أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - نقولا الزهر - مصلحة كل التنويعة العراقية في دولة قائمة على الوِفاق والمواطنة















المزيد.....


مصلحة كل التنويعة العراقية في دولة قائمة على الوِفاق والمواطنة


نقولا الزهر

الحوار المتمدن-العدد: 771 - 2004 / 3 / 12 - 08:13
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
    


انهار النظام التسلطي في بغداد، فانكشف الغطاء عن الوجهِ الآخر لذلك (الاستقرار) الذي طالما تغنَّى به منظرو البلاط الشمولي. انقشع حجاب الاستبداد عن عراقٍ في حالٍ من التعقيد، فاجأ الأمريكيين والبريطانيين و حلفاءهم، والعراقيينَ أنفسهم، وكذلك جيرانَهم من العرب وغير العرب.
-1 -
,ما يحدث في العراق لا يخرج عن ظاهرة أصبحت مألوفة بعد انهيارِ أي نظامٍ سياسي تسلطي، سلطاني قديم أو شمولي حديث، فتهتز التنويعة المجتمعية الإثنية والدينية والمذهبية. ويطغى الانفعال ويتصاعد النزوع إلى الانفصال عن المركز التسلطي المنبوذ. هذا ما كان بعد انهيار السلطنة العثمانية في أوائل القرن الماضي، وفي أواخره بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ويوغسلافيا.
ويبدو أن عراقَ الاستبداد، والحصار، و الحروب المدمِّرة، قد دفع العراقيين، في ظل الغياب الكامل لمفهوم المواطنة، لكي يجدوا ملاذاتٍ آمنة لهم، في كياناتٍ قَبْليةٍ عتيقة تحيل موضوعياً إلى مزيدٍ من التقوقع في عرقٍ أو مذهبٍ أو عشيرة.
وهنا يبرز أهم تناقض في بناء الدولة الوطنية/القومية في العالم العربي، فالسلطات العربية الحاكمة بكامل أشكالها، في الوقت الذي ظلت تتكلم لحقبة طويلة من الزمن على بناء دولتها الوطنية، كانت من جانب آخر تعمل حثيثاً على تدمير أيَ محاولةٍ لبناء دولة المواطنة التي من أهم سماتها تكريس حقوق الفرد المدنية والسياسية والثقافية لكل التنويعة المجتمعية دون تفريق. ولهذا التناقض يعود الفضل الأكبر في فشل مشروع الدولة الوطنية، والإبقاء على الكيانات القبْلية(قبل الدولة) الإثنية والمذهبية والعشائرية، وإعادة الحياة لما كان قد ضعف منها.
وبعد سقوط النظام الديكتاتوري، فرغم انتقال العراقيين من حياةٍ يوميةٍ مترعةٍ بالاستبداد والقمع والذل، إلى حياةٍ يومية يمكن للفرد أن يعبر فيها عما يجول في خاطره دون خوف، لكنهم إلى الآن يعانون من الفوضى وانعدام الأمن وضيق العيش والتوتر الدائم. ويدور بين ظهرانيهم صراعٌٍ هم الخاسر الأكبر فيه، ودماؤهم هي الأكثر هدراً؛ ولا يلمحُون في الأفق المتلبد طوقَ نجاتهم من أوضاعٍ يستشعرونها ربما ستكون أكثر كارثية من الأوضاعٍٍ التي مرَّوا بها، من فتن طائفية، وحروب أهلية وتقسيمٍ للأرض.
