أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد الجنديل - عندما يغيب الصهيل .............. قصة قصيرة















المزيد.....

عندما يغيب الصهيل .............. قصة قصيرة


أحمد الجنديل

الحوار المتمدن-العدد: 2539 - 2009 / 1 / 27 - 05:23
المحور: الادب والفن
    



لا أحدٌ من أهل المدينة الغافية على نهر الفرات ، يَملكُ قدرة التأثير على عبّود المدلول ، فهو منذ صغره عنيد دون مشاكسة ، لا يسمعُ نصيحة ، ولا يريدُ السيرَ في طريق يقوده فيه أحد ، يغنّي متى ما شعرَ بحاجة إلى الغناء ، ويرقصُ على عربته التي يجّرها حصان كهـل متى ما أرادَ ذلـك ، ويلازمُه صمتٌ ثقيل عندما تمّر في رأسه ذكرى مؤلمة ، أو مَشهد يزعجه . وكبار السن يقولون لغيرهم : ( اِتركوه على هواه ، فهو صاحب رغبة ) . كان يسمعهم وينصت إليهم دون أن يأبه لأحدٍ منهم .
في كلّ صباح ، يهيئ عربته ، يفرشُ في مقدمتها أسمالا بالية ، يَضعها بعناية ليجلس عليها ، وبعد أن يتأكد أنّ كلّ شيء على ما يرام ، يبدأ بالتجوال بين أسواق المدينة وساحاتها المزدحمة ببائعي الفواكه والخضروات ، يَنقلُ من هذا صناديق الفاكهة ، وينزلُ في هذا المكان سلالَ الخضروات ، دون أن يقيم علاقة من نوع متميز مع أحد .
عبود المدلول يحملُ جسدا مربوعا قويّا ، رغم أنّه تجاوز العقد السابع من عمره ، في عينيه قدرة غريبة على اتخاذ دلالات التعبير ، أو اكتسابها بُعدا إضافيا ، أو معنىً جديدا ، فعندما يستبدّ به الغضب ، تتحوّلُ عيناه إلى عيني أسد هائج يتطايرُ الشررُ منهما ، وعندما يستسلمُ لنشوة الخمر ، تنهالُ سحبٌ خفيفة عليهما ، فتبدوان كعيني قطّة أطبق عليها النعاس ، وعندما تصفو نفسه ويرتاح باله ، تفيضان بسحر وجاذبية ، نادرا ما تراها في عيون الحسناوات من النساء . جبهته عريضة لا أثر للتغضن فيها ، وأنفه تخال أن يسقط في فمه ، رغم تضخم أرنبته قليلا ، فمه ملموم ، وشفتاه ناضجتان تكسوهما سمرة أغمق من سمرة وجهه المحمرّة ، وإذا ما ضحك ، تخرج أسنانه كسرب من الطيور المهاجرة ذات النسق المنظّم ، لولا الفراغ الذي أحدثه أحد أسنانه العليا ، والذي غادرَ أصحابه منذ زمن بعيد . لم تألفْ قدماه غير العراء ، والجزء الأعلى من صدره مكشوف على الدوام ، يغزوه شعر كثيف أبيض ، كثيرا ما تسللت أصابعه إليه ، ليهرشَ بأظافره ما تحته من جلد خشن . رأسه يجلسُ على رقبة غليظة ، تبرزُ عروقها أثناء الغناء الذي يمارسه كلمّا صفا مزاجه ، وخالجه شعور بالفرح ، وأكثر ما يميّزه ، في غنائه وبكائه ، في فرحه وكآبته ، أنه يملكُ ملامحَ قاسية من الصعب أن تتعرفَ على سواده من بياضه من خلالها . كان لا يهتم بما يكسب من مال ، فإذا ما توفرتْ له النقود لشراء علف الحصان ، وثمن الخمرالذي اعتادَ على تناوله في الليل ، وما يحتاجه من الغذاء ، يقفلُ راجعا إلى بيته الطيني المتآكل ، يبقى فيه وقتا ، يخرجُ بعدها للجلوس في إحدى المقاهي ، يلعبُ الدومينا مع من يعرفهم ، ولا يعود إلى بيته إلا بعد أن ينفق آخر ما يملكه من النقود ، وأثناء رجوعه ، كان يسلك الأزقـّة الضيّقة للوصول إلى بيته ، أمّا إذا كان مزاجُه رائقا ، فطالما يلجأ إلى الغناء بأعلى صوته ، عابرا سوق المدينة المسقوف بصفائح الجينكو الصدئة ، دون أن يعير اِهتماماً لتعليق أصحاب الدكاكين المصطفـّة على جانبي السوق ، أو من بعض المارّة الذين يرشقونه بعبارات المديح أو السخرية .
