أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - منذر بدر حلوم - التكامل والإبداع















المزيد.....


التكامل والإبداع


منذر بدر حلوم

الحوار المتمدن-العدد: 726 - 2004 / 1 / 27 - 05:07
المحور: الادب والفن
    


1- (كيمياء الشعر)
1 من2  
    يندر أن تجد شخصية مبدعة وحيدة الجانب , كأن تجد شاعرا حقيقيا لا يصلح إلا لكتابة الشعر أو عالما حقيقيا على قطيعة مع الأدب والفن. أما من يقول بغير ذلك فيقول تاريخ الأدب والفن والعلم بخطئه , كما تقول الأبحاث المعاصرة التي تبحث في التكامل الوظيفي الإبداعي الذي يتحلى به أصحاب المواهب المبدعون. وعموما , فمن المفيد الرجوع , بخصوص دور التكامل الوظيفي في عمليات الإبداع إلى البحث المشترك (الشعر والدماغ والزمن) الذي قدمه فريدريك تورنير من مدرسة الفنون و العلوم الإنسانية بجامعة تكساس و دالاس بالولايات المتحدة الأمريكية وإرنست ببل من معهد فيزيولوجيا الطب التابع لجامعة ميونيخ , ويقولان فيه:" يتميز نصف الدماغ الأيمن بخواص موسيقية وتعبيرية فنية بينما تعود الخواص اللسانية إلى نصف الكرة الأيسر , و بمساعدة تبادل الأصوات الإيقاعي يقوم نصفا الكرة معا بعمل مشترك. تحت ضغط السمع تتنبه الأجزاء الدنيا من الجهاز العصبي المركزي بحيث تتضاعف فعالية الشعر المعرفية , وتتنشط الذاكرة و تهيئ حالة الدماغ العامة لانسجام فيزيولوجي ووفاق اجتماعي. يبدو أن الشعر يلعب دورا هامّا في تطوير شعور أكثر حدّة بالوقت. وهكذا يعمل , على الأرجح , على تقوية وترسيخ واحدة من أهم خواص الإنسان , ألا وهي النزوع إلى فهم العالم عبر مقولات قيميه مثل الحقيقة والخير والجمال ". بهذا المعنى يكون للشعر دور مهم في العملية الإبداعية عموما في حقول الفن والأدب والعلم. من حيث أنّه يهيئ لعمل الدماغ بطاقة أعلى , عمل يشترك فيه نصفا كرته , ويدخل فيه التقدير الرياضي للزمن و تحليل المعنى و الإحساس الجمالي , وتطوير وظائف الذاكرة , ليس ما يتعلق منها بحفظ المعلومات واستعادتها فقط , إنما وإعادة استخدامها بصور أخرى وفق استراتيجيات حياة الكائن الحي المعبرة عن بنية دماغية تشريحية و وظيفية تكونت بالتوافق مع تجربته الحياتية. وهكذا تتجاوز وظيفة الشعر إطار الشعر والفن إلى وظيفة التنسيق الإبداعي في العلم والثقافة عموما. ففي العملية العلمية , مثلا , تتحقق درجات عدة من القياس العقلي و الحسي المشترك وتكون القرارات و الحلول محصلة مشتركة لعمل نصفي الدماغ معا , العمل الذي يحسن الشعر أداءه .