كثر الكلام في الأيام الأخيرة على حربٍ أهليةٍ يمكن أن تندلع في العراق ومن أعلى المستويات؛ وكان أول ما جاء على لسان سانشيز القائد الأعلى للقوات الأمريكية في العراق حينما قال: هنالك احتمالات حربٍ أهلية في العراق وإن كان من الممكن ألا تحدث.."، ثم جاء على لسان الأخضر الإبراهيمي موفد الأمين العام كوفي أنان لتقصي الحقائق، حينما طلب من الأطراف العراقية التي التقاها ألا تلجأ إلى اللبننة، معتبراً "أن الحرب الأهلية لا تبتدئ بقرار متخذ، إنما تنشب بفضل أنانيات الذين لاتهمهم غيرُ مصالحهم". ويبدو أن الكلام الذي تواتر كثيرا في الفترة الأخيرة عن حربٍ أهليةٍ عراقيةٍ يخدم مصالح جهاتٍ دولية عدة أمريكية وغير أمريكية ولغايات مختلفة. وهنالك وجهتا نظر حول هذا الموضوع، فالأولى تتكلم عن نوايا بدأت تظهر لدى أميركا حول انسحابٍ قريب من المدن إلى قواعدَ عسكرية خارجها أو على أطراف حدود العراق، فينتقل الصراع بذلك إلى العراقيين أنفسهم؛ وهذا يمكن أن يخفف كثيراً من موت الجنود الأمريكيين ويخدم بوش في المعركة الانتخابية القادمة؛ وخلال هذه الحرب تبقى السيطرة الأمريكية على العراق ونفطه، محميةً بطائراتها وصواريخها. والمتطرفون جداً في الإدارة الأمريكية وحولها من أنصار الحرب الشاملة على المنطقة يجدون في حربٍ أهليةٍ عراقية فرصة مناسبة جداً لتوسيع حدود "الحرب الأمريكية على الإرهاب" وفي النهاية حينما تنْهِك الحرب أطرافَها المحليين تعود أميركا لتلعب دورَ الحكم في إنهاء النزاع. وهنالك أخبار عن أحداث طائفية وعرقية تجري على الأرض في بعض المناطق العراقية في الشمال والجنوب والوسط، تنبئ باحتمال انزلاق العراقيين إلى مستنقع التعصب والتزمت والصراع على(الهويات القاتلة)، وهذا ما يشجع الأمريكيين في ترويجهم الإعلامي للحرب الأهلية.
وتعلق على هذا الموضوع راغدة درغام مندوبة جريدة الحياة في نيويورك فتقول: "مشروع تقسيم العراق على أسس طائفية وإثنية يتبناه البعض همساً والبعض جهراً زاعماً أنه أفضل الطرق العملية لتجنب حرب طائفية في العراق؟؟!!). ثم تواصل الكاتبة فتقول: القاسم المشترك اليوم بين بعض قيادات "القاعدة" وبعض المتطرفين داخلَ وحولَ الإدارة الأمريكية هو العمل على إشعال الفتنة الطائفية، لغايات متناقضة، وإن كانت تصب في تقسيم العراق أو في استخدامه كأداة ".
ووجهة النظر الثانية ربما تمثل وجهة نظر المعتدلين في الإدارةَ الأمريكية الذين يميلون إلى التعاون مع الأوساط الدولية من أجل الوصول إلى حلول مقبولة حول المسألة العراقية، والتي تجد في التهويل من حربٍ أهلية عراقية يخيف كل القوى السياسية العراقية، والأهم من ذلك يخيف الدول المجاورة للعراق، وهذا ما يفسر قلق هذه الأنظمة بما فيها مصر، التي أرسلت مباشرة وزراء خارجيتها إلى (الكويت) بالذات لتدارك الموقف، وبالفعل فقد فاح من المؤتمر عبقُ الدفاع عن النفس واتقاءُ الريحٍ التي قد تمتد إليها لتحرقََها، لذلك فقد اتسم المؤتمر بالدبلوماسية والاعتدال والمهادنة، وانتهى بالموافقة على تشكيل لجانٍ أمنية لضبط الحدود العراقية من كل أطرافه. ومن ثم قامت لجنة حقوق الإنسان التابعة للجامعة العربية لتدين الجرائم الإنسانية التي كان قد ارتكبها النظام العراقي السابق حينما كان في سدة الحكم!!! ومن ثم جاءت الأخبار من دمشق لتعلن أن الحوار سيستأنف بينها وبين واشنطن قريباً، ويصرح أحد مساعدي وزير الخارجية الأمريكي عن تعاون سوري أكثر مع مجلس الحكم في العراق.
