أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ملف: الانتخابات والدولة المدنية والديمقراطية في العراق - رحيم الغالبي - انتخب 307 ذاكرة الشيوعيين في الناصريه -حوار مع عدنان الشاطي ج1















المزيد.....



انتخب 307 ذاكرة الشيوعيين في الناصريه -حوار مع عدنان الشاطي ج1


رحيم الغالبي

الحوار المتمدن-العدد: 2530 - 2009 / 1 / 18 - 07:26
المحور: ملف: الانتخابات والدولة المدنية والديمقراطية في العراق
    


سنوات ثورية شجاعة ..حوار مع عدنان الشاطي وثوار جنوب العراق
الحلقة الاولى
حوار: رحيـــم الغالبي
حوار صريح لاول مرة مع الفنان المغترب عدنان الشاطي صاحب موقع ناصرية نت الثقافي (العلماني الواسع الشهرة ). منذ عام 1976 غادر العراق الى ايطاليا وهنا لاول مرة يبوح بسيرته المليئة بالاحداث والمفاجئات نراها عند القليل ممن ساروا في طريق الحرية والمجد بروح جنوبيه ثورية نحو الشمس . كان لي معه هذا الحوار بعد ان استغرق -بصورة متقطعة-اكثر من شهرين وبحرقة وألم عراقي نبيل اخذ يتكلم بدون تردد بعد ان ازال غبار السنين عن لوعة حياته الماضيه.

هذا هو الجزء الاول من سفر مسيرته المجيدة

س :ابو زكي انت غني عن التعريف لكن لابد للجيل الجديد ان تفرش سنواتك على بساط الذكريات خطوة خطوة من اين تبدأ حيث اقف امام ايامك مرتبكا بصراحة؟

ج- انا عندي تخطيطات لقصة هروبي من العراق واحاديث اخرى..ساعمل معرضا للرسم حال الانتهاء منها بعد سنة تقريبا. وما سأذكره في هذا الحوار هو نتاج تجربتي الشخصية ومعايشتي للأحداث خلال الثلاث عقود الماضية. وللاخوة والأخوات الذين عاصروا تلك الاحداث معي أو أقرب مني لها أن يضيفوا من ملاحظاتهم وآراءهم لتسجيل تلك الحقبة الزمنية الطويلة من حياتنا بواقعية وأمانة.

وصلت الى ايطاليا عام 1976. لم اكن متزوجاً وعندي شهادة تخرج مترجمة صادرة من اعدادية صناعة البصرة - قسم الميكانيك, بطاقة سفر و180 دولاراً فقط. وانهيت ضعف الخدمة العسكرية المقررة واصبحت ثلاث سنوات بدلاً من سنة ونصف. قضيت بدايتها في مركز تدريب العمارة مع الاصدقاء حميد فتحي ومحمد يونس, قرب الاصدقاء وزملاء الدراسة في مدينة العمارة الاخوة عصام نعيمة وغالب عزيز و جمعة فليح وخليل ابراهيم وعماد الدفاعي - وهم من خريجي أعدادية صناعة البصرة أيضا"- ثم نقلنا الى القوة البحرية في البصرة. وكانت معظم مهامي العسكرية تتعلق بلعب كرة قدم أوأعمل خطاطا أو رساما بعض الأحيان. دعينا خلالها عدة مرات الى بغداد للانظمام الى الجيش العقائدي الجديد!!وآخر مرة التقي بجموع الخريجين عبد الجبار شنشل نفسه. ولم تلق دعوته الكثير من الاستجابة. ما عدا بعض المهندسين وزميل آخر خريج التربية الرياضية . ولكني رفضت وكذلك معظم اصدقائي, ومنهم المرحوم حميد فتحي علاوي وبقية الاصدقاء والزملاء. والسبب ببساطة ان جيلي قد سمع أو شهد كوارث شباط والحرس والقومي والتآمر على السلطة . ولم نثق بثورة البعث البيضاء هذه مهما كان بياضها ناصعاً. لأنها جاءت بقوة الدبابات واستولت على الأذاعة والدفاع , كما فعلوا في انقلابهم عام 1963. كنا نتحدث على الدوام عن هذا التأريخ الزائف. وكان ينتاب الجميع من حولي شعور بعدم الارتياح والريبة من هذه العناصرالجالسة أمامنا ,في نادي الضباط القريب من وزارة الدفاع , ببزاتها العسكرية ونجومها وشاراتها الذهبية اللامعة, بعد تأميم نفط العراق!


السنة النهائية لقسم الميكانيك - إعدادية صناعة البصرة -عدنان الشاطي - ثالث الجالسين من اليمين

س: متى تسرحت من الجيش؟

ج- توقفت حرب اكتوبر 1973ونحن في طريقنا الى هضبة الجولان السورية فتوقفنا في بغداد. وبدلا" من ان نرجع الى البصرة ارسلونا الى معمل عجلات متوسط في ابي غريب , الذي كان قريباً جداً من السجن السئ الصيت وخلفنا مطار بغداد الدولي. وكنا نراقب الطائرات على الدوام اثناء الاستعاد الصباحي والمسائي!! ونمني النفس بالاقلاع يوماً ما! إضافة الى حب السفر ودراسة الفن في إيطاليا, وكان يخالجنا شعور كبير بأننا جميعاً وقعنا في فخ سياسة الدولة وشعور بعدم الاستقرار السياسي. وان شعارت الثورة البيضاء التي قاد إنقلابها حزب البعث كانت غير مقنعة, خصوصا بعد أحداث الحرس القومي في الناصريه والجنوب عموما. رغم كل هذا لم تكن الرغبة بالسفر جدية الا بعد انهيار الجبهة الوطنية, وتدريب آلاف الجنود في معسكرات ابي غريب وارسالهم لحرب الاكراد في شمال العراق الحبيب. وكنا نراقب جحافل الوحدات العسكرية بين فترة واخرى بدباباتها ومطابخها وسيارات الزيل الروسية المحملة بالجنود ببدلاتهم الحربية وعتادهم الكامل متوجهة الى اربيل او السليمانية وهي تمر من امام وحدتنا العسكرية في ابي غريب. وكنا نشعر بأن الجيش مقبل على أو يخوض حربا" غير معلنة.

كانت مهمة وحدتنا الميكانيكية تصليح السيارات العسكرية بأنواعها وهي مستقرة نوعما, ولذلك إضافة الى الفنيين البارعين, نرى الكثير من منتسبي المعسكر من أولاد العوائل المتنفذة او من الذين لهم علاقات بضباط الجيش او اولاد التجار أو من اولاد الوجوه الاجتماعية المعروفة في بغداد وغيرها, كوصول شاب محبوب جدا ومرح وهو محمد ابن اخ الممثل رضا الشاطي - صاحب عبوسي في"تحت موس الحلاق", وعمل حلاقاً في المعسكر! وكان المرحوم حميد فتحي يحلم معي و يتأمل تحليق الطائرات المتجهة الى أوروبا ومناطق أخرى معي وهو ويردد البيت المشهور " يا أهل يثرب ِلامقــام لكم بها....". ويريد بذلك إستعداده للسفر بعد التسريح من الجيش. كانت هذه فكرتي أيضاً, ولكن كيف ونحن مفلسون على الدوام!


صورة الاصدقاء في رحلة في شط العرب - فوق - حميد فتحي -سعد عباس حمادي - غالب عزيز- سلام عبود- منذر ...- ومحمد يونس
صورة تذكارية في حدائق الاندلس في البصرة من اليسار عدنان الشاطي- سعد عباس حمادي -عادل.... - (--) - ومحمد يونس

وحال تسريحي من الجيش في عاد 1974, وانتقلت عائلتي من الناصرية الى الى بيت في إسكان غربي بغداد. والتحق حميد بمعمل نسيج الكاظمية, وارسل في دورة تدريبية الى تورينو - ايطاليا لمدة ستة أشهر. وعينت كملاحظ فني في الشركة العامة للسيارات في الدورة وكان العمال معي من اروع الشباب وكانت لهم آمال وطنية ومهنية كبيرة. بقيت في ورشة الدورة لمدة سنة لم أوفر من راتبي شيئا" لقلته. فعملت ساتقا" لشاحنة كبيرة - تريلر- تنقل الحنطة بين بغداد والصويرة والموصل لسنة اخرى وفرت فيها حوالي 400 دولارا".

