أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد الجنديل - تراويح شيطانية















المزيد.....

تراويح شيطانية


أحمد الجنديل

الحوار المتمدن-العدد: 2549 - 2009 / 2 / 6 - 03:55
المحور: الادب والفن
    



استيقظت رافدة منذ الصباح الباكر على أصوات زخـّات المطر التي تتساقط ، أزاحت ستارة القطيفة الثقيلة قليلا ، كان المطر ينزل بكثافة مكوّنا بركة صغيرة على سطح الأرض الإسمنتية المحصورة بين غرفة نومها والحمّام . لسعات البرد جعلتها تعود إلى فراشها لتستمتع بالدفء ، وتقضي وقتا إضافيا في النوم ، لم يكن لديها عمل تؤديه في مثل هذا الوقت ، زوجها خليل يترك الفراش عند الفجر كعادته ، فطورها اعتادت على تناوله في وقت متأخر ، فمنذ زواجها وهي تروّض نفسها على العيش وحيدة طيلة النهار ، تطهو الطعام ، وتنظّف البيت ، وتلهي نفسها بالحياكة ، وتستمتع بمشاهدة أفلام الكارتون من شاشة التلفاز الصغيرة .
سحبت الغطاء نحو رأسها ، ونامت مسترخية على ظهرها ، ما يزعجها كثرة الأحلام التي تراودها أثناء نومها ، بعضها كابوس مرعب ، تستيقظ على أثره فزعة ، وبعضها أحلام تبعث الأمل في نفسها المغلفـّة بالصقيع . تثاءبت دون أن تفتح عينيها ، شعرت بشيء يتحرك فيها ، يدها اليمنى انسّلت نحو بطنها ، بدأت تجوس على سطحها ، هاجس الانتفاخ منحها شعور مبهم أحسّت بحلاوته ، عاودها الإحساس بالحركة ، ومساحة التفاؤل اتـّسعت عندما قفز إلى ذهنها انقطاع الدورة الشهرية عنها ، رمت الغطاء جانبا ، وجهها يلتصق بالمرآة الكبيرة ، وجه مكتنز لم يستطع أن يلغي سنواتها الخمسين ، عينان سوداوان صغيرتان ، وفم عريض ، وأنف مفلطح ، وشفتان لا توحيان بشيء من الإثارة وشعر بلون الذهب التحم أسفله بقاعدة من الشعر الأبيض النابت حديثا . لقد خاضت صراعا مريرا مع زمنها ، بدأ فعله واضحا على ملامحها ، فما عاد وجهها الشمعي رائقا كما كان ، ولا العينين الجميلتين رغم صغرهما ، ولا صدرها الناهد الذي كانت تراهن عليه . عبث الزمان بمفاتنها دون أن تعترف بالهزيمة ، فكانت آثار دفاعها واضحة من خلال اهتمامها البالغ بصبغ شعرها ، وكثرة المساحيق التي تطلي بها وجهها ، والبحث عن اختيار المشدّات الملائمة لصدرها .
مدّت يدها إلى بطنها ، أخذها الأمل إلى شواطئ السعادة ، حدّقت بالمرآة طويلا ، اعترتها رعشة خفيفة بعثت الانتعاش في نفسها : ( سأذبح خروفا لوجه الله ، إذا تحقق ذلك ) . انقطاع الدورة الشهرية ثلاثة أشهر أعطاها سببا في زيادة تفاؤلها ، قفزت إلى ذهنها ( أم محمد ) الخبيرة في أحوال النساء ، تساءلت بإنكار :
ــــ لماذا لا أذهب إليها ؟ كلّ نساء الحي يذهبن إليها ويرجعن منها بالخبر اليقين .
اتجهت صوب المطبخ ، قضمت قطعة من الكعك دون شهية ، حركاتها تسير بفعل قوّة غامضة ، نظرت إلى الأفق من خلال نافذة المطبخ ، كان المطر قد توقف ، أسرعت إلى غرفة نومها ، استبدلت منامتها بثوب واسع من الكتان المشجر ، وضعت العباءة على رأسها ، وما هي إلا لحظات حتى كانت في طريقها إلى بيت ( أم محمد ) . طرقت الباب ، مجموعة من الصبية يلعبون بقربها بكرة مثقوبة ، انتظرت قليلا ، أرادت الرجوع إلى بيتها إلا أنّ الباب فُتح أمامها وأطـّلت ( أم محمد ) بوجهها الزنجاري الطويل ، وعينيها اللتين تشبهان عيني جرذ مذعور .
ــــ أهلا وسهلا . ( قالت مرحّبة ، وقد أفسحت المجال لها بالدخول ) .
