أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبدالوهاب خضر - الأمن القومى فى زمن جورج بوش















المزيد.....



الأمن القومى فى زمن جورج بوش


عبدالوهاب خضر

الحوار المتمدن-العدد: 730 - 2004 / 1 / 31 - 17:09
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


في القرن الرابع عشر رسم أمبروجيو لورينزيتي صوراً جدارية في دار بلدية مدينة سيينا الإيطالية تصور مفهوم الحكم الرشيد والحكم الفاسد من خلال شخصيات رمزية خيالية، واستخدم في لوحة الحكم الرشيد ظلال اللون الذهبي والأزرق المخضر والأحمر والأصفر المحمر لتصوير شخصية "جوستيتيا" (العدالة) مرتين تأكيدا على أهميتها البالغة، فمرة نراها في صورة كلاسيكية وهي جالسة توازن الميزان الذي تحمله الحكمة، بينما نرى في جدارية الحكم الفاسد شخصية "تيرانيا" (الطغيان) مزهوة بانتصارها وهي جالسة فوق جسد "جوستيتيا" المدحورة وبجانبها شظايا الميزان المحطم. وقد استمد لورينزيتي رسالته التي يرسلها عبر هذه اللوحة من ثورة الفكر السياسي في ذلك الوقت، وهي رسالة واضحة مؤداها أن العدل عصب الحكم السديد. أما في حال فساد الحكم فإن السلطة الحاكمة تضع نفسها فوق مستوى العدالة المنهزمة والمطروحة أرضا، أي أن العدالة لا تصبح قادرة على حماية الفرد، والسلطة التنفيذية تتصرف دون قيد وتضرب بالقانون عرض الحائط .

وكان المسؤولون عن إقامة العدل في مدينة سيينا في عصر النهضة، مثلهم مثل غيرهم في أوروبا الغربية، جزءا لا يتجزأ من السلطة الحاكمة. فحاولت الحكومات المعاصرة أن تضمن إقامة العدل بإنشاء نظم قضائية مستقلة ومحايدة وقادرة على مساءلة الحاكم والمحكوم سواء بسواء عن خرق القانون. ومن المؤكد أن فصل المحاكم عن السلطة التنفيذية وقدرة المحاكم على مراجعة دستورية الإجراءات التنفيذية ملمح بالغ الأهمية في الإطار القانوني في الولايات المتحدة، بل إنه عماد سيادة القانون وحماية حقوق الإنسان فيها .. ويمثل جورج بوش (الابن ) الرئيس الامريكى النموذج الثانى وهو فساد الحكم كما تصفة منظمة هيومان رايتس فى تقرير جديد لها فى عام 2004  تلقيتة على بريدى الاليكترونى والذى  أعده  يسون باركر وجيمي فيلنر  ويقول التقرير

 أنة منذ أن تولى الرئيس جورج بوش منصبه وهو يحكم وكأنه تلقى تفويضا ساحقا باتباع سياسات تؤكد على قوة السلطات التنفيذية، وعدم الثقة في دور القضاء - إن لم يكن الاستهانة به تماما. فكثيرا ما اتخذت إدارة بوش الموقف الذي يرى أن قضاة المحاكم الفيدرالية كثيراً ما يعززون الحقوق الفردية على حساب السياسات التي تختارها السلطة التنفيذية أو التشريعية، فسعت إلى ترشيح قضاة يشاطرونها الإيمان بفلسفتها السياسية. لكن ما يثير القلق مسألة جوهرية تتجاوز أي قضاة بعينهم أو أحكام بعينها. إذ يبدو أن الإدارة عازمة على حماية الإجراءات التنفيذية التي تعتبر أنها تعزز الأمن القومي من أي فحص قضائي جاد، وتطالب المحاكم بالإذعان لمشيئتها حتى فيما يتعلق بأعز الحقوق على النفس البشرية وهو الحق في الحرية.

ويتركز جانب كبير من قلق الشعب الأمريكي بشأن سياسات ما بعد الحادي عشر من سبتمبر/أيلول على الصلاحيات الرقابية الجديدة للحكومة، التي تتضمن إمكانية الاطلاع على السجلات التجارية، والملفات المحفوظة في المكتبات، وغيرها من البيانات الخاصة بالأفراد الذين قد لا تكون هناك أي شبهة محددة في تواطئهم مع الإرهاب. فقد تؤثر هذه السياسات على عدد من المواطنين الأمريكيين أكثر بكثير من تعبير "مقاتلي العدو" أو قرار احتجاز الأفراد في السجن شهوراً بتهم روتينية مثل مخالفة قوانين التأشيرة. لكن الجهود التي بذلت لتقليص الحق في الحرية وتحجيم دور المحاكم في حماية هذا الحق، أو الالتفاف عليه، قد تكون أشد خطرا على نظام الحكم بالولايات المتحدة إجمالا. حيث أثار نقاد سياسات الإدارة الأمريكية لمكافحة الإرهاب المخاوف من أن الحريات المدنية باتت يُضحى بها من أجل منفعة لا تذكر للأمن القومي. بيد أن هذه الانتقادات عموما لا تتناول التساؤلات الأكثر جوهرية، وهي: من الذي يقرر حجم الحماية الواجب منحه للحقوق الفردية، ومن الذي يحدد متطلبات العدالة - أهي السلطة التنفيذية أم القضائية؟ ومن الذي يحدد مدى ما يمكن أن يطلع عليه الجمهور من السياسات الداخلية لمكافحة الإرهاب التي تجور على الحقوق الفردية؟