التقيت بالمرحوم حميد فتحي الذي كان قد عاد من ايطاليا بعد قضاء فترة تدريبية ضمن وفد معمل النسيج في مدينة الكاظمية وعين ملاحظا" في المعمل. وعزمني على عشاء باجة ممتاز في ساحة قريبة من سوق الكاظمية, وسهرنا على سطح احد الفنادق, وقررنا السفر معا. وفي اليوم التالي ترجمنا وثائقنا وأبدلنا العملة العراقية الى دولارات في بنك الرافدين في شارع الرشيد. وبعد اسبوع تقريبا جلسنا معا قرب النافذة ونظرنا تحتنا الى المعسكر الذي كنا به ومخازن العتاد, وبصقنا معا" على معسكرات التدريب التي كانت تهيئ الجنود لقتال اخوتهم الاكراد في كردستان.

س: كيف ومتى وصلت الى إيطـــاليا؟

وصلنا الى مطار روما بنفس اليوم في أب 1976 , واخذنا القطار الى مدينة "المشاحيف!" - فينيسيا مباشرة. وبقيت بها لمدة ثلاثة اشهر. وكنت مبهورا" بجمالها وطعم حريتها, وكأني في حلم. وبعد حوالي اسبوع من وصولنا سافرحميد الى مدينة فلورنسا لزيارة بعض الاصدقاء هناك. وبقيت وحدي والتقيت بصديق قديم وهو المرحوم محمد سبوس الذي كان يسكن في فينيسيا. لأنه كان أشطر منا فقد حصل على فيزة دراسية بعد تخرجه من الاعدادية مباشرة دون أداء خدمة العلم - المنازع عليه الآن!- ووصل فينيسيا ولم يفارقها حتى توفي في التسعينات بسبب أمراض الكليتين وتردي حالته الصحية.


عدنان الشاطي على الجسر قرب العمل في فينيسيا-أكتوبر 1976
زوارق الاوتوبوس (باصات فينيسيا) في فينيسيا

سكنت خلال الاسابيع الاربعة الاولى على البحر مع الهبيز!!لكي لا اصرف دولاراتي القليلة, وكان الجو جميلا في شهر أب وايلول. تعرفت على بعض الشباب من ألمانيا وبريطانيا واستراليا وفلسطيني وزوجته الالمانية. وكنا حوالي سبعة, خمسة رجال وأمرأتين وكيتار!!
كان البريطاني شابا" خفيف الدم - على عكس ما كنت اقرأه عنهم ! والبقية طيبين وكثيري المزاح. مقرّنا كان في نهاية بلاج جزيرة "ليدو" , وهي الجزيزة الوحيدة التي تصلها السيارات التابعة لقصورالاغنياء القليلة الواقعة في الطرف الآخر من الجزيرة. ننام على الرمل الدافئ ليلاً ونترك البلاج عند شروق الشمس. نستقل الزورق الكبير الذ ي يعمل كباص المدينة الاعتيادية ويسمونه الأوتوبوس. نذهب الى ساحة سان ماركو الرئيسية نجلس ونتحدث مع السواح ونستمع الى صخب غناءهم . وفي المساء نجلس قرب الفرق السمفونية في مقاهي الساحة, ونستمع الى نماذج رائعة للموسيقى العالمية. وفي بعض الاحيان نتسكع في االشواع لنكتشف أماكن وجزر جديدة , أونزوركاليريات الرسم والتحفيات وقصور المدينة الأثرية التي كان يملكها تجار المدينة أيام إزدهارها الأقتصادي. ونتوقف أحيانا عند الكنائس وقنوات المدينة المائة وسبعة عشر -117- وجسورها الأربعمائة وتسعة-409-. ونرجع كلنا عند الغروب الى نفس المكان نشعل النار ونجلس حولها على الرمل الدافئ بفعل حرارة شمس النهار, ونأكل الجبن والخبز وبعض الفواكه التي نجلبها معنا.

بعد ذلك يباشر الانكليزي جون بالعزف على كيتاره يبدأها بأغاني البيتلز - الخنافس!! وعادة ما يبدأ الحفلة بأغنيتي المفضلة " Imagine-تصوّر"! وطبعا" انا الخارج من الضيم العراقي العسكري هو أكثر المستفيدين من هذا التصوّر!! وتنبهت بأنه ليس من العدل ان تتساوى معاناتهم مع معاناة العراقي - ولو في ذلك الوقت. وحاولت قدر الأمكان ان أغني معهم اول ليلة لكن الشجاعة خانتني !!لأن كلمات الاغنية للمرحوم جون لينون فيها تمرد كبير على الواقع التعيس عندنا, لاني كنت مؤمن بأن جون لينون كان يقصدنا بأشعاره. ومع علمي بأن الاعنية هي مجرد أماني وأحلام..إلا أن هذه الأماني والأحلام, بالنسبة لي, هي بالتأكيد في قائمة الممنوعات الدينية والسياسية!! ولا يسمح بها الحزب القائد, أو الرئيس أو السيّد دام ظله الوارف لأنها خارج نطاق سيطرته الدينية أو السياسية !!!(كلمات الاغنية اسفل الصفحة)

س: هل حصلت على عمل في فينيسيا؟

ج- حصلت على عمل في مطعم في جزيرة ً "سالوته" مقابل ساحة سان ماركو المشهورة, وقدمت لي إدارة المطعم غرفة انتقلت اليها وودعت اصدقائي الحالمين على البلاج, وتخلصت من محنة أحلامي الممنوعة!! وبسبب معرفتي لللانكليزية والالمانية حينها إحتضنتني تحت جناحيها طباخة المطعم الماهرة السيدة إلينا ,التي كانت في الستين من عمرها وتجيد ثلاث لغات, وعلمتني الطبخ بعد شهر من غسل الصحون! وكانت تعتقد بأني سأكون طباخا ماهراً لو تابعت قائمة تعليماتها الطويلة! وكنا نضحك كثيراً وهي تحاول تعليمي الادوات في المطبخ وأسماءها الايطالية. لقد كانت طيبة معي وكانت تقدمني الى زوارها وكأني تلميذها الشاطر. وكانت تأخذني الى السوق معها لنشتري بعض الخضار اوالسمك الطازج. وكانت تمشي كالعريف بخطواته الثابتة ونظراته الزائغة, وحذرتني مرة بأن لا أنسى أبداً أن أسير على يسارها! ولكني نسيت بعد أسبوع وسحبتني بقوة وطوّحت بي الى يسارها في وسط السوق دون أن تلتفت ! وآكتشفت حينها بأن هذه السنيورة كانت أقوى من عريف خشّــان في مركز تدريب العمارة, الذي حاول مرة أن يمسكني ولم يفلح!!
بقيت في المطعم حتى بعد انتهاء موسم السياحة رسمياً. وكنت كأحد افراد العائلة أنام في غرفتي وأقرأ وأخرج الى الساحات أتمشى وأرسم في النهار وارجع مساءً لنأكل معاً وجبتي الغداء والعشاء.


على شاطئ ساحة سان ماركو , وترى جزيرة سان جورج عن بُعد - فينيسيا
عدنان الشاطي مع الطباخة الماهرة السنيوره إلينــا

وفي نهاية نوفمبر, قررت السفر الى يوغسلافيا لأجل الحصول على فيزة دخول الى إيطاليا لشهر أخر لكي يتسنى لي الالتحاق بأكاديمية الفنون الجميلة, وهذا كان الغرض الاساسي من الرحلة. فودّعت أصحابي في المطعم وأخذت القطار وحدي متوجها الى يوغسلافيا. ولا يحتاج العراقيون تأشيرات الفيزة في حينها بسبب العلاقة الطيبة مع الحكومة العراقية أنذاك.

تعرفت على ثلاثة عراقيين في القطار, احدهم مدرس والاخر مهندس -على الارجح- من اهالي بعقوبة لاتحضرني أسماءهم- في اجازة, والثالث عراقي في طريقه الى بلغراد. كان الشابان وسيمين في غاية الطيبة والأدب لكنهما كانا في غاية الغضب والقلق. وبعد الاستفسار عرفنا بأن عريف شرطة القطار اليوغسلافية قد اعتدى عليهم بالركل اثناء فحص جوازاتهم قبل تجاوز الحدود الايطالية, فألغى هؤلاء الشباب رحلتهم الى إيطاليا وقرروا تأديب العريف وهددوه بالقتل او رفع شكوى ضده في السفارة العراقية في بلغراد. وكان من الواضح أن العريف قد فهم التهديد وتأهب لهم. وعند المرور في تلك المدينة اشار الاخ المدرس الى العريف وهو يتمشى على رصيف القطار مع ابنته. وقد عرفهم.. ولكنه كان قد نشر فصيلا من المسلحين حول عربتنا وخصوصاً في الجانب الاخر من القطار وامام شباكنا, وكانت اسلحة الكلاشنكوف موجهة ضدنا . وبدا مفتش القطار وفاحص الجوازات ومعه مسلحين بطباع خشنة ونظرات فاحصة مريبة وكأنهم على علم بما حصل صباح ذلك اليوم مع العراقيين. ولكنهم فتشونا وفحصوا جوازاتنا ولم يحدث شئ هذه المرة ومررنا بسلام.