أسرعت رافدة إلى الدخول ، وهي ترد عليها بكلمات خافتة مليئة بالخجل الممزوج بالخوف والتحسب . أدخلتها إلى غرفة صغيرة ، ولسانها يتواصل بعبارات الترحيب ، جلست على مقعد شبيه بتلك المقاعد الحديدية المستخدمة في الدوائر الحكومية ، أحسّت بالبرد يتغلغل في عظامها ، ويعطل فورة الحماس التي قادتها إلى هنا ، كانت الغرفة معتمة ورطبة ، ولا يوجد فيها سوى قطعة من الموكيت الأصفر الفاقع ، وسرير ابيض معطوب من إحدى قوائمه ، ولا يختلف عن الأسرّة التي تحتويها ردهات المرضى في المستشفيات العامة .
بدأت رافدة تحث نفسها على البدء بالحديث ، وبصوت خجول وكلمات متعثرة ، قالت :
ــــ لقد جئتك لأستشيرك في أمر هام .
رفعت رأسها ، كان وجه العجوز أمامها بكلّ صرامته وقبحه ، أجفلت منها ، وتدحرج نظرها إلى أصابعها المتشابكة ، وتابعت بارتباك :
ــــ في هذا الصباح ، شعرت بحركة في أحشائي ، ولاحظت انتفاخا في بطني .
أرادت أن تتابع حديثها إلا أنّ الحياء وعدم الشجاعة عقدا لسانها ، فساد صمت ثقيل ارتجفت أوصالها له ، غير أن ( أم محمد ) قطعت الصمت بنبرة هادئة ، سائلة :
ــــ وماذا عن الدورة الشهرية ؟
ــــ منذ ثلاثة أشهر وهي منقطعة عني .
حشد من الكلمات انهمر من بين الشفتين الذابلتين ، لم تفهم رافدة منه شيئا . تقدمت العجوز منها ، ضغطت بإبهامها على بطنها ، وانتقلت بأصابعها على جانبي بطنها ، ونزلت أصابعها إلى الأسفل . انتفضت رافدة بشدّة واضطربت شفتاها ، فلجأت إلى جعل الشفة السفلى بين أسنانها ، وبلا مبالاة ، سألتها العجوز :
ــــ هل تشعرين بالغثيان ؟
ــــ قبل أيام ، شعرت بالقيء يملأ فمي .
سحبت يدها بسرعة ، وبلهجة الواثق ، أصدرت حكمها ، قائلة :
ــــ مبروك يارافدة ، أنت حامل .
لم تتمالك رافدة نفسها ، انفرط عقد تماسكها ، خجلها الذي كانت تعاني منه غادرها بلا إنذار ، هجمت على ( أم محمد ) واحتضنتها ، وراحت تمطرها بالقبلات ، وعيناها تفيضان بالدموع ، وبلا وداع خرجت مسرعة لا تلوي على شيء .
دخلت البيت دون أن تدري كيف وصلت إليه ؟ ارتمت على فراشها ، واجهها موج غامر جرفها إلى عالم من الرضا الطافح بالبهجة ، شفتاها التهمتا ابتسامة عريضة ساحت على ملامح وجهـها : ( سيكون خروفا كبيرا ، أمزّع لحمه على الجيران ) . تحولت إلى طائر لا يحمل سوى جناحيه ، تفجرت ينابيع راقصة بالفرح على جدار خيالها المتآكل ، التقطت ذاكرتها مجموعة من الأسماء ( مصطفى ، مثنى ، زيد ) إذا كان المولود ذكرا . ( هند بور ، ياسمين ) إذا كان المولود أنثى . شعرت بالخجل من هذه الطريقة في اختيارها للأسماء ( الاختيار من حق خليل ) أطلقت ضحكة جعلتها تطير على أجنحتها إلى عالم لم تألفه من قبل ، انفتحت أمامها شهية الفطور ( لابدّ وأن يكون طعامي منذ الآن جيدا ) . نهضت نحو المطبخ ، بدأت تأكل بنهم ، امتلأ فمها بالطعام ، أسرعت نحو الماء ، ساعدها في دفع ما في فمها إلى الداخل ، وضعت طبق الطعام جانبا ودخلت إلى الحمّام ، نظرت إلى بطنها ، كبيرة ومترهلة ، فتحت الماء ، لم تشعر بالبرد رغم أنها في قلب الشتاء ، الماء يتناثر على رأسها وينزل على شكل خطوط كثيفة على جسدها ، نهداها ممطوطان إلى الأسفل ، والحلمتان واسعتان كختم فقد لونه بفعل تقادم الزمن عليه ، التقطت منشفة كبيرة ناصعة البياض ، وضعتها على رأسها ، واتجهت بعريها مسرعة إلى غرفة نومها . كان عليها أن تقوم بأعمال إضافية منذ الآن ، الاهتمام بغذائها ، صبغ شعرها بعناية ، اختيار المساحيق التي تتلاءم مع امرأة في حملها الأول ، الثياب المناسبة لامرأة في داخلها جنين ، وأمام المرآة الكبيرة ، كان