دياري صالح مجيد
الحوار المتمدن-العدد: 2424 - 2008 / 10 / 4 - 06:23
المحور:
السياسة والعلاقات الدولية
كما هو معروف لجميع المتخصصين في الدراسات السياسية والعلاقات الدولية بأن أي حرب مهما كانت صغيرة أو كبيرة تكمن وراءها العديد من الدوافع والمحفزات التي تثير هذا الطرف أو ذاك على ممارسة الفعل العسكري سواء أكان العدواني منه أو الدفاعي. لذا نجد أن حرب القوقاز الأخيرة التي جرت حلقاتها على أرض جورجيا في إقليم أوسيتيا الجنوبية، ليست استثناء من هذه القاعدة الشاملة.
نفترض في هذا المقال أن الرغبة الأمريكية الملحة في العمل على إزاحة النفوذ الروسي من دول جنوبي القوقاز وبالذات منها جورجيا , ذات المكانة الجيوبولتيكية المتميزة في الفكر الاستراتيجي الأمريكي، كان وراء اندلاع هذا الصراع الذي برزت واحدة من معالمه في الدور الأمريكي الضاغط بقوة من أجل إزاحة النفوذ الروسي من مجاله الحيوي التقليدي عبر الإيعاز لدول القوقاز بالعمل على مطالبة القواعد العسكرية الروسية المرابضة على أراضيها بالانسحاب منها والتمركز داخل روسيا.
كانت روسيا حتى وقت قريب تمتلك قواعد عسكرية مهمة في جورجيا كان أهمها وأكبرها القواعد العسكرية التالية:
(Vaziani, Gudauta, Batumi, Akhikalaki)
وكانت تلك القواعد العسكرية مصدراً مهماً من مصادر توتر العلاقات المستمرة مابين روسيا وجورجيا التي عملت بشكل حثيث من خلال منظمة الامن والتعاون الاوربي على زيادة الضغوط على روسيا في ضوء القمة التي عقدت في اسطنبول بتاريخ 17 نوفمبر/تشرين الثاني 1999 والتي أدت إلى التوقيع على تعهد روسي يلزمها بغلق القاعدتين الأولى والثانية اللتان أغلقتا فعلاً في عام 2001م.
أما مايتعلق بالقاعدتين الأخيرتين اللتان تحظيان بأهمية ستراتيجية كبيرة لروسيا في دولة جورجيا فقد أغلقتا هما الأخريان إذ أعلن بتاريخ الأول من يونيو/حزيران 2005 التوصل إلى اتفاق روسي-جورجي لسحب القاعدتين العسكريتين المتواجدتين في الأراضي الجورجية، والتي بدأت بشكل عملي منذ صباح ذلك اليوم ويتوقع انتهاؤها في بداية عام 2008 وهو ماأكده وزير الدفاع الروسي في مؤتمره الصحفي الذي عقده آنذاك مع وزيرة الخارجية الجورجية.
تم وفقاً لذلك تصفية القواعد العسكرية في جورجيا وبقي هنالك هم وحيد لدى الجورجيين يتمثل في كيفية إزاحة قوات حفظ السلام المتواجدة في أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، من اجل تحقيق الإنهاء التام للتواجد الفعلي للقوات الروسية على أراضي دولة جورجيا.
خاصةً وأن جورجيا كانت تنظر بعين الريبة والشك لدور تلك القواعد ولدور قوات حفظ السلام الروسية التي تتهمها بأنها مسؤولة عن إثارة النزعات الإنفصالية في جورجيا عبر إقامة علاقات وطيدة مع شعوب تلك الأقاليم ومع قياداتها الانفصالية ومدها بالسلاح والمال الذي تحتاج إليه في إدامة وجودها ومعارضتها لحكم السلطة المركزية.
