من المستغرب فعلا أن تقوم بعض الأقلام الجافة بتفعيل حبر اقلامها ضد اتفاقية المقاومة اللبنانية مع اسرائيل لتبادل الاسرى، وتسمح كذلك باطلاق العنان للأفكار الجاهزة التي في بعض الاحيان تخطأ كثيرا في حساباتها، إذ أنها تحلل الحرام وتحرم الحلال وفق رؤيتها الخاصة لهذا الحلال وذاك الحرام، فعندما تلصق نفس تلك الجهات تهم العمالة أو الخيانة بدون اثباتات مادية ضد شخصيات وطنية يصبح الأمر سهلا كي تشن نفس تلك الاقلام حملة تنديد باتفاقية تبادل الاسرى بين حزب الله والكيان الاسرائيلي،فتعتبر الصفقة خاسرة،حتى أن بعضهم أعتبرها أكثر الاتفاقيات خسارة بالنسبة للطرف العربي.
هذا بحد ذاته أمر غريب، فكيف تكون هذه الصفقة خاسرة مادامت حررت كل الأسرى اللبنانيين والعرب باستثناء سمير القنطار الذي بقي كحالة خاصة جدا يتمسك بها الطرف الاسرائيلي لمعرفة أي شيء عن الطيار المفقود في لبنان اراد، واسرائيل تتمسك بها كما يتمسك الغريق بقشة للنجاة من الغرق، أما سمير القنطار و وليد دقة وسعيد العتبة وغيرهم في المعتقلات وغيرهم من الاسرى، هؤلاء لن يغرقوا مهما اشتد هيجان العواصف.
بموجب الاتفاقية المذكورة سيتحرر 400 اسير ومعتقل فلسطيني،ليس مهما كم هي مدة محكوميتهم، فهذا ما تم تحصيله في الشق الأول من الاتفاقية وهو ليس بالقليل ولا بالسهل. و إذا عدنا قليلا الى الوراء سنجد أن السلطة الفلسطينية وبالرغم من تقديمها تنازلات مؤلمة للجانب الاسرائيلي لم تستطع تحرير الأسرى القدامى، باستثناء ابو السكر في عهد محمود عباس ابو مازن، أما باقي الذين أخلي سبيلهم فقد كانوا من الجنائيين ومن الذين انتهت أو أوشكت محكوميتهم على الانتهاء، وإذا عدنا لبدايات زمان اوسلو وسلام الشجعان فأن الذين اخرجتهم السلطة بفعل اتفاقية اوسلو، خرجوا بشروط ليست عادلة ولا كانت مشرفة، فقد ألزموا بتوقيع تعهد خطي، وقعوه برضاهم او رغما عنهم، وبأمر من السلطة كان بعض ضباط الأمن الفلسطيني من الارتباط يشرفون على توقيعات تلك العريضة المهينة والمعيبة، التي لا تليق بتضحياتهم وسنوات نضالهم خارج وداخل المعتقل، وبفعل التعهد المعيب اطلق سراح الذين اطلق سراحهم حينئذن، فيما رفض الكثير من الاسرى التوقيع على تلك العريضة مقابل الحرية ونعرف منهم على أقل تقدير سمير القنطار.ثم يجب النظر بدقة للظروف السابقة والظروف الحالية، فنحن الآن في الزمن الأمريكي ويعيش عالمنا العربي بالتوقيت الاسرائيلي، فأي نصر جزئي على معسكر الاعداء مهم لهذه الأمة العربية الضائعة.
في نظرة أولية على الاتفاقية بين الحزب واسرائيل يشعر المرء بخيبة أمل، حيث ان الاسماء لا تضم باستثناء اللبنانيين والعرب نوعيات وأسماء مميزة و مشهورة ومعروفة من الحركة الاسيرة، ولا تضم الأسيرات الفلسطينيات والمرضى منهم بالذات، ولا السجناء القدامى من الفلسطينيين واسرى 48 واسرى الجولان السوري المحتل، فهؤلاء هم من أهم أسس العذاب والتحدي والمقاومة والتصدي للإرهاب الاسرائيلي الممارس بحق الكرامة العربية المعتقلة في سجون الاحتلال، وكان من الطبيعي ان تكون هذه الفرصة فرصتهم التاريخية للخروج من السجن والعودة للأهل بعد سنوات طويلة من العذاب، وهذا ينطبق كذلك على أحد أقدم الاسرى في السجون الصهيونية الاسير سمير القنطار الذي استثنته الاتفاقية ووضعت مصيره من مصير الطيار الاسرائيلي المفقود أرون أراد.
