أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - عدنان شيرخان - المصالحة في جنوب افريقيا : مهارات التفاوض وبناء الثقة أعادت صياغة أمة















المزيد.....



المصالحة في جنوب افريقيا : مهارات التفاوض وبناء الثقة أعادت صياغة أمة


عدنان شيرخان

الحوار المتمدن-العدد: 2387 - 2008 / 8 / 28 - 00:44
المحور: المجتمع المدني
    


قدمت جنوب افريقيا للعالم تجربة مدهشة وصفت في احيان كثيرة بالمعجزة، حولت بلدا تسود فيه ثقافة العنف والتمييز العنصري الى بلد ديمقراطي،يتمتع فيه الجميع بحقوق متساوية، استخدمت مناهج حل النزاعات وهي التحاور ومهارات التفاوض والاستماع الجيد واعادة بناء الثقة للقضاء على ارث من التمييز العنصري امتد لقرون، وفي احيان كثيرة ينظر الى تجربة جنوب افريقيا على انها التجربة الاولى في العالم التي يتم فيها حل نزاع بهذه الاهمية والخطورة حلا سلميا.
اتاح برنامج الامم المتحدة الانمائي UNDP ) ) بالتعاون مع لجنة تنسيق المنظمات غير الحكومية في العراق NCCI ) ) الفرصة لاحد عشر ناشطا في المجتمع المدني العراقي للتعرف على هذه التجربة في ارض الواقع، انتظم المشاركون بجولة دراسية في جمهورية جنوب افريقيا، استضافتها منظمة (المركز الافريقي لحل النزاعات ـ (Accord )استمرت اسبوعا، تلقى المشاركون فيها دروسا مكثفة تناولت في البدء موضوعة الصراعات والنزاعات، فهم الاسباب الكامنة وراءها، وتحليل طبيعة النزاعات واتجاهاتها الراهنة والمستقبلية، تم شرح اهم مفاصل تجربة جنوب افريقيا على مستوى (كل شيء عن)، ولقاء شخصيات بارزة ومهمة كانت لها ادوار تأريخية في التجربة، وزار الوفد اماكن تأريخية في مدن بريتوريا وجوهانسبورغ ودربن كالتلة الدستورية حيث مبنى المحكمة الدستورية الذي انشىء وسط بقايا عدة سجون اهمها سجن رقم 4، الذي سجن فيه المهاتما غاندي ومانديلا، ومتحف الفصل العنصري المعروف عالميا، وزود المشاركون بالعديد من الاوراق التي تتناول انتقال جنوب افريقيا السلمي.

من عمان تبدأ جنوب أفريقيا : بهذه العبارة ابتدأ سفير جمهورية جنوب افريقيا الاتحادية في عمان الدكتور بوي غيلدنهايز كلامه للمشاركين في الجولة الدراسية، قال : ان الغرض من سفركم الى بلادي هو التعرف والتعلم من تجربة جنوب افريقيا في المصالحة الوطنية، نعلم جميعا ان العراق ليس جنوب افريقيا، وان جنوب افريقيا ليست العراق، ولكن سأوجز التجربة بنقاط محددة، مؤكدا وجود مفاصل رئيسة تجمع البلدين، من الممكن الاتفاق عليها في تجربة المصالحة الوطنية، وتابع : "ستتعرفون بأنفسكم حتما على هذه المفاصل". ووصف ما حدث ببلاده بالمعجزة، قائلا : " ماحدث كان اقرب الى المعجزة، القادة الكبار من الاغلبية والاقلية كانوا على مستوى راق من المسؤولية التاريخية والتفكير الذي قاد الى المصالحة، وساعدت حملات في الصحف ووسائل الاعلام والمجتمع المدني باتجاه التثقيف بالمصالحة، فضلا عن ضغوط من جميع الجهات، دولية وعقوبات اقتصادية، لاحداث تغيير في وضع غير صحيح، لا يمكن ان يدوم ويبقى ، جميع هذه الامور ولدت لدى الاقلية (البيضاء) الحاكمة قناعة بضرورة الاتجاه نحو التغيير السياسي، خطوة فخطوة تدريجيا، وهذا لم يمنع وجود اناس غير مبتسمين للتغيير لاسيما من جانب البيض، واضاف: شهدنا نقاشات على المستوى الشعبي في المدن والقرى والارياف. قبل الجميع بخيار المصالحة لعدم وجود بديل صالح آخر، ولادراكهم ان البديل الاخر سيكون كارثيا وهو استمرار القتال الاهلي.. ولخص السفير ما حدث في جنوب افريقيا، بنقاط خمس:
1ـ اعتماد المصالحة الوطنية، كان الاتفاق العام ان لا حل مسلحاً يمكن ان ينهي النزاع، وان الحل السلمي الدائم هو الحل الاسلم.
2 ـ المواطنون من الاغلبية (السوداء) والاقلية (البيضاء) كانوا جاهزين لتقديم تضحيات كبيرة، ضمن مبدأ نعطي ولانأخذ ، ولم يحصل اي طرف على مئة بالمئة مما اراده في البداية.
3 ـ قبول الاقلية البيضاء التي كانت تنفرد بالحكم منذ 40 عاما بنتائج الانتخابات التي اقيمت في العام 1990، الاقلية تحاشت السؤال الذي كان من الممكن طرحه : لماذا نتنازل طوعا عن حكم البلاد؟
4 ـ لم تتجاهل الاغلبية التي فازت بالانتخابات الاقلية، شاركتها بالحكم وتقاسمت السلطة معها.
5 ـ سامحت الاغلبية الاقلية التي كانت تنتهك حقوقها ، ولم تشهد جنوب افريقيا محاكمات كالتي جرت في نورنبيرغ بعد سقوط النازية في المانيا . المثال الاروع على التسامح كان نيلسون مانديلا، الذي سجن 27 عاما وسامح وصفح عن الذين وضعوه في السجن .