ويلاحظ أن الكثير من الاستراتيجيات الداخلية لإدارة بوش بعد الحادي عشر من سبتمبر/أيلول تمثل تحديا مباشرا لدور المحاكم الإدارية والفيدرالية في تقييد الإجراءات التنفيذية، خصوصا ما يؤثر منها على حقوق الإنسان الأساسية. فبعد الحادي عشر من سبتمبر/أيلول احتجزت إدارة بوش أكثر من ألف شخص يفترض أنهم على صلة بأنشطة إرهابية أو على علم بها، وحالت الإدارة دون الفحص القضائي الجاد لمعظم الاعتقالات من هذا القبيل، وأصرت على حقها في حجب معظم أسماء المقبوض عليهم فيما يتعلق بجهودها في مكافحة الإرهاب، ووصفت أشخاصا قبض عليهم في الولايات المتحدة بأنهم "مقاتلون من الأعداء"، وزعمت أن لها سلطة وضعهم في الحجز الانعزالي في السجون العسكرية دون توجيه تهمة إليهم ودون السماح لهم بالاتصال بأي محامين. كما أصرت على أنها هي الوحيدة صاحبة السلطة في إبقاء مئات من الرجال رهن الاعتقال إلى أجل غير مسمى في قاعدتها العسكرية في خليج غوانتانمو في كوبا، في شبه عزلة تامة عن العالم الخارجي؛ وكان معظم هؤلاء قد اعتقلوا في أثناء الحرب التي شنتها الولايات المتحدة على أفغانستان. وقد سمحت إدارة بوش بعقد محاكمات عسكرية للمعتقلين الأجانب وفقا لقواعد تضرب عرض الحائط بالحق في الدفاع والحق في الاستئناف أمام محاكم مدنية بصورة جادة.

في سياق هذه الأفعال كلها، عرّضت إدارة بوش حقاً قديماً للخطر، وهو حق المعتقل في المثول أمام قاضٍ للنظر في قانونية اعتقاله؛ ولعل هذا ليس بمستغرب لأن "المحاكم ظلت على مر العصور تحرص على الحفاظ على حق إحضار المعتقل أمام القاضي باعتباره ضابطاً يحول دون طغيان الأجهزة التنفيذية واستيلائها على السلطة".(1) والمعروف أن الحق في إحضار المعتقل أمام قاضٍ للنظر في قانونية اعتقاله هو حق ظهرت إرهاصاته في الوثيقة العظمى "الماغنا كارتا" منذ عام 1215، ثم كفله الدستور الأمريكي بعد قرون من استخدامه في إنجلترا، وأن هذا الحق يضمن لكل شخص حرم من حريته المراجعة السريعة والفعالة من جانب القضاء تلافيا "لكافة أشكال الحبس غير القانوني".(2)

وتقول إدارة بوش إن الأمن القومي - بمعنى ضرورة شن "حرب شاملة على الإرهاب" - يبرر هذا المسلك. وبالطبع لا نكاد نجد حكومة لا تتذرع بمسألة الأمن القومي تبريرا للقبض على الأشخاص أو اعتقالهم بصورة تعسفية أو غير قانونية، ولا نكاد نجد حكومة لا تقاوم المراجعة القضائية أو العامة لمثل هذه الإجراءات. لكن إجراءات الإدارة الأمريكية تثير الانزعاج الشديد بوجه خاص، وقد يكون الضرر اللاحق بسيادة القانون في الولايات المتحدة من جرائها أكثر دواما لصعوبة التنبؤ بانتهاء خطر الإرهاب الذي تصر الإدارة على أنه يستدعي ما تتخذه من إجراءات، كما أنه من المستبعد أن ينهزم الإرهاب العالمي في المستقبل المنظور. فهل تنوي الحكومة الأمريكية أن تبقي المحتجزين بدون محاكمة رهن الاعتقال بقية حياتهم؟ وهل تنوي أن تمنع العامة من معرفة من ألقي القبض عليه حتى تضع آخر إرهابي من الإرهابيين خلف القضبان؟

إن سياسات الولايات المتحدة لمكافحة الإرهاب لا تتناقض فقط مع المبادئ الراسخة في البنية السياسية والقانونية للولايات المتحدة، ولكنها تتناقض أيضا مع مبادئ حقوق الإنسان العالمية. إذ يمكن أن نفهم الالتزامات الحكومية العديدة المنصوص عليها في معاهدات حقوق الإنسان على أنها التزامات بمعاملة الناس معاملة عادلة. وتتبدى ضرورة العدالة في أظهر صورها فيما يتعلق بالحقوق المعرضة للمساس بها أكثر من غيرها بسبب السلطات الجبرية أو العقابية التي تتمتع بها الحكومة، مثل حق الحرية الشخصية. ويقر قانون حقوق الإنسان بأن الحرية الفردية يجب ألا تترك لأهواء الحكام الجامحة دون قيد أو شرط. ولكي يتم وضع قيود على الاستخدام التعسفي أو الخاطئ لسلطة الاعتقال التي تتمتع بها الدولة، ينص العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، الذي انضمت إليه الولايات المتحدة، على ضرورة أن تفصل المحاكم - لا السلطة التنفيذية - في قانونية الاعتقال.(3) كما يضع العهد ضوابط معينة لإجراءات المحاكمة متى كانت حرية الشخص مهددة بالخطر، ومن بينها علنية وقائع المحاكمة. وحتى لو كانت هناك حالة طوارئ معلنة رسمية فيجب أن تكون القيود على الحق في الحرية "مقصورة تماما على الحد الذي تقتضيه ضرورات الموقف".(4)

