، لوضع العراقيل أمام نقل السلطة والسيادة الوطنية إلى العراقيين بهدوء، ويجهدون لإفشال دمقرطة العراق وذلك بإجراء انتخابات عاجلة في ظروف صاخبة على أمل فوز أنصارهم الإسلاميين العراقيين وقيام نظام إسلامي في العراق تابع لإيران. كما نعرف أن معظم الإعلاميين العرب المعادين للعراق الجديد، يؤيدون كل ما يؤدي إلى زعزعة الأمن والإستقرار وإفشال التجربة الديمقراطية فيه. وكان البعض منهم يشتم السيد السيستاني علناً وبأقذع الألفاظ مثل السوقي بيضون التميمي الذي كال الشتائم ضد العراقيين دفاعاً عن سيده المخلوع صدام حسين. ولكن فجأة رأينا الإعلام العربي يؤيد خطة السيد السيستاني ويشيد بمواقفه. ألا يدل ذلك على أن الإنتخابات في الظروف الراهنة الملتهبة، ستؤدي إلى كارثة على العراقيين ونصر لأعدائه؟
25/1/2004

 


نعم للمصالحة والمسامحة والاجتثاث!

د. عبدالخالق حسين

قبل سقوط نظام البعث الفاشي بفترة، طرح الوطنيون العراقيون مشروع المصالحة ونشر روح التسامح والعمل على اجتثاث حزب البعث من المجتمع العراقي فكراً وتنظيماً لوضع حد لدورات العنف السياسي الذي عانى منه الشعب لفترة طويلة. وبعد سقوط النظام اشتدت الحاجة والمطالبة بتحقيق هذه الأهداف الوطنية والإنسانية النبيلة. ولكن يبدو أن هناك فئة تعمل عن قصد لتضليل الناس وخلق الالتباس حول هذه المفردات (المصالحة والمسامحة والاجتثاث).

فبعد إلقاء القبض على صدام حسين، وجه الرئيس الأمريكي جورج بوش ورئيس الوزراء البريطاني توني بلير، كل على حدة، نداءً إلى الشعب العراقي، أكدا فيه، أنه حان الوقت لإجراء «الصلح بين اطراف المجتمع العراقي وإقامة دولة تتمتع بالاستقرار». وهذا بالضبط ما كان يدعو إليه المخلصون العراقيون منذ سنوات.
ولكن حاول أيتام النظام المقبور ومرتزقته من العرب، استثمار الموقف وتفسير المصالحة بين أطراف المجتمع العراقي أنه يعني المصالحة مع حزب البعث. بل راح البعض منهم إلى أبعد من ذلك، فطالبوا حتى بمشاركة البعث في الحكومة... وادعوا أن أغلب البعثيين غير مسؤولين عن جرائم صدام حسين. واستغل هؤلاء الفرصة فشنوا حملة ضارية ضد فكرة اجتثاث البعث وآيدولوجيته العنصرية الطائفية البغيضة وفسروها بشكل مضلل بأنها تعني قتل البعثيين. وفعلاً استلمت رسائل من أصدقاء قلقين من جراء ذلك، يستفسرون (هل صحيح أن اجتثاث البعث يعني قتل البعثيين؟.. وإذا كان كذلك، فمتى يتخلص العراقيون من دورات العنف والعنف المضاد؟). وعليه أرى من المفيد توضيح هذه المفردات.

من نافلة القول، أن المقصود بالمصالحة هنا هو المصالحة بين مختلف مكونات المجتمع العراقي، الأثنية والدينية والمذهبية وعلى الأحزاب والقوى السياسية الوطنية، أن تترك خلافاتها الفئوية والثانوية جانباً و تتآزر وتركز على الأولويات وعلى رأسها المصلحة الوطنية. بطبيعة الحال، هذا النداء لا يعني مطلقاً، تأهيل حزب البعث، المسؤول الأول والأخير، عن جميع الكوارث التي حلت بالشعب العراقي منذ إنقلاب 8 شباط 1963 الأسود وحتى سقوطه الأبدي في يوم 9 نيسان 2003 المجيد.

وتأتي حملة المصالحة مع البعث، تحت ستار مزعوم: "عدم عزل السنة العرب ولزوم إعطائهم دوراً أكبر في العراق الجديد."! والإدعاء بأن حزب البعث يمثل أهل السنة العرب (كذا). بطيعة الحال، إن هذا الإدعاء باطل ومضلل من أوله إلى آخره. فحزب البعث هو حزب علماني مشوه، قومي، عروبي، تبنى الآيدولوجية النازية الألمانية وطبقها بأبشع الأساليب الستالينية، ولم يسلم من جوره جميع مكونات الشعب العراقي وخاصة رجال الدين من مختلف المذاهب بمن فيهم أهل السنة. كذلك نعرف أن هناك قياديين في حزب البعث ينتمون إلى جميع الأعراق والأديان والمذاهب، ساهموا في جرائم النظام الساقط.

ويجب التوكيد على إن مشكلة العراق ليست صراعا سنيا وشيعيا بل هي صراع الغالبية من سنة وشيعة وعرب وكرد وتركمان وسريان وصايئة وغيرهم ضد أعداء الديمقراطية من فلول صدام والمتشبثين بأيديولوجية العنف البعثية الفاشية والأصولية الدينية المتطرفة. فالسنة العرب والاكراد وبقية الطوائف والشرائح الأخرى من الشعب العراقي, عانوا كثيراً من نظام البائد.
نعم، نحن ضد إعادة تنظيم حزب البعث و مشاركته في السلطة. لأن تاريخ هذا الحزب مليء بالعنف والغدر وحوادث القتل، منذ تأسيسه في أربعينات القرن الماضي ولحد الآن وحتى مع من تحالف معهم، سواءً كانوا في السلطة أو خارجها. وهذه السياسة هي نتاج للآيديولوجية البعثية التي هي نسخة متطرفة من النازية والفاشية. وصدام حسين صعد إلى قمة الحزب والدولة لأنه يتمتع بصفات شخصية عدوانية جعلته الشخص الأنسب والأكثر انسجاماً من غيره، مع آيديولوجية البعث العنصرية الطائفية المعادية للإنسان. لذلك فإذا ما سمح لهذا الحزب بحرية العمل السياسي، وحتى تحت إسم آخر، فسوف يعود كما كان في الماضي لأنه يمتلك عشرات المليارات من الدولارات حيث استقطع 5% من واردات النفط لمدة 34 عاماً وتنظيماته قد حافظت على هيكليتها وجاهزة تنتظر اللحظة المناسبة للوثوب إلى السلطة من جديد، والانقضاض على الآخرين، كما حدث في يوليو/تموز عام 1968 . لذلك فبمجرد الحديث عن السماح لحزب البعث بالعمل ومشاركته في الحكم، يثير الرعب والهلع في نفوس العراقيين ويعيد إلى ذاكرتهم المناظر المأساوية المروعة والشعور بالخيبة وبالتالي يجعل أغلبية العراقيين ضد التحولات الجارية وفشل دمقرطة العراق والعودة إلى نقطة الصفر وتكرار مسلسل العنف.

إذَنْ، ما العمل مع مليوني عراقي أرغمهم النظام بالإنتماء إلى حزبه؟ هؤلاء هم أبناؤنا وأخوتنا تعرض البعض منهم إلى عملية غسيل دماغ لتنفيذ الجرائم ومعظم المنتمين الآخرين تعرضوا للقهر والظلم وأجبروا على الإنتماء من أجل ضمان لقمة العيش أو مقعد دراسي في الجامعة.. الخ وأغلبهم أبرياء. ومن هنا تأتي أهمية المسامحة لأننا لسنا ضد تأهيل معظم البعثيين كأفراد من الذين انتموا إلى حزب البعث مضطرين ولم تتلوث أيديهم بالجرائم. فمن المصلحة الوطنية إعادة هؤلاء إلى الوظائف غير الحساسة في الدولة كمواطنين صالحين لا كحزب خاص بهم وبعد أن يتعهدوا للشعب بالتخلي عن حزب البعث ومبادئه الفاشية وإدانتهم للعنف والإرهاب وقبولهم الديمقراطية. أما الذين ارتكبوا الجرائم بحق الشعب، فسيحاسبون وفق القانون ويشكل هؤلاء نسبة ضئيلة جداً من المجموع الكلي للمحسوبين على البعث.

أما الاجتثاث فلا يعني مطلقاً قتل أحد، بل يعني تطهير المجتمع العراقي من فكر البعث الفاشي. وللتوضيح فقط، يمكن تشبيه الإنسان بالكومبيوتر. فالمواطن الذي تعرض إلى غسيل دماغ وتم شحنه بأفكار تدميرية وتحويله من إنسان مسالم يساهم في بناء وطنه والعيش بسلام مع الآخرين، تحوله الآيدويلوجية الفاشية (السوفتوير) إلى أداة عنف عدواني يرتكب أبشع الجرائم ضد شعبه بإسم إرادة الأمة معتقداً بأنه يخدم الشعب والأمة، وهو بذلك أشبه بالكومبيوتر الذي نصبت فيه برامج (سوفتوير) فاحشة ومنافية للإخلاق. فللتخلص من برامج ضارة لا نحتاج إلى تدمير الكومبيوتر، بل يكفي القيام بحذف البرامج الضارة منه ونصب برامج مفيدة مكانها. كذلك في حالة الإنسان الذي تم تشويه عقله بالأفكار الفاشية الضارة، لا يجب قتله بل العمل على تأهيله وإعادة تثقيفه وتخليصه من الأفكار الفاشية السيئة. الفرق هنا هو أن العملية سهلة وسريعة في حالة الكومبيوتر، ولكنها صعبة وتستغرق وقتاً في حالة الإنسان. ولكننا نعرف أن معظم الذين انتموا إلى البعث لم يكن عن قناعة فكرية.. ولذلك فالعمل على تأهيل هؤلاء ليس صعباً.