كلّ ما فيها متألق ، أرادت أن تزغرد ، ترقص إلا أن الحياء الذي نشأت عليه ، منعها من تحقيق هذه الرغبة ، اختارت فستانا من الجوخ الوردي ، مرصع من الأمام بأزرار من السيراميك الأحمر ، وجلست تضع المساحيق على شفتيها وجفنيها والرموش ، طلت أضافرها بلون ينسجم ولون فستانها ، سكبت قطرات من العطر على ثوبها ، ومسحت بالباقي على اليد الأخرى ، بالغت في تصفيف شعرها المقصوص على غرار شعر الرجال ، وأرادت القيام بأعمال أخرى ، إلا أنّ صوت الباب الخارجي ، أعلن عن وصول خليل ، ممّا جعلها تسرع نحو فراشها ، بعد أن أطفأت النور .
وقف خليل عند مدخل غرفة النوم ، امتلأ أنفه برائحة العطور ، كان المكان يلفه ظلام كثيف ، امتدت يده نحو مفتاح النور ، فاجأته زوجته بهذا الوضع المغري الذي هي عليه ، قال مداعبا :
ــــ ماذا بك يارافدة ؟
ــــ لا شيء ، لقد غلبني النوم حتى هذا الوقت . ( قالتها بغنج ودلال ) .
بدأ يتفرس في وجهها ، قال مازحا :
ــــ أنت الآن ، كما شاهدتك أول مرّة في ليلة عرسك .
ضحكة ذات جرس غريب ، سمعها خليل لأول مرّة تخرج من فم رائدة .
ـــــ والآن تراني أول مرّة ، وأنا في الليلة الأولى من ليالي أسرتنا السعيدة .
لم يفهم خليل شيئا ممّا قالته رافدة ، امتدت يده نحو شعرها ، أفزعه كثرة المساحيق على وجهها ، أصبحت مثل دمية لم يتقن صنعها ، فلتت ضحكة دون إرادته ، ولكي يتدارك وضعه ، قال بصوت متضرع :
ــــ أشعر بالجوع يقتلني ، احضري لنا العشاء ، ريثما أنتهي من خلع ملابسي .
لم تتحرك رافدة ، كل ما فعلته ، أنها ضغطت على جسدها فاندفع ليأخذ وضع الاستلقاء الكامل ، بحركة شبيهة بحركات الأطفال عندما يرغبون بالمشاكسة ، بعدها قالت بصوت هامس :
ــــ لا أستطيع ذلك .
ــــ لماذا ؟
ــــ لأني حامل .
هربت من فمه ضحكة ، تبعتها أخرى ، ثمّ اقتنصته لحظة المفاجأة ، وكالملسوع صرخ :
ــــ ماذا ؟
ــــ قلت لك إنني حامل . ( خرجت كلماتها مموسقة ، مدللة ، هامسة )
ــــ وما أدراك بذلك ؟ ( قالها وهو بوجه الصدمة الذي فيها )
ــــ انتفاخ بطني ، وتحرك الجنين في أحشائي ، وانقطاع الدورة الشهرية .
ران صمت مثقل بالكآبة على خليل ، لم يستطع التعامل معه ، إلا أنّ رافدة قطعته بقولها :
ـــ لقد ذهبت إلى جارتنا ( أم محمد ) وبعد قيامها بالكشف ، أخبرتني بأني حامل ، وقالت لي : مبروك .
الدوار يشتد في رأس خليل السيّاف ، والأسئلة تتزاوج بسرعة لتنجب أسئلة أخرى ، دون أن يجد جوابا واحدا لما يدور في رأسه ، لم يعد أثر للجوع الذي كان يشعر به قبل قليل ، وفي شدّة ضيقه وحرجه ، قال بكلمات سائبة :
ــــ مبروك يارافدة .
لم يغمض خليل عينيه في تلك الليلة ، وضع رأسه على ساعده الأيمن ، وغطّ في هواجسه التي اندلعت كألسنة النيران تأكله من كلّ صوب ، عمره تجاوز الستين ، ووجهه الأنثوي المستدير فيه الكثير من ملامح الغباء ، تزوج قبل أكثر من عشر سنوات من جارتهم ( رباب ) وكانت حياتهما الزوجية هانئة ، لا يعكرها سوى مشكلة إنجاب الأطفال . كانت ( رباب ) تصبو إلى الفوز بطفل يضفي عليهما مزيدا من السعادة والاستقرار ، ولمّا لم يتحقق ذلك في السنوات الثلاث التي تلت زواجهما ، بدأت تطرق أبواب الأطباء تارة ، وأبواب من يتعاطين السحر والشعوذة تارة أخرى ، وأفرطت في تناول العقاقير والأعشاب ، واستمرت مندفعة في هذا المسلك ، حتى وقعت في مرض ، ظلّت تعاني منه أكثر من سنة ، راح يتفاقم عليها حتى قضي عليها ، وبقي وحيدا في البيت عدة سنوات ، يعيش على ذكرى زوجته الراحلة ولا يفكّر بالزواج ثانية .