كما ان الاتفاقية أرغمت اسرائيل على القبول بتسليم جثث 59 شهيدا لبنانيا وفلسطينيا من شهداء الدوريات العسكرية الذين استشهدوا في جنوب لبنان وشمال فلسطين، وسوف يتسلم لبنان خرائط الالغام التي تركتها قوات الاحتلال وراءها يوم فرت من جنوب لبنان، بالإضافة لتقديم معلومات عن عدد من المفقودين اللبنانيين والفلسطينيين، كل هذا الكلام وضحه السيد حسن نصرالله يوم تحدث في المؤتمر الصحفي المخصص للاتفاقية، حيث قال ان هذه الاتفاقية تتألف من شقين، كل ما قلناه سابقا يتبع الشق الأول من الاتفاقية، أما قضية سمير القنطار والنوعيات الأسيرة إن كان من السوريين من الجولان المحتل أو من فلسطينيي الخط الأخضر المعروفين بعرب48 والبقية من أصحاب المحكوميات العالية والأسيرات الفلسطينيات بالاضافة للمرضى سيكونوا في الشق الثاني من الاتفاقية التي ستضمن لاسرائيل الحصول على معلومات دقيقة عن مصير اراد.
نتيجة التجربة فأنه يصعب علينا التشكيك بصدق كلام السيد حسن نصرالله الذي يحترم عهوده ولا يتراجع عن كلامه، وقد علمتنا المقاومة اللبنانية أنها صادقة فيما تقول. وعندما يقول السيد حسن نصر الله ان القضية المركزية للمقاومة ستكون سمير القنطار، فهذا كلام له معانيه الكبيرة ومغزاه الواضح.أما بقية الاسرى من الفلسطينيين فهم من القضايا الاساسية للنضال الوطني الفلسطيني،وهنا تجدر الاشارة على انه يتعين على الفلسطينيين انفسهم ان يعملوا كل ما بوسعهم لتأمين حرية الأسرى مع علمنا المسبق بصعوبة تلك المهمة في فلسطين المحتلة، لأنه لا يوجد تناغم وتنسيق وتطابق بين المقاومة والسلطة كما هو الحال في لبنان، وكذلك بسبب العوائق الامنية، وأن يحذوا حذو التجربة اللبنانية عبر خطف جنود إسرائيليين ليكونوا مواد صالحة للتبادل، فالتجربة تقول ان اسرائيل لا تفهم غير لغتها هي، أي لغة العنف والقوة وفرض الأمر الواقع. ثم علينا النظر للعملية التبادلية بين حزب الله واسرائيل بعينين مفتوحتين وأن لا ننسى أن اسرائيل قوة عظمى وحزب الله ليس بالقوة العظمى، بل حزب مقاوم يعرف حدوده ومدى قوته وكيف يدير معركته.
وفي نظرة تاريخية لكل عمليات التبادل التي جرت بين الفصائل الفلسطينية واللبنانية والطرف الاسرائيلي فاننا نجد ان اتفاقية حزب الله الأخيرة ليست غريبة ولا عجيبة، فهي اتفاقية ناجحة بكل المقاييس خاصة انها تأتي في زمن الهزائم العربية المتتالية، زمن انهيار الحكومات والأنظمة العربية وانضواءها تحت راية الأمريكان أعداء الأمة العربية، وفي زمن مؤسف حيث الأمة نائمة أو غائبة. في هكذا زمن وهكذا ظروف جاءت الاتفاقية، بينما باقي الاتفاقيات التي حصلت سابقا كانت في زمن الصعود القومي العربي ورغم ذاك الزمان لم تكن اكثر نجاحا من هذه الاتفاقية فمقابل ثمانية جنود إسرائيليين أسرى أحياء كانوا لدى حركة فتح (6) والجبهة الشعبية القيادة العامة (2) تم اطلاق سراح أسرى معتقل انصار في جنوب لبنان(معتقلون اداريون) بالاضافة ل65 اسيرا من سجون الداخل. وفي اول تبادل فلسطيني اسرائيلي حصل سنة 1979 بين الجبهة الشعبية القيادة العامة والكيان الاسرائيلي استبدل جندي اسرائيلي اسير ب 76 اسيرا فلسطينيا، وقتها لم يكن هناك اسرى اداريين او موقوفين بلا محاكمة بالآلاف كما هو حال شعب فلسطين اليوم، أما عملية التبادل التي اجرتها الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين والتي قامت بموجبها اسرائيل بالسماح للنقابي المبعد علي أبو هلال بالعودة لفلسطين مقابل تسليم الجبهة لجثة الجندي الاسرائيلي الاسير سمير اسعد، فهذه لا تصلح ابدا للمقارنة، ولولا تلك الاقلام التي بدأت تنهش بلحم المقاومة اللبنانية لكنا تجاوزنا ذكر هذه العملية نهائيا.
على كل حال هناك اتفاقيات تحصل وهذه الاتفاقية حصلت وشاهدنا ظهر اليوم كيف تم الشق الأول منها بسلام ، بالرغم من العملية التي حصلت في القدس المحتلة وحصدت حياة عشرة اسرائيليين وجرحت العشرات ، وبانتظار الشق الثاني على الفلسطينيين الصمود والصبر ومواصلة طريقهم المنير الذي تعبده دماء الشهداء والضحايا يوميا.
انتهى