لا أحد في المدينة يعرفُ عن عبود المدلول الشيء الكثير ، لكنّهم يستشهدون بأقوال الحاج منعثر الخيّاط الذي تحدث بشيء من الإيجاز عن حياته في ليلة رمضانية ، اجتمع فيها الكثير من الرجال المتحلقين حوله ، حيث قال :
كان يعملُ منذ صغره في سحب السفن الصغيرة المحمّلة بالبضائع عبرَ نهر الفرات مع بضعة من الفتيان ، ثمّ أخذه والدي ليعمل معه في معمل لكبس التمور ، ونشأ غريبا عن أصحابه في العمل ، وفي إحدى الليالي ، اكتشفوا أنّ له علاقة بفتاة تجمع بقايا التمور من بعض البساتين المجاورة ، ومع مرور الأيام ، توطدتْ العلاقة بينهما ، وأضحَتْ معروفة لدى الجميع ، الأمر الذي جعل من زواجه منها واقعا لا مفـّر منه ، وفي الأسبوع الأول الذي تلا ليلة زفافه ، سرَتْ شائعات حول العروس ، وما تعانيه من آلام حادة ، وأنّ صحتها بدأت تتدهور ، ممّا دفعها للفرار إلى بيت أبيها ، تاركة لزوجها كلّ شيء ، وبعد شهر من انتشار هذه الشائعة ، توفيَت الزوجة في ظروف غامضة ، لا أحد يعرفها ، وتركَ عبود المدلول العمل ، وسافرَ إلى جهة مجهولة ، بقيَ عدة سنوات ، عادَ بعدها إلى هنا وهو يقودُ العربة التي ترونها كل يوم .
ورغم أنّ الأحاديث تشير إليه على أنّه زير نساء ، إلا أنّ أحدا لم يلاحظ عليه ما يؤكد ذلك ، كان ودودا في تعامله ، متسامحا مع الجميع ، لم تصدرْ منه كلمات نابية مع مَن يتعامل معهم ، فيه من الشهامة والجسارة ما يلتفت الأنظار إليه ، ففي أحد الأيام حصلَ شجارٌ بين أحد الباعة الذي زاحمَ إحدى البائعات حول مكانها التي اعتادت أن تبيع فيه بضاعتها ، وبدأ الفتى يمطرها بسيل من الشتائم ، فما كان من عبود المدلول إلا أن يتركَ عربته ويسرع نحوه ، موجّها له صفعة أثارت انتباه الجميع ، وجعلت المعتدي يوّلي الإدبار ، بينما رجع عبود إلى عربته ، وهو يدمدمُ بانفعال : ( والله عيب ، أن يفعل رجل مثلما فعله هذا الزنديق بهذه المرأة المسكينة ) . كلّ ما عمله ، وما هو ملاحظ عليه ، لم يخّلصه من الأقاويل التي تدور عليه ، فقد أباحَتْ إحدى البائعات إلى صويحباتها ، أنّ عبود المدلول قد أطال النظر إليها قبل عدة أيام ، أحسّتْ من خلال نظراته ، أنّ أمعائها صعدت نحو فمها ، وأنّ رعشة شديدة سَرَت في جسدها المكتنز ، جعلها تحيد بنظرها عنه كلما وقفَ أمامها ، أو لمحته من بعيد ، وفي مناسبة أخرى ، قالت إحدى الثرثارات ، أنّ عبود المدلول لا تشبعه عشر نساء مجتمعات . لكنّ ما دار من همس بين النساء حولَ مريم الشبقة ، سليطة اللسان ، مِن أنها شوهدت تدخلُ بيته ، وهي متنكرة ، أوقفَ كلّ الأقاويل ، وألغى كلّ التخرصات التي كانت تدور حوله ، وأصبحَت هذه الحادثة تثيرُ اهتمام الجميع إلا هو ، فعبود لا يكترث بما يدور حوله ، وكـّأنّ ما يسمعه لا علاقة له به ، ولا يعنيه بشيء ، يعيشُ كما يحلو له أن يعيش ، والناس من حوله تتحدثُ عنه بما يحلو لهم في مدينة يخيّمُ عليها السأم ، ويطبقُ عليها الضجر الذي جعلَ أهلها يبحثون عن أيّ حديث يشغلهم عن دائرة الملل الذي يعانون منه .
