أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد الجنديل - عندما يغيب الصهيل .............. قصة قصيرة















المزيد.....

عندما يغيب الصهيل .............. قصة قصيرة


أحمد الجنديل

الحوار المتمدن-العدد: 2539 - 2009 / 1 / 27 - 05:23
المحور: الادب والفن
    



لا أحدٌ من أهل المدينة الغافية على نهر الفرات ، يَملكُ قدرة التأثير على عبّود المدلول ، فهو منذ صغره عنيد دون مشاكسة ، لا يسمعُ نصيحة ، ولا يريدُ السيرَ في طريق يقوده فيه أحد ، يغنّي متى ما شعرَ بحاجة إلى الغناء ، ويرقصُ على عربته التي يجّرها حصان كهـل متى ما أرادَ ذلـك ، ويلازمُه صمتٌ ثقيل عندما تمّر في رأسه ذكرى مؤلمة ، أو مَشهد يزعجه . وكبار السن يقولون لغيرهم : ( اِتركوه على هواه ، فهو صاحب رغبة ) . كان يسمعهم وينصت إليهم دون أن يأبه لأحدٍ منهم .
في كلّ صباح ، يهيئ عربته ، يفرشُ في مقدمتها أسمالا بالية ، يَضعها بعناية ليجلس عليها ، وبعد أن يتأكد أنّ كلّ شيء على ما يرام ، يبدأ بالتجوال بين أسواق المدينة وساحاتها المزدحمة ببائعي الفواكه والخضروات ، يَنقلُ من هذا صناديق الفاكهة ، وينزلُ في هذا المكان سلالَ الخضروات ، دون أن يقيم علاقة من نوع متميز مع أحد .
عبود المدلول يحملُ جسدا مربوعا قويّا ، رغم أنّه تجاوز العقد السابع من عمره ، في عينيه قدرة غريبة على اتخاذ دلالات التعبير ، أو اكتسابها بُعدا إضافيا ، أو معنىً جديدا ، فعندما يستبدّ به الغضب ، تتحوّلُ عيناه إلى عيني أسد هائج يتطايرُ الشررُ منهما ، وعندما يستسلمُ لنشوة الخمر ، تنهالُ سحبٌ خفيفة عليهما ، فتبدوان كعيني قطّة أطبق عليها النعاس ، وعندما تصفو نفسه ويرتاح باله ، تفيضان بسحر وجاذبية ، نادرا ما تراها في عيون الحسناوات من النساء . جبهته عريضة لا أثر للتغضن فيها ، وأنفه تخال أن يسقط في فمه ، رغم تضخم أرنبته قليلا ، فمه ملموم ، وشفتاه ناضجتان تكسوهما سمرة أغمق من سمرة وجهه المحمرّة ، وإذا ما ضحك ، تخرج أسنانه كسرب من الطيور المهاجرة ذات النسق المنظّم ، لولا الفراغ الذي أحدثه أحد أسنانه العليا ، والذي غادرَ أصحابه منذ زمن بعيد . لم تألفْ قدماه غير العراء ، والجزء الأعلى من صدره مكشوف على الدوام ، يغزوه شعر كثيف أبيض ، كثيرا ما تسللت أصابعه إليه ، ليهرشَ بأظافره ما تحته من جلد خشن . رأسه يجلسُ على رقبة غليظة ، تبرزُ عروقها أثناء الغناء الذي يمارسه كلمّا صفا مزاجه ، وخالجه شعور بالفرح ، وأكثر ما يميّزه ، في غنائه وبكائه ، في فرحه وكآبته ، أنه يملكُ ملامحَ قاسية من الصعب أن تتعرفَ على سواده من بياضه من خلالها . كان لا يهتم بما يكسب من مال ، فإذا ما توفرتْ له النقود لشراء علف الحصان ، وثمن الخمرالذي اعتادَ على تناوله في الليل ، وما يحتاجه من الغذاء ، يقفلُ راجعا إلى بيته الطيني المتآكل ، يبقى فيه وقتا ، يخرجُ بعدها للجلوس في إحدى المقاهي ، يلعبُ الدومينا مع من يعرفهم ، ولا يعود إلى بيته إلا بعد أن ينفق آخر ما يملكه من النقود ، وأثناء رجوعه ، كان يسلك الأزقـّة الضيّقة للوصول إلى بيته ، أمّا إذا كان مزاجُه رائقا ، فطالما يلجأ إلى الغناء بأعلى صوته ، عابرا سوق المدينة المسقوف بصفائح الجينكو الصدئة ، دون أن يعير اِهتماماً لتعليق أصحاب الدكاكين المصطفـّة على جانبي السوق ، أو من بعض المارّة الذين يرشقونه بعبارات المديح أو السخرية .