في رأينا كلا وجهتي النظر يمكن أن تجد حظوظاً لها من التطبيق في الواقع العراقي الراهن. وبالفعل فقد تبين أن إسقاط النظام لم يكن كافياً لكي تستتب الأمور للأمريكيين في العراق، إذ لم يكن في حسبانهم، بعد انهياره الدرامي والسهل، يمكن أن يتكبدوا مثل هذه الخسائر البشرية يومياً، وأن يقعوا في ورطة مثل التي هم فيها الآن. وتمتد هذه الورطة إلى أعضاء مجلس الحكم الذين عوَّلوا كثيراً على سقوط الديكتاتور لكي يتحول العراق إلى واحةٍ للديموقراطية. ورغم ذلك فالعراقيون كشعب في ورطةٍ أكبر وحالٍ أسوأ، فهم في خوفٍ من أن تكون على أرضهم ساحةُ حربٍ بين الأمريكيين ورجال "القاعدة" ويكونوا هم وقوداً لها؛ وفي خوفٍ من أن يكونوا ضحيةََ حصارٍ آخر، تخومه الأمريكيون وأمراءُ حربٍ محليون، بالإضافةِ إلى أمراء حربٍ قادمين من الخارج.
لكن من المشروع أن نتساءل فيما إذا كان هنالك بالفعل إمكانية لنشوب حرب أهلية في العراق؟ وهل يمكن أن تجازف القوى السياسية العراقية على إثارة حربٍ فيما بينها؟ أم المسألة تتعلق فقط بتهويلٍ أمريكي؟
قال الأخضر الإبراهيمي في هذا الصدد: من كان يتوقع أن اللبنانيين يمكن أن يخوضوا حرباً أهلية فيما بينهم؛ وكذلك الجزائريين". نعم هؤلاء الذين توحدوا على إجلاء المستعمرين يخوضون حرباً قذرة منذ اثني عشر عاماً وإلى الآن لا يوجد أي بصيص يشير إلى نهاية النفق. ولماذا لا نأخذ العبرة من المسلسل التلفزيوني "الحرب اللبنانية" الذي بقي يُعْرضُ لفترة طويلة على إحدى الفضائيات العربية، والذي ظهر فيه كل أبطال هذه الحرب من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار وهم يندمون بشكل أو بآخر على إثارتها واشتراكهم فيها، وألمح أكثر من واحد منهم إلى دور ومصالح العوامل الخارجية في تأجيجها، وكان دور اللبنانيين أنهم قد حاربوا عن غيرهم، وقد نبه آنذاك المرحوم ياسين الحافظ في أكثر من مقال له إلى أخطار تلك الحرب على لبنان ككيان، وعلى كل أطراف التنويعة اللبنانية. ولم يتحمس آنذاك من موقعه كيساري للشعارات اليسراوية جداً التي ارتفعت في تلك الأيام ولقد نبَّه إلى خطورة شعار "عزل الكتائب" الذي رفعته القوى الوطنية اللبنانية. نتمنى أن لا يكرر العراقيون مثل تلك الغلطة التاريخية المدمرة، ويقوموا بنفس الدور ويحاربوا عن غيرهم ثم يندموا فيما بعد؟
الأخبار لا تطمئن كثيراً فهنالك خلاف محتدم حول الانتخابات بين الشيعة الذين يريدونها عاجلاً، والآخرين من السنة والأكراد والتركمان الذين يريدون تأخيرها، وهنالك خلاف حول شكل الدولة العراقية، فالأكراد يصرون على الفيدرالية القومية، في الوقت الذي تدعو الأطراف الأخرى إلى فيدرالية جغرافية، والخلاف على أشده حول المدينة النفطية كركوك، فكل من الأكراد والتركمان والعرب يعتبرونها مدينتهم. ولكن لا يمكننا إلا أن نشير إلى تلك الأصوات العقلانية هنا وهناك على الساحة العراقية، ونخص بالذكر المرجع الشيعي ذو النفوذ (آية الله السيستاني) الذي أحال قضية الانتخابات وتسليم السيادة للعراقيين إلى هيئة الأمم المتحدة، والذي أظهر اعتدالاً ملحوظاً بتجاوبِه مع الأمين العام كوفي أنان بعد صدور تقرير الأخضر الإبراهيمي. وفي معرض الحديث عن الوحدة الوطنية العراقية، طلب السيستاني من الإبراهيمي حين التقاه تبديد هواجس أهل السنة فقال له حرفياً: "يا سيد أخضر، إن الغالبية لو كانت موجودة ووصلت إلى المجلس المنتخب ، فلن تنتج غالبية سياسية لأن لدى الشيعة والسنة كما في كل بلاد الناس، تيارات قومية وعلمانية وماركسية وحتى التيار الديني ليس تياراً واحداً بل تيارات مختلفة فلماذا الخوف ...." ثم يتابع ليقول: "العراق الجديد الذي نريده يجب أن يكون عراق القانون والمؤسسات، ومبنياً على العدالة والمساواة واحترام الرأي الآخر.." . وكذلك لدى رجال الدين من السنة وفي الحزب الإسلامي أصوات معتدلة وعقلانية تتكلم عن ضرورة الوفاق بين جميع الأطراف، ولدى الأكراد هنالك من الأصوات المعتدلة التي تدافع عن هويتها الكردية ضمن الهوية العراقية الأوسع وعبر عراقٍ ديموقراطي موحد.