    كما أنّ من المفيد , في هذا السياق , العودة إلى كتاب ستيفين روز (بناء الذاكرة - من الجزيئات إلى الإدراك). يقدّم روز , الباحث في البيولوجيا العصبية , في كتابه خلاصة تجربته البحثية الطولية المنصبّة على اكتشاف الآليات البيوكيميائية والتشريحية التي تتيح للكائن الحي الإفادة من تجاربه التي تبدأ لحظة ولادته , ودور " الذاكرة [التي] تكسب حركة الزمن اتجاها ", في ذلك بصفتها منظومة مفتوحة تعكس بصورة خاصة " مرونة الجهاز العصبي و قدرته على التجاوب مع تأثيرات الوسط المحيط الجديدة , تجاوبا يأخذ بعين الاعتبار التجارب السابقة ". ولا معنى للحديث عن منظومة مفتوحة هي الذاكرة بمعزل عن نظرة شمولية إلى الإنسان ودماغه وعقله كمنظومة مفتوحة تؤسس لها , أي تؤسس للتعلم واكتساب الخبرة وإعادة طرحها بكيفيات وصيغ جديدة تكون هي الحياة (عضويا) وتكون بها الحياة (ثقافيا). من حيث أن نتائج التجارب الحياتية تنعكس تشريحيا كما تنعكس كيميائيا في بنية الدماغ , كقاعدة عضوية لحلول توافق المسائل الجديدة المطروحة أمام حياة الكائن الحي. وليس المهم بالنسبة للقراءة التي نقدمّها هنا الخصوصيات البيوكيميائية والتشريحية التي حاول روز وفريقه تحديدها , بمقدار ما هي مهمة فكرة الاستجابة الحيوية العضوية للمؤثرات الخارجية (أو ما نقول عنها الثقافية بالنسبة للإنسان) , وبالتالي دورها في خلق استجابات وأفعال جديدة هي بمثابة صيغ حياة جديدة أو (ثقافة) جديدة. وإذا كان علماء النفس و علماء الاجتماع يبحثون الإنسان كمفهوم ثقافي اجتماعي , أو كما بات ممكنا القول كجوهر ثقافي اجتماعي , فإن علماء وظائف الأعضاء و الكيمياء الحيوية والتشريح ..الخ. يبحثونه كجوهر عضوي. لكن البحث في العقل والإدراك و الذاكرة بصفتها بعضا من وظائف الدماغ سيكون بمثابة بحث في ظواهر وليس في جوهر ما لم يترافق مع بحث أساسها العضوي أو يؤسس عليه. كما أن البحث في العضوية الحية بصرف النظر عن وظائفها الخارجية وتجلياتها سيكون مرادفا للبحث في مادة جامدة أو في ميكانيزم ميت , أو سيكون في أحسن حالاته بحثا في ظاهرة عضوية لأساس يقع في حقل التخمين , فيكون روحيا ويكون ربانيا بالدرجة نفسها التي يكون فيها مفهوما ثقافيا تطوريا.
       أمّا روز وجماعته وغيرهم من الباحثين في بيولوجيا الأعصاب ووظائف الدماغ فيحاولون , من خلال فهمهم للإنسان كمنظومة كلية , إيجاد ذلك الحجر الفلسفي السحري الذي يمكّن من قراءة لغة الدماغ ولغة الإدراك في الوقت نفسه قراءة موضوعية يجمع عليها معا باحثو الإنسان بصفته عضوية حية من جهة , وباحثوه بصفته مفهوما ثقافيا من جهة أخرى. يقول روز :" أنا أتحدث عن لغة دماغ ولغة إدراك. تحت لغة الدماغ يوجد الكثير من اللهجات التي يستخدمها البيولوجيون من علماء وظائف الأعضاء والكيمياء الحيوية والتشريح , وليس ثمة شك في الموضوعية هنا. أمّا لغة الإدراك فيمكن أن تكون ذاتية (وغالبا ما تكون كذلك) فهي لغة العلاقات اليومية , أو لغة الشعراء و الرواة , على الرغم من أنها تطمح إلى الموضوعية على لسان علماء النفس". وهكذا يضع روز أمام الباحثين في البيولوجيا العصبية واحدة من المهمات الصعبة وهي الترجمة المتبادلة بين لغة الدماغ ولغة الإدراك , بصفة كل منهما لغة موضوعية , الأمر الذي ينتهي إلى أن الذاكرة تقوم به. وتؤدي الذاكرة بعملها وظيفة التنسيق أيضا من حيث أن التذكر يعني إخضاع ما يتم تذكره , كلما تم استحضاره , لمعالجة وإعادة صياغة وتشكيل , ولا يكون ذلك بنصف دماغ دون الآخر. وهكذا , فإن دراسة الذاكرة تقتضي التعامل معها كظاهرة جدلية , كما يؤكد روز , دراسة تهيئ لفهم الدماغ كمنظومة مفتوحة ينتجها الخارج وبالتالي تنتجها الثقافة وظيفيا بدرجة تكاد تكون واضحة للجميع , وتشريحيا وكيميائيا حيويا بدرجة باتت واضحة للباحثين في بيولوجيا الأعصاب. أما انفتاح منظومة الدماغ بيولوجيا فتتوازى مع انفتاح الواقع بيئيا وثقافيا. إضافة إلى أن الواقع , بالنسبة للدماغ , واقع ثقافي بالدرجة الأولى , ف " الدماغ لا يتعامل مع المعلومة بالمفهوم الحاسوبي للكلمة , إنما مع المعنى. أما المعنى فمفهوم متشكّل تاريخيا , وهو يعكس التأثير المتبادل بين الفرد ووسطه الطبيعي والاجتماعي". بهذا المعنى تكون الأشياء التي يتعامل معها الدماغ بمثابة صورة الأشياء المفهومية , أي الأشياء متغيرة باستمرار , الأشياء التي يتكوّن وجودها الموضوعي من صورتها المفهومية العامة التي تقاوم التغيير , في مقابل صورتها الفردية التي تدفع دائما باتجاه التغيير. فالصورة الفردية هي صورة خاصة ومتغيرة دائما , سواء من ناحية كونها نتاج معقد و ظيفي تشترك فيه الانفعالات والعواطف و الشعور الجمالي و المحاكمات المنطقية ..الخ , فتكون محكومة بعناصر متغيرة , وتكون بدورها متغيرة , أو من ناحية كونها حصيلة اتساق عناصر استقطاب تحكمه العشوائية والصدفة.