إن العدالة لا يمكن أن تتحقق بدون احترام حقوق الإنسان. وكما تنص ديباجة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان فإن "الإقرار بما لجميع أعضاء الأسرة البشرية من كرامة أصيلة فيهم، ومن حقوق متساوية وثابتة، يشكل أساس الحرية والعدل والسلام في العالم". ويقر الخطاب الذي تستخدمه إدارة بوش بحقوق الإنسان، ويصر على أن مكافحة الإرهاب حرب للحفاظ على "المطالب التي لا تقبل التفاوض، وهي الكرامة الإنسانية وسيادة القانون والضوابط على سلطة الدولة والعدالة القائمة على أساس المساواة"، وذلك كما قال الرئيس بوش في حفل تخرج دفعة الأكاديمية العسكرية في ويست بوينت في يونيو/حزيران 2002. لكن الإجراءات التي اتخذتها إدارة بوش تتعارض مع هذه الكلمات النبيلة. إذ إن ممارسات مكافحة الإرهاب التي تتبعها إدارة بوش تمثل في جملتها اعتداء مذهلا على عدد من المبادئ الأساسية، وهي العدل ومحاسبة الحكومة ودور المحاكم.

وليس من الواضح حتى الآن ما إذا كانت المحاكم سوف تسمح للسلطة التنفيذية بأن تمضي قدما في هذا المسعى. ففي مواجهة المقولات المتكررة التي ترددها الحكومة عن الأخطار التي تهدد الأمن القومي لو لم تفعل ما يحلو لها، أصبحنا نرى عددا من المحاكم على أتم استعداد للتخلي عن التزامها بمراجعة الإجراءات الحكومية وتعزيز الحق في الحرية. وهنا نتذكر أن المحاكم الأمريكية في أوقات الأزمات القومية السابقة فشلت أيضا فشلا ذريعا في حماية الحقوق الفردية - ومن أشهر أمثلة هذا العجز المشين عزل الأمريكيين اليابانيين إبان الحرب العالمية الثانية، الذي أقرته المحكمة العليا. ومع إحالة قضايا جديدة مترتبة على الإجراءات الحكومية إلى القضاء، لا يسع المرء إلا أن يأمل أن تقر المحاكم بالأخطار غير المسبوقة التي تتعرض لها حقوق الإنسان والعدالة بسبب تأكيد إدارة بوش على تمتعها بالسيطرة المنفردة على حياة كل من المواطنين وغير المواطنين وحرياتهم.

فوق القانون:
السلطة التنفيذية في الولايات المتحدة بعد الحادي عشر من سبتمبر/أيلول

الاحتجاز التعسفي لمخالفي قوانين الهجرة


في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول مباشرة ألقى وزير العدل الأمريكي جون أشكروفت خطابا قال فيه "ليحذر الإرهابيون بيننا، فلو بقيتم بعد انتهاء تأشيراتكم ولو ليوم واحد فسنلقي القبض عليكم. ولو خالفتم القوانين المحلية فسنضعكم في السجون ونبقيكم رهن الاعتقال لأطول مدة ممكنة".(5) وقد نفذ وزير العدل تهديده، مستخدما شتى الأساليب والحيل لاعتقال أكثر من 1200 من غير المواطنين في غضون بضعة أشهر. ولا ندري كم من الإرهابيين كانوا فعلا بين هؤلاء المعتقلين - لو كان فيهم أي إرهابيين أصلا. ولم توجه اتهامات متعلقة بالإرهاب إلا لقلة منهم؛ لكننا نعرف أن حملة الاعتقالات العشوائية التي ألقت بها الحكومة عربا ومسلمين في الحجز أدت إلى وقوع مئات من الاعتقالات التي لم تخضع لمراجعة فعالة أو لطعن فعال بسبب إضعاف السلطة التنفيذية للضوابط المعتادة في نظام الهجرة بخصوص الحماية من الاعتقال التعسفي، أو تجاهلها لهذه الضوابط.

إن الحق في الحرية يحد من قدرة الحكومة على احتجاز الأفراد لأغراض متعلقة بتنفيذ القانون - بما في ذلك حماية الأمن القومي. وإذا لم يكن هذا الحق حقا مطلقا، فإنه يُنتهك بسبب عمليات الاحتجاز التعسفي، أي الاحتجاز المنافي للإجراءات التي ينص عليها القانون، أو الذي يبدو من الجلي أنه غير متناسب مع الخطر أو جائر أو لا يمكن التنبؤ بوقوعه أو يتسم بالشطط. ويلاحظ أن القانون الدولي والقانون الأمريكي الدستوري ينصان على ضمانات عديدة لحماية الأفراد من الاحتجاز التعسفي، بما في ذلك التزام السلطات بإخطار المحتجزين فورا بالتهم المنسوبة إليهم، والالتزام بالسماح بالإفراج بكفالة عن المحتجزين ريثما يتم الانتهاء من الإجراءات القانونية في حالة عدم وجود أسباب قوية تحول دون الإفراج، كأن يكون الفرد مصدر خطر على المجتمع أو في حالة احتمال فراره، والالتزام بتهيئة الفرص الفعلية للمحتجز للمثول أمام محكمة للنظر في قانونية اعتقاله. أما في حالة المئات الذي اعتقلوا بعد الحادي عشر من سبتمبر/أيلول في الولايات المتحدة، فقد اختارت الحكومة تجاهل هذه الضمانات أو إضعافها سواء في سياستها أم في ممارستها الفعلية.