لذلك، فالعراق الجديد، يحتاج إلى حملة ثقافية مكثفة ومستمرة، يقوم بها المثقفون والسياسيون، من مختلف الإختصاصات، التربويون، والإعلاميون وعلماء النفس والاجتماع ورجال الدين... الخ ابتداءً من الأسرة ورياض الأطفال إلى الدراسات العليا، بهذه الحملة والتذكير المستمر بجرائم البعث في وسائل الإعلام دون انقطاع، تماماً كما تعاملت ومازالت، الدول الأوربية الديمقراطية مع الفاشية والنازية بعد الحرب العالمية الثانية، وشعارهم (لكي لا ننسى). فدائماً يعملون على تذكير شعوبهم بالمآسي والكوارث التي جلبتها عليهم هذه الآيديولوجيات المعادية للإنسان ولذلك نجحت عندهم الديمقراطية وحققت شعوبها قفزات هائلة في التقدم الإجتماعي والرفاه الإقتصادي والحرية الفكرية والتقدم العلمي والتكنولوجي، بينما بقيت الشعوب المحكومة بالأنظمة المستبدة متخلفة.
وعليه، لا يمكن إقامة نظام ديمقراطي سليم في العراق الجديد، ما لم يتم اجتثاث جميع الآيديولوجيات التي تتبنى العنف وتعادي الديمقراطية، سواءً كانت علمانية أو دينية. فكما لا يمكن الجمع بين الصيف والشتاء في ذات الوقت على سطح واحد، كذلك لا يمكن الجمع بين الديمقراطية والآيدولوجيات الفاشية في بلد واحد.
 

 

الدور التخريبي للجامعة العربية في العراق

د. عبدالخالق حسين

منذ تولّي السيد عمرو موسى الأمانة العامة للجامعة العربية، صارت هذه المنظمة أداة فعالة تعمل ضد مصالح الشعب العراقي ولم تألو جهداً في التدخل في شؤونه وعرقلة مسيرته نحو الاستقرار والديمقراطية وإعادة البناء، تحت مختلف الذرائع لمواصلة دورها التخريبي.
ففي عهد صدام حسين عملت الجامعة العربية من خلال أمينها العام على بقاء نظامه وبذلت كل ما في وسعها لمنع الحرب عليه، وكالعادة، متظاهرة بالحرص على مصلحة الشعب العراقي. ولما سقط النظام الفاشي، وقفت هذه المنظمة ضد مجلس الحكم ورفضت الاعتراف به بذريعة أنها غير منتخبة من قبل الشعب بل عينها التحالف الأنكلو- أمريكي، وكأن حكومات الأعضاء في الجامعة كلها منتخبة من قبل شعوبها، علماً بأنها (الجامعة) نفسها قد أسستها بريطانيا عام 1945. كما نعلم أن الجامعة كانت سباقة في الاعتراف بأية عصابة عسكرية تغتصب السلطة عن طريق الانقلابات العسكرية  في أي بلد عربي دون فرض شرط الإنتخاب من قبل الشعب. ولكنها امتنعت عن الاعتراف بمجلس الحكم لأنه ليس مكوناً من العسكريين الإنقلابيين، بل معظم أعضائه من الخبراء وحملة الشهادات العالية من السياسيين العراقيين الذين عركتهم الحياة في مقارعة النظام الفاشي على مدى 35 عاماً من النضال العسير.
والجدير بالذكر، أنه قبل عدة أشهر طالب أكثر من ألف مثقف عراقي، مجلس الحكم بتجميد عضوية العراق في هذه الجامعة المنحازة ضد الشعب العراقي، إلى أن تطور الجامعة نفسها بما ينسجم ومتطلبات العصر.  إلا إنه، وكما يبدو مع الأسف الشديد، أن أعضاء المجلس لا يقرؤون، فبدلاً من تلبية مطلب المثقفين العراقيين، كان الأعضاء سباقين في الذهاب إلى الجامعة والتودد إليها وحضور اجتماعاتها. وفي الوقت الذي كان أمين الجامعة يقابل الوفود العراقية الرسمية بتثاقل وبوجه عابس، كان يواصل لقاءاته مع أيتام صدام حسين بترحاب، من أمثال مزهر الدليمي وغيره واعتبارهم ممثلي الشعب العراقي.
ولما أثبت مجلس الحكم فعاليته في أداء مهماته ودوره المشروع للعراق في هذه المرحلة العاصفة ونال اعتراف الأمم المتحدة وحكومات العالم في التعامل معه، اعترفت الجامعة به على مضض وبعثت في شهر كانون الأول/ديسمبر الماضي وفداً إلى العراق "للتحري عن الحقائق". والتقى وفد الجامعة بمختلف ممثلي مكونات الشعب العراقي. وأخيراً رفع الوفد تقريره "العتيد" إلى الجامعة العربية، وكما يقول المثل (تمخض الجبل فولَّد فأراً). فبدلاً من أن يساهم التقرير في مساعدة الشعب العراقي في تضميد جراحه والخروج من أزمته الحالية، راح ينكأ هذه الجراح ويصب الزيت على النار.  فقد جاء في التقرير كما نشرته وكالة أسوشيتد برس (أن التحالف بقيادة أمريكا في العراق يهدد الإستقرار فيه وفي المنطقة وذلك بإعطاء سلطات إلى الأكراد والشيعة...). والجامعة تحذر من «تهديد» شيعي ـ كردي لوحدة العراق وأن الفيدرالية «خطر». فكل الحريصين على وحدة العراق يعلمون جيداً ما سيحصل للعراق لو انسحبت قوات التحالف منه. فالحقيقة التي تنكرها الجامعة أن وحدة العراق تكون في خطر لو انسحبت قوات التحالف منه قبل إنجاز المهمات الأساسية التي جاءت من أجلها، ألا وهي استتباب الأمن وإقامة نظام ديمقراطي وإعادة بناء العراق.
إن ما جاء في تقرير وفد الجامعة يتفق تماماً مع البيان التحريضي الذي وقعه 56 من رحال الدين السعوديين في 30/10/2002 الذي دعوا فيه المسلمين في شتى أنحاء العالم بإرسال المجاهدين للقتال في العراق والدفاع عن أهل السنة وحمايتهم من "الفئات الضالة". على حد تعبيرهم والذي كان ترديداً لخطابات بن لادن.
من هنا نرى مدى تحيز الجامعة العربية ضد الشعب العراقي، فبدلاً من الدعوة إلى وحدة الصف وإيقاف موجات الإرهاب المرسلة إلى العراق التي تواصل عملها على تدمير مؤسساته الاقتصادية وتقتيل أبناءه الأبرياء وعدم استقرار الأوضاع فيه، نراها تعمل على إشعال نار الفتنة بين أبناء الشعب الواحد وتحرض فئة على أخرى. فمتى كانت الديمقراطية ومنح حقوق المواطنة ومعاملة العراقيين بالتساوي في حكم بلادهم سبباً لعدم الإستقرار وتهديداً لوحدة البلاد والمنطقة؟ وأين كانت الجامعة العتيدة عندما كان حزب البعث يفتك بالعراقيين وينشر المقابر الجماعية؟ ولماذا لم تتحرك الجامعة العتيدة إلا بعد أن تحركت أمريكا وبريطانيا لإنقاذ الشعب العراقي من النظام الفاشي ولكن كان تحرك الجامعة في هذه الحال في الإتجاه المعاكس (على طريقة قناة الجزيرة)، أي لتدمير العراق؟
ومقارنة بسيطة بين ما قدمته أمريكا "الصليبية" مع ما قدمته الحكومات العربية للشعب العراقي من مساعدات، نرى أن أمريكا، إضافة إلى قيامها بتحرير العراق وخلاص شعبه من أشرس نظام إجرامي مستبد في التاريخ، تبرعت بحوالي 20 مليار دولار لإعمار العراق، وكلَّفت وزير خارجيتها الأسبق، جيمس بيكر، بجولات في الدول الدائنة يطالبهم بتخفيف مديونية العراق، نرى الدول العربية الشقيقة ليست متفرجة على مأساة العراقيين فحسب، بل تبعث بالإرهابيين لبلادهم للتخريب وتصر على مصادرة أموالهم والمطالبة بالتعويضات بسبب حروب نظام صدام حسين المقبور. فهذه سوريا، المستفيدة الكبرى، من حروب صدام، ترفض إعادة ثلاثة مليارات دولار من أموال الشعب العراقي في بنوكها وتطالب بأربعة مليارات أخرى من التعويضات... تعويضات عن ماذا؟ عن تلويث البيئة السورية بسبب الحرب العراقية الإيرانية (كذا).. كما تدعي. كذلك الحكومة الأردنية سطت على حوالي مليار دولار من أموال العراق في بنوكها ترفض إعادتها، ‘ضافة إلى المليارات الدولارات التي هربتها بنات صدام وأيتامه الذين لجأوا إلى الأردن، وطالبت لجنة التعويضات التابعة للأمم المتحدة ب 13 مليار دولار، ويقال أنها رفعت هذا المبلغ بعد سقوط صدام إلى 24 مليار دولار، وهكذا بقية الدول العربية، حكومات وشركات وأفراد، كلها تعمل على نهب الشعب العراقي والحبل على الجرار كما يقولون. هذه هي مساعدات الأشقاء للشعب العراقي المعدم.
والآن، جاء دور الجامعة العربية، فبدلاً من المساهمة في إطفاء نار الفتنة وتهدئة الأوضاع في العراق للتعجيل في نقل السلطة إلى الشعب العراقي ومطالبة حكومات الأعضاء بالتخلي عن المطالبة بالتعويضات وتخفيف الديون، تقوم الجامعة بدور تحريضي، وتحرض شرائح المجتمع العراقي على بعضها البعض وتدعي أن إعطاء دور للكرد والشيعة في حكم البلاد يهدد الإستقرار في العراق والمنطقة.
أيها السادة، العراق الجديد يعمل، وبمساعدة الحلفاء، على قيام نظام ديمقراطي حقيقي يعامل جميع مكونات شعبه بالتساوي دون أي تمييز. فمتى كانت الديمقراطية ومنح الحقوق لأبناء الشعب سبباً لعدم الإستقرار؟
أفتونا أيها الأخوة في العروبة والإسلام يرحمكم الله.