أما بالنسبة إلى المقاومة العراقية للمحتلين، نرى أن المقاومة رد فعلٍ موضوعي لكل شعب احتلت أرضه. ولكنها لا تبقى في حدود رد الفعل الغريزي؛ وكي لا تبقى مجردَ عنفٍ محض، عليها أن تعبر عن استراتيجيتها السياسية وبرنامجها وأهدافها، وقبل كل شيء يجب أن تخدم بطرِقها وأساليبها مصالح العراقيين والوطن ومستقبله ومصيره. وسياسة أي مقاومة وطنية للمحتل يجب أن تأخذ في اعتبارها ضرورة حشد الناس خلفها بكامل أصنافهم وتنوعاتهم فهم الذين يشكلون ظهيرها الأمتن، وعليها أن تقيم العلاقات العضوية مع كل الطيف السياسي في الداخل، وعلاقات مع القوى السياسية الديموقراطية والمنظمات الدولية والإنسانية في الخارج. هنالك بعض المحللين العرب الذين يتكلمون على مستنقع فييتنامي للأمريكيين في العراق؛ وهذا ما لا يتفق مع الواقع . فقد خاض المعركة مع الأمريكيين في فييتنام الجنوبية اثنا وعشرون حزباً بدءاً من الشيوعيين وحتى الرهبان البوذيين في جبهةٍ واحدة. طبعاً لا أحد يشك في أن أعمال العنف في العراق قد أوقعت موضوعياً الأمريكيين وحلفاءهم من البريطانيين والبولونيين والطليان في ورطة ما، ولكن ما يؤخذ على هذا العنف هو برانيته الطاغية، التي تتجسد في عدم اهتمام المهاجمين بأرواح العراقيين ومصالحِهم اليومية؛ بالإضافة إلى افتقاره لأي برنامج سياسي حتى الآن. وهذا العنف لم يحز حتى الآن على تعاطف وتأييد العراقيين والقوى السياسية الديموقراطية في العالم؛ وهذا ما جعله منذ اندلاعه عنفا متهماً بعدم عراقيته وفي أحسن الأحوال متراوحاً بين فلول النظام الدكتاتوري المنهار وأنصار "القاعدة". ومن خطورات هذا العنف الرمادي أنه يلعب دوراً مؤهباً للحرب الأهلية. وفي الواقع نخطئ كثيراً إذا اعتبرنا كلَ عنفٍ مقاومة بالمعنى السياسي.