وقد سلكت الإدارة الأمريكية هذا المسلك لأن إحدى استراتيجياتها الداخلية الرئيسية بعد الحادي عشر من سبتمبر/أيلول تقضي باحتجاز أي شخص تظن أنه ربما يكون على صلة ما بأنشطة إرهابية ماضية أو مستقبلية، وحبسه ريثما يتم استكمال التحريات حول هذه الصلات المحتملة مهما استغرق ذلك من زمن. والمعروف أن القانون الجنائي الأمريكي يحظر الاعتقال لمجرد التحقيق، أي لتحديد ما إذا كان الفرد المعتقل يعرف أي شيء عن أنشطة إجرامية أو ما إذا كان ضالعا فيها. كما يحظر القانون الاعتقالات "الوقائية" والحبس الذي يقصد به الحيلولة دون وقوع جرائم في المستقبل. إذ يجب أن يكون الاعتقال قائما على وجود سبب محتمل للاعتقاد بأن المشتبه فيه قد ارتكب جرما أو حاول ارتكابه أو تآمر على ارتكابه. وهنا يكون القضاة، لا السلطة التنفيذية، هم أصحاب القول الفصل فيما إذا كان هذا السبب المحتمل قائما أم لا، استنادا إلى الأدلة المتوافرة أمامهم. إلا أن إدارة بوش تجنبت هذه الضوابط القضائية الموضوعة لتلافي الاعتقال الوقائي أو لغرض التحقيق عندما لجأت إلى القبض على أشخاص لمخالفتهم قوانين الهجرة واستخدمت أوامر إحضار "الشهود الرئيسيين". وفي الوقت نفسه تفادت إدارة بوش تمكين المعتقلين من الانتفاع بضمانات الحماية من الاعتقال التعسفي، ومنها المراجعة القضائية الجادة، أو قلصت من هذه الإمكانية.

وعقب الحادي عشر من سبتمبر/أيلول بدأت وزارة العدل الأمريكية في عملية استجواب عشوائية خضع لها الآلاف من غير المواطنين، معظمهم من الذكور المسلمين المولودين في بلدان أخرى غير الولايات المتحدة، الذين اعتقدت الإدارة أو ظنت أنهم قد يعرفون معلومات عن أنشطة إرهابية أو قد يكونون على صلة بها. وبعد ذلك ألقي القبض على ما لا يقل عن 1200 من غير المواطنين الأمريكيين وسجنوا، واتهم 752 شخصا منهم بمخالفة قوانين الهجرة.(6) وافتُرض أن هؤلاء المعتقلين ذوي "الأهمية الخاصة" المخالفين لقوانين الهجرة مذنبون لوجود صلات تربطهم بالإرهاب؛ فحبسوا شهورا حتى "أبرأتهم" الحكومة من هذه الصلات. وبحلول فبراير/شباط 2002، اعترفت وزارة العدل بأن معظم المعتقلين ذوي "الأهمية الخاصة" أصلا لم تعد لهم أهمية في سياق جهود مكافحة الإرهاب، ولم يصدر قرار اتهام ضد أي منهم بخصوص جرائم متعلقة بهجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول. وتم ترحيل معظمهم لمخالفتهم ضوابط التأشيرات.

وفي واقع الحال أن وزارة العدل استخدمت إجراءات إدارية في ظل قانون الهجرة كتفويض يخول لها اعتقال المشتبه في صلتهم بالإرهاب واستجوابهم بدون منحهم الحقوق والضمانات التي يكفلها النظام الجنائي في الولايات المتحدة. وتعتبر الضمانات المكفولة للمعتقلين بشأن مخالفة قوانين الهجرة قليلة جدا بالمقارنة بالمشتبه فيهم جنائيا، وقد عملت إدارة بوش على إضعاف الضمانات الموجودة في هذا الصدد. ولذلك وثقت منظمة هيومن رايتس ووتش وغيرها من المنظمات العديد من نماذج استهانة الإدارة بحقوق هؤلاء المعتقلين ذوي الأهمية الخاصة.(7) وفي يونيو/حزيران 2003، أصدر مكتب المفتش العام بوزارة العدل تقريرا شاملا عن معاملة معتقلي الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، أكد على وجود نمط من الانتهاكات والتأخير في حالة "المعتقلين الذين حرموا من الكفالة المالية ومن فرصة مغادرة البلاد... فأدى ذلك إلى استمرار احتجاز العديد من المعتقلين في ظروف سجن قاسية".(8)