 

سمير عطا الله يتراجع!!

د. عبدالخالق حسين

يتذكر القراء الأعزاء ما نشره سمير عطا الله يوم 20/2/2004، في عموده اليومي في الشرق الأوسط مقالة بعنوان (عرب وأجانب) دافع فيها بضراوة عن "فارس الأمة العربية" وعن الإرهابيين العرب ويتهجم على العراقيين بصفاقة ودون خجل. وكان ردود فعل العراقيين شديداًُ فكتب الزملاء مقالات نشرت على مواقع الإنترنت والصحف يعربون فيها عن غضبهم لهذا الموقف اللامسؤول الذي يتعاطف مع القتلة ويصفهم بالأبطال وأكباد الأمة ومحرريها. ولا ضير من أن أعيد فقرة من ذلك المقال سيئ الصيت لأذكر القارئ الكريم بها إذ يقول: (الحقيقة ما يزعجني في المسألة كلها هو مصطلح «الاجانب»، ففيما تبلغ الوحدة العربية اعلى ذراها واعمق وهادها، وفيما لا نرى مستبسلاً عربياً واحداً في فلسطين (صعوبة التأشيرة)، يصرّ انتهازيو المجلس الانتقالي مثل آل الحكيم وآل الباججي وآل الربيعي، على وصف المنقذين العرب «بالاجانب». تعبير امبريالي ذيلي من قاموس الخونة والجواسيس والعملاء البائد. اي «اجانب» هم هؤلاء؟ انهم اكباد الأمة ومحرروها. انهم صورة المستقبل وبصيص النور وطلائع الأمل).

وبعد أن أمطرته الأقلام العراقية والعربية الصديقة بوابل من الإنتقادات والمقالات من كل حدب وصوب التي عرته على حقيقته، عاد ونشر اليوم 26/2/2004 وفي ذات العمود مقالاً بعنوان (أحمد زكي) يتملص من مسؤولية قلمه وماكتبه في عدد 20 فبراير ( عرب واجانب) ويصفه بانه تورية !! وهزء مبطن !!.

ويلقي سمير عطا الله باللوم على مدير التحرير فيقول لا فظ فوه: "ولو كان هناك مدير تحرير في احدى الزميلات لكان قرأ مقالي عن «اجانب العرب» وفهمه وفهم التورية فيه وفهم الهزء المبطن وادرك ان هذا اسلوب بدأ مع الكتابة الهيروغليفية. لكن بسبب غياب مدير التحرير نشرت الزميلة ستة الواح من الشتم وسبعة اطنان من الاسمنت الغليظ باعتبار انني «اؤيد» قتل العراقيين على ايدي القتلة الجدد."
إذن ما كتبه السيد سمير كان "الهزء المبطن" إسلوب بدأ مع الكتابة الهيروغليفية. والذنب ذنبنا لأننا لا نعرف هذا التقليد الهيروغليفي ولا نجيده وليس ذنب من يتعاطف مع القتلة. في الحقيقة إنها هزيمة هزيمة المثقفين العرب الذين تعاطفوا مع النظام الساقط وخذلوا الشعب العراقي وشعروا بعزلتهم وفقدان ماء وجوههم وقد سقط ورق التوت عن عوراتهم والبقية تأتي. وكما قالت العرب: إذا كنت لا تستحي فقل ما تشاء.

 

هل صار العراق مستعمرة إيرانية؟

د.عبدالخالق حسين

يبدو أن تاريخ البرامكة سيعاد في العراق في القرن الحادي والعشرين. إذ قرأنا في التاريخ أن العباسيين اعتمدوا على الإيرانيين (الموالي) في إسقاط الدولة الأموية وتأسيس دولتهم التي اتخذوا من بغداد عاصمة لها. وتوسعت نفوذ البرامكة الفرس في إدارة الدولة  حتى بلغت الذروة في عهد هارون الرشيد الذي اعتمد عليهم كثيراً إلى حد أن أصيبوا بالغرور والطغيان فتوجس الرشيد منهم الخطر على سلطته، لذلك انقلب عليهم وأبادهم عن آخرهم.

لقد اضطر العراقيون في عهد صدام حسين، الذي يشبه نظامه حكم الأمويين وخاصة في عهد الحجاج، أن يفروا إلى شتى أنحاء العالم لينجوا بأنفسهم وينظموا معارضاتهم للنظام الجائر. وتلقى الإسلاميون العراقيون في إيران دعماً سياسياً واسعاً خلال أكثر من عشرين عاماً. ولكن مع ذلك لم تستطع المعارضة، سواء الإسلامية منها أو الوطنية الديمقراطية، إسقاط النظام لوحدها لولا قوات التحالف الأمريكي-البريطاني.
وقد خططت أمريكا أن تجعل من العراق الجديد نموذجاً للديمقراطية والإستقرار السياسي والإزدهار الاقتصادي، يحتذا به في الشرق الأوسط، على غرار ما حصل في ألمانيا واليابان وكوريا الجنوبية. ولكن احتمال نجاح هذا النموذج الديمقراطي صار يقض مضاجع أعداء الديمقراطية وقوى الظلام في المنطقة. لذلك جن جنونهم فعقدت التحالفات غير المقدسة بين إيران وسوريا وفلول صدام حسين والمنظمات الإسلامية الإرهابية مثل القاعدة وأنصار الإسلام والمرتزقة العرب المخدوعين من عبيد الاستبداد، لمواجهة العراق الجديد، وعرقلة مسيرته وإجبار أمريكا على الرحيل.
ورغم أن النظام الإيراني هو من أكبر المستفيدين من سقوط صدام، إلا إن الملالي يخافون أن يأتي دورهم ويلتحقوا بنظام صدام حسين، لذلك وضعوا كل ثقلهم لتدمير العراق مهما كلفهم من أموال ورجال. فاستغل المتشددون الإسلاميون في إيران الظروف القاهرة التي بعيشها العراق وصعوبة السيطرة على الحدود، فبعثوا بعشرات الألوف من رجال مخابراتهم بحجة زيارة العتبات المقدسة، وشكلوا منظمات سياسية واجتماعية تحت أسماء وواجهات مختلفة، بل ونجحوا حتى في اختراق الأحزاب السياسية العراقية بغية السيطرة عليها وعرقلة مسيرتها الوطنية.
كما فتحت إيران أكثر من عشرة محطات إذاعية وثلاث محطات فضائية تلفزيونية، تبث باللغة العربية على مدار الساعة، تؤلب الشعب العراقي على قوات التحالف وتروج لقيام نظام إسلامي تابع إلى نظام الملالي في طهران، مستفيدة من المشاعر الدينية عند الشيعة الذين نالوا القسط الأوفر من جور النظام البائد.
كذلك تعتمد إيران على رجال الدين الإيرانيين في العراق وفي الكويت. وهذا الوضع هو امتداد لمئات السنين عندما أرغم الشاه إسماعيل الصفوي في القرن السادس عشر الشعب الإيراني السني آنذاك على التشيّع. فاعتمد في ذلك على السيف والقلم، على حد تعبير العلامة علي الوردي. فقتل ما يقارب المليون من الإيرانيين وجلب رجال الدين العراقيين الشيعة لتثقيفهم ونشر مبادئ المذهب الشيعي في إيران وحقق في ذلك نجاحاً باهراً. إلا إن تشيُّع الشعب الإيراني صار وبالاً على شيعة العراق. إذ يحاول الإيرانيون فرض الوصاية عليهم وعلى العتبات المقدسة، الأمر الذي جعل السنة العرب يشككون في ولائهم الوطني ويطعنون في عروبتهم ونالوا بسبب ذلك كثيراً من التعسف والاضطهاد من الحكومات المتعاقبة.
وبعد قرون، صار الإيرانيون هم الذين يصدرون رجال الدين الشيعة إلى العراق وأحكموا قبضتهم على الحوزة العلمية في النجف. فلرجال الدين الإيرانيين تواجد مؤثر في النجف وعاشوا وكأنهم في بلادهم مستفيدين من كرم الضيافة الذي اشتهر بها العراقيون وحتى نجحوا في منافسة أقرانهم من رجال الدين العراقيين. وبا للمفارقة، فأغلب اشيعة صاروا يقلون رجال الدين الإيرانيين بدلاً من نظرائهم العراقيين.
و يشكل التأثير الإيراني الآن على الرأي العام العراقي، خطراً كبيراً على مستقبل العراق. فإيران تلعب ورقتها في العراق بذكاء وخبث ودهاء على ثلاث جبهات: الإستخبارات، الإعلام ورجال الدين.

