كاظم حبيب
(Kadhim Habib)
الحوار المتمدن-العدد: 782 - 2004 / 3 / 23 - 08:06
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
في الثامن من آذار عام 2004 جرى توقيع جميع أعضاء أو ممثلي القوى السياسية الممثلة في مجلس الحكم الانتقالي على وثيقة تاريخية تعتبر بمثابة الخطوط العامة الأساسية للدستور العراقي القادم. وهي خطوة ذات مضمون ديمقراطي واتجاه عقلاني في التفاعل في ما بين الأفكار والآراء السياسية والمواقف المختلفة, كما أنها تعبر عن مساومة مقبولة ومطلوبة تساعد في الوصول إلى اتفاق حول القضايا المختلف عليها في العراق وفق التعددية في بنيته القومية والدينية والمذهبية والفكرية والسياسية الراهنة, رغم ما يعتري هذا القانون من خلل جدي وفق رويتي الشخصية. ومع ذلك يمكن ويفترض اعتباره خطوة مهمة وكبيرة نحو الأمام, رغم عدم توفر مستلزمات تنفيذ جملة من مضامينه حالياً, إذ أنه أبعد بكثير من مستوى تطور الوعي الاجتماعي والسياسي لعراق اليوم, وفي بعضها الآخر أكثر تخلفاً مما يفترض أن يكون عليه في العصر الذي نعيش فيه. إن هاتين الحالتين ناجمتان عن انقطاع حضاري عاش فيه الشعب العراقي طيلة العقود الثلاثة الأخيرة من حكم البعث الاستبدادي. ولا شك في أن هذه الوثيقة لو وضعت من أي طرف من الأطراف المشاركة في الحوار على انفراد, لجاءت بصيغة أخرى تعبر عن رؤية فكرية وسياسية ومصالح هذا الطرف فقط, لكنها كانت سترفض من بقية الأطراف. وهو أمر بالغ الدلالة على الوضع الراهن والجديد في العراق الذي يفترض التعايش معه والقبول بالمساومة المعقولة والسعي لتطوير الوضع باتجاه تعميق الديمقراطية وممارسة حقوق الإنسان وحقوق القوميات والعدالة الاجتماعية في المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والبيئية والعلاقات الخارجية.
وبعيداً عن أجواء المساومات المقبولة, يفترض أن أشير إلى وجود ثغرات جدية ونواقص فاتت المشرع, ربما بسبب العجالة التي رافقت وضع الوثيقة أولاً, أو بسبب عدم الاتفاق بشأنها لعمق التباين في المواقف والمصالح ثانياً. وتبرز تلك الثغرات في مجالين أساسيين هما المجال الاقتصادي والمجال الاجتماعي, وفي الصياغات التشريعية للقانون, بما في ذلك وجود صياغات تعتبر حمالة أوجه وهي قابلة لأكثر من تفسير, وأحاول هنا بلورة رأيي بشأن القانون المؤقت لأغراض الحوار ومتابعة الحوارات الجارية في الوطن. والسؤال الذي يفترض الإجابة عنه هو: أين تكمن أهمية هذه الوثيقة؟ تكمن في تصوري في كونها محاول جادة للتعامل مع الحداثة, رغم أنها لم تستطع الفكاك من الماضي. وهي نتاج صراع شديد الحساسية والفاعلية. وهي لم تأت عبثاً بل بفعل نضال الشعب العراقي الطويل والمرير وتجاربه الغزيرة والدروس التي استخلصها من العقود الثمانية ونيف التي مرت على تشكيل الدولة العراقية الحديثة في عهديها الملكي والجمهوري, ولكنها ليست بعيدة عن تأثير الفكر والحضارة الإنسانية المعاصرة, رغم النصوص التي تعبر أو ترغب في شد العراق إلى الماضي الذي لا رجعة فيه.
تكمن أهمية هذه الوثيقة المؤقتة في النقاط التالية, رغم أنها لم تحظ بالاستفتاء عليها من قبل الشعب العراقي ولم توضع من قبل هيئة منتخبة من الشعب العراقي, ولكنها وضعت من قبل قوى سياسية عراقية يمكن أن تمثل وبهذا القدر أو ذاك أوساطاً واسعة من بنات وأبناء العراق بمختلف انتماءاتهم القومية وعقائدهم الدينية والمذهبية واتجاهاتهم الفلسفية أو الفكرية وأرائهم السياسية, كما أنها حصيلة لوضع استثنائي يمر به العراق تسببت به الدكتاتورية الغاشمة:
أولاً: إنها وثيقة ذات رؤية عملية لواقع العراق الراهن من النواحي السياسية والاجتماعية والثقافية, من جهة وطموحة لتغيير هذا الواقع البائس من جهة أخرى, ولكنها في الوقت نفسه خجولة من التزام ما تفترضه حاجة العراق وفق تركيبته القومية والدينية والمذهبية المعروفة.