في الوقت الذي انسحبت فيه القواعد العسكرية الروسية من جورجيا، بدأت جورجيا عبر قياداتها السياسية تشعر بزهو الانتصار وبأن الغرب يقف وراءها بقوة وبأنه سيدعمها في كل توجهاتها المستقبلية، لذا نراها قد بدأت تؤكد على ضرورة مشاركتها الفعلية أو انضمامها الفعلي لحلف الناتو بدلاً من بقائها مجرد عضو مساهم في برنامج المشاركة من أجل السلام التابع لهذا الحلف ، هذا إضافة إلى دعوتها الولايات المتحدة الأمريكية لإقامة قواعد عسكرية على أراضيها باعتبارها حليفاً ستراتيجياً لها، الأمر الذي صعد من حدة مخاوف كلاً من روسيا وإيران اللتين تقيمان تحالفاً ستراتيجياً مع أرمينيا في منطقة القوقاز للحيلولة دون تحقيق طموحات الغرب وبالذات أمريكا هناك.
لقد جاءت عملية تصعيد المخاوف الإيرانية-الروسية من حقيقة التوجهات الجورجية-الأمريكية في القوقاز في ضوء إدراكهما الرغبة الأمريكية في تطويق روسيا وإيران بقواعد عسكرية تابعة لحلف الناتو أو للولايات المتحدة الأمريكية على وجه الخصوص، وأثر مثل هذا التوجه في مكانة كلا الدولتين، خاصةً وأنهما (روسيا وإيران) ينظران إلى القوقاز على أنه مجال حيوي تقليدي لهما ولابد من الحيلولة دون أن ترتكز أقدام الغرب هناك بقوة.
تجدر الإشارة إلى أن هنالك مجموعة داخل الكرملين تدعو إلى إعادة أمجاد الاتحاد السوفيتي السابق وترى أن دول القوقاز وآسيا الوسطى تعد النافذة المثلى التي يمكن لروسيا القوية أن تطل من خلالها على العالم بوجه آخر غير الذي عرفناه طوال السنوات الماضية، وهو مايؤمل أن يعيدها إلى مكانتها كدولة مؤثرة في السياسة الدولية، وتدعو تلك الفئة صراحة إلى إعادة نشر القواعد العسكرية الروسية على المحور الروسي أو على دول الجوار الجغرافي الروسي من أجل العمل على ضمان نفوذ روسي أوسع لها هناك.
في ضوء اضطرارها إلى سحب قواعدها العسكرية أمام تنامي مخاوف شغل الفراغ هناك من قبل الناتو أو القواعد العسكرية الأمريكية ، وجدت روسيا أن الوقت والفرصة سانحة الآن للعودة بقوة من خلال بوابة أوسيتيا الجنوبية، لذلك نجد أن تصريحات قادة الأقاليم الانفصالية في جورجيا جاءت لتؤكد ماذهبنا إليه آنفاً، فقد طالب زعيم أبخازيا سيرجي باجابش روسيا التوقيع على اتفاقية للدفاع المشترك، كما طالبت أوسيتيا الجنوبية بإقامة قاعدة عسكرية لروسيا على أراضيها. وهو مايفسر أيضاً قراراً اتخذته موسكو يؤكد بأنها ستحتفظ بنقاط استراتيجية داخل جورجيا بعد أن تنسحب قواتها من مناطق القتال الحالية. وتتركز تلك المناطق بشكل خاص في منطقة عازلة محاذية لأوسيتيا الجنوبية فضلاً عن طريق استراتيجي يربط تبليسي بالبحر الأسود. كما وأظهرت خارطة عرضها مساعد قائد الأركان الروسي الجنرال أناتولي نوغونيتسين , تظهر منطقة مسؤولية قوات حفظ السلام الروسية، الطريق التي تربط ميناء بوتي الذي يعد أهم منفذ بحري في جورجيا بمدينة سيناكي في غرب البلاد حيث ستبقي سيطرتها هناك بشكل خاص.
الأمر الذي يعني أن خسارة القواعد العسكرية الأربع التي تحدثنا عنها في بداية هذا المقال، قد تم تعويضها الآن ليس من خلال تعزيز دور قوات حفظ السلام الروسية فحسب وإنما من خلال قواعد عسكرية رئيسية هناك في تلك الأقاليم (أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية) أيضاً.
#دياري_صالح_مجيد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