وقد عاش الفقيه الإيراني، آية الله السيد علي السيستاني في النجف حياة هادئة في عهد صدام حسين، متفرغاً للدين دون أن يتدخل في السياسة، آثر السكوت على جرائم النظام، رغم علمه بما ناله العراقيون من ظلم على يد النظام الجائر. بينما رجال الدين العراقيين، من آل الحكيم وآل الصدر وآل بحر العلوم وغيرهم كثيرون ومن جميع المذاهب في العراق، لم يستطيعوا السكوت عن جرائم النظام الفاشي، فعارضوه وتعرضوا بسبب ذلك إلى القتل والتنكيل والتشريد.
ولكن بعد أن أسقط الحلفاء النظام الفاشي وتحرر الشعب من العبودية وتوفرت الحرية لكل الناس، وصار من حق كل إنسان أن يمارس النشاط السياسي بالشكل الذي يريد وفي ظل هذه الظروف الجديدة بدأ السيد السيستاني يمارس السياسة في العراق الجديد. كما عمل بحكمة فائقة في تهدئة الجماهير الشيعية في عدم استخدام العنف ضد قوات التحالف وحذر من خطر تسلل البعثيين إلى الحوزة العلمية والتلبس بلباس رجال الدين كما ونصح رجال الدين بعدم تسلم مناصب حكومية أو سياسية. وكان صائباً ومفيداً في مواقفه تلك التي أكسبته مصداقية واحترام وتقدير الشعب العراقي والسياسيين والأمريكان وقادة قوات التحالف وبريمر. فبدأ هؤلاء يتسابقون على زيارته والتقرب إليه. وراح رجال الحكم الجدد يقدمون له الاحترام والتقدير ويسألونه المشورة في شؤون البلاد في كل صغيرة وكبيرة. وتطور الأمر بسرعة إلى حد أن وجد الرجل نفسه وكأنه أية الله خامنئي العراق وأن الحكام الجدد لا يستطيعون إدارة الحكم بدونه. وكما برى الأستاذ مالوم أبورغيف في تغيير موقف السيد من السياسة فيقول: (لكن مسألة عدم إشراك  الدين بلعبة السياسة عند السيد السستاني كانت على ما يبدو تكتيكا تطلبه الموقف في زمن الحكم البعثي الاستبدادي، وليس موقف فكري او فلسفي أو استناد على آيديولوجية تقترب من الفكرة العلمانية الرافضة لاي نوع من التاثير المتبادل ). 
وهكذا شعر الرجل الذي كان حتى وقت قريب يرفض زج الدين بالسياسة او إبداء أي رأي فيها علناً في الماضي، صار يمثل مركز الثقل في القرار السياسي في العراق. فاعترض على مسودة قانون الجنسية الجديد فيما يخص تبني اللقطاء الذين ولدوا في العراق، علماً بأن هذه الفقرة هي إنسانية كانت موجودة في القانون القديم منذ العهدين الملكي والجمهوري، ولم يعترض عليها أحد من رجال الدين.
كذلك راح يطالب بإجراء انتخابات في اختيار لجنة كتابة الدستور وأعضاء مجلس الحكم الذي سيحل محل المجلس الحالي في نهاية شهر حزيران القادم دون أي اعتبار للأوضاع الأمنية في العراق التي لا تسمح بذلك.
يعتقد البعض أن إيران هي وراء تدخل السيد السيستاني في النشاط السياسي. وقد بلغت خطورة التدخل حداً أن صرح السيد (حين قابل رؤساء عشائر الفرات الأوسط قبل إسبوعين وحرضهم على المطالبة بالانتخابات العاجلة ووعدهم بالعمل على أن يتسلموا الحكم بدلا من "القادمين من الخارج"). فهل هذه هي العدالة أن يقرر الإيرانيون دور العراقيين في شؤون بلدهم؟ ولماذا فر العراقيون إلى الخارج، هل من أجل السياحة والتجارة أم فراراً من الظلم والطغيان وتنظيم المعارضة من الخارج؟ والأنكى من ذلك أن هدد رجل دين إيراني آخر في الكويت وهو السيد المهري بقوله:  (إن المرجع، السيد السيستاني قد يصدر فتوى يحظر على العراقيين! مساندة مجلس الحكم واعتباره مجلس غير شرعي إذا تجاهل الحاكم المدني الامريكي بول بريمر دعوته الى انتخابات عامة مباشرة في جميع مناطق العراق ...). وهذا نوع من التهديد العلني لمجلس الحكم العراقي من قبل إيران عن طريق رجال الدين الإيرانيين. وهذا يعني أن الإيرانيين هم الآن يتصرفون بمصير العراق والعراقيين، مستغلين مشاعرهم الدينية وما على أعضاء مجلس الحكم غير التودد والخضوع والاستجابة لهم.
والجدير بالذكر أن الإسلاميين العراقيين الذين لهم امتداد مع إيران هم الذين يلحون بلجاجة على إجراء الانتخابات في الظروف الصاخبة وغياب الأمن والخدمات، اعتقاداً منهم أنهم سيفوزون بالسلطة ويفرضون حكم الشريعة الإسلامية ويجعلون العراق تحت حكم ولاية الفقيه بإمرة المرشد الإيراني علي خامنئي وبذلك سيسحبون البساط من تحت أقدام الأمريكان ويفشلون مخططهم في دمقرطة العراق والمنطقة. والغريب أن السيد السيستاني بوافق على تأجيل الإنتخابات فقط إذا أيد ذلك بقرار من الأمم المتحدة وكأن الذين في نيويورك هم أعرف بظروف العراق منه هو وأعضاء مجلس الحكم وغيرهم من السياسيين الذين يعيشون في العراق.
وأخيراً أود التأكيد، على أن لا ديمقراطية بدون انتخابات ولكن يمكن أن تكون هناك انتخابات بدون ديمقراطية، كما كان في عهد صدام. فالانتحابات لها شروطها مثل إجراء إحصاء السكان وتحديد الدوائر الإنتخابية وتوفير الأمن والخدمات وفسح المجال للأحزاب في بناء تنظيماتها ونشر مبادئها، وإلا ستؤدي هذه الانتخابات في ظروف غير ملائمة إلى إجهاض الديمقراطية وهذا بالضبط ما تريده إيران ومعظم دول الجوار ومعها الإسلاميون العراقيون. لقد حرِّم الشعب العراقي من الإنتخابات النزيهة طوال تاريخه، فما الضير إذا أجريت، كما خطط لها، بعد عام بدلاً من بعد ستة أشهر؟
إن المطالبة بالانتخابات تحت شعار (أن لا حكم إلا للشعب) في الظروف الراهنة تشبه مطالبة الخوارج الذين رفعوا المصاحف وهم يصرخون (لا حكم إلا لله). والآن تخرج المظاهرات في بغداد والبصرة  والمدن العراقية الأخرى وهي رافعة صور السيستاني والخميني، مطالبة بالإنتخابات, فما أشبه البوم بالبارحة وكما قال الإمام علي (ع): (قول حق أريد به باطل).

 

 

 

 

 

هل الانتخابات ممكنة الآن في العراق ؟

د. عبدالخالق حسين

يدور سجال محتدم بين العراقيين منذ أشهر حول تشكيل الحكومة القادمة التي ستحل محل مجلس الحكم وتستلم السيادة من قوات التحالف في بداية شهر تموز القادم وفق الاتفاق المبرم بين مجلس الحكم الانتقالي والإدارة المدنية لقوات التحالف في 15 تشرين الثاني(نوفمبر) الماضي. والسجال يدور حول، هل ستشكل الحكومة الجديدة عن طريق انتخابات عامة مباشرة أوانتخابات غير مباشرة من قبل لجان تراتبية في المحافظات والبلديات في أنحاء القطر على شكل مراحل.

وانقسم العراقيون إلى فريقين: فريق يدعو إلى انتخابات مباشرة، ويتزعمه رجل الدين الشيعي آية الله السيد علي السيستاني ويؤيده في ذلك جميع الأحزاب الإسلامية الشيعية وعدد قليل من الشيعة الديمقراطيين. وسبب دعوة الأحزاب الشيعية للإنتخابات المبكرة هو اعتقادهم بأن يمكن الاستفادة من حمى المشاعر الدينية العالية في أوساط الشيعة بعد سقوط النظام الفاشي، طالما يسيطرون على الشارع في المناطق الشيعية، خاصة وأنهم يشكلون الأغلبية. فالانتخابات، في هذه الحالة، ستوفر لهم الفرصة الذهبية لاستلام السلطة وإقامة نظام إسلامي في العراق عن طريق الانتخابات وعندها لا يستطيع أحد أن يعترض عليهم في تطبيق حكم الشريعة وسيسيطرون على الحكم و يوجهون المجتمع بالشكل الذي يريدون، كما الحال في إيران.