لا أحد في المدينة يعرفُ عن عبود المدلول الشيء الكثير ، لكنّهم يستشهدون بأقوال الحاج منعثر الخيّاط الذي تحدث بشيء من الإيجاز عن حياته في ليلة رمضانية ، اجتمع فيها الكثير من الرجال المتحلقين حوله ، حيث قال :
كان يعملُ منذ صغره في سحب السفن الصغيرة المحمّلة بالبضائع عبرَ نهر الفرات مع بضعة من الفتيان ، ثمّ أخذه والدي ليعمل معه في معمل لكبس التمور ، ونشأ غريبا عن أصحابه في العمل ، وفي إحدى الليالي ، اكتشفوا أنّ له علاقة بفتاة تجمع بقايا التمور من بعض البساتين المجاورة ، ومع مرور الأيام ، توطدتْ العلاقة بينهما ، وأضحَتْ معروفة لدى الجميع ، الأمر الذي جعل من زواجه منها واقعا لا مفـّر منه ، وفي الأسبوع الأول الذي تلا ليلة زفافه ، سرَتْ شائعات حول العروس ، وما تعانيه من آلام حادة ، وأنّ صحتها بدأت تتدهور ، ممّا دفعها للفرار إلى بيت أبيها ، تاركة لزوجها كلّ شيء ، وبعد شهر من انتشار هذه الشائعة ، توفيَت الزوجة في ظروف غامضة ، لا أحد يعرفها ، وتركَ عبود المدلول العمل ، وسافرَ إلى جهة مجهولة ، بقيَ عدة سنوات ، عادَ بعدها إلى هنا وهو يقودُ العربة التي ترونها كل يوم .
ورغم أنّ الأحاديث تشير إليه على أنّه زير نساء ، إلا أنّ أحدا لم يلاحظ عليه ما يؤكد ذلك ، كان ودودا في تعامله ، متسامحا مع الجميع ، لم تصدرْ منه كلمات نابية مع مَن يتعامل معهم ، فيه من الشهامة والجسارة ما يلتفت الأنظار إليه ، ففي أحد الأيام حصلَ شجارٌ بين أحد الباعة الذي زاحمَ إحدى البائعات حول مكانها التي اعتادت أن تبيع فيه بضاعتها ، وبدأ الفتى يمطرها بسيل من الشتائم ، فما كان من عبود المدلول إلا أن يتركَ عربته ويسرع نحوه ، موجّها له صفعة أثارت انتباه الجميع ، وجعلت المعتدي يوّلي الإدبار ، بينما رجع عبود إلى عربته ، وهو يدمدمُ بانفعال : ( والله عيب ، أن يفعل رجل مثلما فعله هذا الزنديق بهذه المرأة المسكينة ) . كلّ ما عمله ، وما هو ملاحظ عليه ، لم يخّلصه من الأقاويل التي تدور عليه ، فقد أباحَتْ إحدى البائعات إلى صويحباتها ، أنّ عبود المدلول قد أطال النظر إليها قبل عدة أيام ، أحسّتْ من خلال نظراته ، أنّ أمعائها صعدت نحو فمها ، وأنّ رعشة شديدة سَرَت في جسدها المكتنز ، جعلها تحيد بنظرها عنه كلما وقفَ أمامها ، أو لمحته من بعيد ، وفي مناسبة أخرى ، قالت إحدى الثرثارات ، أنّ عبود المدلول لا تشبعه عشر نساء مجتمعات . لكنّ ما دار من همس بين النساء حولَ مريم الشبقة ، سليطة اللسان ، مِن أنها شوهدت تدخلُ بيته ، وهي متنكرة ، أوقفَ كلّ الأقاويل ، وألغى كلّ التخرصات التي كانت تدور حوله ، وأصبحَت هذه الحادثة تثيرُ اهتمام الجميع إلا هو ، فعبود لا يكترث بما يدور حوله ، وكـّأنّ ما يسمعه لا علاقة له به ، ولا يعنيه بشيء ، يعيشُ كما يحلو له أن يعيش ، والناس من حوله تتحدثُ عنه بما يحلو لهم في مدينة يخيّمُ عليها السأم ، ويطبقُ عليها الضجر الذي جعلَ أهلها يبحثون عن أيّ حديث يشغلهم عن دائرة الملل الذي يعانون منه .