    أمّا ما يبدو واضحا لباحثي البيولوجيا العصبية وكيميائها و لعلماء النفس , فهو أن التجانس الوظيفي يكون بمنظومة الدماغ كلها , ويتم بوظائف مشتركة تكون بالبنية العامة (الحيوانية أو الغريزية) كما يكون بالقشرة الإنسانية , ويكون , بدرجة ما , دائما بنصفي الدماغ , بصرف النظر عن المسائل المطروحة أمامه , وبصرف النظر عن المعاناة الإبداعية , سواء أكانت فنية أم أدبية أم علمية. و هكذا , فإلى جانب علماء الأعصاب , تجد الكثير من علماء النفس ممن تفضي أبحاثهم إلى القول بتلاقي عمل نصفي كرة الدماغ وتوافقه , بل تجانسه كأساس تكون به الصحة كما يكون به الإبداع. و هكذا نجد ساندوميرسكي حين يبحث في كتابه (كيف نتغلب على الشدة ؟)عن التغيرات الفيزيولوجية التي تقود إلى ما يسمى بالغشية (trance) في حالات , وبالنشوة الإبداعية في حالات أخرى , اعتمادا على دراسات الكتروفيزيولوجية وتسجيلات لكهرباء الدماغ الحيوية , نجده يقع على تلك الحالة التي تكون بتوافق وظيفي بين نصفي الدماغ اللامتجانسين , اللذين يكون التغلب على لاتجانسهما حالة بيولوجية إبداعية , فيكون أيضا, من حيث هو كذلك , ضرورة إبداعية بيولوجية - ثقافية. فمع الأخذ بعين الاعتبار اختلاف نصفي الدماغ فإن التوازن الوظيفي بينهما يكون عبر حركة تلاقي , يقود إليها الانغماس الإبداعي أو المعاناة الإبداعية , كما تقود إليها الموسيقى والفنون الأخرى , و بعض الطقوس التي تؤدي إلى حالة تشبه المعاناة الإبداعية. من زاوية أن الاحتفالية الفيزيولوجية التي تكون بتنسيق رفيع بين متناقضين لا تكون بوظائف معزولة أو منفصلة مطروحة على نصف دون الآخر. وهكذا يكون ثمة  طقس إبداعي فيزيولوجي و وظيفي و جمالي , تعالج فيه المسائل المطروحة بكلية منطقية - انفعالية , عقلانية - عاطفية , أي بنقيضين يكون الخلق الإبداعي باتحادهما معا. و لا تتوقف المسألة عند نصفي دماغ متباينين , إنما وثمة تباين بين بنيتين , فمن منظور تطوري , هناك , في دماغ الإنسان بنية قديمة وأخرى حديثة , أولاهما تحكم النشاطات العاطفية والحشوية بينما تحكم الثانية النشاط الذهني و الإدراكي. فكما يرى فرانسوا جاكوب , في (لعبة الممكنات) , فإن قشرة دماغية جديدة أضيفت إلى دماغ الثدييات الدنيا " ولعبت بشكل سريع , وربما سريع جدا , الدور الرئيس في السلسلة التطورية المؤدية إلى الإنسان ". وبصرف النظر عن القبول أو عدمه بإنسان هو كائن صدفة , أو هو نتيجة تطورية لعبت فيها إكراهات الاصطفاء الطبيعي دورا رئيسا , فثمة دماغ بشري مكوّن من بنيتين تؤديان نوعين مختلفين من الوظائف يكون الإبداع باتحادهما وظيفيا. ومنه فثمة ضرورة إلى معالجة الوظائف في وحدة كلية. فالفصل بين البيولوجي والثقافي في وظائف البنية أمر لا معنى له ," أكثر من معنى السؤال عما إذا كان ميل روميو نحو جولييت من منشأ وراثي أو ثقافي " , كما يقول جاكوب. ومن الملفت أن أعمال أهم الباحثين في علم نفس الأحلام على اختلاف مشاربهم من فرويد إلى يونغ وآدلر و كثير غيرهم ممن هم أقل شهرة , كما يرى ستانلي كريبنير و جوزيف ديلارد , تقول باشتراك بنيتي الدماغ الأقدم والأحدث في صياغة الأحلام ," التي تعبر عن إعادة تنظيم تلقائي للعضوية باتجاه الانسجام".