ذات ليلة دخل عليه أخوه الأصغر ( جميل ) مع زوجته ( داليا ) في زيارة مفاجئة ، ودار حديث من هنا ومن هناك ، ثمّ جاء غرض الزيارة من خلال الوصف الطويل والدقيق لمحاسن وأخلاق ( رافدة بنت الحاج عبد الله الدهان ) التي قامت به زوجة أخيه ، واختتمت حديثها :
ــــ إنها الزوجة المثالية التي تناسبك يا خليل ، ونحن نتمنى لك الخير والاستقرار ، فالوحدة قاتلة ، والزواج لابد منه ، وهذه المرأة صالحة ، تسترك وتسترها ، والله يستر الجميع .
خليل يسمع ما يقال له بأذن واحدة ، وينظر لهما بعين واحدة ، فتح لهما الباب على نصفه ووعدهما خيرا ، وعند مغادرتهما ، اختتم وداعهما ، قائلا بحرارة :
ــــ دعوني أفكر بالأمر ، وأنا في كلّ الأحوال أشكر لكم هذه المشاعر النبيلة الصادقة .
عند عودته إلى وحدته ، كانت زوجته الراحلة ( رباب ) حاضرة في رأسه ، طفحت عيناه بالدموع ، استحضر وفاءها وإخلاصها وتفانيها من أجل راحته ، ثمّ عاد يفكـّر بما قالته زوجة أخيه ، تيار من الرفض يأخذه بعيدا ، ويجذبه تيار من القبول ، عندما يحسّ بثقل الوحدة عليه ، الخوض بين هذين التيارين أتعبه إلى حد المرض ، أخذه النوم إلى كوابيس ظلّ يتعذب فيها حتى الصباح . نهض من فراشه مبكرا ، ولا زالت الدوامة التي يعيشها تأخذ بخناقه ، عقد العزم على أمر لم يخطر بباله طيلة الفترة التي قضاها مع زوجته السابقة ( رباب ) .
عند حلول المساء ، كان خليل يطرق باب الطبيب المختص بأمراض العقم ، دخل عليه والعرق يتصبب من جبهته ، والحياء يشدّ حركاته إليه ، وبصعوبة أوصل للطبيب ما يريد قوله ، وبعد الكشف والتحليل ، قال الطبيب :
ــــ للأسف ، أنـك غيـر قادر على الإنجاب ، ولا نستطيع أن نجد لك علاجا بعد هذا العمر الطويل .
لم يبد عليه شيء من التأثر أو الانفعال ، خرج مسرعا دون أن يحسّ أو يسمع شيئا ، قضى الليل بين غفوة قصيرة وصحوة طويلة ، وكان شعور بالذنب لازمه تجاه زوجته ( رباب) أكثر من شعوره بالخيبة لعدم قدرته على الإنجاب .
في اليوم الثاني ، زار طبيبا آخر ، ليزيل ما بقي من وساوسه ، وجاءت النتيجة متطابقة مع ما قاله طبيب الأمس ، عندها طوى هذا الموضوع وقذفه في عالم النسيان .
في الزيارة الثانية لأخيه ( جميل ) وزوجته ، وعند الحديث عن زواجه ، تأمل خليل وجه أخيه ، والتفت إلى زوجته ، وبطريقة مفاجئة ، سألها :
ــــ هذه المرأة ، كم تبلغ من العمر ؟
بلهجة مترددة أجابت :
ــــ إنها في الخامسة والأربعين ، كما أعتقد .
توقف الحديث ، وران صمت قلق ، قطعه خليل بصوت صارم :
ــــ لقد قررت الزواج ، وأشكركما على هذا الاهتمام .
بعد شهر من هذا اللقاء ، تمّ كلّ شيء ، وانتقلت رافدة بنت الحاج عبد الله الدهان إلى بيت خليل السيّف .
سحب ذراعه من تحت رأسه بعد أن شعر بالخدر يدبّ فيها ، نظر إلى زوجته ، وجهها لا زال ملطخا بالأصباغ ، وكان الرضا باديا عليه ، انحدرت دمعة كبيرة على خده ( أين أنت يا رباب ؟) بدأ رأسه يتقد ، أسئلة خرساء تبحث عن أجوبة ، وهواجس جريحة تضرب في أعماقه تبحث عن مخرج . ( ربّما كانت واهمة ، وان كلّ ما يدور محض خيال ) تنهدّ بصوت مسموع ( سأذبح خروفا لوجه الله ، إذا تحقق ذلك ) . هاجمه فيض من الإحساس الأسود انتزع كلّ خيوط الأمل الذي كان يحلم بها ، لعن في نفسه الزواج والأطفال ، ولعن أخاه وزوجته ، وبين رحلة العذاب ، والسفر عبر دهاليز الشك ، وومضات الأمل التي سرعان ما تختفي حال ظهورها ، انقضى الليل معلنا مولد يوم جديد .