بداية الجولة الدراسية : وصلنا الى مطار مدينة جوهانسبورغ بعد رحلة مضنية، من عمان الى العاصمة القطرية الدوحة، ثم رحلة متواصلة الى جنوب افريقيا دامت ثماني ساعات ونصف، في مطار جوهانسبورغ، اصبحنا في عهدة المغربية جميلة العبدلاوية ممثلة (منظمة اكورد) التي لا تعرف من العربية الا كلمات معدودات، وبباص صغير مقوده الى اليمين ولا يحتاج الى تحوير لان نظام السير في جنوب افريقيا (يميني) كما في بريطانيا، وصلنا الى العاصمة بريتوريا قبيل المغيب، استقبلنا في مكان اقامتنا فندق بورغر بارك بنكتة باردة سمجة وهي انقطاع التيار الكهربائي، نظرنا الى بعضنا البعض، ولسان حالنا يقول : " حتى هنا لاحقنا انقطاع التيار الكهربائي"، وزعت سيدة سوداء بدينة شموعا على الغرف بعد ان حل الظلام سريعا، استمر انقطاع التيار الكهربائي حتى الواحدة والنصف صباحا، قيل لنا في دقائق اشياء كثيرة، التيار الكهربائي لا ينقطع عادة، ولكن انقطاعه محتمل في اي وقت، قالت جميلة المغربية ان المدينة غير آمنة لاسيما في الليل ، ومن يريد ان يكون في الجانب الآمن فعليه البقاء في الفندق وعدم الخروج، واذا كان لابد من الخروج فعليكم الخروج كمجموعة وتوخي الحذر. صباح اليوم التالي، بدأت اعمال الجولة الدراسية، جاءنا من مدينة دربن التي تقع على المحيط الهندي، المدير التنفيذي ومؤسس (منظمة اكورد) فاسو كاون، لالقاء محاضرات عن تجربة بلاده المهمة في التخلص من نظام الفصل العنصري بطريقة سلمية، وعلى مدى الايام التالية توالى المحاضرون القاضي انتوني غيلدنهايز الرئيس السابق لسكرتارية السلام وطني ـ لجنة الحقيقة والمصالحة، السيدة ياسمين سوكا وهي شخصية معروفة على نطاق عالمي كانت تشغل منصب مفوض في لجنة الحقيقة والمصالحة، وتعمل حاليا كمدير تنفيذي لمؤسسة حقوق الانسان، موزريه رئيس لجنة الانتخابات في مقاطعة كوزولو ناتال، دومنيك ميتشل المشاركة السابقة في سكرتارية السلام، كلندة كين مديرة منظمة ( IPT) بناء السلام. وفي المحكمة الدستورية العليا في جوهانسبورغ قام القاضي ألبي ساكس، بمرافقة الوفد العراقي مع مجموعة اخرى من المحامين الذين يدرسون القانون الدستوري، وشرح بالتفصيل تاريخ المحكمة وسبب اختيار التلة التي كانت تضم مجموعة من السجون مكانا للمحكمة، القاضي ساكس كان ضحية لاعمال العنف، فقد ذراعه الايمن جراء حادث طرد ملغوم، وفي المحكمة الدستورية العليا قابلنا القاضية ايفون موخورو، التي تحدثت عن نشأة المحكمة وتركيتبها والمواد الدستورية التي تنظم عمل المحكمة . وفي مدينة دربن قمنا بزيارة (منظمة المركز الدولي لللاعنف ـ ICON) ) وهي منظمة مجتمع مدني ترأسها السيدة ايلا غاندي حفيدة الزعيم الهندي المهاتما غاندي، وتعنى هذه المنظمة باشاعة فكر غاندي فيما يتعلق بحل النزاعات بالطرق السلمية، فضلا عن المحافظة على تراث غاندي في جنوب افريقيا، الذي استمرت اقامته فيها 21 عاما. كما قام الوفد العراقي بزيارة منظمة مجتمع مدني اسمها (المؤتمر العالمي للدين من اجل السلام) وتعرف اختصارا (WCRP) واستمع الى شرح لاهداف هذه المنظمة، وكرمز قوي لاتحاد الاديان السماوية الرئيسة الثلاثة في السعي لاشاعة السلام، تدار هذه المنظمة من ثلاث سيدات مسلمة ( سيدون موسى سعيد)، ومسيحية قسيسة انكليكانية (سو برتن)، ويهودية (بادي مسكين).واستقبل اعضاء الوفد العراقي بحفاوة بالغة في مقر منظمة اكورد بمدينة دربن، واقيم حفل استقبال للوفد، تعرف على نشاط المنظمة المهتمة بفض النزاعات في جنوب افريقيا وانحاء متفرقة في العالم، مثل النزاع بين فتح وحماس في الاراضي الفلسطينية وبروندي. رافقت الدكتورة منن حطاب ـ مساعدة مديرة برنامج المجتمع المدني في برنامج الامم المتحدة الانمائي الوفد في سفرته الى جنوب افريقيا، وبعد يومين التحقت مديرة البرنامج ربيكا رونالدز بالوفد.