    وهكذا فإن الانسجام الوظيفي الذي يلعب الشعر دورا هاما في تحقيقه يؤدي ليس فقط إلى الإبداع الجمالي , بل إلى عملية خلق مستمرة للإنسان بصفته وجودا تكامليا عضويا –ثقافيا , فيكون الإنسان مُبدِعا ويكون ناتج إبداع في آن معا , يكون بالفن والعلم كما يكون باللحم والدم.

- يتبع -


التكامل والإبداع
2-(بين الفن والأدب والعلم)
 2 من 2
منذر بدر حلّوم
    من وجهة نظر علاقة الإبداع بعمل الدماغ التكاملي نرى أن الدماغ يؤدي وظائف ثانوية تكون النتائج فيها مرتبطة بالوظائف الأولية التي تدرب على تأديتها. فإذا كان الفن يطوّر لدى الدماغ البشري العمل الوظيفي التكاملي فمن شأن النشاط المعرفي العلمي , الذي يتطلب عملا تكامليا بدرجة لا تقل عن الفن , أن يطور أداء الوظائف الدماغية باتجاه معالجات فنية أرفع. ولذلك يكون من المهم النظر إلى النشاط العلمي كعملية إبداعية تدخل فيها الانفعالات والعواطف و لا تكون خاضعة لمحاكمات منطقية عقلانية فقط. فمن شأن عزل العملية العلمية عن كل ما له علاقة بالجانب الانفعالي العاطفي أن يقود إلى نتائج لا تكون في صالح العلم , كما لا يكون في صالح الفن والأدب والعلوم الإنسانية حصر الإنتاج الإبداعي بالجانب العاطفي الانفعالي دون جانب المحاكمة والقياس والتحديد. ف" على (العلوم الإنسانية) التي تطمح إلى كيان (العلوم الحقيقية) أن تدفع ثمن ذلك حدّا أدنى من الدقة في التعريفات , والصرامة في القياسات" , كما يقول البير جاكار في (مديح الاختلاف). فالإبداع الفني و الأدبي كما الإبداع العلمي يكون بتكامل وظيفي بين نصفي الدماغ و بين بنيتيه الأقدم و الأحدث. وهكذا , فإذا كانت " التجربة المتراكمة عند الفنانين تقوّي الانسجام الوظيفي و التنسيق بين نصفي كرة الدماغ " كما يقول جيري ليفي في عمله (دماغان وإدراك واحد) المنشور في كتاب (الجمال والدماغ), وإذا كانت تجربة الفنانين تؤدي إلى دماغ يصلح لحل مسائل معقدة , وإذا كنا لا نستطيع , للأسف , أن نطلب من الفنانين أن يكونوا علماء , مضيعين بذلك فرصة الإفادة من بنيات ذهنية مميزة يتطلبها الشعور الجمالي , وتقتضي بدورها تنسيقا عاليا بين وظائف نصفي الدماغ , وتكاملا وظيفيا مميزا يؤهّل للإبداع , فإنه يبدو من المفيد للعلم أن يكون العلماء فنانين , وأن ينظروا إلى العملية العلمية بصفتها إبداعا لا تكون دون التفكير المجازي والعواطف و الانفعالات من حيث أنها لا تكون دون نصف الكرة الدماغية الأيمن. ولذلك ليس غريبا أن نلاحظ عند الكثير من العلماء مواهب فنّية اشتهروا بها إلى جانب علمهم , كما نلاحظ عند الكثير من الفنانين والأدباء اشتغالا علميا جديا. وقد تكون الكتابة الأدبية و خاصة أدب الخيال العلمي أكثر الجوانب شهرة وحضورا في ذهن القارئ , إلاّ أن هناك ما يتعداها إلى أقانيم أخرى في شخصيات العلماء. فالعالم الروسي البيوفيزيائي الشهير الكسندر تشيجيفسكي