و تضامنا مع اخوتنا العراقيين وقررنا الذهاب معهم الى السفارة العراقية. وصلنا بلغراد العاصمة بعد يوم ونصف من السفروالوقوف في محطات كثيرة. وبدت بلغراد وكأنها من مدن العالم الثالث. وفي مركز المدينة شاهدت عربات وكشكات بيع اللفات وساندويجات والهوت دوك وكأني في علاوي الحلة!! قضينا الليلة في فندق قريب ثم ذهبنا مباشرة الى السفارة العراقية وكلنا أمل ان يستجيب موظفو السفارة لمظلومية مواطن عراقي في بلد يعتبر من اصدقاء العراق آنذاك, ولم يحتج العراقيون تأشيرة دخول الى بلاد العم تيتو. لقد طلبنا رؤية السفير أو القنصل, ولكن بعد ساعات من الانتظار خرج احد موظفي السفارة يعتذر لنا عن عدم تدخله بمثل هذه الامور!!! وعرفنا ايضاً من بعض الطلاب العراقيين القدامى في بلغراد بأن السفارة العراقية ميؤوس منها! وماهي الا وكر للمخابرات وعملهم الحقيقي هو ملاحقة الوطنيين من الطلبة العراقيين والعمل في تبديل العملات واقامة الحفلات!! فقلت في نفسي- سمعة طيّبة أخرى!..أويلي عليك يالوطن المنهوب!!

كانت هذه الحادثة خيبة الأمل الاولى في الخارج ولحقتها خيبات أخرى, ليس بالنسبة لي فحسب بل لمواطنين عراقيين كثيرين . وجعلتني أشعر بأني وحيدا تماما" في الخارج وبعيدا" عن الاهل والاحبة والاصدقاء. وان الاعتماد على سفارات بلادي هو امر ميؤوس منه وازداد الامر سوءا بعد ردود فعل انهيار الجبهة الوطنية في الداخل. وكان الانظمام الى حزب البعث آنذاك من الوسائل بين تنظيماتهم الخفية لضمان الدراسة في الخارج. ولو لم تكن هكذا لما لزم الأمر الى ترك العراق. وفكّرت في كلام حازم صيــاح يوماً بأن الأنضمام الى الكلية العسكرية بعد الأنظمام الى حزب البعث هو اختصار للطريق, ووسيلة للعيش بنعيم!! اعتقد بأنه قال ذلك دون علمه بماهية عمل الملحقات العسكرية وطواقم السفارات العراقية في الخارج. ففي نظري طواقم السفارات وملحقياتها المتنوعة هي الوسيلة الناجعة والسريعة للثراء والعمل دون رقيب أو مسؤوليات صعبة. وعرفت أن صديقي العزيز حازم سيبقى عند باب الحزب بجوار الكيشوان, ومهما حمل حــازم من وطنية وإحترام وغيرة على شعبه المضطهد , فإن واجبه الحقيقي يعمل دائما على إدامة تسلّط الحزب الحاكم على مقدّرات الشعب ومصادر البلاد الطبيعية . وياليت حازم إكتشف بأن حزبه قد تحوّل الى مافيا مؤسساتية رسمية , ولو بعد خراب البصرة وبغداد والموصل والرمادي وديالى!

تركنا الاخوة من بعقوبة في بلغراد يفكرون بالعودة الى العراق ولكنهم لم يقتنعوا بترك العريف بعد! ودّعتهم وتمنيت لهم طيب السفر الى العراق وان لايجازفوا بالرجوع الى العريف , ويوغسلافيا لا تختلف عن أية دولة بوليسية مثل العراق. ورجعت في اليوم التالي الى القطار عائدا الى ايطاليا, وأخذت فيزة دخول ايطاليا مرة أخرى من نقطة الحدود. ومعي حقيبتي العراقية الصغيرة التي اشتريتها من ساحة الرصافي ببغداد, وفيها قاموسا صغيرا وقميصا وبلوز من لنكات الباب الشرقي الذي-عليه اعتماد كبير من البرد!- كما قال لي البائع. هذا كل ما خرجت به من العراق في غيبتى الأولى او الصغرى! وكانت خطتي أن اسافر خفيفا لكي استطيع ان اقضي الليل اينما أشاء تحسبا" للظروف, لأن كل ما بقي عندي من نقود حوالي 80 دولارا" فقط , إقترض منها 40 دولارا" صديقي المرحوم محمد سبوس ,الذي وصل الى فينيسيا قبلنا بثلاث سنوات.


عدنان الشاطي قرب دائرة البريد في مركز مدينة فلورنسا
مع المهندس المعماري فؤاد قبطان ( لبنــان) 1977

تعرفت على طلاب جدد اثناء العودة في طريقهم الى مدينة بيروجيا القريبة من روما ومنهم الاخ د.عباس شبيب الحلي.- درس اللغة الالمانية ولازال في فلورنسا, ويعمل دليل سياحي في مقاطعة توسكانا الايطالية. أما انا فنزلت في مدينة فلورنسا, مع عراقيين واجانب..وعرب , معظمهم يدرسون الفن او الهندسة المعمارية. التحقت بالاصدقاء المرحوم حميد فتحي والمرحوم لطيف محمد وكلاهما قد توفي مؤخرا في مدينة فلورنسا ودفنا فيها جنباً الى جنب.والتقيت بالرسام المرحوم محمد جاسم الأعسم والمعماري كاك محمد رؤوف والمرحوم الرسام دلشاد بيردواد وغيرهم الكثيرمن العراقيين الرائعين. ومرة كنت أتمشى مع المرحوم حميد فتحي امام دائرة البريد والاتصالات في مركز مدينة فلورنسا وعثرنا على صديق قديم وزميلنا في متوسطة الناصريه قد وصل توا" من الناصريه ولوحده!! وهو محمود جاسم شدّاد..فصاح به حميد: هاي وين ..ابو عكال!! فالتفت محمود صوبنا وقال" هاي أني وين لو انتو وين..صارلي يومين أدوّر عليكم!! فقال حميد: لك هاي وين اتدور علينه..ليش إحنه قابل نشتغل بسوق الغزل؟!!! وجلسنا معه لساعات نتحدث عن الناصريه والعراق, وذهبنا الى بيت حميد ذلك المساء.

س: كيف تعلمت اللغة الأيطالية وهل كانت صعبة التعــلّم؟

ج _ تعلمت اللغة الايطالية لوحدي بعد شراء كتب وقواميس,و بعد كورس واحد لمدة اسبوع من الصديق المعماري نبيه أمين في بيت الكومونه - مقر الشيوعيين في ضواحي فلورنسا. ذهبت الى التقديم مع العراقيين وطلاب أخرين للتسجيل فى اكاديمية الفنون الجميلة في روما وملأت الاوراق اللازمة ولم يوافق على طلبي..وفوجئت بأن العراقيين عليهم ان يفتحوا ملفاً في وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في بغداد!!حسب تعليمات السفارة للدولة الايطالية وطبعا لا استطيع الرجوع الى بغداد. ولم اكن الوحيد الذي لم يوفق في ذلك بل كان الكثير ممن لا علاقة لهم بالحزب القائد كصديقي العزيز البغدادي رشيد صالح - ويسكن في الولايات المتحدة منذ الثمانينات.

كان همّي الأول هو الانظمام الى الاكاديمية. واعتمدت في ذلك على نفسي وفي كل شي تقريبا. بدأتُ محاولات اخرى في السنة القادمة وذهبت الى السفارة العراقية مرتين ,وطلب موظفو السفارة مني ان اعطيهم جوازسفري العراقي من تحت زجاجة الشباك_السوداء, وانا اعرف بانهم يرونني ولكني لا أراهم ولا أثق بهم. ورفضت ان اعطيهم الجواز, ولكني فتحت صفحة الاسم والصورة فقط للتعريف بهويتي, وكل ما اردت ان يعطوني تصديق مؤقت يساعدني بالتسجيل ولكي افتح ملف في بغداد ورفضت ان اسلمهم جواز سفري حتى بعد الحاح الموظف - او رجل الامن. وشتمني وشتمته وتركت روما عائدا الى فلورنسا.