فعلى سبيل المثال، ليس للمعتقلين لمخالفتهم قوانين الهجرة الحق في تعيين محام لهم من قبل المحكمة على العكس من المشتبه فيهم جنائيا، على الرغم من أن لهؤلاء المعتقلين الحق في طلب توكيل محام خاص على نفقتهم. ولكن في حالة معتقلي الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، وضع المسؤولون الحكوميون عراقيل عديدة في طريق توكيل المحامين،(9) فلم يخطر المسؤولون المعتقلين بحقهم في توكيل محام في بعض الحالات، أو ثنوهم عن ممارسة هذا الحق في حالات أخرى. ولم تخطر إدارة الهجرة والجنسية، التابعة لوزارة العدل،(10) المحامين بالمكان المحبوس فيه موكلوهم أو بميعاد الجلسات. وسمح للمعتقلين في بعض المنشآت بمكالمة تليفونية واحدة فقط أسبوعيا، حتى ولو كان الغرض منها البحث عن محام أو التحدث معه، وفي حالة عدم إتمام المكالمة كانت تحسب على الطالب المرة الأسبوعية المسموح بها له. وهكذا نظرا لعدم إمكانية الاتصال الفوري بالمحامين لم يتمكن هؤلاء المعتقلون ذوو "الأهمية الخاصة" من الاعتراض على ما تعرضوا له من مخالفات لقوانين الهجرة، مثل احتجازهم لمدة أسابيع بدون اتهام ( فقد احتجز بعضهم لمدد تصل إلى أشهر قبل توجيه التهمة إليهم). ولم تكشف الحكومة مطلقا عن الصلات المزعومة بالإرهاب التي دعت إلى إلقاء القبض عليهم، الأمر الذي جعلهم غير قادرين على إثبات براءتهم. كما استغلت الحكومة عدم وجود المحامين لإجراء استجوابات تستخدم عادة في التعامل مع الأمور الجنائية والأمور المتعلقة بالهجرة (ويلاحظ أن القانون الجنائي ينص على أن للمشتبه فيهم الحق في حضور محام عنهم في أثناء التحقيق معهم في أثناء الحبس، بما في ذلك الحق في توكيل محام عنهم بالمجان في حالة الضرورة).

وفي معظم الجلسات الخاصة بالهجرة ومخالفة غير المواطنين قواعد الهجرة والتأشيرات تكون مدة الاحتجاز قصيرة، فتعقد لهم جلسة محاكمة بكفالة سريعة نسبيا بعد توجيه الاتهام إليهم، وإذا لم يكن هناك سبب يدعو للاعتقاد بأن المعتقل يمثل خطرا على المجتمع أو أنه سيلوذ بالفرار، فيجب على قضاة الهجرة السماح بالإفراج عنه بكفالة. ولكن في حالة المعتقلين ذوي "الأهمية الخاصة" اتبعت وزارة العدل عدة سياسات وممارسات لضمان حرمانهم من الإفراج إلى أن يتم إبراؤهم من وجود صلات تربطهم بالإرهاب. فعلى سبيل المثال، لا يستطيع القضاة المختصون بإجراءات الهجرة والجنسية القيام على نحو تلقائي بمراجعة ما إذا كان هناك سبب محتمل للاعتقال، لأن الجلسات لا يتحدد ميعادها إلا بعد توجيه الاتهام. ونظرا لتأخر الحكومة في توجيه الاتهام أسابيع، وأحيانا شهورا في بعض الحالات، فقد حدث تأخر شديد في واقع الحال في المراجعة القضائية للاعتقال. وفضلا عن ذلك، فقد حثت الحكومة قضاة الهجرة على فرض كفالات باهظة بدرجة غير معقولة بحيث يستحيل على المعتقل دفعها، أو حثتهم على حرمان المعتقل من الكفالة نهائيا، بدعوى أن المعتقل يجب أن يظل في الحبس حتى تتمكن الحكومة من استبعاد احتمال صلته بهجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول أو علمه بها.

كما وضعت إدارة الهجرة والجنسية قاعدة جديدة تسمح لها بإبقاء المعتقل محبوسا إذا كانت كفالته الأولية أكثر من عشرة آلاف دولار، حتى ولو أمر قاض من قضاة الهجرة بالإفراج عنه. ولما كانت إدارة الهجرة والجنسية هي التي تحدد مقدار الكفالة الأولية، فقد أعطت هذه القاعدة لوزارة العدل أداة لضمان إبقاء المعتقلين في الحبس. وبالإضافة إلى ذلك، كانت هناك بعض الحالات التي رفضت فيها وزارة العدل الإفراج عن معتقلين من ذوي الأهمية الخاصة حتى لو أمر قاض بالإفراج عنهم لأن المعتقل لم يكن قد "أبرئ" بعد من احتمال وجود صلات تربطه بالإرهاب. بل إن إدارة الهجرة والجنسية ظلت تحتجز بعض المعتقلين حتى بعد صدور الأمر بترحيلهم بسبب عدم "إبرائهم"، على الرغم من أن إدارة الهجرة والجنسية عليها إبعاد غير المواطنين على وجه السرعة، وعلى أي حال في غضون 90 يوما من صدور أمر الترحيل حسبما تقضي اللوائح المعمول بها. وموجز القول إن إجراءات الهجرة التي خضع لها المعتقلون ذوو الأهمية الخاصة، سواء من خلال هذه الآليات أو غيرها، تجُبّ في واقع الأمر مبدأ افتراض البراءة - فقد ظل المعتقلون من غير المواطنين بسبب مخالفة قانون الهجرة في السجن حتى انتهت الحكومة إلى أنهم ليست لهم صلة بالأنشطة الإرهابية الإجرامية. ونتيجة لذلك، ظل المعتقلون ذوو الأهمية الخاصة محتجزين لمدة متوسطها 80 يوما، وفي بعد الحالات بلغت هذه المدة ثمانية أشهر، وهم ينتظرون أن يبرئهم مكتب التحقيقات الفيدرالية من وجود صلة تربطهم بالإرهاب.
وقد طال التأخير الشديد غير المواطنين الذين قبض عليهم بالصدفة مكتب التحقيقات الفيدرالية أو إدارة الهجرة والجنسية إلى جانب أولئك الذين كان لدى الحكومة فعلا سبب للاعتقاد بأنهم على صلة بالإرهاب. فما أن يوصف شخص بأنه ذو "أهمية خاصة" حتى لا نجد أي إجراءات متوافرة للإسراع في التعامل مع من لا ينطبق عليهم هذا الوصف. وكما أشار مكتب المفتش العام، فإن التحقيقات المطولة "لها عواقب هائلة"؛ لأن المعتقلين "يقاسون" عناء السجن وهم ينتظرون إبراء أسمائهم.(11)