جمهورية جنوب أفريقيا الاتحادية : تقع جمهورية جنوب افريقيا الفيدرالية في الطرف الجنوبي للقارة السمراء، حيث يلتقي المحيطان الاطلسي والهندي، تبلغ مساحتها مليون و219 الف كم2 ، وعدد السكان نحو 48 مليون نسمة، دخلها القومي السنوي اكثر من 450 مليار دولار اميركي وهو الاعلى في عموم القارة. وهي جمهورية اتحادية من تسعة اقاليم او مقاطعات، وهي الدولة الوحيدة في العالم التي تتوزع السلطات الثلاث بين ثلاث مدن ، العاصمة السياسية هي بريتوريا وفيها مقر الحكومة، مدينة كيب تاون وفيها مقر البرلمان(480 عضوا)، مدينة بلومفونتاين وفيها مقر السلطة القضائية، ولا تقل مدينة جوهانسبرغ شأنا عن المدن الثلاث السابقة فهي عاصمة الذهب والاقتصاد والشركات ورجال الاعمال وفيها مقر المحكمة الدستورية العليا. جنوب افريقيا من اكثر الدول تنوعا في السكان في افريقيا، حيث يشكل السود الافارقة 85 بالمئة من السكان، والبيض المنحدرين من اصول اوروبية ( بريطانية وهولندية وألمانية وفرنسية) 9 بالمئة ، ويطلقون على انفسهم اسم الافريكان، ويتحدثون لغة مشتقة من الهولندية ممزوجة بكلمات ألمانية وإنجليزية أطلقوا عليها اللغة الأفريكانية، ويشكل الملونون والآسيويون نسبة 4 بالمئة من السكان، ثم الهنود 2 بالمئة من نسبة السكان. وبحسب احصائيات أجريت في العام 2001 فأن 80 بالمئة من السكان مسيحيون، 1.5 بالمئة مسلمون، 1.2 بالمئة هندوس، 0.2 بالمئة يهود، 0.3 بالمئة ديانات محلية، بينما يشكل عديمو الدين 15 بالمئة. ويعترف في جنوب افريقيا بـ 11 لغة ، مثل لغات خوسة، سوازية، نديبيلي، جنوب سوتو، شمال سوتو، تسونغة، تسوانة، فيندة، ولكن الانكليزية هي اللغة الرسمية الاولى والاكثر انتشارا.