س: هــل التحقت بأكاديمية الفنون الجميــلة في مدينة فلورنسا؟

فكرت بطرق اخرى للدراسة في الاكاديمية منها ارسال وثائق بيد طلاب عراقيين الى بغداد لإيصالها الى إخوتي هناك. كلها لم تنجح. وفوجئت ايضا بأن الفلسطينيين وعربا آخرين مساعدات عينية ومعنوية , ومنهم يتقاضون رواتبا من السفارة العراقية مع البعثيين العراقيين. اما العراقيين الغير بعثيين مثلي - فهم يعملون طوال اليوم لسد مصاريف الأكل والنوم. وكنت قد اجّرت سريراً في فندق صغير قرب سوق سان لورنسو في قلب المدينة. ووجدت عملا" في احدى عربات السوق كبائع للمصنوعات الحريرية ثم الجلدية التي تشتهر بها المدينة. وفي الليل بدأت التدريب على الكاريكاتير و البورتريت. وكنت اجلس مع الرسامين العراقيين المبدعين الذين كانوا هُم أساتذتي الفعليين في ساحة متحف الأوفيتسي والبونته فكيو -الجسر القديم وساحة مايكل أنجلو المشرفة على المدينة والنهر, كالراحل دلشاد وسردار وكاك حسن ومحمد الاعسم وغازي الكناني وعلي جواد ويوسف وشعيا الخطـاط ولطيف خلف ومن بعدهم موسى الخميسي ورسمي الخفاجي وغيرهم الكثيربالاضافة الى الرسامين الايطاليين. وتعلمت من كل هؤلاء كيف أرى الأشياء لكي أرسمها, وليس العكس. وهذا الأكتشاف كان نقطة تحول إيجابية في مفاهيمي للفن التشكيلي. وسجّلتُ في كورسات دروس في تاريخ الفن هنا وهناك ودروس في الموسيقى وعزف الكيتار الكلاسيكي وتعلمت الكثير, لدرجة ان مسألة عدم الالتحاق باكاديمية الفنون لجميلة لم تعد تهمني. واقتنعت بأن مهمة تعلم الفن والرسم عموماً قد تحققت بدون مشاكل وبدون انضمام الى الحرس القومي الجديد!


الراحل الرسام محمد الأعسم مع الأخ المعماري كريم درويش
- فلورنسا- إيطاليا
ألتقطتُ هذه الصورة لمجموعة الطلبة العراقيين والعرب في بيروجيا
بعد ليلة حافلة بموسيقى الجاز في وسط المدينة -1978


عدنان الشاطي قرب المسرح الروماني في روما -
بعد إحدى زياراتي الفاشلة الى السفارة العراقية
عدنان الشاطي (جلوسا الاول من البسار) مع فريق كرة القدم العراقي - فلورنسا
التقطت الصورة في إحدى مباريات الطلبة في بيروجيا -1978

تكالبت علينا التنظيمات البعثية في فلورنسا بعد استلام صدام رئاسة الدولة عام 1979. وكثرت العناصر المخابراتية التي نفاجأ بها في المدينة بين الحين والآخر. ومنهم محاسب متقاعد في الستينات من عمره وآخر اسمه محمد البحـّار من الناصريه, الذي ادّعى بأنه كان يعمل في مناجم الذهب في موزنبيق!! التقيناه في مطعم الطلبة "المنسى Mensa" وكان يأكل من فضلات الطلاب على حزام الصحون المستعملة, ورآه حميد فتحي ودعاه للجلوس واشترى له الغداء واخذته معي الى شقتي, وكان مريضا بالبواسير واخذناه الى المستشفي وعولج فيها وسافر الى أفريقيا بعد اعطاءه مصرف السفر. ولكنه فاجأني مرة أخرى يتمشى على كورنيش الناصرية - وليس كورنيش موزنبيق!!! كان ذلك نهاية عام 1978 وكان في جيبه آلة تسجيل صغيرة جداً وطلبت منه ان يطفئها قبل الحديث. وعزمني الى شقته الواقعة في مجمّع سكني على طريق سوق الشيوخ في الجانب الآخر من حي الشعلة ووجدت ملابس بحرية عراقية برتبة ملازم معلقة في الشقة وصور له بالزي الابيض والازرق البحري!! فآستأذنت بالخروج ولم أره بعد ذلك.

س: هل سافرت خارج ايطاليا؟

ج - ذهبت في 1978 الى الولايات المتحدة في زيارة ولكني لم أبقَ طويلا..وكان عمري 25 عاماً. ورجعت الى العراق من نيويورك..فقد هدّني الحنين والشوق الى أهلي في الناصرية والاهوار. وهذا ما حصل فرجعت مباشرة الى الناصرية وذهبت الى الأهوار في بيت خالي .


عدنان الشاطي - في زيارتي الأولى للولايات المتحدة - بوسطن 1978
أينما ذهبتُ هذه الصورة وغيرها الكثير من ذكريات الصبا في الأهوار لا تفارقني!

لقد كان حلمي ان ابني بيتا في الاهوار وفيه مرسما ومضيفاً لأمسيات السمر مع الأهل والاصحاب. وكنت أحلم كثيرا في اصلاح الاهوار ومد الطرق فيها بحيث لاتتعارض مع مبازل الشلب -الرز. وممرات خاصة لزوارق السياح..وتحديد سرعتها لكي لاتؤذي الزرع ولا تزعج طيور الماء والخضيري. وان يكون عدد زيارات السياح الى مناطقنا قليلة نوعما حتى لاتتأثر البيئة بنفط محركات الزوارق. وان تبنى فنادق متطورة وفيها كهرباء واضواء خافته كفوانيسنا لكي يتمكنوا من رؤية نجوم سماء العراق الزرقاء في الليل. وعلى السلطات ان لاتضايق السياح, وعليهم ان يتصرفوا بأدب جمّ مع الاجانب لكي يعطوا نظرة حضارية عنا لدى باقي الشعوب, وتبنى متاحف راقية وفيها ملحقات للهدايا والكتب والكالريات..ووووو.......أضغاث أحـــلام , ليس إلاّ.

س – كيف غادرت العراق مرة اخرى ؟

قبل رجوعي الى ايطاليا سّحبَت مواليدي لخدمة الاحتياط وسافرت الى زاخو. بقيت قريبا من الموصل وفيها كان أخي المرحوم سالم الشاطي ورفاقه اليساريين ومنهم الشهيد وائل عبد الجليل ( قتله البعثيون في بداية الثمانينات) . تسنم صدام الرئاسة بعد عزل البكر وانا في زاخو , وتسرحت بعدها باسبوع تقريبا. كانت عائلتي في بغداد من 74 الى 79. ورجع والدي الى الناصرية عندما رأى صداما يستلم السلطة. قال لنا في اجتماع عائلي بأن الرئيس الجديد كان عصابجي بالبتاويين!! وان جماعة ثقاة من اصحاب والدي في معسكر الرشيد يعرفونه.! فرجع الجميع الى الناصريه. وبقيت في بيت عمي في بغداد وعملت في التدريس في متوسطة بغداد الجديدة لفترة قصيرة ثم عملت في احدى الشركات الالمانية في بغداد في 1979 بمساعدة صديقي علي الهنداوي.عملت مع هذه الشركة لمدة سنة واحدة تقريبا, وكان عملي تصليح المضخات الهايدروليكية لحادلات رصف وتبليط الطرق التابعة لمؤسسات الدولة العراقية ودوائرها ,كالزراعة والطرق والجسور وغيرها. وأرسلتني شركة بوماك الالمانية الغربية في دورة تدريبية الى ألمــانيا. وتمكنت من السفر لوحدي الى المدن المهمة كمدينة بون ودوسلدورف ومدن أخرى على نهر الراين .


