|
الحفاة ........ .. قصة قصيرة
أحمد الجنديل
الحوار المتمدن-العدد: 2511 - 2008 / 12 / 30 - 07:25
المحور:
الادب والفن
قدماه تقودانه إلى الشارع المكتظ بمحلات الصيارفة المزروعة على جانبيه ، تشاركها المعارض الأنيقة لبيع الملابس النسائية والعطور والأقمشة ، التي تفنن أصحابها في عرض بضاعتهم ، بطريقة جذابة ومغرية ، وازدحام المارة الذين وفدوا للتسوق ، وزعيق أبواب السيارات التي يجد أصحابها صعوبة السير في مثل هذا المكان . كان يتنقل بصعوبة على إسفلت الشارع بجهد في الشارع ، وفي رأسه تدور خواطر مزدوجة سرعان ما تختفي ، لتخلف وراءها خواطر أخرى ، وهواجس لا يستطيع مساراتها ، فمنذ ثلاثة أشهر ، وهو فريسة البطالة التي بدأت تفتك ، بعد أن طرده صاحب المعمل الذي كان يعمل فيه . اعتاد محمود الخطـّاف ، من تكثيف نشاطه ، إرضاءً لصاحب المعمل ، خوفا من غضبه الذي يؤدي أحيانا إلى طرده من العمل ، لقد شاهد خلال فترة الفترة التي قضاها في العمل . كم من العمال الذي قذف بهم الحاج رؤوف إلى الضياع لأتفه الأسباب ؟ . كان يعلم حجم المعاناة التي تحلّ به ، إذا كان مصيره كمصير الذين طردوا ، فكان أول مكن يصل إلى الورشة التي يعمل فيها ، وآخر من يخرج منها ، منهمكا في عمله ، متقنا له ، متحاشيا كلّما يؤدي إلى إزعاج الحاج رؤوف ، وابنه المتصابي النزق ، الذي يحلو له التعامل مع الجميع معاملة متعالية ومتغطرسة ، لا تخلو من الكلمات البذيئة . شعر بالخدر يتسرب إلى ساقيه ، وتضايق من رائحة عفنة ، هبّت عليه من حاوية القمامة المركونة على رصيف الشارع ، اقترب من احد الأزقة ، وحثّ خطاه نحو مقهى صغير ، تهالك على كرسي قديم ، مصنوع من سعف النخيل ، شعر بالتعب والكآبة في آن واحد ، قطعة القماش الصغيرة التي بيده ، أخذت طريقها لتزيل العرق الذي نضحته جبهته ، أحضر له صاحب المقهى قدحا من الماء ، وآخر من الشاي ، دون أن يطلب ذلك ، أفرغ الماء في جوفه بلا توقف . ثلاثة أشهر قضاها بطرق الأبواب ، دون أن يفتح له باب واحد ، عرض جوعه على الكثير ، فلم يجد غير الرفض ، لعن تلك الساعة التي التي ركبه الشيطان فيها ، عندما دخل وسام ابن الحاج رؤوف إلى المعمل ، تفحص وجوهنا ، اتجّه إلى الأحذية المكدّسة التي تم إنجازها ، تأمل واحدا منها ، وصرخ بغضب : ــــ أيّ حمار منكم ، أنتج هذا ؟ العيون تبحث بعضها مع البعض ، لتجد إجابة ترضيه ، والحذاء الذي بيده خرج من يدي ، وليس فيه عيبا ، أجبته بلهجة رقيقة : ـــــ هذا من نوبتي الصباحية ، وأظنه أعجبك . نظر صوبي بحقد ، اتخذت أقصى تدابير الحذر خوفا من غضبه ، إلا أنّ ما كنت أفكّر به تطاير دفعة واحدة ، عندما فوجئت بالحذاء يرتطم بصدري بقوّة ، وبصوت يشبه العواء ، لوّح بوجهي : ـــــ ماذا يعجبني به يا ابن الزانية ؟ خذه معك إلى بيتك لتدخله في .... أمك . تناسيت ضربة الحذاء ، وبلعت الإهانة ، وقلت في نفسي : ــــ أنت فقير ، والفقراء نصيبهم الذل في الحياة ، وعليك أن ترضى بنصيبك يا محمود . أغلقت نفسي على صمت مرير ، ما ألعن الفقراء عندما يجاهدون من أجل ترويض نفوسهم على الذل الهامد ؟ لم أحرّك ساكنا ، ولم يكتف بذلك ، رماني ببصقة استقرت على وجهي ، عند ذاك تحرك شيطاني ، شيطان الفقراء جبان وغبي ، لا يتحرك إلا بالحذاء والبصاق ، وعندما يستيقظ ، تستيقظ معه كلّ صور الإذلال ووجوه الخزي ، يثور بغباء ، يدمّر برعونة ، ثمّ ينكفئ إلى حظيرة الذل الهامد . ارتفعت يدي لتهوي على وسام ابن الحاج رؤوف بصفعة أشاعت الذعر في وجوه العمال ، أعقبها حذاء هويت به على رأسه ، تبعه آخر ، سقط إلى الأرض ، وجهه مكشوف أمامي وقد تلبسه رعب مخيف ، كان من السهولة أن أمطر عليه كلّ ما في المعمل من الأحذية ، اكتفيت بما فعلته ، وخرجت مسرعا إلى الخارج ببذلة العمل ، تاركا ملابسي مشنوقة على مسمار داخل الورشة . كنت حينها راضيا عن نفسي ، فخورا بما عملته ، كنـّا نمنح أباه دماءنا ، يعبث بها متى يشاء ، وعندما تتقافز في داخله جرذان العظمة ، يرمينا إلى الضياع ، مثلما يرمي أعقاب سكائره . انسلخ الأسبوع الأول من محيط الزمن الذي أعيش فيه ن بعدها بدأت رحلة العناء ، طرق الأبواب ، السؤال الذليل والجواب الأكثر ذلا : ( لماذا يمسخ الإنسان جرذا حقيرا بفعل سياط الفقر المدمّر ؟ ماذا يعني هذا الارتماء ألقسري في الحاضنات التعيسة ؟ الحاج رؤوف أغبى من بغل عجوز ، وأحقر من دودة وسخة ، ولكنه يأمر وينهى ، معدته المندلقة ترسل إشارة إلى لكلّ من يراه عن مقدار النعمة الموفورة التي هو فيها ، ونحن عبيده ، نحمل الوجوه الصفراء ، والبطون الخاوية ، والقلوب الجرداء ، دون أن لأحدنا سببا في ذلك . ماذا يعني توارث الفقر ؟ من يملك ماكينة مكافحة هذه أللعنة إلتي نمت في أرحام أمهاتنا ، فخرجنا إلى الحياة ننوء بثقلها ؟ . تلبّد داخله بهمّ إضافي ، بدأ رأسه يرسل أبخرة سوداء تأخذ بخناقه ، صاحب المقهى ، يأخذ الشاي البارد ليستبدله بآخر ساخن ، أراد الابتسام له ، شاكرا له ما فعل ، إلا أنه دخل دوامة الإحباط التي ألغت كلّ ما يدور حوله ، بدأ بالانحدار إلى الأسفل ، سقط في دائرة مزرية من المهانة . أصوات من بعيد تسمع ، تحرك بعض الجالسين ، خرج صاحب المقهى ولم يعد ، الأصوات تقترب كموج هادر ، لم يعد أحد في المقهى ، طغت الأصوات على صدى الكوابيس الجاثمة على صدر محمود الخطـّاف ، تأمل ما يسمع بارتياب ، أراد أن يستعيد ذاكرته ، طاف بعينيه الذابلتين على أرجاء المقهى ، انتقل نظره إلى الشارع ، حركة غير مألوفة بدت أمامه ، الهتافات يسمعها بوضوح ، كانت تمجّد بالوطن ، انفجرت فيه مشاعر خرساء ، نهض من مكانه وراح يسحب نفسه بجهد ثقيل ن اجتهد على توحيد مشاعره ودفعها في اتجاه واحد ، لم يفلح في ذلك ، عثرت رجله اليمنى لرصيف الشارع دون أن يقع ، التحم مع جموع الغاضبين ، عيناه تسرقان النظر إلى الوجوه القريبة منه ، الأيدي مرفوعة إلى الأعلى تلوح بالغضب ، ارتفعت يداه معلنة انضمامها إلى الجميع دون إرادة واعية منه ، تدلت شفتاه لتنفرجا عن أسنان صفراء ، ولثة قرمزية محتقنة ، وبدأ بالهتاف ، كان صوته خجولا أول الأمر ، ثم أصبح يسمعه بقوّة ، المسافة بين خطاه اتسعت ، وجد نفسه في قلب في قلب الحشد الكبير ، أدار وجهه إلى الخلف ، واجه عشرات الوجوه والصدور المكشوفة ، وجوه نحاسية صدئة ، سمراء داكنة ، صفراء ذليلة ، مشاعره بدأت