وعلى الرغم من النقد اللاذع الذي وجهه المفتش العام لأسلوب الحكومة في معاملة المعتقلين، فلم تتراجع وزارة العدل، وأصدرت بيانا علنيا قالت فيه "إنها لا تقدم أي اعتذار عن تلمس كل السبل القانونية الممكنة لحماية الشعب الأمريكي من التعرض للمزيد من الهجمات الإرهابية... فالنتيجة قد تكون مسألة حياة أو موت".(12) ومنذ أكتوبر/تشرين الأول 2003، لم تعتمد السلطة التنفيذية إلا توصيتين من توصيات المفتش العام الإحدى والعشرين المعدة للحيلولة دون تكرر المشاكل المسجلة.

فوق القانون:
السلطة التنفيذية في الولايات المتحدة بعد الحادي عشر من سبتمبر/أيلول

القبض على المعتقلين ذوي الأهمية الخاصة ومحاكمتهم سرا


لا يترك التاريخ أدنى شك في أن الحكومة عندما تحرم الناس من حريتهم سرا، فإن حقوق الإنسان والعدالة تصبح عرضة للتهديد. ومن المتعارف عليه أن القبض على الأشخاص في الولايات المتحدة لمخالفتهم قوانين الهجرة يتم علنا، إلا أن الأشخاص الألف والمائتين الذي أفيد أنهم ألقي القبض عليهم في إطار تحقيقات ما بعد الحادي عشر من سبتمبر/أيلول في الولايات المتحدة، منهم ألف تقريبا اعتقلوا سرا.(13) وقد أعلنت الحكومة عن أسماء حوالي مائة اعتقلوا بتهم جنائية، لكنها رفضت التصريح بأسماء المحتجزين بتهم مخالفة قوانين الهجرة، أو التصريح بمكان اعتقالهم أو بأسماء محاميهم أو بغير ذلك من المعلومات الهامة المتعلقة بهم. ولا زالت حتى الآن ترفض التصريح بأسماء الرجال الذين تم ترحيلهم منذ وقت طويل.

وجدير بالذكر أن السرية العامة التي تكتنف الاعتقالات لها تأثير سلبي بالفعل على قدرة المعتقلين على الدفاع عن أنفسهم. إذ إنها تجعل من الصعب على أفراد أسرهم ومحاميهم التوصل إلى مكان المعتقلين - الذين كثيرا ما ينقلون من مكان إلى آخر - وتمنع منظمات الخدمات القانونية العامة من الاتصال بالمعتقلين الذين قد يحتاجون إلى توكيل محام عنهم، وتمنع منظمات مثل منظمة هيومن رايتس ووتش من الاتصال بالمعتقلين مباشرة ومن التحدث معهم عن المعاملة التي يلقونها أثناء القبض عليهم واحتجازهم.

وفي 29 أكتوبر/تشرين الأول 2001 طلبت منظمة هيومن رايتس ووتش وبعض المنظمات الأخرى الاطلاع على أسماء المعتقلين، وأسماء محاميهم، ومكان احتجازهم، وفقا لقانون حرية المعلومات في الولايات المتحدة - وهو تشريع يلزم الحكومة بالإفصاح عن المعلومات، فيما عدا حالات معينة محددة تحديدا دقيقا. لكن وزارة العدل رفضت هذا الطلب، وعندما لجأت منظمة هيومن رايتس ووتش والمنظمات الأخرى للقضاء للطعن في رفض الحكومة، أصرت الحكومة على أن الكشف عن الأسماء يمثل تهديدا للأمن القومي، وتكهنت بالسيناريوهات المحتملة حول سيل الأضرار الذي قد ينهمر إذا ما كشفت عن هذه الأسماء. فأكدت مثلا على أن الكشف عن الأسماء سيقدم للإرهابيين خريطة طريق تبين معالم الجهود الحكومية لمكافحة الإرهاب. وهذه فيما يبدو حجة معقولة في ظاهرها ولكنها باطلة، لأنه من المستبعد أن تعجز أي منظمة إرهابية متقدمة عن معرفة ما إذا كان أفرادها محبوسين لدى حكومة الولايات المتحدة، خاصة وأن المعتقلين يستطيعون الاتصال بمن يريدون في حرية.