أخي المرحوم سالم الشاطي-أقصي اليسار -مع زملاءه في كلية الأدارة والأقتصاد - الموصل1977. ( توفي أخي الغالي سالم الشاطي في حادث سيارة على طريق العزيزية وهو في طريقه الى كندا لعلاج قلبه العاجز ايام الحصار - وتوفي والدي بعده بأربعة أشهر حزنا عليه, ثم توفيت والدتي حزنا على فراق الأثنين.
سالم الشاطي مع زميله وصديق الطفولة الشهيد وائل عبد الجليل (الثاني من اليمين) "في لحظة مزاح نــادرة " كما ذكر سالم في ملاحظاته - القسم الداخلي - جامعة الموصل 1976


س: مــاهي ذكرياتك في بغداد؟

لم اكن سعيدا" بترك بغداد لأن طفولتي كانت موزعة بين نقيضين ولا أعرف لحد الآن أيهما أحب الى قلبي أكثر: اهوار سوق الشيوخ أم بغداد؟ لا أعرف مقارنة هذه الاشياء المختلفة تماما" فقررت احب كلاهما بنفس المستوى. فطفولتي توزعت بين الاهوار وطبيعتها وجمالها وجلفيتها ومشاحيفها وسمكها وطيورها وسورياليتها وبين بغداد وصخبها وزحامها وباصاتها- المائلة الى اليمين لثقل ركابها -وكتبها وأفلامها ومسارحها وموسيقاها وكاليرياتها ومقاهيها ودارسين ورنة طوس حمّاماتها وشوارعها ولهجتها المزروعة في القلب وجمال نساءها.. عيني لك داد.!! أموت ولا هلي يدرون بيّه!!!


عدنان الشاطي - بغداد - مايس 1959- وكما ترون فإن التمدّن سريع ٌوواضحٌ بعد وصولي مباشرة الى بغداد!!!-

عدنان (وسط) مع والدي وخالي ابو شريف واخوتي عادل وسالم الشاطي1958


وصلنا الى بغداد مباشرة من أهوار سوق الشيوخ عام 1958. وكان بيتنا القديم قرب جسر الصرافية بعد ثورة 14 تموز , الذي كان ملعباً لطفولتنا قرب النهر, وكنا أنا واخوتي نتزحلق على المساند الحديدية تحت القطارالموازية للجسركل يوم تقريبا". وكنا ننتظر سيارة الزعيم عبدالكريم قاسم عندما تخرج من وزارة الدفاع لكي نراه ونحييه , وكان الشهيد دائم الابتسام وكان يبدو وكأنه يعرفني عندما نراه في شارع الرشيد بعض الأحيان. انه شعور لايوصف بالامتنان, رغم اني لم اكن أعي معنى الرئيس في تلك السن المبكرة. ولكني كنت أعرف بأنه زعيم مهم, وكنت أراه مع إخوتي في تلفزيون الجيران بعض الأحيان. وكان شعور جميل بالنسبة لي كطفل جاء توا" من الأهوار ويقف كل يوم تقريبا" ينتظر تحية زعيم البلاد!
والدتي المرحومة كانت تعارض وجوده بسيارته العسكرية المكشوفة بدون حماية!! وخصوصا عندما كان يمر في شارع الرشيد ويقف بعض الاحيان ويحيي الناس ويبتسم لهم. واتذكر مرة كنا مع ابي ورأينا عشرات الناس أوقفوا السيارة في الشارع قرب ساحة الشهداء. وكانت أمي تقول: " لو واحد مجنون عنده سلاح ورمى الريّس...شنكول؟؟!! دخلّوه يروح يرتاح..دوّختوه!! وكأنها هي المسؤولة عن أمن البلاد.

كان والدي يعمل مضمداً صحيّاً في مستشفى الرشيد العسكرى, وله اصدقاء أطباء وصيادلة ومهنيين كثيرين كان قد تأثر بهم وبثقافاتهم المتنوعة. وشجعنا على التعليم والقراءة منذ الصغر. قال لنا والدي مرة عندما كنا صغاراً..بان ما يملكه من اراضي ونخيل لن يدوم وإنه سيمنحنا نحن ( 4 اولاد و3 بنات) ما هو افضل من المال. وهو التعليم . والسبب هو انه لا يريد أحدنا - ويعني البنات - ان يكون تحت سيطرة إنسان آخر بسبب الحاجة وظروف المعيشة القاهرة. وبالفعل فقد تعلَّم الجميع. دخلت اختى الكبيرة رباب كلية الهندسة - وربما الوحيدة من العشيرة ومن القلائل من الناصرية نهاية السبعينات. ولما سمعت العشيرة بذلك بدأت وفود الاعتراض على والدي , ولكنه لم يغير رأيه وتخرجت رباب مهندسة كيمياوية. وتبعتها اخواتي الاخريات من كلية التربية و معهد المعلمات وعمل اخي الكبير في التدريس واخي الصغير - بالاعمال الحرة في الولايات المتحدة الآن, وانا أعمل بالرسم والتدريس .


علي الشاطي استولى على الكيتار حال وصولي الى الناصرية - 1980
عدنان في زيارة للأخت العزيزة رباب الشاطي في كلية الهندسة - بغداد 1980

س: كيف رجعت الى العراق مرة ثانية؟

بدأت الحرب مع ايران وانا في المانيا, وكانت مفاجأة بالنسبة لي. وقررت التريث بالعودة الى العراق, وقدمت استقالتي في مقر الشركة في دوسلدورف وركبت القطار راجعا الى اصدقائي في فلورنسا- ايطاليا. رجعت الى عملي في سوق سان لورنسو عند صاحب العمل الايطالي وصديقي العزيز روبرتو. وحاولت مرة اخرى فتح ملف لي اثناء الحرب مع ايران ووافقت السفارة العراقية..ولكن الثمن هوان اتطوع للمساهمة في الحرب في المحمرة لمدة شهر..وساقبل في الاكاديمية بعد رجوعي من الجبهة..ولكني رفضت ,وذهب طلاب كثيرون. وبقيت انا في فلورنسا اراقب الوضع عن بُعد. كانت الاحداث تتسارع والجيش العراقي والقصف الوحشي المتبادل لقرى ومدن ايران والعراق كانت بشعة جدا. وكانت اتصالاتنا مع العراق مستمرة. واُرسل اخي المرحوم سالم الى الجبهة في العمارة أثناء معارك الشلامجة التي نجا منها مع قليلين جداً وبأعجوبة.


عدنان الشاطي على نهر الراين في مدينة كوبلنز الالمانية 1980
في بون - المانيا -1980- كنت اسافر واتسكع كثيرا بعد العمل لكي لا اسمع أخبار الحرب مع ايران

س – تفاصيل وصولك الى الناصرية بؤرة الثوره ضد الفاشست العفلصدامي ؟؟

ج- اتصلت بوالدي المرحوم من إيطاليا في نهاية عام 1980..وسالته عن احواله..وهل علي الرجوع الى العراق الآن بعد مضايقته كثيرا من قبل افراد الامن في منطقتنا ومنظمة الحزب في الناصرية. قال والدي لأول مرة " بكيفك!!" فعرفت بأن الوضع خطير. فرجعت عن طريق تركيا..مع شنطة كبيرة هذه المرة مليئة بالهدايا لأخوتي ووالديّ مع وكيتار أحمــر, ولحسن الحظ دخلت الناصرية ليلاً!!

استدعاني عضو منظمة الحزب المرحوم السيد هدوان (قتله الناس ايام الأنتفاضة عام91) وعمل تحقيقا معي في نفس الليلة التي وصلت بها البيت. كانت دعوته لي ليس لانه كان مشتاقا لي طبعا.ولكن والدي قال لي وانا أخرج مع السيد هدوان- : دير بالك بابا!! فعرفت اللغز . بعد الانتهاء من ليلة التحقيق مع جيراننا السيد هدوان بدون مشاكل, وأسمعته ما يود سماعه مني! وقلت له أنا مناضل مثلك, فأقتنع!!.. ولكني استغربت كثيرا لسلوك السيد هدوان . فقد تبادر لي بأن مايقوم به هو وحزبه من جهود وطاقات مادية هائلة هي فقط لتحسين صورة الرئيس ونظامه, ولا علاقة بهذه الجهود بالوطن والناس. وعرفت جيداً عندها من ان عملية غسل الدماغ هي مسألة شاقة, يصعب فهمها عن بُعد. لقد أصبح الناس عبيدا" للحزب والمنظمة والقائد ورجعت عبادة الفرد بشكل مرعب وبمدة قصيرة جدا", كما هو الحال الآن في العراق الجديد.

لقد كان والد السيد هدوان وهو السيد عبيد صديقاً لجدي شاطي واخوه الاكبر صالح صديقاً لوالدي..وعندما أنتقل هدوان من اهوار سوق الشيوخ رحب به والدي وساعده في شراء بيتا قربنا وساهم في تزويجه. لهذا كان السيد هدوان يتغاضى عن كثير. وانا اعرف بأن علاقتنا به كانت تسبب له الكثير من الاحراج بين الرفاق البعثيين. وأعتقد بأن السيد هدوان قد خوّل رجلاً أخر في شارعنا إسمه دحّـام - الذي قتل أيضا أثناء الانتفاضة1991 - لمتابعة تحركاتنا. أما التقارير التي كانت تكتب عنى فلا اهمية لها عند حزب البعث لتفاهتها, وعدم وجود معلومات عني لدى المخبرين. كما حصل في تقرير المخبر دحــام الذي كتبه عني وعن الشهيد فريد مــاضي.