بالتوحد ، داهمه نزيف الثأر ، جموع الفقراء ، يكشفون ما في نفوسهم بسذاجة مفرطة ، جرفته موجة الغاضبين ، تماسك ، وانطلق معهم إلى الأمام خوفا من وقوعه بين أقدامهم ، تيار عنيف من المشاعر الملتهبة يتربص به ، ليحرقه من الداخل ، اجتاز مقدمة التظاهرة ، أعطى ظهره إلى الجزء الفارغ من الشارع ، وراح يصرخ : ( نموت ويحيا الوطن ) ، الخطوط الأمامية التي تتصدر الحشود ، تردد ما يقوله محمود الخطاف ، انتقل صوته إلى وسط الجموع ، تقدم أحد المشاركين ، رفعه إلى الأعلى ، أجلسه على رقبته وقد تدلت ساقاه إلى الكتفين ، الآلاف يمزق حناجرها زئير الغضب ، الدوار بدأ يهاجمه بعنف ، رغب في النزول إلى الأرض ، إلا أن نظره وقع على لوحة المعمل الذي كان يعمل فيه : ( معمل الإخلاص لصناعة الأحذية ) . تحوّل إلى عفريت بفعل الثورة الراكدة في أعماقه ، ماذا لو يهتف بالجميع : ( يسقط الإخلاص المزيف ) . كان الغضب ينطلق متفجرا ليكتسح صمت الشارع ورتابته ، وفي فورة انفعاله ، شعر أنّ حذاءه سقط من قدمه اليمنى ، لم يكترث لذلك ، وراحت التظاهرة ، تشق طريقها إلى ساحة المدينة ، لم يبق فيه شيء من قدرة المواصلة والاستمرار ، أوشك على السقوط إلى الأرض ، أسرع الذي يحمله إلى حافة الرصيف ، وضعه هناك ، وعاد من جديد ليندمج في المسيرة من جديد . بقي محمود الخطاف على حاله ، ونظراته شاخصة إلى أفراد عشيرته الذي فارقهم مرغما ، ولمّا توارى الجمع من أمامه ، خلع الحذاء الآخر ، ورماه جانبا ، واتجّه صوب بيته ، وقد غزاه فيض من الإحساس بالرضا ، اقتلع كلّ بؤر البؤس ، الذي كان سابحا فيها قبل قليل .
#أحمد_الجنديل (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الارصفة تشرب الصراخ ................... قصة قصيرة
المزيد.....
-
دواين جونسون بشكل جديد كليًا في فيلم -The Smashing Machine-.
...
-
-سماء بلا أرض-.. حكاية إنسانية تفتتح مسابقة -نظرة ما- في مهر
...
-
البابا فرنسيس سيظهر في فيلم وثائقي لمخرج أمريكي شهير (صورة)
...
-
تكريم ضحايا مهرجان نوفا الموسيقى في يوم الذكرى الإسرائيلي
-
المقابلة الأخيرة للبابا فرنسيس في فيلم وثائقي لمارتن سكورسيز
...
-
طفل يُتلف لوحة فنية تُقدر قيمتها بخمسين مليون يورو في متحف ه
...
-
بوتين يمنح عازف كمان وقائد أوركسترا روسيا مشهورا لقب -بطل ال
...
-
كيلوغ: توقيع اتفاقية المعادن بين واشنطن وكييف تأخر بسبب ترجم
...
-
عرض موسيقي مفاجئ من مانو شاو وسط انقطاع الكهرباء في برشلونة
...
-
مسقط.. أكثر من 70 ألف زائر بيوم واحد للمعرض الدولي للكتاب
المزيد.....
-
طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11
...
/ ريم يحيى عبد العظيم حسانين
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
-
عشاء حمص الأخير
/ د. خالد زغريت
-
أحلام تانيا
/ ترجمة إحسان الملائكة
-
تحت الركام
/ الشهبي أحمد
-
رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية
...
/ أكد الجبوري
-
نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر
...
/ د. سناء الشعلان
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
المزيد.....
|