كان رسّاما وشاعرا أيضا , كما أن غوته (1749-1832) الشاعر الألماني الشهير كان , إلى جانب كونه شاعرا و رسّاما , باحثا في العلوم الطبيعية و لديه دراسات عن ميتامورفوز النباتات وعن الضوء , وكان يحمل لقب عضو شرف في أكاديمية بطرسبورغ للعلوم (عام 1826م) , وكذلك عالم الرياضيات و الفيزياء و الفلك السويسري الشهير ليونارد إيلير (1707-1803) كان موسيقيا وله أبحاث في نظرية الموسيقى. ثم إن المؤلف الموسيقي الروسي الشهير الكسندر بارادين (1833-1887) اشتهر كعالم في الكيمياء العضوية قبل كونه موسيقيا وسجل باسمه أول مركب فلوري عضوي يتم الحصول عليه. والشاعر التشيلي الشهير بابلو نيرودا كان باحثا في الرخويات البحرية و كانت لديه مجموعة هامّة من القواقع بلغت أكثر من خمس عشرة ألف قوقعة , أهداها لجامعة سانتياغو قبل موته بفترة قصيرة , كما ذكرت مجلة العلم والحياة الروسية. واللافت أن إيرازم دارون (1731-1802) جد العالم الشهير تشارلز دارون كان طبيبا وعالم طبيعيات و شاعرا , و قد قدّم بصيغة فلسفية علمية تصوراته عن تطور الحيوانات تحت تأثير عوامل الوسط المحيط مقدما بذلك لحفيده. ومن المعروف أن الشاعر الكبير عمر الخيّام كان واحدا من أهم علماء الرياضيات و الفلك. وهناك ما يدفعني إلى التفكير بأن إبداع نيوتن العلمي العظيم هيّأت له ممارسته للخيمياء ( كيمياء البحث عن حجر الفلاسفة والذهب) , الأمر الذي يعد (نقيصة) في حياته العلمية , نقيصة لم يستطع تفهمها دارسوه والمشرفون على طباعة أعماله بعد موته و كذلك كاتب سيرة حياته السير دافيد بروستر , الذي عبّر عن استهجانه لممارسة نيوتن تلك , قائلا :" لا يمكننا أن نتفهم كيف يمكن لعقل بمثل هذه الطاقة أن يتدنى لكي يصبح مجرد ناقل لأحط وأخسّ أشعار الكيمياء القديمة وأن يكون منقحا لعمل من الواضح أن من قام بتأليفه مغفّل ومحتال". فربما لعبت تلك (النقيصة) ذلك الدور الذي يشغل نصفي كرة الدماغ معا بأحسن حال بما يتطلبه من خيال وعواطف وانفعالات وحسابات. أي أن الخيمياء كانت تغطي وظائف الفن في حياة نيوتن الإبداعية. وأحسب أن ليس التجريب والصبر والمثابرة على أهميتها في الممارسة العلمية ما جعل في الخيمياء مقدمة لإبداعات نيوتن اللاحقة , بل و اشتراك الخيال و الانفعالات و تمرين الدماغ في عوالم من الألوان والأبخرة و الأشعار والأساطير التي تعد جزءا حميما من ممارسة الخيمياء , حيث الرموز الكيميائية نفسها آلهة أو كواكب , فالقصدير هو جوبيتر و الرصاص هو ساتورن كما أن اسم فينوس يطلق على النحاس و مارس على الحديد و ميركوري على الزئبق , وديانا(القمر) تأخذ الفضة اسمها , أما الذهب فهو الشمس. وهاهو نيوتن يكتب " لقد جعلت جوبيتر يطير على أجنحة الصقر" و يعلق على ذلك جنيفر لي كاريل كاتب المقال قائلا:" من شبه المؤكد أنه كان يتحدث بالشيفرة (الرمز) عن عملية من عمليات تبخر القصدير.