في إحدى صباحات الشتاء الممطرة ، هرَع الناس نحو الزقاق الضيّق على أثر صراخ حاد وغريب ، وما أن وصلوا هناك ، حتى كانت الدهشة تعقد ألسنتهم ، وتشلّ حركتهم . لقد شاهدوا عبود المدلول ، شبه عاري ، ويداه تصفعان وجهه بقوّة ، وكان غائبا عمّا يدور حوله ، الأمر الذي جعل بعض الواقفين أن يتقدموا نحوه ، ليوقفوا عنه الأذى الذي يعاني منه ، محاولين تهدئته بشتى الأساليب الطيّبة والعبارات الرقيقة ، وأسرعَ بعضهم لجلب الماء ، وتقدّم أحد الوجهاء إليه وراحَ يغسلُ وجهه ، ويسكبُ الماء على رأسه .
كانت عيناه تدوران في فراغ هائل ، وكان جسدُه يهتزّ كشجرة فتية أمام عاصفة مدمّرة ، وكانت شفتاه ترتعشان ، وقد تورمَت وجنته اليسرى ، وأخذتْ أنفاسه تضيقُ في صدره ، ومع مرور الوقت ، انتبهَ إلى الجمع المتحلق حوله ، راحت عيناه تنتقلان بين الوجوه ، وبلا إرادته ، امتدت يده لتسترَ ما انكشفَ من جسده ، ثمّ واجه الجميع بابتسامة باهتة بلهاء ، لا توحي إلا عن الحياء نتيجة الوضع المزري الذي هو فيه ، أسندَ كفـّيه إلى الأرض لتعيناه على الوقوف ، فأسرع من هو أقرب إليه ليساعده فيما يريد ، وبصعوبة بالغة ، تحركَ عدة خطوات ، ودخلَ لبيت .
بقيَ الجمعُ يتجاذبُ التعليق حول هذا المشهد الغريب ، والذهول ما زال هو المسيطر عليهم .
قال الشيخ صالح : أعوذ بالله ، هذه الخمرة اللعينة ، لعنَ الله شاربها ، ولعنَ الله حاملها ، ولعنَ الله .... وأراد أن يكمل الحديث ، لكنه لم يفلح ، وبدأ يفركُ يديه ، إلا أنّ مختار المحلة أنقذه بقوله : أظنّ أنه يعاني من وضع نفسي خطير . ارتفعَ صوتُ صبري الحلاق بحماس : يا جماعة ، والله العظيم هذا عمل الجن ، ارسلوه إلى ملا جاسم ليخرجَ من رأسه هذا الكافر اللعين . بينما علّق صاحب النداف : انه مجنون ، فقد عقله ولا يدري ماذا يفعل ؟ . ودار حديث هنا وهناك ، وارتفعت أصوات وخَبتْ أخرى ، وبدأ الجمعُ يتفرقُ ويتلاشى ، ولم يعدْ في ذلك الزقاق الضيّق من أحد .