أما الفريق الثاني الذي يدعو إلى إرجاء الانتخابات وعدم إجرائها قبل نهاية حزيران (يونيو) القادم، فيتألف من جميع السنة العرب والأكراد والتركمان والكلدو-آشوريين ومعظم الشيعة العلمانيين الديمقراطيين, ويعتقد هؤلاء أنه لا يمكن إجراء الانتخابات في ظل الظروف الراهنة التي يمر بها العراق حيث غياب الأمن وتفشي الفوضى والإرهاب وحوادث القتل والانفجارات اليومية. فالحدود مازالت مفتوحة أمام تدفق الإرهابيين الأجانب والناس يعيشون في حالة رعب متواصل. كذلك هناك أسباب فنية مهمة منها: عدم توفر سجلات بأسماء الناخبين وتحديد الدوائر الانتخابية. كذلك الأحزاب السياسية العلمانية والإسلاموية السنية مازالت في مرحلة التشكل ولم يتاح لها الوقت الكافي لنشر مناهجها وتشكيل فروعها في المدن والحواضر. بينما أحزاب التيار الإسلاموي الشيعي يسيطرون على المساجد والحسينيات ويسيرون المظاهرات وحتى عندهم مليشياتهم المسلحة في توجيه الجماهير بالوجهة التي يريدونها و مدوا سيطرتهم حتى على المدارس والجامعات والمعاهد مستفيدين من غياب الأمن. كما راحوا يرعبون بعض الأحزاب العلمانية، فقاموا بتفجير مقر الحزب الشيوعي في بغداد الجديدة في الشهر الماضي وقتل اثنين من أعضائه، كذلك أرغموا الحزب المذكور على غلق فرعه في مدينة كربلاء بالقوة.
 
أما سبب تأييد بعض العلمانيين الديمقراطيين من الشيعة للانتخابات المبكرة، فإنهم، كما قال السيد نصير الجادرحي عضو مجلس الحكم وزعيم الحزب الوطني الديمقراطي: «... ينطلقون من وجهة نظر سياسية ودينية بحتة، خاصة بعد ان تحول اقتراح السيستاني الى فتوى دينية، ... وان هؤلاء البعض اتبع السيستاني خوفا من ارهاب الشارع». (الشرق الأوسط، 13/2/2004).

دور الأمم المتحدة:
وفي خضم هذا الصراع بين المؤيدين والمعارضين للانتخابات، طلب آية الله السيستاني من الأمم المتحدة إرسال وفد لها لتقدير الوضع الأمني في العراق والحكم فيما إذا كان ملائماً للانتخابات أم لا. وفعلاً استجاب السيد كوفي عنان، الأمين العام للأمم المتحدة فأرسل وفداً برئاسة السيد الأخضر الإبراهيمي قبل أيام والتقى بالسيد السيستاني وبمجلس الحكم وبمختلف الأطراف العراقية. وصرح السيد الإبراهيمي بعد تلك اللقاءات إلى وكالات الأنباء فأعلن اتفاقه مع السيستاني على إجراء الانتخابات ولكن بعد «تحضير جيد لها». وهذا يعني أن عامل الأمن ضروري جداً لهذه الانتخابات. وردد السيد كوفي عنان ما قاله السيد الإبراهيمي، بأنه لا يمكن إجراء الإنتخابات ما لم تتوفر لها شروطها. والسؤال هو: هل سيقتنع الداعون للانتخابات بحكم الإبراهيمي أم سيطعنون به لأنه جاء مختلفاً مع ما كانوا يتمنون؟

الديمقراطية والانتخابات:
نعم، لا يمكن أن تكون هناك ديمقراطية في أي بلد بدون انتخابات, ولكن صحيح أيضاً أنه يمكن إجراء انتخابات بدون ديمقراطية، كما كان يجري في الدول الشيوعية وحتى في العراق في عهد نظام صدام حسين وكذلك الحال في جمهورية إيران الإسلامية. كذلك من المفيد القول أن الذين يدعون إلى إرجاء الانتخابات هم ليسوا ضدها، ولا يريدون نظاماً ديكتاتورياً كما يزعم البعض، بل يرون أن الظروف التي يمر بها العراقية غير مواتية لها في الوقت الحاضر.
فلأجل إجراء انتخابات حرة وعادلة، يجب توفر الشروط اللازمة لإنجاحها. وأهم هذه الشروط هي الأمن وسجلات الناخبين وتحديد الدوائر الانتخابية وفسح المجال أمام الأحزاب السياسية لتنظيم نفسها وتعريف مرشحيها وبرامجها الانتخابية للشعب كما ذكرنا آنفاً. لذلك، اعتقد أن الوضع الذي يمر به العراق لا يسمح بذلك في الوقت الحاضر.
أما إذا أجريت الانتخابات وفشلت في تحقيق الحد الأدنى من النجاح، فسيكون الفشل ضربة قاصمة للديمقراطية ذاتها وهي  مازالت في المهد. لذا فالذين يدعون للانتخابات على عجل دون التفكير بالمخاطر، فإنهم يخططون لوأد الديمقراطية، سواءً عن قصد أو بدونه. وهذا يقدم خدمة لا تثمن إلى أعداء الديمقراطية، ليس في العراق فحسب بل وفي المنطقة كلها.
وبالمناسبة، فإن الحكومة البريطانية قد أرجأت الانتخابات البرلمانية الأخيرة عام 2002 لعدة أشهر، لا لغياب الأمن ولا الخوف من الإرهابيين ولا لوجود الفوضى في البلاد وعدم توفر الخدمات، بل بسبب تفشي وباء الحمى القلاعية بين الأغنام في تلك الفترة. فإذا كان هذا هو الموقف من الانتخابات في بلاد تعتبر قلعة الديمقراطية الحديثة وأجلت الحكومة الإنتخابات فيها بسبب الحمى القلاعية بين الأغنام، فماذا نقول نحن عن الوضع الهش في العراق الذي صار ساحة للحرب ضد الإرهاب العالمي حيث القتل وأعمال التخريب والفوضى ونقص الخدمات وغياب الأمن والاستقرار السياسي.
والسؤال الذي يفرض نفسه هو: لماذا هذه العجلة للانتخابات، خاصة وأن العراق لم ير طوال تاريخه انتخابات عادلة، ناهيك عن انتخابات حقيقية، فلماذا كل هذا الإستعجال الآن؟ صبرنا كل هذه القرون بدون انتخابات حقيقية عادلة، ألا يمكن الانتظار لعدة أشهر أخرى إلى أن يتعافى العراق من جراحه وتتوفر فيه الظروف الملائمة وعندها يمكن إجراء الانتخابات بسلام ونجاح.
إن الإدعاء بأن الذين لا يريدون الانتخابات الآن يخططون بإبدال ديكتاتورية البعث بديكتاتورية أخرى، كلام غير صحيح القصد منه إثارة مخاوف لا أساس لها من الصحة. فالأمريكان عندما جازفوا بجنودهم وأموالهم وسمعتهم السياسية باحتلال العراق وقبلوا بالمخاطر، كان في مخططهم إعادة ترتيب النظام الدولي الجديد وفق متطلبات العولمة التي شاءت الأقدار أن تقودها الولايات المتحدة, وهذه تتطلب دمقرطة المنطقة والعالم. وبسبب وجود نظام دموي إرهابي في العراق، كان من نصيب العراق أن تبدأ منه عملية دمقرطة العالم كله. فالعملية الديمقراطية في العراق مسألة لا رجعة عنها مطلقاً. أما الذين يتعلقون بأهداب مسألة واحدة من الديمقراطية وهي الانتخابات فقط فإنهم يخططون لوأد الديمقراطية من أجل قيام نظام إسلامي شمولي باسم الانتخابات. فلا يمكن الجمع بين الديمقراطية والآيديولوجية الشمولية. وكما قال الأخضر الإبراهيمي، الانتخابات ضرورية ولكن بعد التحضير الجيد لها.
13/2/2004
عبدالخالق حسي

 


ميثاق الشرف الأعظم العراقي
Magna Carta

د.عبدالخالق حسين

كان التوقيع على قانون إدارة الدولة (الدستور المؤقت) من قبل جميع أعضاء مجلس الحكم الانتقالي يوم 8 آذار/مارس من هذا الشهر بمثابة تدشين مرحلة تاريخية جديدة ومهمة جداً في تاريخ الدولة العراقية لتحقيق الحداثة والديمقراطية وحكم القانون. فلأول مرة يتم فيها معاملة جميع العراقيين بالتساوي في المواطنة والوطنية أي في الحقوق والواجبات.