    وهكذا فحتى العلماء الذين يبدون أكثر صرامة وتفرغا لعملهم العلمي وزهدا بجوانب الحياة الأخرى , يمكن لدارس سير حيواتهم أن يكتشف ما يميل البعض إلى أن يراه بعدا عن العقلانية أو شذوذا , أو تخريفا عندما يخرج من السر إلى العلن في أواخر العمر , ولا يكون إلاّ ذلك الجانب الآخر العاطفي أو الانفعالي أو الفني الذي ترى المؤسسات العلمية التقليدية أن إظهاره يعيب العالم , والذي لولاه ما استطاع الدماغ إنتاج ما أنتج من إبداعات خلّدت صاحبها. فالعلماء الذين يمضون جل وقتهم في مختبراتهم أو وراء حواسيبهم وبين كتبهم , يكون ثمة عالم مواز له حضور دائم معهم. فإن لم يكن في العملية العلمية نفسها نوع من اللعب , وإن هي لم تؤدي , إلى شعور جمالي , يكون لا بد من حضور عالم موازٍ يبعث على هذا الشعور ,شيء ما لا يبدو على علاقة بالعلم , يجعل المرء يغمض عينيه عن العالم الواقعي الذي يرصده بحثا عن سلاسل منطقية , ويقوده إلى تلك المناطق التي تحل فيها المسائل بغير ذلك الذي يُطلَق عليه اسم المنطق.
    على أية حال ثمة ظاهرة بيولوجية- ثقافية هي الإبداع , لا يبدو أن المنطق العلمي (الخطي) المعروف يفلح حتى الآن في إيجاد تفسير لها , فهل تكون هي ظاهرة لاخطية عصية عليه من حيث أن عناصر لا تقاس بوحدات رقمية و يصعب توصيفها حتى برموز كالكلمات تشارك فيها ؟ فكما يقول أريان بويلانتزاس  في مقال له بعنوان (كيف يفكّر العباقرة؟ بحث في خفايا الذكاء الإبداعي) :" النوابغ عند حلّهم مسائل نظرية جدا , يستندون إلى قدرات بصرية , وسمعية , وشميّة , وحسّية لمسية. من جانب آخر يلجأ بعض العباقرة في الرياضيات و الفيزياء أساسا (إينشتاين و بوانكاريه و آلن كون حديثا) إلى اعتبارات جمالية [..] و مع الأخذ بعين الاعتبار أن هذه الحساسية الجمالية البالغة هي ثمرة تدرّب مكثف أو استعداد فطري , فإن مساهمتها في إبداع المنظومات العلمية الكبرى أمر لا جدال فيه. لا يمكن لأي إبداع مهم , أو إعادة صياغة نظرية سابقة , أو إنجاز جديد بكل معنى الكلمة ( سواء أكان فنيا أم علميا) , أن يتم دون هذا البعد العاطفي , و لربما كان كبار العلماء فنانين كبار أيضا ". وبعد , يحضرني هنا خبر كنت قد قرأته في أحد مواقع الإنترنت نقلا عن صحيفة (حجج و وقائع )الروسية عن إخضاع شركة مايكروسوفت العاملين لديها لدورات تدريبية بهدف تطوير الحدس لديهم , الحدس الذي يؤمّن الحصول على معلومات والوقوع على حلول بطرائق لا يجد المنطق طريقا إلى تفسيرها. مع العلم أن الحدس (حقيقة) علمية , ليس من الحكمة تجاهلها , وله دور واضح في النشاط العلمي كان توماس كون قد أفرد له حيّزا هاما في عمله (بنيات الثورات العلمية). بيد أن ما يهمنا هنا هو أن الحدس الذي يلاحظ بدرجة أكبر عند الفنانين و الكتّاب والشعراء والذي لا يكون كافيا , غالبا , لإنتاج فني أو أدبي إبداعي , يجد فيه المشتغلون في العلم عاملا هاما , بل ضروريا لتحسين أدائهم الإبداعي , من حيث أنه يكون ناتج نشاط ذلك النصف من الدماغ الذي يتثاءب ضجرا عند الكثيرين من المشتغلين (بالعلم) لدينا. وهكذا فثمة سعي إلى تطوير تلك الجوانب التي يكون بها الأدب والفن عموما , والتي تؤدي بالنتيجة إلى إنسان قادر على إنتاج علمي أفضل في حقل