وقد رفضت أحد المحاكم الفيدرالية المحلية حجج الحكومة التي تبرر بها السرية في أغسطس/آب 2002، وأمرت بالكشف عن هوية كل من اعتقل في إطار تحقيقات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول. ووصف القاضي عمليات القبض على الأشخاص سرا بأنها "غريبة على المجتمع الديمقراطي... ومتناقضة تناقضا شديدا مع ركائز القيم التي تميز المجتمعات الحرة المفتوحة كمجتمعنا".(14) إلا أن محكمة الاستئناف ألغت هذا الحكم في يونيو/حزيران 2003، حيث قال أحد القضاة بلغة انفعالية في قرار الاستئناف:

لقد اختار الكونغرس أن يفرض ضرورة المراجعة القضائية الجادة لكل طلبات الإعفاءات الحكومية (من قانون حرية المعلومات) ... وعلى الرغم من حرص المحكمة على مبدأ الفصل بين السلطات موضع النزاع في هذه القضية فإنها تنتهك هذا المبدأ بالتخلي أساسا عن مسؤوليتها عن تطبيق القانون كما وضعه الكونغرس.(15)
وفي أكتوبر/تشرين الأول 2003، طلبت منظمة هيومن رايتس ووتش و21 منظمة أخرى من المحكمة العليا الأمريكية إلغاء قرار الاستئناف وإلزام وزارة العدل بالكشف عن الأسماء.

وفي هذه الأثناء فرضت وزارة العدل السرية التامة على كل تفاصيل الوقائع التي دارت في 600 جلسة هجرة تتعلق بمعتقلين ذوي أهمية خاصة، إلى حد أن أقرب أقرباء المعتقلين منعوا من الحضور. بل إن سياسة السرية امتد إلى مسألة الإشعار بعقد الجلسة أصلا، فقد تلقت المحاكم تعليمات بعدم الإدلاء بأي معلومات عما إذا كانت قضية بعينها موضوعة على قائمة انتظار الدعاوى القضائية أم أنها قد تحدد ميعاد للنظر فيها.(16) ولم تقدم وزارة العدل أي سبب وجيه لاتباع سياسة الجلسات المغلقة، وخصوصا أن إجراءات الترحيل عادة ما تقتصر على التحقيق البسيط حول ما إذا كان الفرد موجودا بصورة شرعية أو لديه أي سبب قانوني للبقاء في الولايات المتحدة، وهو تحقيق لا يستدعي الإدلاء بأي معلومات سرية. وفضلا عن ذلك، فإن وزارة العدل إذا أرادت تقديم معلومات سرية في أثناء إحدى الجلسات، فإن إغلاق مراحل الجلسة التي تشهد طرح هذه المعلومات فقط كاف لحماية الأمن القومي.

وقد رفعت الصحف دعوتين قضائيتين للطعن في سرية الجلسات، بزعم أن سياسة الإغلاق الشامل تمثل انتهاكا لحق الشعب الدستوري في معرفة "ما تنويه الحكومة". ففي دعوى نظرت في أغسطس/آب 2002، رفضت إحدى محاكم الاستئناف هذه السياسة، وأوضحت بلا مواربة التهديد الناجم عن إصرار الحكومة على السرية، قائلة:
إن السلطة التنفيذية تسعى إلى تجريد الناس من حياتهم بعيدا عن أعين العامة وخلف الأبواب المغلقة. وإن الديمقراطيات لتموت خلف الأبواب المغلقة. والمعروف أن التعديل الأول من خلال الصحافة الحرة يحمي حق الشعب في التأكد من أن الحكومة تتوخى النزاهة والشرعية والدقة في إجراءات الترحيل. أما عندما تبدأ الحكومة في إغلاق الأبواب، فإنها تسيطر سيطرة انتقائية على المعلومات التي يحق للشعب قانونا الاطلاع عليها.(17)
وقد رفضت الحكومة الطعن في هذا الحكم أمام المحكمة العليا.

وفي الدعوى الثانية، أيدت محكمة استئناف فيدرالية مسألة إغلاق الجلسات، حيث رأت أن ضرورات الأمن القومي أهم من الحق في عقد الجلسات الخاصة بالترحيل. ورفضت المحكمة العليا رد هذا الحكم في مايو/أيار 2003. ومن المهم هنا أن نلاحظ أن الحكومة الأمريكية في تقريرها الذي قدمته ردا على جلسة المحكمة العليا تنصلت من سياسة الإغلاق الشامل، قائلة إنها لم تعد تعقد أي جلسات سرية، وإن سياساتها المتعلقة بالجلسات السرية تخضع للمراجعة و"من المرجح" أن تتغير.

فوق القانون:
السلطة التنفيذية في الولايات المتحدة بعد الحادي عشر من سبتمبر/أيلول

أوامر اعتقال الشهود الرئيسيين


إلى جانب التهم المتعلقة بالهجرة، استخدمت إدارة بوش ما يعرف بأوامر إحضار الشهود الرئيسيين لإخضاع الأفراد الذين لهم علاقة بالتحقيقات الخاصة بالإرهاب "للاعتقال الوقائي"، ولتقليص الفحص القضائي لهذه الاعتقالات إلى أدنى حد ممكن. والمعروف أن القانون الأمريكي يسمح باعتقال الشاهد إذا كانت شهادته مهمة في قضية جنائية، وإذا كان من المحتمل أن يلوذ بالفرار قبل الإدلاء بشهادته. وقد أفادت وزارة العدل أن الحكومة استخدمت قانون الشهود الرئيسيين لضمان اعتقال عدد يقل عن 50 شخصا فيما يتعلق بتحقيقات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول (لكن الوزارة رفضت الإعلان عن الرقم الدقيق).(18)