ثانياً: وهي تعبير عن مساومة كبيرة بين أطراف مختلفة من النواحي الفكرية والسياسية ومتباينة في المصالح والمواقف والآراء السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية.
ثالثاً: وتؤكد الوثيقة أن العراق جمهورية ديمقراطية اتحادية تستند إلى دستور مدني ديمقراطي وإلى التعددية السياسية وترفض الاستبداد والهيمنة وتقر مبدأ الفصل بين السلطات الثلاث.
رابعاً: وهي وثيقة ذات مضمون ديمقراطي إنساني عام تحترم حقوق الإنسان وحقوق المواطنة والحقوق الشخصية, وتضمن له كرامته وحقه في الحياة والتعبير والتنظيم والتظاهر والإضراب والانتقال والتعددية السياسية والمهنية ... الخ, أي تضمن له حقوقه السياسية والاقتصادية والثقافية وفق ما جاءت به لائحة حقوق الإنسان والمواثيق والعهود الدولية الملحقة بها.
خامساً: وترفض الوثيقة جميع أساليب الحكم الاستبدادي, سواء أكان بعدم احترام إرادة الشعب أم اتخاذ قرارات بعيداً عنه وزجه بحروب مميتة أم تعريض الناس إلى التعذيب الجسدي والنفسي أم إلى مصادرة الأموال المنقولة وغير المنقولة أم لأي سبب آخر, كما ترفض إسقاط الجنسية عن المواطنة والمواطن في العراق لأي سبب كان, فالمواطنة حق ثابت لا يجوز انتزاعه بأي حال.
سادساً: وهي وثيقة تعترف بتعدد القوميات في العراق وبحقوقها المشروعة وتضمن في الوقت نفسه الحقوق القومية للشعبين العربي والكردي وحقوق القوميات الأخرى في العراق الديمقراطي المنشود.
سابعاً: وتأخذ الوثيقة بمبدأ اللامركزية في الحكم على مستوى الدولة والاتحادية والمحافظات والأقضية والنواحي.
ثامناً: كما أن الوثيقة تعترف ولأول مرة بأن اللغتين العربية والكردية هما لغتان رسميتان في التعامل الرسمي في البلاد, إضافة إلى إمكانية استخدام اللغات الأخرى في التعليم في بعض مناطق العراق حيث توجد قوميات أخرى مثل اللغة التركية واللغة السريانية.
تاسعاً: ويرتكب المشرع خطأ فادحاً بربطه بيم الدين والدولة من خلال اعتبار الإسلام دين الدولة الرسمي, إذ أنها بذلك قد تجاوزت على مبدأ المجتمع المدني العِلماني, رغم تأكيده احترام جميع الأديان والمذاهب وحقها في ممارسة شعائرها وطقوسها ومراسيمها بكل حرية. وتؤكد أن القوانين التي توضع يفترض أن لا تتعارض مع الديمقراطية واللوائح الدولية الخاصة بحقوق الإنسان. إن مبدأ فصل الدين عن الدولة لم يتحقق في هذا القانون المؤقت وهي إشكالية سيعاني المجتمع منها لاحقاً.
عاشراًً: وتكرس الوثيقة خمس مسائل جوهرية في مجال القوات المسلحة, وهي
• أن تكون وزارة الدفاع بيد المدنيين؛
• عدم ترشيح العسكريين لمراكز المسؤولية في الدولة والمجتمع وإلى المجلس الوطني؛
• أن تكون مهمته القوات المسلحة حصراً الدفاع عن الحدود الخارجية للعراق؛
• أن يحرم امتلاك القوات المسلحة لأسلحة الدمار الشامل أو أسلحة ذات مهمات هجومية؛
• وأن تربى وتثقف بروح الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان وإرادة الشعب ومؤسساته الدستورية الديمقراطية والتربية بحقوق القوميات والصداقة مع شعوب العالم.