كالبرمجيات المعلوماتية , حيث تبدو المعرفة بالرياضيات والفيزياء , غير كافية لتحقيق النجاح الذي يطمح المشتغلون في إنتاج الذكاء الصناعي إلى بلوغه. ولذلك ليس غريبا أن يكون بين النصائح التي يقدمها أوبير جاوي لتحسين القدرة الإبداعية نصيحة بممارسة فن ما أو هواية ما. ومن المفيد , في هذا السياق , مراجعة تجربة الروس مع الإبداع في الفن و الأدب والعلم. و لا نقصد هنا التوقف عند أمثلة بارزة مثل الكاتبين العظيمين الطبيبين تشيخوف و بولغاكوف فقط , إنما تأمل الإنتاج الإبداعي الذي لم تتوقف روسيا عن تقديمه حتى في أحلك مراحلها التاريخية. ولعلّ ذلك يعود إلى خصوصية التربية التعددية , التي تأخذ بنصفي الدماغ معا حين تمسك بالرياضي المنطقي والفني الأدبي في وحدة كلية. فإلى جانب انشغال الطلاب , بحل مسائل الرياضيات والفيزياء (إلى درجة تشعر معها كأن البلد كلّه يلهو بحلها , أو يتسابق إلى حلّها في مباريات عامة يفوز المنتصر فيها بمسألة أعقد), يندر أن تجد طفلا لا يداوم في مدرسة ثانية وثالثة متنقلا بين مدرسة الموسيقى ومدرسة الرقص ومدرسة الرسم. أمّا الأدب فيحتل في تربية الروس مكانا يصح معه قول الشاعر يفتوشنكو:(الشاعر في روسيا أكثر من مجرد شاعر). و من اللافت أن الغيتار يكاد يكون آلة المهندسين هناك.       
    وللأسف الشديد ,  يستحضر ذلك كله البؤس الذي يغرق فيه الكثير من مؤسساتنا التربوية (بما فيها الأسرة) والتعليمية (بما فيها الجامعة , أو ربما الجامعة أكثر من غيرها), حيث يتم تعليم العلوم بصورة جافة و بقطيعة مع كل ألوان الفنون , ويتم تسفيه الفنون و الميل إلى اعتبار ممارسيها من الطلاب طلابا فاشلين.
    أخيرا , إذا كان ليفي قد انتهى ,في عمله المذكور أعلاه , إلى أن "التوازن الوظيفي ضروري للإبداع الجمالي " , فإننا نرى أن هذا التوازن ضروري للإبداع عموما , بل لإبداع الحياة ذاتها. ذلك أن العلم كما الفن يحقق وظيفة إكمال تطور الإنسان نحو كائن تعيد الثقافة تشكيله عضويا.
- انتهى –



#منذر_بدر_حلوم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الطفور بين البيولوجيا والثقافة
- البيولوجيا والثقافة دموية القسر و عبثية الفصل
- صناعة الحاضر- أو حاضرنا هو مستقبلنا
- - مشكلة الشخصية -1- بين الحرية البيولوجية و القيد الأيديولوج ...
- البطالة وثقافة اللامبالاة


المزيد.....




- بنظامي 3- 5 سنوات .. جدول امتحانات الدبلومات الفنية 2024 الد ...
- مبعوث روسي: مجلس السيادة هو الممثل الشرعي للشعب السوداني
- إيران تحظر بث أشهر مسلسل رمضاني مصري
- -قناع بلون السماء-.. سؤال الهويّات والوجود في رواية الأسير ا ...
- وفاة الفنانة السورية القديرة خديجة العبد ونجلها الفنان قيس ا ...
- مطالبات متزايدة بانقاذ مغني الراب الإيراني توماج صالحي من ال ...
- -قناع بلون السماء- للأسير الفلسطيني باسم خندقجي تفوز بالجائز ...
- اشتُهر بدوره في -أبو الطيب المتنبي-.. رحيل الفنان العراقي عا ...
- عبد الرحمن بن معمر يرحل عن تاريخ غني بالصحافة والثقافة
- -كذب أبيض- المغربي يفوز بجائزة مالمو للسينما العربية


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - منذر بدر حلوم - التكامل والإبداع