ولا بد أن نشير في المقابل إلى الخطيئة الكبرى التي ارتكبها مجلس الحكم في العراق حينما قبل بدور استشاري فقط في علاقته مع الأمريكيين وترك القرار النهائي لبريمر، فهذا ما جعلهم في عزلة إلى حدٍ كبير بالنسبة إلى باقي القوى السياسية العراقية، وكذلك علينا أن نشير إلى خطيئته الأخرى التي لا تقل عن الأولى في سلبيتها حينما وافق الأمريكيين على حل الجيش العراقي. فمباركة مجلس الحكم لحل الجيش عبرت عن انفعال وروح ثأرية ساذجة أكثر مما عبرت عن سياسةٍ محسوبة. فهذا الجيش مثل أي جيشٍ آخر، يتألف من قيادة موالية للنظام القائم ومن بنية تحتية تتألف من ضباط وجنود وسلاح، فكان من الأوْلى الإبقاء على هذه البنية وتعيين قيادة جديدة على رأسها. ومن جانب آخر، فضباط وجنود الجيش العراقي كانوا من بين المضطهدين من النظام السابق، وكلنا يعرف التصفيات والإعدامات المتوالية التي كانت تطال صفوفه بين فترة وأخرى. فهذا الجيش هو الوحيد الذي كان مؤهلاً للمحافظة على الأمن وعلى أرواح العراقيين؛ لكن يبدو أن الأمريكيين كانوا مصممين على إنهائه وتصفيته نهائياً، ويبدو أنها كانت رغبة الإسرائيليين والموالين لهم في الإدارة الأمريكية.
-2 -
وفي أي مقاربة لآفاق الوضع العراقي وتطوراته المستقبلية، علينا ألا نضع أنفسنا مكان العراقيين فيظلون هم الأكثر تلمساً وتحسساً لواقعهم، وهذا بطبيعة الحال لا يعفينا من طرحِ وجهات نظرنا، فهم أشقاؤنا و مصيرنا يتأثر بمصيرهم. وكذلك تتطلب مقاربة الحالة العراقية، قراءة جديدة لبعض مفاهيم الفكر السياسي، وعلى وجه الخصوص ما يتعلق بمقولة الدولة-الأمة، ومبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها، وما يتعلق بمفهومي الوحدة الانفصال وعوامل النبذ والجذب إزائهما.
كان قد نشأ مفهوم الدولة- الأمة في أوربا في بداية التطور الرأسمالي لغاية توسيع السوق وهذا تطلب توحيد الإمارات الإقطاعية في دولة رأسمالية قومية أكبر ولقد استخدم في كثير من الأحيان العنف لتحقيق هذا الهدف. ولكن في الحقبة التاريخية الراهنة في ظل العولمة، والمعلوماتية والاتصالات، والهشاشة التي وصلت إليها حدود الدول القومية، والهجرات الديموغرافية من الجنوب إلى الشمال ومن الشرق إلى الغرب، لم يعد مفهوم الدولة القومية بالمضمون السابق ذاته؛ ففي عصرنا الراهن تكاد لا توجد دولة واحدة بأمة واحدة أو شعب واحد ذات دين واحد أو لغة واحدة؛ وهذا ينطبق على العالم كله، في الأمريكيتين وروسيا والصين وكل أوربا الشرقية والغربية، ولقد تحولت العواصم الكبرى الآن إلى هيئةِ أمم وشعوب، وينطبق هذا أيضاً على الدول الآسيوية والإفريقية منذ القديم، ومن ضمنها الدول العربية. وعلى سبيل المثال ففي بنين هذه الدولة الصغيرة على الساحل الأفريقي الغربي يتكلم الشعب بست وعشرين لغة؛ وفي كازاخستان في آسيا الوسطى يوجد إلى جانب الكازاخ الروس والأوكرانيون وشعوب وجماعات قومية من كل دول الاتحاد السوفييتي السابق، وفيها إلى جانب الإسلام والأورثوذكسية والكاثوليكية واليهودية واحد وأربعون معتقداً دينياً آخر.
وأما بالنسبة إلى حق الأمم والشعوب في تقرير مصيرها؛ فقد كان بادر إلى طرحه، كل من لينين والرئيس الأمريكي ويلسن في مطلع القرن الماضي، في وقت كان هنالك الكثير من الشعوب التي تعاني من اضطهاد الامبراطوريات الكبرى(السلطنة العثمانية، الامبراطورية النمساوية الهنغارية وروسيا القيصيرية) والدول الاستعمارية(بريطانيا، فرنسا، هولندا، البرتغال،اسبانيا).