في الغرفة الطينية الوحيدة ، التي بناها على الجانب الأيسر من البيت ، جلسَ عبود المدلول واضعا رأسه بين ركبتيه ، وقدماه ملوثتان بالوحل . ألقى نظرة من باب الغرفة المصنوع من الصفيح الثقيل إلى الحصان النافق المطروح على ساحة البيت الترابية ، شاهدَ أسرابَ الذباب تجمّعت حول عينيه وفمه بشكل كثيف ، رفعَ رأسَه ، تحركتْ شفتاه بصعوبة ( كان يقودني طيلة السنوات الماضية ) . هاجمَه انفعالٌ مفاجئ دفعَه إلى النهوض ، أسندَ يده نحو الحائط المزدحم بالشروخ ، تحركَ ببطء نحو باحة داره : ( لابدّ من القيام بعمل يليقُ به ) . شَعرَ بالصداع يباغته بقوّة ، خطا عدة خطوات ، وقفَ على رأس الحصان ، تطايرَتْ أسراب الذباب محدثة طنينا مسموعا ، اتجّه نحو العربة ، التقط قطعة من أسماله البالية ، شطرها إلى نصفين ، وعادَ يطردُ الذباب ، وضعَ قطعة القماش على رأس الحصان ، بينما وضعَ القطعة الأخرى على الجزء الأسفل من جسده هامسا : ( من المخجل أن تكون عورتك هكذا مكشوفة ) .
كانت لديه رغبة بالتحدث إليه ، أن يعاتبه على هذا الفراق المفاجئ ، عن هذا الرحيل الذي حصل دون مقدمات ، كان صديقا ونديما وسميرا ، يحدثه ويناجيه كلمّا شعرَ بالوحدة تفتكُ به أثناء الليالي الموحشة ، أحسّ بشيء من الانهيار الذي استسلمَ له ، تهاوى إلى الأرض وغرقَ في نشيج مؤلم ، بدأ يزحفُ نحو غرفته ، سرعان ما شعر بالخجل الذليل ، انتفضَ في مكانه ثم وقف ، ورغم شدّة الألم الذي يعانيه ، أسرع نحو غرفته بخطوات واسعة ، امتدت يدهُ نحو قنينة العرق الرديء ، أمسكَ بها بقوّة ، فتحَ سدادتها بعصبية ، وراحَ يصبّ ما فيها في جوفه : ( انّه زمن سافل ورخيص ) . هكذا تمتمَ بعدما شعرَ أنه أنجزَ مهمة مبهمة لا يعرف حدودها بالضبط ، ساقه انسحبت لتأخذ وضع الاستقامة على التراب ، تبعتها الساق الأخرى ، انحنى رأسه باتجاه صدره ، يَده اليمنى عانقت أختها اليسرى واستقرتا في حضنه ، جفناه قد ثقلا عليه ، شفته السفلى غادرت العليا قليلا ، ملامحه لا تقرأ فيها سوى الهزيمة ، بدأت الغرفة تترنحُ في رأسه ، وبدأت الأحداثُ تتراكمُ في مخيلته ، تجسدتْ أمامه صور الشقاء والظلم الذي عاناه ، رحلته نحو العاصمة وما ذاقهُ من مرّ المهانة والابتزاز ، الشخصيات اللامعة المحترمة التي تحملُ ألف وجه ووجه ، الألسن المصنوعة من الكذب والرياء وهي تتحدثُ عن المثل العليا والأخلاق الرفيعة . خرجتْ من بين شفتيه الخابيتين كلمات ممطوطة : ( لابدّ للحياة أن تنتصر رغم هذا الكّم الهائل من الأشرار ) . الأفكار تنثالُ عليه بشكل مضطرب ومشوّش ، وفي خضّم اللحظات التعيسة ، بدأ وعيه يتشظى ، تتباعد مسافاته ، ثمّ فارقََه ، بعد أن سقطَ على جانبه ، متوسداً ذراعه الأيمن ، ولم يعدْ يشعر بشيء .