أحد عشر: وتتضمن الوثيقة تشكيل محكمة دستورية عليا تأخذ على عاتقها فض النزاعات حول الخلافات التشريعية, سواء أكانت بين السلطة التنفيذية والسلطات الأخرى أم بين المواطنين والسلطة التنفيذية أو الجهات الأخرى أو مع المجلس الوطني ...الخ.
اثنا عشر: ويحتوي القانون على موقف سليم من الذين تضرروا من النظام السابق على امتداد الفترات السابقة وسبل تعويضهم ورفع الحيف عنهم واستعادة حقوقهم كاملة.
ثلاث عشر: وتضمنت الوثيقة استجابة جزئية لحق المرأة في احتلال 25 % من مقاعد المجلس الوطني, في حين أن نسبتها إلى مجموع السكان تزيد عن النصف. ومن الضروري أن يتطور هذا النص لصالح زيادة نسبة النساء لا في المجلس الوطني فحسب, بل في الاتحادية ومجالس المحافظات والأقضية وفي الوظائف الأساسية في الدولة.
أربع عشر: وينص القانون على احترام الملكية الشخصية والملكية الخاصة ولكنه يشير إلى اهمية ضمان العدالة الاجتماعية بشكل عام.
خمس عشر: تضمن القانون في المادة 61 فقرة ج تصوراً حول موقف الأقلية في التشريع الدستوري. وقد نص أن الدستور يمكن رفضه في حالة اعتراض نسبة قدرها ثلثي من لهم حق التصويت من سكان ثلاث محافظات عراقية. وهذا الأمر بالغ الأهمية في المرحلة الراهنة التي يمر بها العراق. فهي تمس الشعب الكردي والسكان من أتباع المذهب السني أو حتى السكان من أتباع المذهب الشيعي, خاصة وأن الديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق القوميات ما تزال غير مؤصلة وغير مستوعبة في الحياة السياسية والاجتماعية العراقية وفي الوعي العراقي الجمعي. فهي صمام أمان نسبي ومرحلي من أجل احترام رأي القوميات الأخرى في العراق, ولكنه في الوقت نفسه لرفض أي محاولة لفرض اتجاهات مذهبية معينة على المجتمع. وفي حالة الانتهاء من وضع الدستور بشكله النهائي وإقراره من المجتمع بأسره عند ذاك تصبح هذه الفقرة غير ضرورية في كل الأحوال.
وهناك فقرات مصاغة بصورة غير متينة وحمالة أوجه عديدة بحيث يمكن تفسيرها باتجاهات مختلفة. نورد مثالاً واحداً على هذا الموقف: يشير القانون إلى عدم تشريع أي قانون يتعارض مع الثوابت في الإسلام, أي التي تجمع عليها كل المذاهب, ولكنه في الوقت نفسه يشير إلى ضرورة عدم تعارض ذلك مع الديمقراطية وما ورد في الباب الثاني من القانون, أي تلك المواد التي ترتبط بحقوق الإنسان. وهي جملة اعتراضية مهمة طبعاً ولكنها تصطدم بالجملة التي سبقتها. وهنا ترد أكثر من قضية, بما في ذلك حقوق المرأة, التي يمكن أن تتناقض مع حقوق الإنسان ولكن تقبل بها الثوابت الإسلامية مثل الزواج بأربع نساء.
المشكلات التي تواجه المجتمع في المرحلة الراهنة تبرز فيما يلي:
1. استمرار العمليات الإرهابية والقتل المتعمد للناس في مختلف أنحاء العراق وغياب الاستقرار والأمن والاطمئنان لدى الشعب.
2. تأخر عملية إعادة إعمار البلاد بسبب الإرهاب والاستراتيجية الأمريكية في العراق والمنطقة وبفعل المواقف التي تتخذها الدول العربية والأوروبية إزاء الوضع في العراق وصراعها مع الولايات المتحدة.
3. النشاط القومي الشوفيني المناهض للوضع القائم في العراق والخشية من الاتحادية الكردستانية.
4. التدخل الخارجي في أوضاع العراق الداخلية من الدول المجاورة وبأساليب وأدوات وصيغ مختلفة.
