منذر بدر حلوم
الحوار المتمدن-العدد: 731 - 2004 / 2 / 1 - 07:54
المحور:
الادب والفن
معظمنا يعتقد خطأً أن الكابوس الصهيوني يثقل علينا وحدنا نحن العرب , بيد أن المتابع للواقع الثقافي الروسي سرعان ما يرى شعلة الإنذار بخطر الصهيونية يوقدها كتاب هنا ومقال هناك. فالمخالب الصهيونية تنبش الثقافة الروسية بحثا عن كلمات تخلعها عن سياقها وحروف تهتك روابطها مع أخوتها , لتتهم أصحاب الأقلام التي خطتها باللاسامية. فأنشوطة اللاسامية ما زالت تلتف حول أعناق المثقفين الروس وتضّيق على روح الثقافة الروسية حتى صار السكوت عليها معادلا لخيانة الثقافة الروسية.
لن نتوقف في هذه المطالعة عند الأخطار التي يراها الروس في الصهيونية على روسيا , فذلك ما سبق أن عالجناه في غير مكان (آخر الأنفاس أم أوّلها – محاولة إيقاظ الدب الروسي- جريدة أخبار العرب: 07/12/2001) , إنما سنتوقف عند ما تعانيه الثقافة الروسية من ضغط التهديد باللاسامية. وعلى الرغم من أن قصة سولجينيتسن مع اللاسامية لا تزال عالقة في أذهان قرّاء السفير (من "إيفان دينيسوفيتش" حتى "مائتا عام معا" سولجينيتسن يصارع تهمة اللاسامية – السفير الثقافي 25/07/2003) , إلا أنّ الصهيونية تبدو قادرة على إدهاشنا بالمزيد من الأضاليل والتزييف. ولما كانت القدرة على الاندهاش سمة الفنانين والمبدعين , كما هي سمة الأطفال , فلا بأس أن يكون في ما سيأتي دعوة إلى الاندهاش.
ثمة قبل سولجينيتسن كتّاب روس كبار جُلدوا بسوط اللاسامية. فها هو الكاتب الإسرائيلي س. دوداكوف , يُخْضِعُ الأعمال الكلاسيكية الروسية للرقابة الأيديولوجية الصهيونية , فينتهي إلى حشر بوشكين وغوغول في قفص اللاسامية. ولكن , على أي أساس يقوم بذلك ؟ - يتساءل دياكون أندريه كوراييف في كتابه (كيف يصنعون اللاسامي) الصادر عن دار أوديغيتيريا في موسكو , عام 1998 , فيجيب- : " السبب انعدام صورة اليهودي الإيجابية في إبداعات الكاتبين العظيمين بدرجة مؤسفة." ألا يذكّرنا ذلك بلاسامية سولجينيتسن الناجمة عن خلو روايته (جناح السرطان) من طبيب يهودي , وقبلها روايته (إيفان دينيسوفيتش) من معتقل يهودي !؟ ولذلك لا يبدو غريبا أن تعيش روسيا يوما " يُسحب فيه من حقل الثقافة دوستويفسكي و بونين و ليونتيف و روزانوف و سفيتاييفا , وتصبح أية إحالة إيجابية إلى أعمالهم مستحيلة. فهؤلاء عبرّوا عن المسألة اليهودية من منطلق (خاطئ) و(رجعي)..". وإذ يعبّر كوراييف عن مخاوفه بهذه الصيغة , فهو يحذّر مما قد يجيء به المستقبل على يد الأيديولوجيا الصهيونية , قائلا: " إذا كنا سنبقى على صمتنا , فإننا سنجد أنفسنا فجأة وقد سمحنا بتكبيلنا بأصفاد تبدو مقارنة بها قيود الحزب الشيوعي السوفيتي الأيديولوجية رحبة للغاية." أمّا توقفنا عند مثال الكاتب الإسرائيلي دوداكوف , فلا نريد له أن يحجب الأمثلة الأخرى التي جاء بها كتاب كوراييف , الأمثلة التي يجدها القارئ ببساطة في الدوريات الروسية , وتستدعي صرخة احتجاج :" هل الديمقراطية تفترض السماح فقط لأولئك الصحفيين بإهانة السلافيين والروس , أم أنها تتيح لنا أيضا أن نرد قائلين:" نحن نتألم لا تتواقحوا ! ؟ .. أنا لا أعدّ اليهود أسوأ من الشعب الروسي أو أي شعب آخر. ولكنني ببساطة لا أعدهم أفضل من الشعوب الأخرى. وهذا اليوم , على ما يبدو , يكفي لاعتباري لاساميا. عجبا , فهل هناك تعصب قومي في المطالبة بالتعامل مع جميع الشعوب وجميع الأشخاص بمعايير أخلاقية واحدة ؟..