نعم كانت ولادة عسيرة وذلك بسبب تعقيدات الوضع العراقي بعد قرون من المظالم التي بلغت ذروتها في عهد الطاغية المهووس صدام حسين، وضخامة التغيير والتحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتاريخية التي تجري في العراق منذ التاسع من نيسان 2003 المجيد. إنها ولادة عسيرة لذلك دعت إلى إجراء عملية قيصرية لإخراج الوليد الجميل بسلام على يد قوات التحالف الدولي بقيادة أمريكا، الدولة العظمى. ومهما حاول خصوم العراق إنكار الإيجابيات وتضخيم السلبيات التي لا بد منها في هذا المنعطف التاريخي الكبير، ورغم الصعوبات التي يواجهها المخلصون للقضية العراقية، إلا إن مسيرة بناء الدولة العراقية الجديدة مستمرة وبخطى ثابتة ومتزنة. ولعل النجاح المتواصل الذي تحقق رغم العراقيل والصعاب، هو السبب الأساسي لهذه الحملة الجنونية المعادية للعراق من قبل الأقرباء والأجانب من قوى الظلام والهمجية، لعرقلة تقدمه في تحقيق الديمقراطية والاستقرار والازدهار. فالعراق مقدم ليكون مشعلاً لنشر نور الحداثة والحضارة والديمقراطية في المنطقة وليست هناك أية قوة مهما بلغت من الهمجية تستطيع إيقاف هذه المسيرة الحضارية المضفرة.

إن هذا القانون، رغم كونه مؤقت، إلا إنه يمثل الحجر الأساس للدستور الدائم الذي لا أتوقع أن يختلف كثيراً عما جاء في بنوده وبذلك فهو بمثابة ميثاق الشرف الأعظم العراقي ( Magna Carta). ولهذا السبب فقد نال التوقيع عليه اهتماماً بليغاً، وطنياً وعربياً ودولياً ما لم ينله إصدار أي قانون في هذه المنطقة منذ فجر التاريخ. وهذا الاهتمام ليس من باب الصدفة أو من أجل تشجيع المشاركين في حكم العراق على مواصلة السير حثيثاً في بناء العراق وترك خلافاتهم الثانوية جانباً، بل له دلالة حضارية وتاريخية كبيرة.

هذا القانون مهم تاريخياً وحضارياً لأنه لم يكتب من قبل شخص واحد وفي يوم واحد ولم يصدر باسم زعيم واحد، بل كان حصيلة خبرة وطنية تاريخية تراكمت عبر عشرات السنين، شاركت في صياغته مجموعة من خبراء القانون من أبناء الرافدين، مهد الحضارات، موطن أول شريعة مدونة في التاريخ، وبعد مناقشات ومداولات مضنية وصريحة وديمقراطية لمدة ثلاثة أشهر، إلى أن ولد عبر إرهاصات مخاض عسير في اليوم الثامن من مارس(آذار) 2004، والذي يعتبر بحق يوماً تاريخياً مجيداً يضاف إلى أمجاد العراق الجديد. لقد صدر هذا القانون وعيون العالم كلها تصبو نحو بغداد وما سيتمخض عنه في حفل التوقيع، وهذا يعني أن ولادة هذا القانون ليست بالحدث الاعتيادي، لذلك نهنئ شعبنا وكل المخلصين ممن ساهموا في كتابته وصياغته بشكله النهائي. كما نشكر حلفاءنا الأمريكان والبريطانيين في دعمهم اللامحدود الذي قدموه ومازالوا للعراق وشعبه الأبي. فنحن لسنا بشعب جحود، كما يحاول بعض المنحرفين من فلول النظام الساقط إعطاء هذا الانطباع عنا بما يقومون به من جرائم ضد حلفائنا وقتل أبناء شعبنا، بل نقدر عالياً بالشكر والامتنان لكل من يقدم لنا يد المساعدة.

كما وتنبع أهمية هذا القانون مما رافقته من سجالات ومجادلات واسعة في وسائل الإعلام الوطنية والعربية والدولية وبمشاركة كافة قطاعات شعبنا، والتي كانت بمثابة حملة تثقيفية شعبية واسعة ساهمت في رفع الوعي السياسي والديمقراطي في صفوف الجماهير الشعبية في العراق بعد أربعة عقود من الحكم الشمولي الذي مارس أبشع أنواع القمع والكبت والقهر والاستلاب ونشر الجهل. فالمجتمع الناهض يحتاج إلى تحريك الساحة الفكرية والسياسية لإيقاظه ومشاركته في الجدل.

ونتيجة للمظالم وسياسة تهميش التي مارستها الحكومات الشمولية ضد مختلف القوميات والأديان والمذاهب خلال عهود، تولدت المخاوف وأزمة الثقة بين مختلف مكونات شعبنا من بعضها البعض. لذلك وضعت لجنة صياغة القانون الفقرة (ج) من المادة 61 والتي تقول «يكون الاستفتاء العام ناجحا ومسودة الدستور مصادقا عليها، عند موافقة أكثرية الناخبين في العراق، وإذا لم يرفضها ثلثا الناخبين في ثلاث محافظات او اكثر»، الفقرة التي أثارت تحفظات مشروعة لدى عدد من أعضاء المجلس، ولكن نعتقد أن هذه المخاوف ستزول مع الزمن بعد أن تهدأ الأحوال وتعاد الثقة إلى النفوس. لقد وضعت هذه الفقرة لضمان حقوق الأقلية. فصحيح أن الديمقراطية تعني حكم الأكثرية ولكن تعني أيضاً حماية حقوق الأقلية ولكي لا يصبح حكم الأكثرية ديكتاتورية منتخبة.

هذا القانون مهم، لأنه يختلف عن القوانين الأساسية أو الدساتير السابقة، ليس لأنه ساوى لأول مرة بين جميع أبناء الشعب دون أي تمييز بين القوميات والديانات والمذاهب فحسب، بل لأنه كتب لينفذ بحذافيره، إذ ليست العبرة في إصدار القوانين مهما كانت جيدة فحسب، بل العبرة في تنفيذها وعدم تركها على الرفوف العالية كما كان يحصل في العهود السابقة. وهكذا تنبع أهمية هذا القانون من كونه صدر لينفذ، لأن الشعب العراقي، بكل مكوناته، القومية والدينية والمذهبية، وكل العالم شهود ورقباء على السلطة في تنفيذه. إنها بحق، مرحلة حكم الشعب، مرحلة الديمقراطية الحقيقية وليس بإمكان أحد أن يتلاعب به وتحت أية مبررات.

يمتاز هذا الدستور عن كل الدساتير السابقة وفي العالم وبالأخص في المنطقة العربية والإسلامية لأنه لأول مرة يرد الاعتبار للمرأة العراقية ويضع لها حصة (كوتا) 25% من المقاعد في البرلمان القادم. وهذه النسبة هي الحد الأدنى الذي لا يجوز التخلي عنه. والنسبة هذه كبداية للعمل بالنهوض بدور المرأة وفسح المجال أمامها للمشاركة في الحياة العامة. ويا للصدفة الجميلة، صادف التصديق على هذا الميثاق في يوم المرأة العالمي. فتهانينا للمرأة العراقية في عيدها السعيد وما حققته من حقوق عبر نضالها العسير.

وكما جاء في بيان الرئيس بوش يهنىء به مجلس الحكم الانتقالي والشعب العراقي بتوقيع هذا القانون ان الوثيقة "تشكل مرحلة مهمة نحو إقامة حكومة ذات سيادة في 30 حزيران/يونيو"، الموعد المحدد لنقل السلطة الى العراقيين من سلطة الائتلاف الموقتة. وأنه ".... خطوة تاريخية في الرحلة الطويلة للشعب العراقي تنقله من الطغيان والعنف الى الحرية والسلام. حتى وان كان لا يزال هناك عمل صعب من اجل تحقيق الديموقراطية في العراق، فان التوقيع اليوم هو خطوة مهمة في هذا الاتجاه". وأنه "يضمن الحريات والحقوق الأساسية للعراقيين بمعزل عن جنسهم وديانتهم وانتمائهم الاتني بما في ذلك حرية العبادة والتعبير والتجميع والحق بعدالة منصفة وحق اختيار ممثليهم بحرية".

إن تنفيذ بنود هذا القانون شبه مضمون لأن في العراق الآن صحافة حرة وهناك حرية النشر والتعبير، وتحرير الشعب بعد أربعين عاماً من الحكم القومي الشمولي، لا يمكن أن يتخلى عن حريته التي نالها بعد سقوط الأصنام البعثية يوم 9 نيسان، 2003 الأغر.

لهذا الأسباب، وغيرها كثير، تنبع أهمية هذا القانون الذي اعتبره بحق: ميثاق الشرف الأعظم.

 

 

من وراء مجزرة مدريد ولماذا ؟؟

د.عبدالخالق حسين

مجزرة مدريد يوم 11 مارس (آذار) البشعة التي أدانتها البشرية في كل مكان، هي حرب بين البربرية والحضارة. لقد راح ضحية هذه الجريمة 199 قتيلاً و1400 جريحاً ويشبهها الأسبان بحق، بجرمية 11 سبتمبر 2001 في أمريكا وهي تشبه أيضاً مجزرة كربلاء والكاظمية يوم عاشوراء. هذه الجرائم الثلاث تشترك بصفات عديدة وهي: دقة التنظيم والتنسيق وحصولها في عدة أماكن في آن واحد وعدم الاهتمام بحياة الإنسان، ومحاولة قتل أكبر عدد ممكن من البشر وإلحاق أشد الأضرار بالممتلكات.