في إحدى صباحات الشتاء الممطرة ، هرَع الناس نحو الزقاق الضيّق على أثر صراخ حاد وغريب ، وما أن وصلوا هناك ، حتى كانت الدهشة تعقد ألسنتهم ، وتشلّ حركتهم . لقد شاهدوا عبود المدلول ، شبه عاري ، ويداه تصفعان وجهه بقوّة ، وكان غائبا عمّا يدور حوله ، الأمر الذي جعل بعض الواقفين أن يتقدموا نحوه ، ليوقفوا عنه الأذى الذي يعاني منه ، محاولين تهدئته بشتى الأساليب الطيّبة والعبارات الرقيقة ، وأسرعَ بعضهم لجلب الماء ، وتقدّم أحد الوجهاء إليه وراحَ يغسلُ وجهه ، ويسكبُ الماء على رأسه .
كانت عيناه تدوران في فراغ هائل ، وكان جسدُه يهتزّ كشجرة فتية أمام عاصفة مدمّرة ، وكانت شفتاه ترتعشان ، وقد تورمَت وجنته اليسرى ، وأخذتْ أنفاسه تضيقُ في صدره ، ومع مرور الوقت ، انتبهَ إلى الجمع المتحلق حوله ، راحت عيناه تنتقلان بين الوجوه ، وبلا إرادته ، امتدت يده لتسترَ ما انكشفَ من جسده ، ثمّ واجه الجميع بابتسامة باهتة بلهاء ، لا توحي إلا عن الحياء نتيجة الوضع المزري الذي هو فيه ، أسندَ كفـّيه إلى الأرض لتعيناه على الوقوف ، فأسرع من هو أقرب إليه ليساعده فيما يريد ، وبصعوبة بالغة ، تحركَ عدة خطوات ، ودخلَ لبيت .
بقيَ الجمعُ يتجاذبُ التعليق حول هذا المشهد الغريب ، والذهول ما زال هو المسيطر عليهم .
قال الشيخ صالح : أعوذ بالله ، هذه الخمرة اللعينة ، لعنَ الله شاربها ، ولعنَ الله حاملها ، ولعنَ الله .... وأراد أن يكمل الحديث ، لكنه لم يفلح ، وبدأ يفركُ يديه ، إلا أنّ مختار المحلة أنقذه بقوله : أظنّ أنه يعاني من وضع نفسي خطير . ارتفعَ صوتُ صبري الحلاق بحماس : يا جماعة ، والله العظيم هذا عمل الجن ، ارسلوه إلى ملا جاسم ليخرجَ من رأسه هذا الكافر اللعين . بينما علّق صاحب النداف : انه مجنون ، فقد عقله ولا يدري ماذا يفعل ؟ . ودار حديث هنا وهناك ، وارتفعت أصوات وخَبتْ أخرى ، وبدأ الجمعُ يتفرقُ ويتلاشى ، ولم يعدْ في ذلك الزقاق الضيّق من أحد .