مضى النهارُ ، وانصرفت الشمس بعد الانتهاء من نوبتها ، وتـَحرك الظلامُ يرسلُ طلائعه ، ليخيّم على أجواء المدينة ، بدأتْ ومضات من الوعي تعودُ إلى رأس عبود المدلول ، بعد أن كان غائبا عن الدنيا ، أراد رفعَ رأسه فأحسّ بثقله ، حاولَ سحب يده من تحت الرأس الثقيل فلم تطاوعه ، استسلمَ للوضع الذي هو فيه ، ثمّ تذكـّرَ الحصان ، كان عليه أن يقوم بعمل يليقُ به كجزء من الوفاء له ، فتحَ عينيه ، كانتا مثل نفق عميق مغلق لا ترى منه غير اللون الأحمر الداكن ، سحبَ يده بقوّة ، وتحرك بصعوبة : ( عبود ، عندما يلاقيك الموت ، ناطحه بشجاعة الرجال ) . تحركَ في داخله شريانُ الغضب ، نهضَ دون أن يعلم ، وقفَ وسط غرفته المظلمة ، قدماه ترتجفان ، خرجَ بهما إلى الخارج ، كان الصراعُ قائما بين النور والظلام وسط منزله ، وكان الحصانُ راقدا هناك ، اتجّه نحو العربة ، امتدت يده إلى الفأس المطروح بقربها ، انتابه أحساس بالارتياح ، رفعَ الفأسَ وأنزله بشدّة على الأرض الترابية ، رفعَه بقوّة وأنزله مرّة أخرى ، تصاعدتْ وتائر الحماس في نفسه ، عزيمته هزمت ما يعانيه ، تحوّل إلى مارد ، لم تعد الجروح والكدمات وتأثير السكر ، يفعلُ شيئا أمامَ الإصرار الذي اجتاحه ، يداه تتحركان بمرونة ، وبدأ الفأس يأكلُ في الأرض ، والحفرة تتسعُ بفعل صعود ونزول الفأس عليها ، لم يتوقف عبود المدلول ، أزعجه سيل العرق النازل من جبهته إلى عينيه جارفا معه التراب المشبع بالملوحة ، رفعَ ذيلَ قميصه ، ومسحَ جبهته ، لم يفلح في التخلص ممّا هو فيه ، أسرع نحو الماء ، وراح يسكبه على رأسه وجبهته وعينيه ، عاد إلى عمله ، الحفرة كبرت وأخذت شكلا دائريا عميقا ، حاول تغيير شكلها ، أن يجعلها مستطيلة ، تسللت ارتعاشة إلى ساقيه ، ركبَه العناد ثانية ، اِزدادت سرعة الفأس ، يداه تعملان بحركة سريعة ودقيقة ، اِرتطمَ الفأسَ بجسم صلد محدثا صريرا خافتا ، قفزَ وفأسه بين يديه داخل الحفرة ، لم يخرج من جسده سوى رأسه ورقبته :
( إنها أصبحت جاهزة ) انحنى نحو قاعها ، تلمّس التراب ، وقعَت يَده على سلك نحاسي غليظ : ( لابدّ من إزالته ) يريد لحصانه مكانا لا يزعجه فيه أحد ، أنزلَ الفأسَ على السلك ، قطعه بيسر : ( أكله الصدأ بفعل تراكم السنين مثلما أكلني ) رفعه إلى الأعلى ورماه جانبا ، اطمأنّ إلى سعة الحفرة ، تلمسَ جدرانها ، كانت هناك جذور لبقايا أشجار مقلوعة ، تشكـّل شرايين كثيفة في جسد التراب ، صعدَ إلى الأعلى ، اتجّه إلى عربته ، جمعَ قطع القماش البالية ، أحضرَ بعض ثيابه القديمة ، ونزلَ إلى قاع القبر ، فرشَه بعناية ، وصعدَ وهو يشعرُ بالارتياح . ألقى نظرة إلى السماء ، رآها صافية ، أدارَ بصره إلى سطوح البيوت المتجمهرة حوله ، كانت متسربلة بالوحشة والصمت ، بدأت دواخله تتدافعُ مع بعضها ، انحنى فوق رأس الحصان ، تمعّن في ملامحه ، ربتَ على خدّه ، أطال النظر إليه ، هاجمه الحزن والغضب معا ، يعرف أنّ حصانه ماتَ وفي قلبه الكثير من الحزن والغضب ، تدحرجت دمعة على خدّه المبلل بالعرق ، انحنى أكثر ، تقوّس ظهره ، وبسرعة خاطفة زرع َعلى وجه حصانه قبلة أودع فيها مشاعره المشتعلة في داخله ، وبصوت أبّح ، خاطبه : ( تأكـّد أيها الصديق ، أنّ الخيول ، تغضبُ كثـيرا ، وتحزنُ كثيرا ، ولكـّنها لا تعرف الخوف ) .