نهض خليل من فراشه منكسرا ، جريحا ، لا يستقر على رأي ، ولا يعرف ماذا يفعل ؟ كثرة الأفكار وازدحامها جعلته مهزوما كالرماد ، أسرع في الخروج من البيت ، بغية أن يجد متنفسا يعينه على ما هو فيه ، كان شارد الذهن ، مضطرب الملامح ، أحسّ بالجوع دون رغبة في تناول شيء ، دلف إلى مقهى صغير بدلا من الذهاب إلى عمله ، بقي فيها وقتا ، غادرها وراح يسير بغير هدى ، أتعبه التسكع المخزي ، رجع إلى المقهى ، أراد التوحد فلم يفلح ، قرأ في سرّه ما حفظه من آيات القرآن ، قوّة غامضة تضغط على رأسه فتحيله إلى هشيم ، زمّ شفتيه بعصبية بالغة ، وكزّ أسنانه بنفور ، واحتدم الغضب فيه ، لا يعرف ما الذي دهاه ؟ . نهض مسرعا من المقهى ، وراح يركض باتجاه بيته ، لم يجد حرجا في دخوله ، أسرعت رافدة نحوه وعلامات الحيرة والإرباك بادية عليه .
ــــ خليل ، ما الذي جاء بك الآن ؟
حاول أن يصطنع الهدوء ، وأظهر لها تماسكا هشّا .
ــــ لنخرج سوية في مشوار قصير .
امتثلت لأمره ، خرجا إلى الشارع ، أوقف سيارة للأجرة وانطلقا إلى مركز المدينة ، وأمام عيادة الطبيب الذي زاره قبل الزواج توقفت السيارة . استطاع أن يدفع عزيمته بهذا الاتجاه ، ويلغي حالة التوتر التي تعيشها زوجته ، بدأ الحديث عن الأسباب التي دعته إلى مراجعة الطبيب في إطالة مسهبة ، مؤكدا لها أن استقباله لنبأ الحمل جعله في غاية الانشراح ، وللاطمئنان لابدّ من هذه الزيارة .
كانت رافدة تستمع إليه وهي شارة الذهن ، ترمقه بنظرات جافة وهي مسلوبة الإرادة ، وكلمّا حدقت في وجهه الوعر تجد أنه يرمي إلى هدف آخر غير الذي يصرح به ، لكنها استسلمت لإرادته .
بعد الفحص الدقيق ، ونتيجة التحليل ، أخبرها الطبيب أنها لم تكن حاملا ، وأنّ ما تشعر به جاء نتيجة انقطاع الدورة الشهرية الدائم عنها .
انطلقت شهقة حادة وحارقة من أعماق رافدة ، تزامنت في ذات اللحظة مع زفرة كبيرة من أعماق خليل ، أخرجت الهم الثقيل الذي ينوء به ، وتلاقت عيناها الدامعتان بعينيه المتوهجتين بالرضا والقبول .
خرجت من الطبيب بعد تلقيها صفعة مميتة في صراعها مع الزمن ، وخرج خليل وقد تحوّل إلى حمل وديع ، يحمل وجها طفو ليا بريئا ، قال في سرّه ( سأفي بنذري ) . تألقت عيناه ، غرق في بحر الاطمئنان . ( سيكون خروفا كبيرا ، أوزّع لحمه على الجيران )
عند وصولهما إلى البيت ، دخلت رافدة متعثرة في خطواتها ، لاحظ خليل ذلك بوضوح ( أنا فرح حد السعادة الغامرة ، بقدر ما أنت حزينة حد الموت ) شعر بالخجل من هذا الإحساس ، زاد خجله عندما ارتمت بين ذراعيه في نشيج يبعث الحزن في نفسه .
لم يعد خليل يحتمل كل هذا الأسى الذي تعانيه زوجته ، طلب منها التحلي بالشجاعة في مواجهة هذا الموقف ، ساعدها على القيام نجو الحمام ، غسلت وجهها ، التقطت من يده منشفة كبيرة ناصعة البياض ، قادها إلى غرفة نومه ، وهناك بدأ يسرد لها ما عاناه مع زوجته ( رباب) وأفشى لها سر زيارته للطبيب ، وآثار الصدمة التي تلقاها اثر سماعه بنبأ الحمل الذي أبلغته به ، وما فعلت بها الهواجس في الليلة الماضية .
كان التأثر واضحا عليه ، وكانت دفقات من التعزية تسري إليها لتبدد سحب الكآبة الغارقة فيها .
عند الانتهاء من هذا الاعتراف ، شعر انه ألقى عن نفسه عبئا ثقيلا ، وتحول إلى طائر لا يحمل غير جناحيه ، أما رافدة فقد استسلمت راضية ، معلنة خسارتها مع الزمن .
نظرت إلى زوجها مبتسمة ، بادلها خليل ابتسامة أكثر إشراقا ، بعدها انزلقا تحت الغطاء الصوفي ، وراحا في عناق طويل .