في الغرفة الطينية الوحيدة ، التي بناها على الجانب الأيسر من البيت ، جلسَ عبود المدلول واضعا رأسه بين ركبتيه ، وقدماه ملوثتان بالوحل . ألقى نظرة من باب الغرفة المصنوع من الصفيح الثقيل إلى الحصان النافق المطروح على ساحة البيت الترابية ، شاهدَ أسرابَ الذباب تجمّعت حول عينيه وفمه بشكل كثيف ، رفعَ رأسَه ، تحركتْ شفتاه بصعوبة ( كان يقودني طيلة السنوات الماضية ) . هاجمَه انفعالٌ مفاجئ دفعَه إلى النهوض ، أسندَ يده نحو الحائط المزدحم بالشروخ ، تحركَ ببطء نحو باحة داره : ( لابدّ من القيام بعمل يليقُ به ) . شَعرَ بالصداع يباغته بقوّة ، خطا عدة خطوات ، وقفَ على رأس الحصان ، تطايرَتْ أسراب الذباب محدثة طنينا مسموعا ، اتجّه نحو العربة ، التقط قطعة من أسماله البالية ، شطرها إلى نصفين ، وعادَ يطردُ الذباب ، وضعَ قطعة القماش على رأس الحصان ، بينما وضعَ القطعة الأخرى على الجزء الأسفل من جسده هامسا : ( من المخجل أن تكون عورتك هكذا مكشوفة ) .
كانت لديه رغبة بالتحدث إليه ، أن يعاتبه على هذا الفراق المفاجئ ، عن هذا الرحيل الذي حصل دون مقدمات ، كان صديقا ونديما وسميرا ، يحدثه ويناجيه كلمّا شعرَ بالوحدة تفتكُ به أثناء الليالي الموحشة ، أحسّ بشيء من الانهيار الذي استسلمَ له ، تهاوى إلى الأرض وغرقَ في نشيج مؤلم ، بدأ يزحفُ نحو غرفته ، سرعان ما شعر بالخجل الذليل ، انتفضَ في مكانه ثم وقف ، ورغم شدّة الألم الذي يعانيه ، أسرع نحو غرفته بخطوات واسعة ، امتدت يدهُ نحو قنينة العرق الرديء ، أمسكَ بها بقوّة ، فتحَ سدادتها بعصبية ، وراحَ يصبّ ما فيها في جوفه : ( انّه زمن سافل ورخيص ) . هكذا تمتمَ بعدما شعرَ أنه أنجزَ مهمة مبهمة لا يعرف حدودها بالضبط ، ساقه انسحبت لتأخذ وضع الاستقامة على التراب ، تبعتها الساق الأخرى ، انحنى رأسه باتجاه صدره ، يَده اليمنى عانقت أختها اليسرى واستقرتا في حضنه ، جفناه قد ثقلا عليه ، شفته السفلى غادرت العليا قليلا ، ملامحه لا تقرأ فيها سوى الهزيمة ، بدأت الغرفة تترنحُ في رأسه ، وبدأت الأحداثُ تتراكمُ في مخيلته ، تجسدتْ أمامه صور الشقاء والظلم الذي عاناه ، رحلته نحو العاصمة وما ذاقهُ من مرّ المهانة والابتزاز ، الشخصيات اللامعة المحترمة التي تحملُ ألف وجه ووجه ، الألسن المصنوعة من الكذب والرياء وهي تتحدثُ عن المثل العليا والأخلاق الرفيعة . خرجتْ من بين شفتيه الخابيتين كلمات ممطوطة : ( لابدّ للحياة أن تنتصر رغم هذا الكّم الهائل من الأشرار ) . الأفكار تنثالُ عليه بشكل مضطرب ومشوّش ، وفي خضّم اللحظات التعيسة ، بدأ وعيه يتشظى ، تتباعد مسافاته ، ثمّ فارقََه ، بعد أن سقطَ على جانبه ، متوسداً ذراعه الأيمن ، ولم يعدْ يشعر بشيء .