قصة التمييز العنصري : يعود تأريخ الغزو والاستعمارالاوروبي لاراضي جنوب القارة الأفريقية الى العام 1625، كان غالبية المستوطنين الجدد من أصول هولندية، ألمانية وفرنسية، عرفوا باسم البوير ولاحقا الأفريكان. خلال القرن التاسع عشر احتلت بريطانيا (وهي في اوج عصرها الكولوينالي) جنوب القارة، وخاضت حروبا شرسة مع السكان الأصليين السود من جهة والبور من جهة أخرى. حصلت جنوب أفريقيا على استقلالها في العام 1911 وأصبحت إحدى دول الكومنولث. واينما تذهب في جنوب افريقيا تسمع او تقرأ كلمة الأبارتهايد (Apartheid) وترمز الى نظام الفصل العنصري، وأول من استخدم هذه الكلمة كان جان كريستيان سماتس في خطاب القاه في العام 1917، والذي أصبح لاحقا رئيس وزراء جنوب أفريقيا في العام 1919. ونظام الفصل العنصري هو احد تركات الاستعمار البريطاني الذي أدخل نظام إصدار القوانين في مستعمرة الكاب ومستعمرة ناتال في القرن التاسع عشر. واسفر ذلك عن منع حركة السود من المناطق القبلية إلى المناطق التي يحتلها البيض والملونين، والتي كان يحكمها البريطانيون، ولتقييد حركتهم في البلاد، كان يتوجب حصولهم على تصاريح خاصة يسمح لهم بالمرور، ولم يكن يسمح للسود بالتواجد في شوارع المدن في مستعمرة الكاب وناتال بعد حلول الظلام. ولكن نظام الأبرتهايد بدأ كسياسة رسمية ومعلنة في العام 1948 مع وصول "الحزب الوطني" اليميني الأفريكاني الأبيض إلى الحكم، والذي كان من بين أهدافه استمرار حكم العرق الأبيض في جنوب أفريقيا. استندت هذه السياسة على مبادىء الفصل العنصري بين المستوطنين البيض الحاكمين وبين السكان السود أصحاب الأرض الأصليين، وتفضيل الإنسان الأبيض على الإنسان الأسود في جميع المجالات. كان نظام الأبارتهايد يرتكز على مجموعة من الاسس، فهو اولا نشاط استيطاني ضمن مشروع كولونيالي، يسعى الى تَشكل جماعة قومية من خلال هذا الاستيطان تؤكد تميزها العرقي عن السكان الأصليين، اضافة الى سند من نظام حقوقي من الفصل العنصري يبقي "العرق الأدنى" في نطاق الدولة، ولكنه يحرمه من حرية التنقل، ومن حق الاقتراع، فأبناء العرق الأدنى السكان الأصليون هم نظريا مواطنون ولكنهم في الواقع رعايا الدولة وخاضعون لها، والدولة ليست تعبيرا عن تطلعاتهم، ثقافتهم، بل هي أداة لسيطرة "العرق الأرقى" عليهم. وقد سيطرت الاقلية البيضاء على مقدرات البلاد الاقتصادية وثرواتها، بما في ذلك الأرض.. أثمن الثروات إطلاقا، وسط شيوع ثقافة سياسية ودينية ترتكز على نظريات عرقية تتبناها الدولة والكنيسة، وتشكل تبريرا نظريا وأخلاقيا لنظام الفصل العنصري. ولم تطالب غالبية السكان في جنوب أفريقيا بالانفصال عنها كدولة وإقامة دولة أخرى، كما لم تطالب بطرد الأقلية البيضاء التي انفصلت ثقافيا وسياسيا عن دولتها الأم فقد كانت معركة الغالبية في جنوب أفريقيا ضد الفصل العنصري ولا يمكن أن يكون الانفصال علاجا للفصل أو ردا عليه.
بداية نهاية نظام الفصل العنصري : في شباط العام 1990 اعلن رئيس حكومة نظام الفصل العنصري فردريك دي كليرك امام البرلمان عن التزام حكومته التفاوض من اجل مستقبل ديمقراطي للبلاد، قال دي كليرك : " آن الاوان للخروج من دائرة العنف نحو السلام والمصالحة"، مضيفا "ان الاهداف التي نريد تحقيقها تتضمن دستورا ديمقراطيا جديدا، ومنح حق الانتخاب للجميع، والمساواة امام قضاء مستقل". وفي خطوة ايجابية نحو الامام رفع دي كليرك الحظر عن حزب المؤتمر الوطني الافريقي (ANC)، وحزب المؤتمر القومي الافريقي (PAC)، والحزب الشيوعي لجنوب افريقيا( SACP)، وتم اطلاق سراح جميع السجناء السياسيين ومن ضمنهم نيلسون مانديلا، الذي قضى 27 عاما في السجن. وقد فاجأ دي كليرك العالم باعلان نهاية حقبة الفصل والتمييز العنصري، الا ان وقع المفاجأة سرعان ما خف كثيرا، بعد التأكيد على ان ثمة لقاءات سرية تجرى منذ سنين بين الحكومة ومانديلا وهو في