عندما أدركَ أنه وصل إلى ما يَريد ، تقدمَ نحو الحصان ، دفعَه برفق إلى الحفرة : ( رافقتك السلامة ) . تهاوى الجسد الثقيل محدثا صوتا مختنقا ، نزلَ وراءه ، وضعَه بطريقة مريحة ، أعادَ قطعتي القماش على وجهه وعورته ، خرجَت زفرة حارقة ألهبتْ أحاسيسه أكثر ، وشرع يهيلُ عليه التراب : ( لا تبتئس أيها الصديق ، هذه الحفرة لك ولغيرك ). سوّى التراب بمستوى سطح الأرض ، نفضَ يديه ، ودخلَ إلى غرفته ، وقد طغتْ عليه ابتسامة هي مزيج من السخرية والمرارة والألم .
عندما احتضنه الفراش ، اِستفاقتْ جروحه من سباتها ، فمه يلتهبُ من شدّة العطش ، لسانه انقلب إلى قطعة زائدة تعيقه عن التنفس ، تمنّى أن يقطع هذا الرأس المحشو بالهذيان ، نهضَ بصعوبة بالغة ، اقتربَ من وعاء الماء الذي كان مهيئاً للحصان ، كان مليئاً ، رمى وجهه فيه ، وراح يكرعُ منه بنهم ، رفعَ رأسه ، داهمه الغثيان ، اِقترب من فـراشه ، وضعَ رأسه على حافـته ، وبين الآلام الحادّة ، وثـورة جروحه ، ونزيف ذكرياته ، وصور شقائه ، وموت حصانه ، غرقَ في نوم عميق .




#أحمد_الجنديل (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الهجرة الى البحر........منلوج قصصي
- حكايات عن عواصف الرعب .......... قصص قصيرة
- الحفاة ........ .. قصة قصيرة
- الارصفة تشرب الصراخ ................... قصة قصيرة


المزيد.....




- السويد.. هجوم جديد بطائرة مسيرة يستهدف الممثلية التجارية الر ...
- -البحث عن جلادي الأسد-.. فيلم استقصائي يتحول إلى دليل إدانة ...
- تقرير رويترز 2025: الجمهور يفضل الفيديو والصحافة البشرية وهك ...
- هكذا تصوّرت السينما نهاية العالم.. 7 أفلام تناولت الحرب النو ...
- بعد أسابيع من طرح الفيلم ونجاحه.. وفاة نجم -ليلو وستيتش- عن ...
- ابتكار ثوري.. طلاء -يعرق- ليُبرّد المباني!
- كيف يساهم تعليم العربية بكوريا الجنوبية في جسر الفجوة الثقاف ...
- بالتزامن مع تصوير فيلم -مازيراتي: الإخوة-.. البابا لاوُن الر ...
- -الدوما- الروسي بصدد تبني قانون يحظر الأفلام المتعارضة مع ال ...
- المرحلة الانتقالية بسوريا.. مجلس شعب جديد وسط جدل التمثيل وا ...


المزيد.....

- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد الجنديل - عندما يغيب الصهيل .............. قصة قصيرة