#أحمد_الجنديل (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- زفاف في معبد وثني .......................... قصة قصيرة
- العصافير تموت جوعا في البيادر ............................. ...
- حقوق الانسان زيف الشعارات وفعل الهراوات
- عندما يغيب الصهيل .............. قصة قصيرة
- الهجرة الى البحر........منلوج قصصي
- حكايات عن عواصف الرعب .......... قصص قصيرة
- الحفاة ........ .. قصة قصيرة
- الارصفة تشرب الصراخ ................... قصة قصيرة


المزيد.....




- دواين جونسون بشكل جديد كليًا في فيلم -The Smashing Machine-. ...
- -سماء بلا أرض-.. حكاية إنسانية تفتتح مسابقة -نظرة ما- في مهر ...
- البابا فرنسيس سيظهر في فيلم وثائقي لمخرج أمريكي شهير (صورة) ...
- تكريم ضحايا مهرجان نوفا الموسيقى في يوم الذكرى الإسرائيلي
- المقابلة الأخيرة للبابا فرنسيس في فيلم وثائقي لمارتن سكورسيز ...
- طفل يُتلف لوحة فنية تُقدر قيمتها بخمسين مليون يورو في متحف ه ...
- بوتين يمنح عازف كمان وقائد أوركسترا روسيا مشهورا لقب -بطل ال ...
- كيلوغ: توقيع اتفاقية المعادن بين واشنطن وكييف تأخر بسبب ترجم ...
- عرض موسيقي مفاجئ من مانو شاو وسط انقطاع الكهرباء في برشلونة ...
- مسقط.. أكثر من 70 ألف زائر بيوم واحد للمعرض الدولي للكتاب


المزيد.....

- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري
- عشاء حمص الأخير / د. خالد زغريت
- أحلام تانيا / ترجمة إحسان الملائكة
- تحت الركام / الشهبي أحمد
- رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية ... / أكد الجبوري
- نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر ... / د. سناء الشعلان
- أدركها النسيان / سناء شعلان


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد الجنديل - تراويح شيطانية