السجن ( بين عامي 1985ـ 1990) ، وكانت نتيجة ما خلص من تلك اللقاءات ازمة حادة في صفوف الحكومة وحزب المؤتمر الوطني الحاكم، ولكن الامور توضحت بشكل ما باتجاه إدراك استحالة استمرار نظام الفصل العنصري، وان االبلاد ستسير نحو شراكة سلمية مع الأغلبية السوداء. وكانت تلك قناعة مؤلمة للبيض الذين حكموا البلاد طوال ثلاثة قرون، كان رجال الاعمال واصحاب الشركات العملاقة من البيض ينوون الضغط بأتجاه احداث اصلاحات محدودة لرفع العقوبات الاقتصادية والحظر الذي فرض على شركاتهم. واجادت قيادة المؤتمر الوطني استغلال الفرصة، عندما فوضت دي كليرك لاعلان نهاية سياسة الفصل العنصري، ولم تكن قيادة المؤتمر الوطني الافريقي متمثلة بمانديلا ورفاقه بأقل شأنا، عندما اجادوا قراءة العامل الدولي المؤاتي، واستخدموا ذلك لاقناع نخبة الحكم بحتمية التغيير فقدمت عرضها التاريخي بالتفاوض مع دي كليرك في 1990 ، وقبلت في سبيل تهدئة مخاوف الأقلية البيضاء وفتح الباب أمام انتخابات رئاسية وبرلمانية حرة تقديم العديد من الضمانات. مكن هذا الوضوح الستراتيجي مانديلا من الإدارة الناجحة لعملية التفاوض الشائكة مع دي كليرك التي استغرقت بين 1990 و 1994 وضمن استمرارية الزخم الإيجابي للحظة التحول الديموقراطي على الرغم من تردد الأقلية البيضاء والدعوات الراديكالية لأجنحة نافذة داخل المؤتمر الوطني الأفريقي. ويربط فاسو كاون مدير منظمة (اكورد) ما حدث في جنوب افريقيا من تطور دراماتيكي والمناخ العالمي لاسيما سقوط جدار برلين التأريخي، وانهيارالانظمة الاشتراكية في اوروبا الشرقية، ما ضيق المجال امام حكومة جنوب افريقيا، التي وصلت سمعتها الى الحضيض داخليا ودوليا، وانتهز دي كليرك الفرصة وذهب الى ابعد مما كان يريد البعض من البيض، ذهب الى احداث تغيير كامل. ولكن امر التحول الجذري لم يكن سهلا، ظهر من الاقلية البيضاء من يريد التشبث بالنظام القديم، خوفا على حياتهم وممتلكاتهم ونفوذهم وطريقة حياتهم السهلة، حاولوا جاهدين وقف عجلة التقدم في المفاوضات المضنية مع ممثلي الاغلبية السوداء. واتفق على اجراء انتخابات عامة حرة، تشترك فيها جميع الاعراق، على قاعدة صوت واحد لكل فرد، اجريت الانتخابات العام في 1994، فاز حزب "المؤتمر الوطني الأفريقي" بأغلبية ساحقة. انتقل الحكم بطريقة سلمية وهادئة، وأصبح نيلسون مانديلا اول رئيس لجنوب أفريقيا من الاغلبية السوداء.
العدالة الانتقالية ولجنة الحقيقة والمصالحة : نحن بحاجة الى فهم ما جرى في جنوب افريقيا، سيبدو الامر من دون اظهار مرونة في الفهم، وكأن معجزة نزلت من السماء من دون اية علاقة لما بذل من جهود بشرية على الارض، ثمة اتفاق في الاراء بشأن التأكيد على نضج وحكمة القيادات التي ادارت دفة عملية التحول الى الديمقراطية من الجانبين (الاقلية والاغلبية)، خاصة فيما يتعلق بالنيات والعمل المخلص الجاد، وسرعة الاستجابة لازالة العقبات التي ظهرت لاسيما من جانب مانديلا. وقفت قيادة مذهلة وراء عملية السلام في جنوب افريقيا، فضلا عن عمل مضن في القواعد الشعبية، تشرح دومنيك ميتشل المشاركة السابقة في ( سكرتارية السلام)، بعضا من عمل السكرتارية :" احدثنا عملية اتصالات واسعة مع اعداد كبيرة من المواطنين وفي مختلف انحاء البلاد لحثهم على الكلام ثم التباحث والتشاور والتحاور فيما بينهم، كنا نريد الانتقال من مستوى الجمود الى التفاعل مع الوضع الجديد، كان ذلك درسا مهما تهديه جنوب افريقيا للعالم". عبر سنوات النضال الطويل من اجل الحرية والمساواة، استطاع حزب المؤتمر الوطني الافريقي تهيئة كوادر متنوعة لاسيما اولئك الذين اجبرتهم ظروف البلاد القاسية لتركها الى الدول الافريقية، كان الحزب قويا بما يكفي لاظهار الكفاءة في ادارة المفاوضات مع خصم يمتلك افضل جيش في عموم افريقيا، يمتلك الكفاءة والقدرة على سحق اي تمرد عسكري مهما كان حجمه، ويمتلك قاعدة صناعية عسكرية رصينة كصناعة الاسلحة المتقدمة والغواصات والهليكوبترات.