فهذا الحق لم يفقد مشروعيته بروحيته وشكله العام ، فأي شعب يعاني من اضطهاد عنصري أو عرقي أو ديني من سلطة ما، فمقاومته لهذا الاضطهاد تبقى حقاً مشروعاً له، ولكن ما يجب التدقيق فيه هو تفاصيل هذا الحق، ورؤيته كحالةٍ عيانية وليس كقانون رياضي مجرد من واقعه وظروفه المحيطة. وعلى سبيل المثال، لنتصور ما هو الوضع المتفجر الذي يمكن أن تنتقل إليه أوربا والحروب التي يمكن أن تنشب فيها، لو أن باسم حق تقرير المصير قام كل شعب من الشعوب البلقانية من الصرب والألبان والماكيدونيين والهنغار يطالب بدولته الكبرى. لكن يبدو أن الوحدة الأوربية كانت الوسيلة التي سحبت البساط من تحت هذه النزوعات والميول غير الواقعية، واستوعبت هذا الوضع الفسيفسائي المتفجر.
هذه التشكيلة الديموغرافية البلقانية لا تخص البلقان وحده فإلى جانب البلقنة وعلى نفس الوزن اللغوي اشتقت اللبننة والقبرصة والأفغنة ويمكننا أن نسمع في المستقبل عن فلبنة وروسنة وعرقنة وحبشنة...إلخ .وكذلك هذه التشكيلة الديموغرافية موجودة في الشرق الأوسط ومنطقتنا العربية. ولنتصور أيضاً تلك المآسي والحروب والكوارث والتهجيرات والتطهيرات العرقية التي تحل في منطقتنا إذا قام كل من الأكراد، والبلوش، والأذربيجانيون، والتركمان والطادجيك والأرمن والشيعة والسنة والإسماعيليون والعلويون والدروز ليقيمون كيانات كبرى تضم كل أماكن انتشارهم؟؟
في اعتقادي أن الدولة الأمبراطورية، والدولة السلطانية، والدولة الشمولية، وكذلك الدولة الأمة، كل هذه الدول لم تعد تتلاءم مع العصر الذي نعيشه، إنما الحياة والمستقبل لدولة المواطنة والديموقراطية والتعايش بين متفارقين إن كان في اللغة أو الثقافة أو المذهب، القائمة على عقد اجتماعي يضمن الحقوق المدنية والسياسية والثقافية المتساوية لكل التنويعة المجتمعية. ويجب أن لا يفوتنا هنا أن قادة إسرائيل يرفضون رفضاً قاطعاً هذه الدولة الديموقراطية على أرض فلسطين بين العرب واليهود، ويصرون على الطابع اليهودي لدولتهم. . ويجب أن نشير في نفس السياق إلى الظاهرة الأخرى التي طفت على السطح في أعقاب انهيار النظام الشمولي، فكل الدول التي تحررت من التسلط الشمولي السوفييتي واليوغسلافي؛ ما أن خرجت من باب انفصالها عن المركز القديم المنبوذ بالنسبة لها، حتى راحتْ تقرع بقوة بابَ مركزٍ آخر أكثرَ جذباً ورخاءً وعدلاً وديموقراطية لتتحد معه(الاتحاد الأوربي). حالة انتقال من انفصال إلى اتحاد في الوقت ذاته. وحتى تركيا نفسها راحت تزيل بقايا تقاليدها الاستبدادية، وتبذلُ كلَ ما بوسعها لتوحيد قبرص من جديد، لإزاحة كل العراقيل التي تقف أمام دخولها إلى الوحدة الأوربية. فالدولة الديموقراطية القائمة على حقوق المواطنة المتساوية تلعب دوراً جاذباً بالنسبة لمحيطها؛ على عكس الدولة التسلطية التي تلعب دوراً نابذاً. وهذا يدعونا للتساؤل فيما إذا كان أكراد تركيا سيواصلون نضالهم للانفصال عنها في حال التحاقها بأوربا أم سيتمسكون حينئذ بهويتهم الأوربية الجديدة؟ وهذا يدعونا أيضاً للتأمل في الحزب التركي الذي يعمل ليلاً ونهاراً للالتحاق بقطار أوربا؟ إنه حزب إسلامي لكنه من نمطٍ جديد، يقرأ الإسلامَ بشكلٍ آخر، ورؤيته للديموقراطية والعلمانية رؤية أخرى، تختلف عن معظم فصائل الإسلام السياسي في منطقتنا العربية.

