عبدالوهاب حميد رشيد
الحوار المتمدن-العدد: 2443 - 2008 / 10 / 23 - 08:20
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
ربما أن الجنود الأمريكان ممن يقدمون على قتل أنفسهم في سياق احتجاجهم ضد العسكرة military self- immolation يُحاولون فقط العودة إلى صفاتهم الإنسانية rehumanize
برفضهم الممارسات اللا إنسانية dehumanize بقتل الآخرين.
الكثيرون منا ممن عاصروا فترة الحرب الباردة Cold War لا زالوا يتذكرون أحداث إقدام البعض على قتل أنفسهم حرقاً لأسباب سياسية political self- immolation. إن المعنى الدقيق لهذه التسمية يتجسّد في لجوء الشخص (هو/ هي) إلى قتل نفسه حرقاً، وذلك في إشارة رمزية قوية مؤثرة إلى الاحتجاج ضد ممارسات خرق حقوق الإنسان أو جلب الانتباه الشديد إلى أمر ما.
في العام 1963 أقدم Thich Quang Due على الانتحار السياسي بهذه الطريقة احتجاجاً على رفض الرئيس الفيتنامي الجنوبي Diem- المدعم من الولايات المتحدة- إجراء انتخابات عامة وسحقه الوحشي للمظاهرات. آخرون من الرهبان البوذيين فعلوا الشيء نفسه عندما قام Diemبفرض الحصار على القرويين ومنع رفع الأعلام الدينية بمناسبة عيد ميلاد بوذا. وفي العام 1969 أقدم Jan Palach على قتل نفسه حرقاً احتجاجاً على الغزو السوفيتي للعاصمة براغ. وبعد ذلك سار آلاف المشيعين نحو ساحة Wenceslas- مكان حدوث الانتحار.
وبطريقة ما، فالجنود الأمريكان ممن يقدمون على الانتحار من أجل تحاشي قتل الآخرين، يرتكبون في الحقيقة الانتحار العسكري military self-immolation. وهذا الانتحار العسكري يُماثل الانتحار السياسي، أي أنه كذلك احتجاج رمزي بلجوء الجندي (هو/هي) إلى قتل نفسه ليتحاشى إجباره على قتل العدو في ساحة المعركة أو قتل المدنيين الأبرياء.
في زمن الحرب، قد يهتدي convert أعداد من الجنود باعتناق أفكار عدم ممارسة العنف nonviolence، ويعتبرون الحياة كلها مقدسة، ومن ثم يعتقدون ويقتنعون بأنه من الخطأ تدمير حياة إنسان آخر. فعندما يتشرب الجنود بمثل هذه الأفكار والمشاعر عندئذ أما أن يخضعوا لالتزامات إنسانية (أخلاقية/ دينية) أو أن يخضعوا للاضطهاد: التحقير أمام محكمة عسكرية، السجن، والنبذ من قبل زملائهم ومجتمعهم.
من هنا قد تصبح أفكار قتل النفس كرمز للاحتجاج العسكري مسألة اعتيادية لديهم. وقد يُفكر بعض الجنود أن هذا الانتحار يعتبر الملجأ الأخير لهم. وإذا ما تحقق هذا (الانتحار) فإنه طريق للاحتجاج ضد ثقافة العنف وشيطان الحرب.
تصاعدت معدلات الانتحار بين الجنود العائدين من العراق وأفغانستان بسرعة صاروخية skyrocketed. تدعي إدارة شئون المحاربين القدماء Department Veteran Affairs- VA تزايد محاولات الانتحار بين القوات الأمريكية إلى حوالي 1000 (ألف) محاولة شهرياً. تم تشخيص أكثر من 40000 (أربعين ألف) من القوات العائدين من ساحات الحرب، وهم يُعانون من اضطرابات نفسية وعقلية traumatic stress syndrome- PTSD. بينما خلصت دراسة مسحية معتمدة على العيّنة العشوائية أن العدد يصل إلى 300000 (ثلاثمائة ألف)! والسبب في انتشار محاولات الانتحار بين المحاربين القدماء، يُفسَّر عادة بأن الجنود العائدين صاروا غير قادرين على التعامل الاعتيادي مع المجتمع أو أنهم يُعانون من الكآبة depression، جرعة مفرطة من عقار/ مُخدّر drug أو فشل الزواج، باعتبارها كلها عوامل تسببت في تلك الاضطرابات النفسية والعقلية.
في بعض الحالات أقدم الجنود على الانتحار لتحاشي إعادتهم إلى ساحات الحرب في العراق وأفغانستان، حسب ملاحظاتهم وكتاباتهم التي نشروها على النت، وعبروا فيها عن رغبتهم في: أما أن يعيشوا حياتهم بـ (سلام) أو أن يتجنبوا قتل النساء والأطفال. وفي سياق محاولات هؤلاء الهروب من الحرب المرعبة، هل أصبحنا نحن مشوشين حتى نجعل من الانتحار الاحتجاجي العسكري مجرد انتحار عادي؟ هل نحن أخطأنا تشخيص ما اعتنقه هؤلاء الجنود ومشاعرهم العاطفية ورغبتهم في السلام لنرمي لومنا على الكآبة وضغوط الحرب؟
نُشر مؤخراً أن 21 من القوات الأمريكية داخل قاعدة عسكرية في العراق عملوا اتفاقية/ معاهدة pact فيما بينهم بالإقدام جميعا على الانتحار الاحتجاجي العسكري military self- immolation. نجا منهم خمسة فقط. كان هؤلاء ينتسبون إلى وحدة مارست- بشكل متكرر- القتل والمجازر بحق عائلات عراقية ذات أغلبية من النساء والأطفال.