في الجانب الاخر طور حزب المؤتمر الوطني الافريقي معارضة سلمية مدنية، وكان يتمتع بدعم دولي هائل، وتعاطف من شعوب العالم، بينما لم تكن حكومة بريتوريا تحظى باي تأييد، بل على العكس كانت تقابل بسخط دولي، ونصائح بضرورة وضع نهاية لنظام الفصل العنصري. واقتنع كبار رجال الاعمال اصحاب التأثير المهم على صناع القرار بأن مستقبلهم مع التغيير وليس مع استمرار نظام الفصل العنصري، لان الاضطراب السياسي لم يكن الحالة المثلى لنمو او استمرار اعمالهم، اضافة الى وقع العقوبات الدولية الموجع، كان طبقة رجال الاعمال الطبقة الاكثر واقعية بين الاقلية البيضاء، عندما اعلنوا انهم مع احداث التغيير بسلام. وبهذا الخليط المتنوع بدأت المفاوضات التي استمرت اربع سنوات بين عامي ( 1990 ـ 1994 )، يقول مدير (منظمة اكورد) فاسو كاون : " عدم اليقين بشأن نهاية المفاوضات كان هو السائد بين الاطراف، ولا احد بضمنهم مانديلا كان يعرف او يستطيع ان يخمن الى اين تسير المفاوضات ؟"، وكانت المخاوف تتركز بشأن "ماذا سيحدث اذا فشلت المفاوضات او وصلت الى طريق مسدود ؟"، مانديلا قال مرة كنت اعرف في حالة نجاح المفاوضات فأنها ستفضي الى اجراء انتخابات. جرت المفاوضات على خلفية ارتفاع معدلات العنف في البلاد الى مستويات غير مسبوقة، بسبب حسابات احتمال اجراء انتخابات وطنية شاملة بعد المفاوضات، كانت الحكومة وحزب انكاثا هما مصدر العنف الرئيسن، وحدثت اغتيالات سياسية وتصفيات عديدة. اما العدالة الانتقالية فتعني الاجراءات او القوانين التي تهيىء الارضية اللازمة لمواجهة فترات الانتقال السياسي من مرحلة الحكم العنصري (في جنوب افريقيا)، او الحكم الشمولي المستبد، ويتم الاهتمام في هذه الفترة بتنمية مجموعة واسعة من الستراتيجيات المتنوعة لمواجهة إرث انتهاكات حقوق الإنسان في الماضي، املا بالوصول عمليا الى مستقبل أكثر عدالة وديمقراطية، وتهدف العدالة الانتقالية إلى التعامل مع إرث الانتهاكات بطريقة واسعة وشاملة تتضمن العدالة الجنائية، وعدالة إصلاح الاضرار، والعدالة الاجتماعية، والعدالة الاقتصادية. وفي دول عديدة كانت العدالة الانتقالية القاعدة الرصينة للمصالحة الوطنية الشاملة، وكانت سببا لوضع جدار او قطيعة تامة مع ما يسمى عادة بالنظام السابق. في اثناء المفاوضات بين مانديلا ودي كليرك، كان أحد الشروط الأساسية التي أصرّ عليها قادة الحزب الوطني ألا يضطرّوا إلى مواجهة محاكمات جنائية بعد الانتقال الى الحكم الديمقراطي، وطلبوا من مانديلا ان يجنبهم ذلك، وعلل المسؤولون في الحزب الوطني أنهم إن لم يحصلوا على العفو لأعضاء الحزب، فلن تتمكن قوى الأمن التي يسيطر عليها البيض من ضمان إجراء الانتخابات في العام 1994 بطريقة سهلة. واعتماداً على تقاليد إفريقية قويّة في حل النزاعات عبر المفاوضات بدل العنف، وافق مانديلا وزملاؤه في رئاسة المؤتمر الأفريقي الوطني على منحهم العفو. وتمّ الانتقال بطريقة أسهل مما كان يتوقّعها غالبية الأشخاص. لقد تفهم مانديلا وبوعي عال مخاوف الاقلية البيضاء، ابقى القائد السابق للجيش في منصبه لعامين بعد ان اصبح رئيسا، واصدر عفوا عاما عن جميع الجنرالات، الذين اظهروا له احتراما فائقا، وادوا له التحية العسكرية في حفل تنصيبه رئيسا للبلاد .