مضى النهارُ ، وانصرفت الشمس بعد الانتهاء من نوبتها ، وتـَحرك الظلامُ يرسلُ طلائعه ، ليخيّم على أجواء المدينة ، بدأتْ ومضات من الوعي تعودُ إلى رأس عبود المدلول ، بعد أن كان غائبا عن الدنيا ، أراد رفعَ رأسه فأحسّ بثقله ، حاولَ سحب يده من تحت الرأس الثقيل فلم تطاوعه ، استسلمَ للوضع الذي هو فيه ، ثمّ تذكـّرَ الحصان ، كان عليه أن يقوم بعمل يليقُ به كجزء من الوفاء له ، فتحَ عينيه ، كانتا مثل نفق عميق مغلق لا ترى منه غير اللون الأحمر الداكن ، سحبَ يده بقوّة ، وتحرك بصعوبة : ( عبود ، عندما يلاقيك الموت ، ناطحه بشجاعة الرجال ) . تحركَ في داخله شريانُ الغضب ، نهضَ دون أن يعلم ، وقفَ وسط غرفته المظلمة ، قدماه ترتجفان ، خرجَ بهما إلى الخارج ، كان الصراعُ قائما بين النور والظلام وسط منزله ، وكان الحصانُ راقدا هناك ، اتجّه نحو العربة ، امتدت يده إلى الفأس المطروح بقربها ، انتابه أحساس بالارتياح ، رفعَ الفأسَ وأنزله بشدّة على الأرض الترابية ، رفعَه بقوّة وأنزله مرّة أخرى ، تصاعدتْ وتائر الحماس في نفسه ، عزيمته هزمت ما يعانيه ، تحوّل إلى مارد ، لم تعد الجروح والكدمات وتأثير السكر ، يفعلُ شيئا أمامَ الإصرار الذي اجتاحه ، يداه تتحركان بمرونة ، وبدأ الفأس يأكلُ في الأرض ، والحفرة تتسعُ بفعل صعود ونزول الفأس عليها ، لم يتوقف عبود المدلول ، أزعجه سيل العرق النازل من جبهته إلى عينيه جارفا معه التراب المشبع بالملوحة ، رفعَ ذيلَ قميصه ، ومسحَ جبهته ، لم يفلح في التخلص ممّا هو فيه ، أسرع نحو الماء ، وراح يسكبه على رأسه وجبهته وعينيه ، عاد إلى عمله ، الحفرة كبرت وأخذت شكلا دائريا عميقا ، حاول تغيير شكلها ، أن يجعلها مستطيلة ، تسللت ارتعاشة إلى ساقيه ، ركبَه العناد ثانية ، اِزدادت سرعة الفأس ، يداه تعملان بحركة سريعة ودقيقة ، اِرتطمَ الفأسَ بجسم صلد محدثا صريرا خافتا ، قفزَ وفأسه بين يديه داخل الحفرة ، لم يخرج من جسده سوى رأسه ورقبته :
( إنها أصبحت جاهزة ) انحنى نحو قاعها ، تلمّس التراب ، وقعَت يَده على سلك نحاسي غليظ : ( لابدّ من إزالته ) يريد لحصانه مكانا لا يزعجه فيه أحد ، أنزلَ الفأسَ على السلك ، قطعه بيسر : ( أكله الصدأ بفعل تراكم السنين مثلما أكلني ) رفعه إلى الأعلى ورماه جانبا ، اطمأنّ إلى سعة الحفرة ، تلمسَ جدرانها ، كانت هناك جذور لبقايا أشجار مقلوعة ، تشكـّل شرايين كثيفة في جسد التراب ، صعدَ إلى الأعلى ، اتجّه إلى عربته ، جمعَ قطع القماش البالية ، أحضرَ بعض ثيابه القديمة ، ونزلَ إلى قاع القبر ، فرشَه بعناية ، وصعدَ وهو يشعرُ بالارتياح . ألقى نظرة إلى السماء ، رآها صافية ، أدارَ بصره إلى سطوح البيوت المتجمهرة حوله ، كانت متسربلة بالوحشة والصمت ، بدأت دواخله تتدافعُ مع بعضها ، انحنى فوق رأس الحصان ، تمعّن في ملامحه ، ربتَ على خدّه ، أطال النظر إليه ، هاجمه الحزن والغضب معا ، يعرف أنّ حصانه ماتَ وفي قلبه الكثير من الحزن والغضب ، تدحرجت دمعة على خدّه المبلل بالعرق ، انحنى أكثر ، تقوّس ظهره ، وبسرعة خاطفة زرع َعلى وجه حصانه قبلة أودع فيها مشاعره المشتعلة في داخله ، وبصوت أبّح ، خاطبه : ( تأكـّد أيها الصديق ، أنّ الخيول ، تغضبُ كثـيرا ، وتحزنُ كثيرا ، ولكـّنها لا تعرف الخوف ) .