وعرفت جدية الوضع في زمن قائد الأمة العربية الجديد وحربه غير المبررة مع ايران من أخي الصغير علي - وكان عمره عشرسنوات. عندما جلست قرب الشباك صباح احد الايام بعد عودتي من ايطاليا وفتحت الراديو أفتش عن محطة البي بي سي لمعرفة حقيقة أخبار بلادي وما يحدث فيها!! فقفز أخي الصغيرعلي على الراديو وأسكته وهو غاضب وخائف: هاي شدتسوي, تريدنا كلنا نروح للاعدام؟!! .لك عيني هاي الناصريه أم البلاوي ... مو عبالك إيطاليا!! وابتسمت لأنه مازال محتفظاً بلهجته البغدادية الجميلة!

وحزنت كثيرا" لحال بيت العم أمين منشد, إذ لم يبق َ منهم غير الوالدة والعزيز جمال وهو اصغرهم وبصره ضعيف. وعرفت من الجيران بأن السيد عبود وأولاده قد " لعبوا في بيت ألعم أمين منشد طوبه!!" كان بعض أولاد السيد عبود يضايقون العائلة على الدوام وينطّون السياج الى الدار بعض الأحيان لارهابهم ,حتى تركوا بيتهم ورحلوا. ولم اعرف تفاصيل أكثر من هذه ولكني عرفت بان الأولاد وموناليزا قد التحقوا بالأنصار في كردستان وكنت اتوقع ذلك منهم.


دائرة الأنواء الجوية في الأسكان - الناصريه
من مجموعة تخطيطات من الذاكرة - عدنان الشاطي
على ضفاف الفرات كانت جلسات السمر تقام في ليــالي الصيف - الناصريه
من مجموعة تخطيطات من الذاكرة - عدنان الشاطي


كانت الحياة قد تغيرت كثيرا في محلة الاسكان فتحولت بسرعة من محلة مفعمة بالحياة والشعر والوطنية والابداع والبراءة وتداول الكتب بين البيوت الى محلة يملؤها الخوف والسرية والتكتم والاختفاء. فلم أعد ارى أولاد وبنات الجيران يتجمهرون امام البيوت او اركان الشوارع في الأماسي للحديث وتبادل الهمسات كما في السابق. وآختفت تماما حفلات السمر مع الاصدقاء على الجانب الغربي من الفرات ومواويل الليل وقراءات الشعر مع عزف اغاني حضيري وداخل حسن وحسين نعمة وفاضل عواد وغيرهم على آلة الناي الحديدية التي عملتها بنفسي والتي كنت أحتفظ بها في جيبي على الدوام, واحاديث السمر مع أولاد الجادر وأولا د أمين منشد وأكرم التميمي - الذي كان يأتي لوحده من المتنزه في ذلك الظلام الدامس ليدلو بدلوه الشعري الثوري!!-, وفاضل السعدون واولاد بصيص واخي المرحوم سالم ووليد ماضي وسباحتهم في الفرات أثناء الليل مع اولاد أمين منشد بعد العودة من مشاهدة أحد ألافلام في سينما الاندلس أو البطحاء. كل هذه المظاهر وغيرها كثير قد أختفت بفضل الحزب والثورة البيضاء! ولكن الخوف الدائم وفقدان الثقة بالآخرين هما من أكثر الكوارث ألماً ولوعة عندي, لأن سياسات القمع التي جاءت بها الثورة البيضاء هي التي مزّقت نسيج العراق الأجتماعي الرائع, وليس من السهولة إعادة بناءه.

س: هل كانت عندكم شخصيات تقتدون بها وانتم صغاراً؟

ج- بالتأكيد . لقد حفلت منطقتنا بشباب ورجال ونساء كثيرين في هذه المحلة الصغيرة التي لا تتجاوز بيوتها المائة والعشرين بيتاً. لقد كان الكثير منهم يعمل في التربية والتعليم والادب والمسرح عموماً. فكان الجيل الذي قبلنا له الفضل في تشييد أواصرالصداقة والألفة والمحبة والثقافة بيننا نحن الصغار لأننا كنا نقتدي بهم. فكان في شارعنا بيت بيت الاستاذ طارق وبيت الاديب والثائر أمير داود الدراجي وبيت الوطني والوجه الأجتماعي المعروف المرحوم العم الحاج عجة ثامر وأولاده وكذلك بيت العم المرحوم موسى جياد الأزرقي واولاده د. محمد الازرقي وأحمد الأزرقي - إقتصادي معروف - و عدنان موسى الأزرقي - بايولوجست بحري. ثم بيت المرحوم خضير وأولاده عبد الكريم الذي أعدم بعد فشل الأنتفاضه لأتهامه بقتل المجرم دحّام وأخوهم الكبير سلمان الذي يعمل على تشغيل ماكنة السينما في الأندلس الشتوي وأخوهم الأوسط عبد الرحيم والأصغر عبد الباقي اللذين هربوا الى مخيمات رفحا السعوديه ثم قبلوا لاجئين في ألولايات المتحدة, ومن الجانب الآخر الاستاذ والمسرحي داود أمين واخوته سمير وأمير وجمال وانتصاروالشهيدتين موناليزا وسحر والدكتورة كوثر(كلية طب كييف- أوكرانيا), والى جانبهم بيت على جبار واخوه الكبير وكان أحد سوّاق الشهيد الزعيم عبدالكريم قاسم. وكان خلفنا بيت المرحوم أحمد وحيدرومحمد ورملة الجاسم - وكلهم فنانين معروفين وعائلة لها تاريخ بالشعر والادب . وأمامهم بيت الممثل الاخ حميد كاظم موزان. ثم في الشارع العريض بيت الاخ محمد نوري , ثم بيت الوطني الرائع غازي إدريهم -عمود البيت وصديق والدي المرحوم. وبيت الأستاذ ماجد حنتوش و بيت الاستاذ الشاعر خـــالد صبر والاعزاء ضياء وعادل صبر ثم بيت الأعزاء اولاد عبدالحسين وبيت طه. ومقابلهم بيت العزيز على عكله, وخلفهم بيت اولاد خالتي أياد وفؤاد جهــاد الرسام المعروف. وبيت فرات وجنبهم بيت الراحل الوطني النبيل علوان الدسم واولاد الغزي سامي واخوانه ثم بيت مدرس الرسم في مدرسة أبي تمام الأبتدائية الأستاذ طاهر وإخوانه, وبعده بيت الأخ على ماضي وإخوانه وليد وفريد ماضي وفي نهاية الشارع الراحل مبكراً الحبيب علي العامري وبيت السيد غني وبيت العم بصيص واولاده الشجعان صاحب وأمير وأولاد عمهم رياض وعلى بصيص المسرحي المعروف واخوانه ومقابل ذلك اولاد وبنات العم عبد الجليل ومنهم فريد ووليد والشهيدين وائل ورياض .والى يسارهم بيت بدري واولاده الاستاذ صباح ومحمد وعلى بدري, ثم بيت الممثلة القديرة الاخت خديجة منخي ومقابل ذلك بيت الشاعر الاستاذ جواد مشاري والى جنبهم بيت الاستاذ جاسم محمد مظلوم . والى جنبهم بيت العم الجادر واولاده د. سعدي ود. صادق والمهندس فريد وأحمد وعادل الجادرويقابلهم بيت الأخ حلمي وأخواته الجميلات, ثم بيت الاستاذ الحنين هاشم وكاظم ذياب! وبيت السباعي ثم بيت الشاعر الشعبي الكبير الراحل جبار الغزي{ إبن العمايرجيه}وأخوه الرسام المبدع رزاق الغزي قرب بيت ذياب الفراش, وأمامهم الى اليمين بيت الابطال من أل طارش عادل ومرتضى ورياض وصباح وكريم ومحمد وعلي والاخوات فردوس وأيمان وبسمة, ثم بيت محمود عويد وأولاده الاخوة مقبل وصباح وعماد ونوري , وهؤلاء كانوا محور النشاط الرياضي -وكرتهم البلاستيكية الحمراء!- ومباريات كرة القدم في ساحات الجيش في الشتاء والصيف. وبيت الشاعر الراحل قيس لفته مراد, معظم هذه الاسماء وآخرين - معذرة لا تحضرني أسماءهم الآن - كانوا من المربين والمهنيين المبدعين من الجيل الذي قبلنا أو عاصرنا, فنشأنا وانظارنا مشرئبة للالتحاق بهم والسير على خطاهم.