ولكن مانديلا لم يكن يدع الامور تمر من دون ان يتم الاعتراف بالجرائم الفضيعة التي ارتكبت خلال عقود، فأمر في العام 1995 بأنشاء لجنة”الحقيقة والمصالحة “ للتحقيق في جرائم ومظالم نظام الفصل والتمييز العنصري، وطلب مانديلا من كبير اساقفة جنوب افريقيا دزموند توتو تولي رئاسة اللجنة، التي نظرت وعلى مدى عامين في آلاف الطلبات التي قدّمها ضحايا ومتضررون من حقبة التمييز العنصري وآخرون ممن انتهكوا حقوق الإنسان. وللحصول على العفو، لم يكن على مقدمي الطلب إلا أن يقولوا الحقيقة كاملة بشأن الانتهاكات التي ارتكبوها بأنفسهم، او تلك التي علموا بأمرها في الماضي. وما أن تقتنع لجنة الحقيقة والمصالحة بأنّهم قالوا الحقيقة كاملة حتى تطلقهم أحراراً، واحتفظت الغالبية منهم بالوظائف الحكومية التي كانت تشغلها. وقد اختارهم مانديلا أساساً ليكونوا شركاء له في التحويل الديمقراطي للبلد. لقد تكفل مانديلا عبر هذه اللجنة بحمل الجلادين على الاعتراف بالحقيقة علناً، أو على الأقل ، بتمكين الضحايا من رواية ما جرى علناً أيضاً، حظيت جلسات اللجنة باهتمام شعبي كبير، وكانت تبث في وسائل الاعلام بشكل حي، ولم يقف اي دافع انتقامي وراء عمل هذه اللجنة، بل على العكس عدت بمثابة اعلان عفو عام مشروط بالاعتراف والندم، واثبات عدم ارتباك الجرائم تحت ذريعة عنصرية وانما لاهداف واوامر سياسية، لقد استطاعت جلسات اللجنة في احيان كثيرة التغلب على الحقد وروح الانتقام والضغينة، كان الهدف ان يتسامح الجميع وينسوا الماضي .يصف وزير العدل الاسبق دولا عمر لجنة (الحقيقة والمصالحة) : " أنها تمرين ضروري لتمكين مواطني جنوب افريقيا من التفاهم بشأن ماضيهم على اسس اخلاقية مقبولة، لدفع مسألة المصالحة الى الامام". وتألفت اللجنة التي تشكلت بموجب قانون تشجيع الوحدة الوطنية والمصالحة رقم 34 للعام 1995من ثلاث لجان فرعية هي : (لجنة انتهاك حقوق الانسان)، ومهمتها التحقيق في انتهاكات حقوق الانسان من العام 1960 الى 1994. و(لجنة التعويضات والتأهيل)، وتنظر في تقديم الدعم للضحايا والتأكد من اعادة الكرامة لهم، عن طريق مقترحات او توصيات بشأن اعادة صياغة او تأهيل من بقى منهم على قيد الحياة وعوائلهم. اللجنة الثالثة هي ( لجنة العفو)، وكانت مهمتها النظر في طلبات العفو المقدمة بشأن الجرائم التي ارتكبت لدوافع واسباب سياسية بين الاول من آذار 1960 الى السادس من كانون الاول 1993، واعلان هذه اللجنة العفو عن جريمة او تصرف ما يعني سقوط التهمة والنجاة من اية ملاحقة قانونية.
خاتمة : تجربة المصالحة في جنوب افريقيا تجربة جديرة بالاحترام، نقلت البلاد من حالة العنف الممزوج بالكراهية العنصرية، وحولت نظام الحكم من الفصل العنصري الى اتاحة الفرصة للوصول الى الحكم عبر صناديق الانتخابات، لابد لدارس الوضع في جنوب افريقيا من تتبع ادق التفاصيل واللحظات التأريخية، ولابد للمنصف ان يقول ان كما هائلا من مشاعر التسامح والصفح والعفو والاعتذار ساد البلاد، وهذا بالذات كفيل بحل اي نزاع ليس في جنوب افريقيا، ولكن في اية بقعة بالعالم، ولكن ليس انكارا او استبعادا لتكنيك واساليب فض النزاعات ومهارات التفاوض والاستماع الجيد وادارة الحوار وبناء الثقة التي استخدمت جميعا باقتدار وكفاءة، لقد خلصت النيات لدى الاطراف في لحظات تاريخية، فانقادت جميع العمليات وراء حسن النوايا، والقراءة الصحيحة للوضع الراهن والمستقبل. ولكن قول الحقيقة يتطلب منا ان نقولها كاملة، ان مشاكل جنوب افريقيا لم تنته، يعود صديقنا فاسو كاون للقول : " تحتاج جنوب افريقيا الى نحو 60 عاما وثلاثة اجيال، لازالة جميع آثار وتبعات سياسة التمييز العنصري"، ويضرب مثلا بحاجة بلاده الى المهندسين ، قائلا : "البلاد تحتاج مثلا الى 12 ألف مهندس، والجامعات لا تخرج سوى ألف مهندس حاليا، فكم سنحتاج من السنين لسد هذا النقص" . وبسبب السياسات السابقة فان مستوى التعليم والكفاءات في اوساط السود ضعيفة للغاية، وتعاني جنوب افريقيا من مشاكل عدة، فهي تعاني من اعلى معدلات الاصابة بمرض نقص المناعة (الايدز)، واكثر النسب تفاؤلا 25 بالمئة من مجمل السكان ولاسيما بين اوساط السود، كما تعاني من معدلات مرتفعة بالجريمة، ربما بسبب تفشي البطالة والفقر المدقع، وجنوب افريقيا من اكثر المجتمعات التي تشهد اضطرابا في توزيع الثروات، على الرغم من ان الناتج القومي للبلاد مرتفع للغاية، فان الثروات محصورة عند نسبة قليلة من السكان.