ولست أدري إن كان الصحفيون اليهود سيسمعون ندائي هذا أم لا. إذا كان الجواب لا , فإذن على الانتلجينسيا الروسية أن تفعل شيئا ما لوقف دفق الاستفزاز". وبعد أن يعرض كوراييف في كتابه ما يشبه خطّةً لمقاومة اللاسامية يعود ليؤكّد " أنّ لقب المثقف لا يلزم على الإطلاق بتسويغ كل إساءة تصدر عن صحفيين يهود (تسويغها فقط من منطلق أنهم يهود , وأنه لا يجوز إدانة اليهود..)." وكوراييف إذ يكتب ذلك لا يفارقه رهاب اللاسامية لذلك تجده يرجو: " السادة العاملين في محطة НТВ التلفزيونية (التي يملكها رأسمال يهودي- م.ح) وغيرها من مؤسسات النشر الديمقراطية [قائلا]: ببساطة , أرجوكم لا تجعلوا مني لاساميا , فأنا لا أريد أن أصير إليه". وفي كتاب كوراييف الآنف الذكر نقع على حديث عن تهمة اللاسامية التي ألصقت بالفيلسوف الروسي الشهير أليكسي لوسيف. لكننا لن نتوقف عند ما جاء لدى كوراييف عن لوسيف , ذلك أن بين أيدينا عملا آخر مكرسا بكامله لهذا الموضوع هو كتاب ليونيد كاتسيس (أليكسي لوسيف وفلاديمير سولوفيوف ومكسيم غوركي - وجهة نظر استرجاعية من عام 1999). في كتاب كاتسيس تجد ما يشبه عمل المحقق الذي يبحث جاهدا عن أدلة تدين المتهم. أمّا المتهم في الكتاب فهو لوسيف , وأما المستند فهو الإضافات التي ألحقها بعمله (جدل الأسطورة) (صدرت ترجمتنا للكتاب تحت عنوان: فلسفة الأسطورة , عن دار الحوار باللاذقية , 2000). لنتوقف أولا عند ما كتبه لوسيف ساعة التحقيق معه بخصوص (الإضافات) , وما يفضح سياقه تلقائيا هشاشة اتهام لوسيف باللاسامية: " طالما أنا أقوم ببيان أن المسيحية من وجهة نظر الوثنية كفر وظلام مطبق , كما هي الوثنية من وجهة نظر مسيحية مملكة الشيطان فإن كل شيء يكون على ما يرام , ولكن ما أن أصل إلى مقارنة الاشتراكية بالميثولوجيا المسيحية حتى تعلو أصوات اعتراض حادة جدا , خاصة حين أثبت أن الاشتراكية من وجهة نظر مسيحية مذهب عبادة الشيطان (شيطانية). وأنا لا أعرف كيف يمكن أن أناقش بطريقة أخرى. إضافة إلى ذلك فليس فقط الاشتراكية شيطانية , من وجهة نظر المسيحية ,إنما والرأسمالية والوثنية كلها , بل كل ما هو ليس مسيحي شيطاني [...] وهكذا هو الحال بين الميثولوجيا المسيحية واليهودية. فاليهودية من وجهة نظر المسيحية شيطانية , كما أن المسيحية من وجهة نظر يهودية بدعة خيالية عقيمة". بنتيجة التحقيق حُكم على لوسيف بالسجن , ومنع من الكتابة الفلسفية , أمّا الحكم الصهيوني المتأخر عليه فجاء باللاسامية. ولا أعتقد أن مقارنات لوسيف بين ميثولوجيات العقائد الدينية والسياسية المختلفة تسمح بإدانته باللاسامية , إلا بمقدار إدانته باللامسيحية وهو الفيلسوف المسيحي. ومع ذلك ترى كاتسيس لا يخجل أن يعلن أنَّ للأمر معنى آخر حين يتعلق باليهودية:" يمكن أن يكون لدى لوسيف حسابات عديدة تسوغ نظرته إلى علاقة الاشتراكية بالشيطانية , أمّا مع اليهودية فالأمر مختلف." ! ولا غرابة فيما يقول كاتسيس فالأمر , بالطبع , يجب أن يكون مختلفا من وجهة نظر واضعي الأحكام المسبقة حول لاسامية لوسيف وغيره. لكن كاتسيس سرعان ما يتنبه إلى فحوى حديثه عن لوسيف , فإذا به لا يرضى لمقامه أن يكون لاساميا مبتذلا: " ليس لدينا أي أساس يخوّلنا التفكير بأن يكون لوسيف لاساميا مبتذلا . فما يناسبه أكثر أفكار ماركس , كتلك التي تقول بأن المجتمع يمكن أن يحرر اليهودي فقط فيما لو تخلّى الأخير عن يهوديته. أما الأخيرة فيفهمها ماركس على أنها سلطة كيس النقود أو البورجوازية". ثم يحيلنا كاتسيس إلى الموسوعة اليهودية التي رأى واضعوها , في وجهة نظر ماركس من المسألة اليهودية , ما يخوّلهم لضمّه لى قائمة اللاساميين. وهنا أيضا يجد كاتسيس من يقوّي به أنشوطة اللاسامية التي يُخْنَقُ بها ماركس هذه المرّة , فها هو يستشهد بالحزم الذي أبداه الكاتب الروسي سيرغي ن. بولغاكوف حيال نظرة ماركس إلى المسألة اليهودية: " رفع الابن يده على أمّه , أشاح بوجهه عن معاناتها الدهرية , تبرّأ روحيا من شعبه ".