هناك عدة أسئلة تخطر على بال الإنسان، الأول: ما هي اخلاقية وعقلية هذا "الإنسان" الذي يرتكب الجرائم البشعة ضد مدنين أبرياء لا توجد بينه وبينهم أية عداوة ولا حتى معرفة سابقة؟ والسؤال الثاني: من هو وراء مجزرة مدريد، أي منظمة أيتا أو القاعدة؟ والثالث: ما هي الغاية من هذا الإرهاب؟ والسؤال الأخير، هل حقاً إن سبب الإرهاب هو احتلال أمريكا للعراق وأفغانستان كما يدعي البعض؟

عقلية واخلاقية الإرهابي
وجواباً على السؤال الأول أقول إن هذا الإنسان الإرهابي لا بد وقد تعرض إلى عملية غسيل دماغ تحت تأثير أفكار شريرة في وقت مبكر من حياته وفي معظم الحالات، شاب غرير فارغ ثقافياً، فتم تحويله إلى وحش كاسر غير أبه بحياة الناس الأبرياء. وهذا يفتح الباب أمام علماء النفس والاجتماع وخبراء الإجرام للبحث في عالم جديد في عقل الإنسان وكم هو من السهل تحويل البعض من الناس إلى حيوانات مفترسة رغم التقدم الحضاري. وهذه ظاهرة خطيرة، تكشف لنا مدى أهمية التربية والتعليم في حياة الإنسان منذ الصغر.
وتوضيحاً لذلك نأخذ السعودية مثالاً. فالمعروف عن هذه المملكة ومنذ تأسيسها أن مناهج التربية والتعليم فيها وفي جميع المراحل، تركز على التعصب الديني وزرع الحقد والكراهية ضد غير المسلمين. وحتى المسلمون لم ينجوا من هذه الكراهية، لأن المسلم الصحيح والحقيقي في نظرهم من كان على مذهبهم الوهابي فقط. وقال مؤسس هذا المذهب، محمد بن عبدالوهاب في أحد كتبه: (أن الفكر والكفر سيان لأنهما من نفس الحروف). وعلى هذا الأساس قسَّمَ بن لادن، العالم إلى (فسطاط إيمان وفسطاط كفر) وفي حالة حرب دائمة. ولذلك فجماعة القاعدة لا يعيرون أي اهتمام بحياة البشر من غير مذهبهم. وعليه فبن لادن وأتباعه في منظمة القاعدة هم نتاج مجتمعاتهم. ولهذا السبب أيضاً، يجب أن لا نستغرب من أن بن لادن يتمتع بشعبية واسعة في السعودية وعدد من بلدان الخليج، حيث كشف استطلاع رأي أن ما يقارب ثلثي الشعب السعودي يتعاطفون مع القاعدة وزعيمها بن لادن. وقد علق أحد الكتاب الغربيين أنه لو جرت في السعودية اليوم انتخابات عادلة ونزيهة لحقق فيها بن لادن فوزاً ساحقاً.
وعملية غسيل الدماغ هذه لا تنفرد بها المنظمات الإرهابية الإسلامية، بل هي تشمل جميع المنظمات الإرهابية الخاضعة لثقافة العنف والتعصب وإلغاء الآخر، الدينية منها والعلمانية على حد سواء. وفي الحالة العلمانية عندنا مثال منظمة أيتا الباسكية التي تطالب بالاستقلال من إسبانيا وفلول حزب البعث العفلقي-الصدامي في العراق حالياً ومنظمة باير ماينهوف الألمانية في الستينات والسبعينات من القرن الماضي وغيرها كثير.

من كان  وراء مجزرة مدريد؟
هناك منظمتان متهمتان بهذه الجريمة، إيتا الإنفاصلية والقاعدة. فقد وجه المسؤولون الأسبان إصبع الاتهام إلى منظمة أيتا أولاً ولكنهم لم يسقطوا احتمال ضلوع القاعدة. والغريب أنه في الوقت الذي أصدر فيه رئيس منظمة أيتا بياناً أنكر فيه ضلوع منظمته بهذه الجريمة، أرسلت القاعدة رسالة إلكترونية إلى صحيفة القدس العربي اللندنية، تؤكد فيها قيام كتائب ( أبوحفص المصري) بهذه العملية، " لتصفية الحساب مع اسبانيا، حليفة أمريكا في حربها على الإسلام" على حد تعبير الرسالة.
هناك عدة احتمالات: القاعدة، أيتا، أو نوع من التحالف والتنسيق بين المنظمتين. في اعتقادي أن الاحتمال الأخير هو الأرجح. إذ يجب أن لا نستبعد حصول نوع من التنسيق بين جماعة القاعدة ومنظمة أيتا في اسبانيا على غرار التنسيق والتحالف بين فروع منظمة القاعدة (أنصار الإسلام وجماعة إبومصعب الزرقاوي) مع فلول النظام الصدامي في العراق. والقاسم المشترك بين هذه المنظمات الإرهابية هو العداء للديمقراطية ولأمريكا وحلفائها.
فهناك بصمات واضحة للقاعدة في مجزرة مدريد التي تشبه إلى حد كبير تلك التي حصلت في كربلاء والكاظمية يوم عاشوراء وهي: إخفاء المتفجرات في حقائب ومزابل وتوزيعها في عدة أماكن وتفجيرها في آن واحد وتميّزها بالدقة وفي أوقات الزحام مثل أماكن عزاء العاشوراء في العراق، ومحطات القطارات في ساعات زدحام الركاب صباحاً في مدريد، لقتل أكبر عدد ممكن من المدنيين الأبرياء ونشر أكبر قدر ممكن من حالة الذعر والهلع بين الناس. لذا فلا يمكن إبعاد ضلوع القاعدة عن هذه الجريمة.

لماذا هذه الجرائم؟
من المعروف أن اللجوء إلى العنف من قبل المنظمات السياسية لدليل واضح على الإفلاس الفكري والسياسي والإخلاقي لهذه المنظمات. بمعنى أنها تدافع عن قضية خاسرة وتستسهل قتل الأبرياء، فلا تستطيع إقناع الناس بالوسائل الديمقراطية المتاحة لها في هذه البلدان التي تمارس فيها العمليات الإرهابية ولا تعترف بالمنطق والحوار السليم من أجل إقناع الآخرين بصحة أو جدوى قضيتها وكسبهم إلى جانبها. لذلك تعمد إلى إرهاب الشعوب وبث الرعب في النفوس بدلاً من تبني الديمقراطية واتخاذ صناديق الاقتراع كوسيلة لتحقيق الأهداف السياسية.

هل سبب الإرهاب احتلال أمريكا للعراق وأفغانستان؟
تحاول القوى اليسارية في الغرب وبدافع من كراهيتها المزمنة لأمريكا، كما ويحاول أنصار صدام حسين من العروبيين والإسلاميين المعادين للديمقراطية والمدمنين على الاستبداد وتمجيد الطغاة، يحاولون تأويل الإرهاب الإسلامي إلى أنه رد فعل على السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط واحتلالها لأفغانستان والعراق وإسقاطها الحكم في هذين البلدين، وذلك كمحاولة منهم لتأليب الشعب الأمريكي ضد إدارة الرئيس جورج بوش ولإثارة مخاوف الشعوب الأوربية التي تحالفت حكوماتها مع أمريكا في حربها ضد الإرهاب من أجل إسقاط هذه الحكومات في الإنتخابات. وهذا ما تفعله المعارضة الأسبانية في حملاتها الانتخابية الآن.
إلا أن هذه الادعاءات لا تصمد أمام أبسط مناقشة منطقية. فقد بدأ إرهاب جماعة القاعدة بقيادة بن لادن ضد أمريكا قبل قيام الأخيرة باحتلال أفغانستان والعراق. لا بل وحتى قبل مجيء جورج بوش الإبن إلى الرئاسة الأمريكية. إذ بدأت العمليات الإرهابية في ضرب السفارات الأمريكية في كينيا وتنزانيا في عهد الرئيس بيل كلنتون والتي راحت ضحيتها المئات من الأبرياء. ومنظمة أيتا تمارس الإرهاب منذ ثلاثين عاماً وفي عشية عيد الميلاد تم إلقاء القبض على اثنين من أعضاء إيتا ومعهما متفجرات واعترفا أنهما أرادا تفجيرها في القطارات. وقبل كارثة 11 سبتمبر، كانت إدارة الرئيس بوش قد عقدت العزم على السياسة الانعزالية وعدم الإهتمام بالخارج للتفرغ إلى الشؤون الداخلية. فكانت جريمة11 سبتمبر هي التي غيرت الموازين والحسابات لدى الإدارة الأمريكية، فغيرت سياستها إلى تركيز معظم اهتمامها وجهودها على السياسة الخارجية. لذلك فكان احتلال أفغانستان والعراق نتيجة للإرهاب وليس السبب كما يدعي هؤلاء.
لذلك، فإذا كنت غاية منظمة أيتا الانفصالية هي تحقيق دولة مستقلة في مقاطعة باسك عن طريق الإرهاب، وغاية فلول صدام تعطيل العملية الديمقراطية في العراق والعودة إلى الوراء إلى حكم الفاشية، فإن غاية منظمة القاعدة هي شن حرب الإرهاب بلا هوادة على أمريكا والدول الديمقراطية الحليفة وغير الحليفة لها لغاية واحدة وهي اعتبار جميع الشعوب غير المسلمة وغير وهابية، يجب محاربتها لأنها شعوب كافرة حسب اعتقادها، إلى أن يتم إسقاط فسطاط الكفر وإقامة دولة فسطاط الإيمان. وهذا هو الإنتحار الجماعي لكل مخدوع من أنصار هذه الجماعات الإرهابية الانتحارية.
قال نابليون بونابرت: "هناك فقط قوتان تتصارعان في العالم، قوة العقل وقوة السيف، وفي النهاية سينتصر العقل على السيف". وفي حالتنا العالمية الراهنة، هناك حرب بين الحضارة والهمجية، وفي نهاية المطاف ستنتصر الديمقراطية الحضارية على همجية الإرهاب. وهذا هو منطق التاريخ.
14/3/2004