#عدنان_شيرخان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مواجهة الوحش
- سرطان السلطة
- مانديلا : 90 عاما
- خيبة امل المنتظرين


المزيد.....




- بعد حملة اعتقالات.. مظاهرات جامعة تكساس المؤيدة لفلسطين تستم ...
- طلاب يتظاهرون أمام جامعة السوربون بباريس ضد الحرب على غزة
- تعرف على أبرز مصادر تمويل الأونروا ومجالات إنفاقها في 2023
- مدون فرنسي: الغرب يسعى للحصول على رخصة لـ-تصدير المهاجرين-
- نادي الأسير الفلسطيني: الإفراج المحدود عن مجموعة من المعتقلي ...
- أمريكا.. اعتقال أستاذتين جامعيتين في احتجاجات مؤيدة للفلسطين ...
- التعاون الإسلامي ترحب بتقرير لجنة المراجعة المستقلة بشأن الأ ...
- العفو الدولية تطالب بتحقيقات دولية مستقلة حول المقابر الجما ...
- قصف موقع في غزة أثناء زيارة فريق من الأمم المتحدة
- زاهر جبارين عضو المكتب السياسى لحماس ومسئول الضفة وملف الأسر ...


المزيد.....

- أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال ... / موافق محمد
- بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ / علي أسعد وطفة
- مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية / علي أسعد وطفة
- العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد / علي أسعد وطفة
- الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي ... / محمد عبد الكريم يوسف
- التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن ... / حمه الهمامي
- تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار / زهير الخويلدي
- منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس ... / رامي نصرالله
- من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط / زهير الخويلدي
- فراعنة فى الدنمارك / محيى الدين غريب


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - عدنان شيرخان - المصالحة في جنوب افريقيا : مهارات التفاوض وبناء الثقة أعادت صياغة أمة