عندما أدركَ أنه وصل إلى ما يَريد ، تقدمَ نحو الحصان ، دفعَه برفق إلى الحفرة : ( رافقتك السلامة ) . تهاوى الجسد الثقيل محدثا صوتا مختنقا ، نزلَ وراءه ، وضعَه بطريقة مريحة ، أعادَ قطعتي القماش على وجهه وعورته ، خرجَت زفرة حارقة ألهبتْ أحاسيسه أكثر ، وشرع يهيلُ عليه التراب : ( لا تبتئس أيها الصديق ، هذه الحفرة لك ولغيرك ). سوّى التراب بمستوى سطح الأرض ، نفضَ يديه ، ودخلَ إلى غرفته ، وقد طغتْ عليه ابتسامة هي مزيج من السخرية والمرارة والألم .
عندما احتضنه الفراش ، اِستفاقتْ جروحه من سباتها ، فمه يلتهبُ من شدّة العطش ، لسانه انقلب إلى قطعة زائدة تعيقه عن التنفس ، تمنّى أن يقطع هذا الرأس المحشو بالهذيان ، نهضَ بصعوبة بالغة ، اقتربَ من وعاء الماء الذي كان مهيئاً للحصان ، كان مليئاً ، رمى وجهه فيه ، وراح يكرعُ منه بنهم ، رفعَ رأسه ، داهمه الغثيان ، اِقترب من فـراشه ، وضعَ رأسه على حافـته ، وبين الآلام الحادّة ، وثـورة جروحه ، ونزيف ذكرياته ، وصور شقائه ، وموت حصانه ، غرقَ في نوم عميق .




#أحمد_الجنديل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الهجرة الى البحر........منلوج قصصي
- حكايات عن عواصف الرعب .......... قصص قصيرة
- الحفاة ........ .. قصة قصيرة
- الارصفة تشرب الصراخ ................... قصة قصيرة


المزيد.....




- يتصدر السينما السعودية.. موعد عرض فيلم شباب البومب 2024 وتصر ...
- -مفاعل ديمونا تعرض لإصابة-..-معاريف- تقدم رواية جديدة للهجوم ...
- منها متحف اللوفر..نظرة على المشهد الفني والثقافي المزدهر في ...
- مصر.. الفنانة غادة عبد الرازق تصدم مذيعة على الهواء: أنا مري ...
- شاهد: فيل هارب من السيرك يعرقل حركة المرور في ولاية مونتانا ...
- تردد القنوات الناقلة لمسلسل قيامة عثمان الحلقة 156 Kurulus O ...
- مايكل دوغلاس يطلب قتله في فيلم -الرجل النملة والدبور: كوانتم ...
- تسارع وتيرة محاكمة ترمب في قضية -الممثلة الإباحية-
- فيديو يحبس الأنفاس لفيل ضخم هارب من السيرك يتجول بشوارع إحدى ...
- بعد تكذيب الرواية الإسرائيلية.. ماذا نعرف عن الطفلة الفلسطين ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد الجنديل - عندما يغيب الصهيل .............. قصة قصيرة