5. محاولة قوى وأحزاب الإسلام السياسي "المعتدلة" السيطرة على الشارع واستغلاله لمواقفها وبطريقة يمكن أن تثير المزيد من المشاكل وتساعد القوى الإرهابية بشكل غير مباشر على إنجاز مهماتها في إشاعة الفوضى ونزيف الدم والخراب في البلاد, إضافة إلى محاولتها زج المرجعيات الدينية في المعركة السياسية في داخل العراق, مما يلحق ضرراً بالدولة والمجتمع وبالمرجعيات الدينية ذاتها.
6. الضعف الذي تعاني منه القوى الديمقراطية العراقية وضعف دورها في إقامة التحالفات السياسية الضرورية للمرحلة الراهنة.
7. المصاعب التي تنشأ في العراق بسبب استمرار وجود قوات الاحتلال وعدم استبدالها بقوات الأمم المتحدة, رغم إمكانية دخول القوات الأمريكية والبريطانية ضمن قوات الأمم المتحدة وتحت رعايتها.
8. سبل توفير مستلزمات تسلم السلطة في نهاية شهر حزيران/يونيو 2004 دون عوائق ومشكلات عصية على الحل.
9. والمشكلة الأكثر تعقيداً والتي ستبرز في المستقبل تبرز في عجز الدستور الدائم عن تجاوزها, وأعني بها الموقف من العلاقة بين الدين والدولة أو موضوعة العِلمانية. إذ أن احترام هوية الغالبية العظمى من السكان شيء واعتبار الإسلام دين الدولة الرسمي شيء آخر لا صلة له بالاحترام, إذ أن هوية أتباع الأديان الأخرى يفترض أن تكون محترمة ومصانة أيضاً تماماً كما في هوية الغالبية المسلمة. فالاحترام لا يرتبط بالأكثرية أو الأقلية بالمبدأ.
10. إن الإشكالية الأخرى ترتبط بالموقف من القضية الاقتصادية ودور القطاعين الخاص والعام في الحياة الاقتصادية, وبشكل خاص ما يمس الثروات الطبيعية وسبل استغلال الخيرات المادية والمالية في البلاد وسبل توزيعها من الناحية المبدئية وليس التفصيلية, إضافة القضايا الاجتماعية في بلد ما تزال أغلبيته تعاني من الفقر والفاقة والبطالة والمرض والحرمان. إن خلو القانون من المبادئ الأساسية التي تحكم هذه القضايا الاجتماعية دليل ضعف القانون ودليل ضعف المشرعين بها, أو غالبيتهم.
11. وكان المفروض في القانون أن يؤكد عدم اعترافه بالاتفاقيات التي تعقد مع قوى التحالف المحتل مع الطرف العراقي قبل استعادة العراق لسيادته واستقلاله الوطني واستقلالية قراره السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي ...الخ. إضافة إلى عدم الاعتراف بأية اتفاقيات تعقد مع ذات الدول التي تسمح لها بإقامة قواعد عسكرية في البلاد أو بيع موارد البلد الأولية مثل النفط الخام, إذ يفترض أن تبقى مثل هذه القضايا الجوهرية من صلاحيات المجلس الوطني المنتخب من قبل الشعب كله, ومن صلاحيات الحكومة التي تحظى بتأييد المجلس الوطني, ووفق استفتاء شعبي عام.
إن الوثيقة الراهنة التي تعتبر قاسماً مشتركاً بين القوى السياسية العراقية الأعضاء في مجلس الحكم المؤقت أو حتى خارجه يمكن أن تتحول على مصدر للمشكلات التي أشرت إليها في أعلاه أو حتى غيرها من المشكلات وبالتالي تدفع باتجاه الصراع السياسي حولها. إن هذا الاحتمال قائم ويشكل قنابل موقوتة في طريق التطور اللاحق للعراق. لهذا يستوجب الاتفاق على أن حل المعضلات لا يتم بالطرق العنفية أو استخدام السلاح والإرهاب, بل عبر آليات ديمقراطية للتفاوض السلمي وإيجاد الجهة العليا التي يكون في مقدورها البت في تلك الخلافات لتجنب تحولها إلى تناقضات وصراعات ثم إلى نزاعات سياسية تتخذ صيغاً مختلفة. إن وضع هذه الآليات واعتراف والتزام الجميع بها يصبح يوماً بعد آخر أكثر أهمية وضرورة لصالح التطور الديمقراطي والحر للعراق الجديد.
برلين في 22/3/2004 كاظم حبيب
#كاظم_حبيب (هاشتاغ)
Kadhim_Habib#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