وكانت عائلة الأستاذ وعازف العود قاسم صيـّاح وأخوته هاشم وحازم هي العائلة الوحيدة التي تحولت الى عائلة بعثية قبل الاخرين بدافع الاخ الأكبر العميد الركن قاسم صياح - الذي كان يتنكر لأصله كجنوبي من الناصريه- والذي كان مقربا" من عدنان خير الله طلفاح وساعد في انضمام اخوته هاشم الى الشرطة في البصرة وحازم الى الكلية العسكرية في بغداد . كان حازم قريبا منا وقضى معنا اياماً جميلة - الاّ ان أفكارأخيه القومية واهداف الحزب القائد - التى تربى عليها في الكلية العسكرية بعد تخرجه في دار المعلمين - أفسدت تفكيره وجعلته ينقاد الى مذابح السيد القائد وهو الممنون!!! لقد كان حــازم صديقا طيباً يحب الخيرللاخرين ولكن بطريقته الخاصة. وطلب مني الانضمام الى البعث بعد عودتي من أيطاليا, لأن الحزب كما يقول , بحاجة الى من هو مثلي.... واُصبح مثله ضابطاً في الجيش العقائدي لخدمة حروب السيد القائد -وليس لخدمة الشعب والوطن- واختصر الطريق الى السعادة والثراء!!

س: ماذا كتبوا في التقارير الحزبية ضدك؟

ج-اتصلت باصحابي- في محلة الاسكان صوب الشامية - واصدقاء الطفولة منهم المرحوم رياض طارش والشهيد فريد ماضي ووليد ماضي والشهيد البطل صباح طارش وستار جبار وضياء صبر وأحمد وعادل الجادر والمرحوم علوان الدسم وسامي الغزي ومحمد نوري وشلة رائعة مثقفة من ابناء الاسكان والناصرية عموما وعرف الجميع بوصولي الى الناصريه بعد غياب طويل. وأول من زارني هو صديقي العزيز الشهيد فريد ماضي - الذي قتله جلاوزة على كيمياوي بعد الانتفاضة - فرحبت به وقدمت لنا الوالدة ما تيسر من الغداء. وكنا نتكلم في اشياء كثيرة خصوصا المسرح والنقد المسرحي لانه كان يحب المسرح كثيرا . ولولا بقية من العلاقة والاحترام لوالدي لما بقي احد منا حياً لحد الان.
كان من جملة التقارير التي كتبت عني بعد زيارة فريد لي تقول - بأن فريد ماضي قد زارني وبقي معي - أكثر من ساعة! ولكن والدي كان حازماً مع السيد هدوان -واجابه بأن لايوجد قانون في العراق يحدد مدة زيارة الجيران لبيتك.. ولو وجد هذا القانون عليك ان تطبقه في بيتك اولا لكي تكون قدوة لنا.

من حسن الحظ , لا يعرفني الجيران الجدد والمخبرين لكثرة غيابي وسفري الطويل - وقالت لى والدتي يوما بأن احدى جيراننا من النساء سألتها عني بالقول: أين يسكن خــال الاولاد؟!!

س :تفاصيل عن عائلة الشهداء أل طارش وكبيرهم المناضل صباح طارش الذي لازال في ذاكرة الناصريه هو وإخوته الشهداء ؟ خصوصا تربطني واياهم صداقة لكني لا اعرف تفاصيلها وانت في قلب الاحداث معهم؟

ج - لقد علق الاخ الصحفي أكرم التميمي على هذه العائلة الوطنية المضحية بالقول "ان عائلة طارش هي من العوائل التي فتحت صدرها لكل همومنا وهي منبر لاحتضان تاريخ طويل ومشرف" , ولا أعرف انا شخصيا عائلة تضررت وعانت من قساوة النظام الفاشي والمخبرين أكثر من عائلة العم المرحوم طارش داود. وان الامانة التأريخية تستوجب الوقوف أمام تلك المواقف الوطنية البطولية المشرفة لهذه العائلة بجميع أفرادها أمام أعتى جهاز أمنى مخابراتي عرفه العراق الحديث لحد الآن. والكل يعرف بأنها قد قدمت خمس رجال وآخرهم الاستاذ رياض ووالدهالحاج طارش. وقد كتب لي الآخ أمير أمين منشد مؤخراً بأن وفاة العزيزرياض طارش كانت بعد أن جرى إستدعاءه من قبل دائرة الأمن مع الأستاذ ماجد حنتوش, وبعد خروجهما من دائرة الأمن بعدة أيام توفيا تباعآ!! بعد إن شعر كل منهما بآلام في المعدة! وتشير التوقعات الى أنهما سقيا سم الثاليوم.


الشهيد رياض طارش واخي عادل الشاطي - 1978
الشهيد رياض طارش مع أخي المرحوم سالم الشاطي في جلسة عائلية - 1978

في اثناء زياراتي السرية لبيت الشهيد رياض طارش , ولأننا نعرف أن بيتهم كان مراقباً على الدوام. كنت أصادف الشهيد صباح طارش ينسلّ خفية الى بيت عائلته رغم المراقبة المشددة. ونجلس ونتكلم كثيرا في امور الوضع السياسي والمقاومة وكله أمل بالمستقبل ودون رهبة بقساوة النظام الفاشي في بغداد. وكان يعلق على ذلك بالقول..كلما يزداد النظام فاشية كلما يبرهن لنا أنه أضعف من الأمس!! وكان مكان لقاءنا الاخر خلف كراج الشطرة. كنت أعرف بأن الشهيد صباح يسكن قريبا من هذه المنطقة , ولكني لم أسأله ابدا عن ذلك. وفي إحدى المرات , طلب مني أن عمل أختاماً جديدة, فذهبت الى الناصريه واشتريت اقلاما رصاص وحبرمتنوعة وعدسة مكبّرة للقراءة..وأشياء بسيطة أخرى, والتقينا بعد عدة ايام.

كنت في ذلك الوقت في الجيش في معمل ميكانيك في الديوانية..وتعرّفت على مجموعة من اطيب العراقيين واكثرهم وعيا" ووطنية. وكان منهم صديقي المهندس ستارمنعم و يحيى حسين ,والنقيب المهندس اياد والمهندس ناصر والمهندس حسن عليوي - وكنت أسميه حسن العِليل!!
كان يحيى وصديق اخرإسمه فاضل من اهالي بغداد يعمل في مكتب الوحدة - وغيرهم وحتى امر الوحدة العقيد فاضل لم يكن بعثيا إلاّ بالاسم فقط!! ومساعده من الحلة وعضو فرقة حزبية وهو بعثي وقح وسليط اللسان -لآيحضرني إسمه الآن- وهو المسؤول الفعلي وسارق محترف لأموال الدولة في وضح النهار - كان يسرق الحديد والطابوق والاخشاب ويبنى بيوتا له في بساتين الحلة بمساعدة الجنود المهنيين ببلاش!!

إستطعت بحكم علاقاتي الطيبة مع الجنود في قلم الوحدة, أن أطلب منهم تزويدي بنماذج وهويات فارغة ففعلوا -على الثقة! وكانت كل ورقة فيها حوالي خمسة نماذج هويات مطبوعة لعبور السيطرات. وهي نماذج اجازات عسكرية.وعملت مع الشهيد صباح طارش بعد ان زودني بنسخ تواقيع واسماء ضباط وامراء وحدات عسكرية وتواقيعهم, ونسخ من اختام تلك الوحدات على الورق. وعملت له اختاماً على المسّاحات العريضة اشتريتها من مكتبة الأهالى ومن بسطية الاخ الخطاط فلاح - الله يذكره بالخير!- حيث كان يجلس مقابل محل خورشيد ابو البقلاوة!..وطبخت الاخت العزيزة فردوس طارش بعض البطاطا المسلوقة لنستخدمها للأختام..ولكنها لم تنفع طبعا" , فأكلناها!!