 

 

مجزرة الفلوجة... تحمل بصمات رسالة الزرقاوي

د. عبدالخالق حسين

" تمكن نحو 70 مسلحا شنوا هجمات متزامنة صباح يوم 14/2/2004 من الافراج بالقوة عن 75 سجينا.... واعلن مدير مستشفى الفلوجة: «تلقينا 23 جثة بينها 14 لعناصر الشرطة وخمس لمدنيين اضافة الى اربع جثث لمهاجمين و35 جريحا كلهم من الشرطة والمدنيين». وقال الملازم في الشرطة رائد حسين ان «اثنين من القتلى المسلحين يحملان الجنسية اللبنانية» «الشرطة تمكنت من اعتقال مهاجم خامس يدعي انه عراقي».واضاف انه يعتقد أن جميع المهاجمين من الأجانب. كانوا يهتفون «الله اكبر» و«لا اله الا الله». يشار الى ان هذا الهجوم هو الثالث الذي يستهدف مركزا تابعا لقوات الأمن بعد العملية الانتحارية التي استهدفت مركزا للشرطة في الاسكندرية الثلاثاء موقعة 55 قتيلا واخرى مماثلة ضد مركز للتطوع في الجيش الاربعاء في بغداد واسفرت عن مقتل 47 شخصا". (الشرق الأوسط، 15/2/2004). هذه هي خلاصة الأنباء عن مجزرة الفلوجة التي وقعت صباح 14/2/2004.

الدروس التي يمكن استخلاصها من هذه المجزرة:
1- أنها تحمل بصمات منظمة (القاعدة) بكل وضوح وذلك من شراسة الجريمة ودقة التنفيذ والاستعداد للموت من أجل الجنة الموعودة (وحور العين والولدان المخلدون). فأساليب تنفيذ الهجمات تتطابق كلياً مع التوصيات التي وردت في رسالة الزرقاوي•، والتي حصل عليها الأمريكان في مخبأ للقاعدة في بغداد قبل أسبوع والتي جاء فيها: "يجب تحديد ساعة الصفر للسيطرة على الأرض في الليل في البداية ومن ثم إثناء النهار إن شاء الله... يلزم تحديد ساعة الصفر أربعة أشهر قبل تشكيل السلطة الجديدة". فهذا هو الجدول الزمني الذي تحدده الوثيقة. ويبدو أن ساعة الصفر قد بدأت يوم عيد الأضحى (1/2/2004) في الهجوم على  مقري الحزبين الكرديين في أربيل.
2- إن هجمات الفلوجة تعتبر نقلة نوعية في تصعيد أعمال الإرهاب في العراق من مرحلة استخدام  سيارات مفخخة وتفجير أفراد إنتحاريين، إلى حرب العصابات (الغوريلا) في وضح النهار باستخدام الصواريخ وقذائف المورتر والمدافع الرشاشة في الهجوم المنسق باحكام على مقرات للشرطة ومجمعات لقوات الدفاع المدني ومراكز التجنيد والتدريب للقوات العراقية التي تعمل على استقرار العراق. وهذا أيضاً مطابق لما جاء في رسالة الزرقاوي "... للسيطرة على الأرض في الليل في البداية ومن ثم إثناء النهار إن شاء الله..".
3- معظم هذه الجرائم تنفذ على أيدي الأجانب وليس من قبل العراقيين.
4- الغرض من هذه الهجمات هو إطالة مدة الاحتلال وتأخير نقل السلطة والسيادة إلى العراقيين، وخلق الفوضى وعدم الاستقرار في العراق وتحويله إلى صوماليا.
5- منفذو هذه الأعمال الإرهابية يتمتعون بخبرة واسعة في التخطيط والتنفيذ والانضباط والإلتزام بتعليمات قياداتهم. ويمتلكون من التجهيزات ما يفوق تجهيزات وقدرات الشرطة العراقية.
6- أفراد الشرطة العراقية والدفاع المدني مازالوا مستهينين بقدرات العدو ويقللون من المخاطر التي تحيق بهم بدليل أنهم لم يتخذوا الإجراءات اللازمة والكافية حتى لحماية أنفسهم من شن هجمات العدو. إذ قال أحدهم "أنهم أخذوا على حين غرة بحيث لم يتمكنوا من تناول أسلحتهم لمواجهة العدو فاختبأوا في غرفهم" . لذا فهم مازالوا حتى دون مرحلة الدفاع ناهيك عن مرحلة المبادرة في الهجوم على العدو.
7- وخلافاً لمطالبة البعض بوجوب مغادرة قوات التحالف للمدن، بحجة أن وجودها يستفز مشاعر السكان ويزيد في أعمال الإرهاب، نرى من الضروري استمرار تواجد هذه قوات داخل المدن وخاصة في المناطق التي تتصاعد فيها أعمال العنف إلى أن تمتلك الشرطة العراقية القدرة الكافية للقيام بواجباتها على أفضل وجه. فما أسرع هذا البعض في إلقاء اللوم على قوات الحالف في حالة وقوع أي عمل إرهابي ولكنهم في نفس الوقت يطالبونهم بمغادرة المدن وحتى البلاد فوراً.
8- يجب تزويد الشرطة ورجال الأمن وكافة منتسبي القوات المسلحة العراقية بالتجهيزات الحديثة لمواجهة الإرهابيين بفعالية.
9- إن مسؤولية الأمن وإلحاق الهزيمة بالإرهابيين لم تقع على عاتق قوات التحالف والشرطة العراقية وحدها، بل هي مسؤولية الجميع وخاصة القوى والأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني ورجال الدين والجماهير الشعبية.
10- وأخيراً، إن ضخامة واستمرارية الهجمات الإرهابية تكشف بوضوح التنسيق والتحالف غير المقدس بين مختلف الجهات المعادية للعراق الجديد، مثل إيران وسوريا والسعودية والقاعدة وفلول البعث وغيرهم من أعداء الديمقراطية، يرومون من ذلك زعزعة الوضع في العراق وحرمان شعبه من التمتع بالأمن والاستقرار وبناء عراق حر ديمقراطي موحد ومزدهر، ومن أجل إلحاق الهزيمة بأمريكا كما يحلمون ولكن هيهات.

 



#عبدالخالق_حسين (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مراجعة بعد عام على حرب تحرير العراق
- التداعيات المحتملة لجريمة اغتيال الشيخ ياسين
- نعم للمصالحة والمسامحة والاجتثاث!
- هل إلغاء قانون الأحوال الشخصية أول الغيث... يا مجلس الحكم؟
- رسالة إلى آية الله السيستاني حول قتل المسيحيين في العراق
- حل الجيش العراقي... ضرر أم ضرورة؟
- حول تصريحات السيد الحكيم بشأن تعويضات إيران من العراق
- عذق البلح - وعقلية أيتام صدام التآمرية
- سقوط صدام... سقوط آيديولوجية القومية العربية
- تهنئة لشعبنا العراقي العظيم
- تهنئة حارة وباقة ورد للحوار المتمدن
- لماذا يخاف العرب من الشيعة والديمقراطية في العراق؟
- لا للملشيات الحزبية في العراق
- الانتخابات تحت سيف الإرهاب وسيلة لإجهاض الديمقراطية
- العرب والسياسة
- العراق غير قادر على دفع الديون والتعويضات؟
- فرنسا تسعى لعودة حكم البعث للعراق
- مجلس الحكم ضحية لنجاحاته
- حزب البعث والإرهاب
- إرهابيون في بلادهم... مقاومون في العراق!!


المزيد.....




- انتشر بسرعة عبر نظام التهوية.. لحظة إنقاذ كلاب من منتجع للحي ...
- بيان للجيش الإسرائيلي عن تقارير تنفيذه إعدامات ميدانية واكتش ...
- المغرب.. شخص يهدد بحرق جسده بعد تسلقه عمودا كهربائيا
- أبو عبيدة: إسرائيل تحاول إيهام العالم بأنها قضت على كل فصائل ...
- 16 قتيلا على الأقل و28 مفقودا إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة ...
- الأسد يصدر قانونا بشأن وزارة الإعلام السورية
- هل ترسم الصواريخ الإيرانية ومسيرات الرد الإسرائيلي قواعد اشت ...
- استقالة حاليفا.. كرة ثلج تتدحرج في الجيش الإسرائيلي
- تساؤلات بشأن عمل جهاز الخدمة السرية.. ماذا سيحدث لو تم سجن ت ...
- بعد تقارير عن نقله.. قطر تعلن موقفها من بقاء مكتب حماس في ال ...


المزيد.....

- الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات / صباح كنجي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل ... / الحزب الشيوعي العراقي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو ... / الحزب الشيوعي العراقي
- المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت ... / ثامر عباس
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11 / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3 / كاظم حبيب


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - عبدالخالق حسين - مجموعة مقالات