في السنوات الأخيرة، أقدم خمسة مجندين recruiters- ومن نفس كتيبة قاعدة هوستن- على الانتحار العسكري. هل كان هذا بسبب نقلهم إلى العراق؟ لقد أظهرت الدراسات أن شعوباً أخرى بعد أن تورطت في حروب عدوانية وفترات استعمار ممتدة، عانت أيضاً من تدني المعنويات. اعترف أكثر من 40% من القوات البريطانية بأنهم يُعانون من الفوضى/ الانهيار في معنوياتهم الأخلاقية/ الإنسانية demoralized ولن يُجددوا خدمتهم ثانية.
بعد انتهاء زيارة الرئيس الفرنسي ساركوزي لإسرائيل. وأثناء توديعه في المطار من قبل رئيس الوزراء الإسرائيلي. كان أحد الجنود الإسرائيليين واقفاً على بعد 100 متر فقط من موقع التوديع. أقدم الجندي على قتل نفسه بإطلاقه رصاصة واحدة على رأسه. خدم هذا الجندي في نقاط التفتيش والطرق المحاصرة في الضفة الغربية وشاهد ممارسات متكررة من اعتداءات زملائه- الجنود الإسرائيليين- بحق الفلسطينيين: الضرب، إطلاق الرصاص، وأشكال عديدة من الإساءة لحقوق الإنسان الفلسطيني. هل كان هذا الحادث حالة أخرى لتدمير الذات في سياق الاحتجاج العسكري military self- immolation؟
اعترف الادميرال Michael Mullen- رئيس هيئة الأركان المشتركة- بأن الكثيرين من القوات الأمريكية العائدين من العراق وأفغانستان يُعانون من أضرار نفسية وبدنية، ودعاهم جميعا إلى الخضوع للفحوصات PTSD.
ورغم ضرورة وفائدة هذا الإجراء إلا أن شيئاً من الحكمة يدعو أيضاً إلى إخضاع الحروب الممكن تجنبها وغير الضرورية للفحص والمنع. كذلك ينطبق هذا الأمر على الحروب المخادعة deceitful التي تُعشعش في عقول رؤساء وسياسيين.. كما أن تأييد قواتنا قد يستلزم ضرورة إعادة تقييم المجتمع الذي يؤيد برغبة ويُدعم قادته ومؤسساته في سياق متابعة pursue الحرب اللا نهائية perpetual والغزوات/ الحروب الاستباقية pre- emptive invasions والتي تقود في الغالب إلى أشكال من الاستعمار لفترات طويلة وموت الملايين.
قبل سنوات مضت، استولى الجيش الإسرائيلي على السجلات الشاملة extensive archives، للثقافة والتشكيلة التاريخية الفلسطينية في مركز بحوث منظمة التحرير الفلسطينية في بيروت الغربية. وفي معرض تعقيبه على هذه الحادثة، قال نائب محافظ القدس Meron Benvenist: "هذا لم يكن بقصد تدميرهم فقط باعتبارهم قوة سياسية أو قوة عسكرية، بل لحرمانهم من تاريخهم ومحوه لأنه مزعج troublesome." وأضاف: "إن عملية التجريد من المواصفات الإنسانية dehumanization هي نتاج كل هذه الصراعات... عندما تكون في حالة حرب.. عليك أن تُجرد عدوك من مواصفاته الإنسانية.. لأنك إن لم تفعل، عندئذ تُعتبر قاتلاً murderer.1"
ربما أن الجنود ممن يرتكبون قتل أنفسهم- الانتحار العسكري- يُحاولون فقط إعادة القيم الإنسانية لذاتهم من خلال رفضهم التجرد من إنسانيتهم بقتل الآخرين. وربما أيضاً تعبيراً رمزياً باتهام أو مقاضاة indictment المتسببين في عسكرة المجتمعات militaristic societies والحروب العدوانية القائمة على التعصب والإبادة الجماعية genocide.
في ظروف إدراك احتجاجاتهم المميتة والتعلم من رفضهم قتل الآخرين، ربما نستطيع نحن أيضاً أن نُجرب محاولة إعادة ترسيخ قيمنا وممارساتنا الإنسانية re-humanize داخل نفوسنا في سياق التوجه نحو بناء عالم أكثر عدلاً وسلاماً.
وفي الختام، فإن إعادة ترسيخ الممارسات الإنسانية والبناء الاجتماعي أفضل كثيراً من تخلينا عن القيم الإنسانية وممارسة الهدم الاجتماعي.. أليس كذلك؟
ممممممممممممممممممممممممـ
Suicide or military self-immolation?, By Dallas Darling,aljazeera.com, 21/10/2008.
(1) Stone, Ronald H., and Dana Wilbanks. The Peacemaking Struggle: Militarism And Resistance. New York, New York: University Press of America, 1985. p. 69.
-- Dallas Darling is the author of “The Other Side Of Christianity: Reflections on Faith, Politics, Spirituality, History, and Faith”. He writes for World News and currently works with Pastors For Peace in delivering humanitarian aid to foreign countries. You can read more of his articles at BeverlyDarling.com.
Source: Middle East Online
#عبدالوهاب_حميد_رشيد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