عدنان الشاطي في معسكر الديوانية 1985
مع الأصدقاء المهندس ستار حسين (النجف) وعصام محمد على ( البصرة)
عدنان مع الصديق المهندس ستار حسين في احد ايام الحراسات
في معسكرالديوانية الكئيب 1985

وعملت أختاماً أصلية من المسّاحات بعد ان نقلت صورة الختم بالمقلوب على المساحة وقطّعت بالمقص عدة شفرات حلاقة باشكال مختلفة للقطع , واشتغل بها بعد ان ينام الجميع في بيتنا. ولكن الخطوة الثانية هي الاصعب وهي تقليد تواقيع أمراء الوحدات العسكرية , ولو انها متشابهة تقريباً, خاصة عند البعثيين حديثي العهد بالكتابة!!..ورغم معرفتي بان معظم جنود السيطرات المهمة من الجهلة والأميّين, الاّ ان الحذر كان مهماً جداً..لأن أي خطأ قد يؤدي بحياة واحد منا أو أكثر .وبعد التجارب العديدة وحرق الاوراق المستعملة في تنور الحجية اثناء عمل الخبز في الصباح وعند صلاة الفجر.
وبعد أيام إطّلع الشهيد صباح على الاختام الجديدة وقررنا -انا وصباح- بان العمل جاهز..وبدأت بترتيب ادواتي وقناني الحبر الملونة والاقلام وبدأت بالتواقيع والأختام.. باللون الاخضر والبنفسجي. وكان الشهيد صباح فرح جداً على هذا العمل وكنت أُعطيه نماذجاً موقعة ومختومة, وكان هو او أحد رفاقه يكتب الاسماء فيها فقط.
واستمر عملي هذا بتواتر كبير ليس مع الشهيد صباح فقط, بل مع ناس كثيرين أعرفهم أو يعرفون شخصاً أعرفه, خصوصا بعد نقلي الى معسكر الزبير ,اثناء معارك المملحة في طريق الفاو. وكنت أعطي نماذج الأجازات هذه للجنود لإنقاذ حياتهم. وخصوصاً المتأخرين عن الألتحاق بوحداتهم أو الذين تركوا وحداتهم لتحاشي فرق الأعدام التي كانت منتشرة في الخطوط الخلفية لجبهة الحرب مع ايران . وكانت ساحة سعد في ذلك الوقت تغص بالعسكريين والمعدات العسكرية والمخابرات العسكرية والانضباطية وتبدو وكأنها في يوم الحشر الكبير!! وخفت ان ينفضح أمري لأن الكل يعلم في وحدتي العسكرية بأنني كنت الخطاط والرسام الوحيد الذي يعرف هذه الامور.

س :كيفية هروبك عن طريق السليمانية التي تعتبر هذه العملية الجريئة ,حسب علمي البسيط ,هي مفتاح مغامرتك الثورية الناجحه والشجاعة ؟

ج-أن امر نقلنا الى البصرة في 1984كان منقذاً لي بابتعادي وانشغال الجميع بحفرالمواضع في ضواحي مدينة الزبيرتحاشيا قذائف ايران وقصفها الليلي, خصوصا بعد تردي الوضع الأمني في عموم البصرة. أما المحاولات العديدة مع بعض الأصدقاء المقربين من المعسكر للهروب عن طريق كردستان فقد باءت كلها بالفشل, ماعدا نجاحنا في مواصلة حبنا المنقطع النظيرلكباب ولبن أربيل والأوقات الطيبة التي نقضيها في بيوت أصدقاءنا الأكراد في "هه ولير" أربيل الجميلة. وكانت تلك المحاولات فرصة للنزهة بالنسبة لنا وهروب من الواقع المأساوي في زمن الحرب. نحن نعلم بأن كردستان كانت في حرب معلنة في الجبال وحرب مخابراتية خفية في مدن كردستان. وكنا نرى سيارات المخابرات البعثية في كل مكان في هه ولير وكأنها مدينة محتلة من قبل العسكر ورجال مخابراتهم.

ولكن ماحدث في معسكر الزبيرهو أني قد تعرّفت على شاب في غرفة السجن من أهالي السليمانية إسمه علي محمد رستم. كنت حارسا" للسجن في تلك الليلة فتحدثت معه .وقلقت عليه عندما قال لي بأنه قد زار ايران أثناء الحرب وكتب الجحوش عنه تقريرا بذلك! وفكرت بالمحكمة العسكرية التى قلما يخرج منها المظلومين دون عقاب صارم!!

ولما سألت كاك علي كيف سينجو من الأعدام لأنه زار ايران اثناء الحرب؟ قال لاادري! وجلست معه نتكلم عن كيفية التحدث والأجابة على اسئلة القاضي في المحكمة العسكرية في البصرة. وقلت له- لا تذكر اي شي عن زيارتك لمدينة مهاباد , وقل للحاكم بانك عبرت النهر الى القرية الكردية واعطيت الدواء الى عمك المريض ورجعت بنفس اليوم الى السليمانية. وقل له بأن الناس تذهب كل يوم الى هذه القرية الكردية ولا أحد يعرف أين الحدود بين العراق وإيران!

وبعد عدة ايام جاء الانضباط العسكري واخذوا كاك علي الى المحكمة. وكانت افكار مخيفة تساورني ذلك اليوم. وعند العصر رجع كاك علي مبتسماً وسالماً إلينا بدون الانضباطية!! ودخل المعسكر ومعه الصديق النائب عريف "إحتياط" إسماعيل حسون وصاحب المهمات الصعبة من أهالي صفوان! والعزيز عصام محمد على من البصرة - سلاما" دائما لكما- اينما انتم_- وهم يردّدون : براءة..براءة!!

جلس كاك علي معنا وقال: بابا الحاكم يكَول انت برئ! والتفت اليّ وقال : كاك عه دنان انت شتريد هالساعة..فلوس؟!! فقلت..لا , انا اريد أرجع الى إيطاليا!!فقال: جشم...إنشاء الله!!

وذهب كاك علي محمد رستم فرحاً لأهله في اجازة لمدة اسبوع لزيارة اهله في السليمانية بعد اشهر طويلة قضاها في السجن. ووقفنا نودعه, وهو يلتفت ويومئ لنا بالوداع عدة مرّات. وقلت في نفسي : ابتسامة كاك علي وحدها تسوه مليون دولار!

............ يتبع ج -2
____________________________________
لمشاهدة ارشيف الصور لها علاقه بالموضوعhttp://www.nasiriyeh.net/Maqalat-1Feb08/raheemalghalibi-3jan08.htm



#رحيم_الغالبي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الشيوعيون في الناصريه.. لهم الفوز منذ سنوات
- حوار مع الشاعر جبار عوده الخطاط
- آخر البستان
- سبعة شموع و ورود للحوار المتمدن
- استغرب من رعاية المؤسسات والكيانات والاحزاب للابواق الصدئه
- ادروب الكفاح الصعبه ..يندلها (لرحيل حسن عبد الخضر المغترب في ...
- السيد اوبا تهانينا وشكرا للامريكان والخزي لاعداء الشعوب العن ...
- بساتين..تزرع في السماء
- الفاس
- دلّينه الشمس عالباب
- الهوى الاول
- ايام البيوت
- عبد الكريم هداد : رحيم الغالبي، شهادة مختصرة لتاريخ صعب
- جهل النواب في تحديد العطل والاعياد
- تنفتح بيدي جريدة
- جلال المالكي ونوري الطلباني... وخراب العراق
- كذبة نيسان ام كذبة رمضان ..يا برلمان
- كذبة نيسان ..أم كذبة رمضان ؟ ياوزير التجارة
- في (أسرار المكاتيب ) يتألق ناجح عنوز
- متصفحي وادباء الانترنيت واسلوب الرد


المزيد.....




- قائد الجيش الأمريكي في أوروبا: مناورات -الناتو- موجهة عمليا ...
- أوكرانيا منطقة منزوعة السلاح.. مستشار سابق في البنتاغون يتوق ...
- الولايات المتحدة تنفي إصابة أي سفن جراء هجوم الحوثيين في خلي ...
- موقع عبري: سجن عسكري إسرائيلي أرسل صورا للقبة الحديدية ومواق ...
- الرئاسة الفلسطينية تحمل الإدارة الأمريكية مسؤولية أي اقتحام ...
- السفير الروسي لدى واشنطن: وعود كييف بعدم استخدام صواريخ ATAC ...
- بعد جولة على الكورنيش.. ملك مصر السابق فؤاد الثاني يزور مقهى ...
- كوريا الشمالية: العقوبات الأمريكية تحولت إلى حبل المشنقة حول ...
- واشنطن تطالب إسرائيل بـ-إجابات- بشأن -المقابر الجماعية- في غ ...
- البيت الأبيض: يجب على الصين السماح ببيع تطبيق تيك توك


المزيد.....



المزيد.....


الصفحة الرئيسية - ملف: الانتخابات والدولة المدنية والديمقراطية في العراق - رحيم الغالبي - انتخب 307 ذاكرة الشيوعيين في الناصريه -حوار مع عدنان الشاطي ج1