أمّا سيرغي بولغاكوف فرغم هجومه على ماركس لم ينج هو الآخر من تهمة اللاسامية , كما سنرى لاحقا في مقال لـ سوكولوف. وبالعودة إلى كاتسيس نجد مكانة ماركس الاعتبارية عنده تجعله ينبري لتبرئته , الأمر الذي لم يفعله مع لوسيف: " ليس من الصواب وضع ماركس الذي أمضى عمره كله في النضال من أجل المُثُل البشرية المشتركة والمساواة بين الجميع في صف اللاساميين المتعصبين , الذين يحملون مُثُل الحقد البشري والتعصب الديني. وماركس اليهودي , مع أنه سبق أن وضع نفسه خارج صفوف اليهودية , لم يكن يُكِنّ أي حقد على اليهود وكان عدد غير قليل من أصدقائه يهودا ". ولا يكتفي كاتسيس في كتابه بتنفيرنا من لاسامية لوسيف , -على الرغم من أنه يشير إلى ما تقوله زوجة لوسيف الثانية عزّه تاخوغودي بأن تلك العبارات المسيئة من تأليف المحققة غيراسيموفا - , فهو يشي بكتّاب آخرين كبار , متّهما إياهم عَرَضا باللاسامية: " يبدو لنا أنّ تضاد لوسيف مع سولوفيوف في نهاية العشرينات ارتبط بانتمائه إلى خط مختلف تماما في تاريخ الفلسفة الروسية. إنه خط " دوستويفسكي – روزانوف – فلورينسكي " ذو العلاقة الواضحة جيدا فيما يخص المسألة التي تهمنا ". أمّا المسألة التي تهمه فهي اللاسامية , طبعا. إلى جانب مساهمة كاتسيس في لعبة اللاسامية تجد بوريس سوكولوف في مقال عنوانه(فَرْيَة القرن الدموية)(نشر إلكترونيا على موقع يهودي في10/09/2003) ينسب تأليف (بروتوكولات حكماء صهيون) , التي تسببت , كما يقول , بموجات لاسامية , إلى "الصحفي الروسي من الدرجة الثانية ماتفي غولوفينسكي". يأتي سوكولوف من خلال حديثه عن تاريخ البروتوكولات على الفيلسوف لوسيف معتبرا أن ما جاء في (الإضافات) يشي بتأثر لوسيف بها. ومن لوسيف ينتقل سوكولوف إلى الفيلسوف الروسي الآخر فلاديمير سولوفيوف الذي لم يفده وضع كاتسيس له في تضاد مع لوسيف. فها هو سوكولوف يتهم سولوفيوف باللاسامية على قوله :" المصيبة ليست في اليهود ولا في المال , إنما في سيطرة المال الكلية , وهذه السيطرة المطلقة للمال لم يصنعها اليهود". ولا تنتهي سلسلة سوكولوف عند سولوفيوف , فها هو سيرغي بولغاكوف , الذي كان كاتسيس قد استخدمه في الهجوم على لاسامية ماركس , يُتهم هو الآخر باللاسامية. فسوكولوف يرى أن:" كتّاب معاصرين من أمثال إيغور شافاريفيتش وألكسندر دوغين و سيرغي كارا مورزا و ألكسندر بانارين يقومون بمتابعة تقاليد فلاسفة بداية القرن العشرين أليكسي لوسيف وسيرغي بولغاكوف وفاسيلي روزانوف وبافل فلورينسكي اللاسامية...". ويا للمفارقة ! فإن الكسندر دوغين المتهم هنا قد ورد الحديث عنه , في سياق معاكس تماما , في مقالنا (إدوارد سعيد في عيون الكتّاب الإسرائيليين الروس – السفير الثقافي:10/10/2003) وبعد , فهل إثبات عماء الباحثين عن وقود لماكينة اللاسامية وتخبطهم بحاجة إلى أمثلة أخرى ؟! هناك الكثير من الأمثلة لمن يريد. ولكن , وعلى الرغم من صرخات الاحتجاج , فما زالت إدارة اللاسامية تشدد الخناق أكثر فأكثر على الأرض. فإلى متى ؟
قيل ذات يوم إن من يفك عقدة غورديوس سيحكم العالم , أمّا اليوم فيجدر القول بأن من يحل عقدة اللاسامية سيحرر العالم. أم أنّ عقدة هذه الأنشوطة لا تُحَلّ إلا على طريقة الكسندر المقدوني !
- انتهى-
#منذر_بدر_حلوم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