-3-
بالنسبة إلى الحالة العراقية لا يمكننا الكلام على أقليات. فالشيعة نصف العراق إن لم يكونوا أكثر وفي غالبيتهم العظمى من العرب، والأكراد حوالي خمس العراق ، والسنة العرب خمس آخر، ومجموع السنة من العرب والأكراد والتركمان حوالي النصف. والعاصمة بغداد تحوي الكثير من الشيعة والكثير من السنة والكثير من الأكراد بالإضافة إلى التركمان والمسيحيين بأنواعهم والصابئة، وهذا ينطبق على المدن الكبرى الأخرى البصرة والموصل وكركوك. وبالنسبة إلى البادية العراقية الوسطى والشمالية غرب بغداد والتي يطلق عليها الإعلام في هذه الأيام المثلث السني المسكونة من قبل العشائر العربية.فبين هذه العشائر هنالك تداخل والعشيرة الواحدة فيها من السنة وفيها من الشيعة. وكذلك الأمر بالنسبة إلى الأكراد ففيهم من الشيعة ومن اليزيديين ، وكذلك التركمان فمنهم السنة ومنهم الشيعة. وطبعاً هناك الآشوريون والكلدان والسريان المنتشرون في كثير من المناطق العراقية، وهنالك الصابئة.
وأي نزوع نحو الانفصال عن الجسم العراقي يحمل الكثير من الكوارث للشعب العراقي بكامله(تهجير وتطهير عرقي ومذابح جماعية جديدة).لذلك تقع على عاتق كل الأطراف العراقية من داخل وخارج مجلس الحكم ، تفويت الفرصة على كل من له مصلحة في إثارة حربٍ أهلية من الأطراف الخارجية والداخلية. و تكمن مصلحة كل الأطراف العراقية في إقامة وفاق ديموقراطي وضمان الحقوق المدنية والسياسية والثقافية المتكافئة لكل أطراف التنويعة العراقية، عبر عراقٍ موحد يستوعب الجميع.وهذا يبدأ بتكريس الثقة بين الأطراف وعدم الانزلاق نحو التزمت العرقي والمذهبي وبذل كل الجهود للتوصل إلى الحلول الوسط على كل القضايا (الانتخابات والدستور وشكل العراق الجديد ومضمون الفيدرالية). فالهدف الرئيس الآن في العراق ليس تكوين الدولة القومية أو الدولة الأمة أو الدولة الدينية؛إنما إنشاء دولة المواطنة لكل أفراد التنويعة العراقية. ومن حسن الحظ أن المحيط الإقليمي للعراق لا تتوفر فيه في الوقت الراهن عوامل جذب لمكونات التنويعة العراقية.



#نقولا_الزهر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رسالةإلى وردةٍ بيضاءْ
- ساحة ...في عاصمةٍ مملوكية
- مداخلة في مفهوم الفصل


المزيد.....




- منهم آل الشيخ والفوزان.. بيان موقّع حول حكم أداء الحج لمن لم ...
- عربيا.. من أي الدول تقدّم أكثر طالبي الهجرة إلى أمريكا بـ202 ...
- كيف قلبت الحراكات الطلابية موازين سياسات الدول عبر التاريخ؟ ...
- رفح ... لماذا ينزعج الجميع من تقارير اجتياح المدينة الحدودية ...
- تضرر ناقلة نفط إثر هجوم شنّه الحوثيون عليها في البحر الأحمر ...
- -حزب الله- اللبناني يعلن مقتل أحد عناصره
- معمر أمريكي يبوح بأسرار العمر الطويل
- مقتل مدني بقصف إسرائيلي على بلدة جنوبي لبنان (فيديو+صور)
- صحيفة ألمانية تكشف سبب فشل مفاوضات السلام بين روسيا وأوكراني ...
- ما عجز عنه البشر فعله الذكاء الاصطناعي.. العثور على قبر أفلا ...


المزيد.....

- الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات / صباح كنجي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل ... / الحزب الشيوعي العراقي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو ... / الحزب الشيوعي العراقي
- المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت ... / ثامر عباس
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11 / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3 / كاظم حبيب


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - نقولا الزهر - مصلحة كل التنويعة العراقية في دولة قائمة على الوِفاق والمواطنة