وقد استصدرت حكومة الولايات المتحدة أوامر قضائية بالقبض على الشهود الرئيسيين محتجة بأن لديهم معلومات يمكن أن يقدموها إلى هيئة المحلفين الذين يحققون في جرائم الحادي عشر من سبتمبر/أيلول. وتوحي المعلومات المتوافرة عن هذه القضايا بأن الحكومة أساءت استخدام أوامر إحضار الشهود الرئيسيين لضمان اعتقال الأشخاص الذين تعتقد أنهم قد يعرفون شيئا عن الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، والذين لا يمكن احتجازهم بناء على تهم متعلقة بقوانين الهجرة، والذين لا يوجد ضدهم دليل كاف لتوجيه تهم جنائية إليهم. وفي الكثير من الحالات، لم يمثل الشهود مطلقا أمام هيئة المحلفين، لكنهم احتجزوا لعدة أسابيع أو شهور في ظروف سجن عقابية، بينما قامت الحكومة باستجوابهم ومواصلة تحقيقاتها.(19) فعلى سبيل المثال، احتجز إياد مصطفى الرباح بوصفه شاهدا رئيسيا أكثر من شهرين بعد أن ذهب من تلقاء نفسه إلى مكتب التحقيقات الفيدرالي للإبلاغ عن لقاء قصير جرى بينه وبين أربعة من الخاطفين المزعومين، وذلك في مسجده في مارس/آذار 2001. وأثناء احتجازه، تعرض الرباح بصفة روتينية للتفتيش الشخصي والداخلي مع تجريده من ثيابه، ووضع في الحجز المنفرد مع إبقاء النور مضاء في زنزانته، إلا أنه لم يمثل أمام المحلفين للإدلاء بشهادته على الإطلاق.

وقد أفادت صحيفة "واشنطون بوست" في نوفمبر/تشرين الثاني 2002 أن 44 رجلا ذكرت أنهم معتقلون بوصفهم شهودا رئيسيين منذ الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001، لم يُستدع نصفهم تقريبا للشهادة أمام المحلفين على الإطلاق. وفي بضع حالات على أقل تقدير، اتهم الرجال الذين احتجزوا بوصفهم شهودا رئيسيين في آخر الأمر بجرائم مختلفة، الأمر الذي يدعم الشك في أن الحكومة استخدمت وصف "الشهود الرئيسيين" ذريعة لتعطي نفسها الوقت الكافي لجمع الأدلة اللازمة لتوجيه التهم الجنائية. وظل عدد من الشهود في السجن شهورا، وتم ترحيل البعض الآخر في آخر الأمر بناء على تهم جنائية وأخرى متصلة بقوانين الهجرة ولا علاقة لها بالحادي عشر من سبتمبر/أيلول، وهي تهم تدعمها الأدلة التي جمعتها الحكومة أثناء احتجازهم بوصفهم شهودا رئيسيين.
ومن المفروض أن أوامر اعتقال الشهود الرئيسيين تضمن الإدلاء بالشهادة في الدعاوى الجنائية في الحالات التي لا يمكن فيها استدعاء الشاهد بوسيلة أخرى للشهادة، وحيثما يكون هناك خطر كبير في أن يلوذ بالفرار بدلا من المثول للشهادة. وفي قضايا الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، أخذت بعض المحاكم على الأقل دون تمحيص دقيق بزعم الحكومة أنها استوفت هذه المتطلبات. وبناء على إصرار الحكومة، وافقت المحاكم أيضا على تقييد فرصة محامي المعتقلين في الاطلاع على الأدلة التي قدمتها الحكومة، مما جعل من الصعب عليهم - إن لم يكن من المستحيل - الاحتجاج على ضرورة الاحتجاز. ففي بعض الحالات على سبيل المثال لم يتمكن المحامون من مراجعة الأدلة التي تدعم طلب إحضار الشاهد إلا في المحكمة وعلى عجل، كما أنهم لم يتمكنوا من مراجعة المعلومات بدقة مع موكليهم قبل بدء الجلسة. وبالإضافة إلى ذلك، ذهبت الحكومة في بعض الحالات على الأقل إلى القول بأن هناك احتمالا لفرار الشهود، ومعظمهم من الرجال العرب والمسلمين، لا لشيء سوى أنهم ليسوا مواطنين أمريكيين (حتى ولو كان بعضهم مقيما في الولايات المتحدة إقامة دائمة)، ولأن أسرهم موجودة بالخارج. ولم تتجاوز حجة الحكومة الافتراض العجيب بأن ملايين الأجانب الذين يعيشون في الولايات المتحدة ولهم عائلات بالخارج لا يمكن الوثوق في التزامهم بالقوانين الأمريكية والمثول للشهادة في حال استدعائهم.

وقد أودعت إدارة بوش الشهود الرئيسيين السجن لمدد طويلة، بلغت شهورا في بعض الأحوال، وأخضعتهم لنفس ظروف الحجز التي يرزح تحتها المتهمون أو المجرمون المدانون. بل إن بعضهم وضع في الحجز الانفرادي، وتعرض لتدابير أمنية يقتصر تطبيقها عادة على الأشخاص شديدي الخطورة.

ودفعت وزارة العدل بضرورة سرية كافة المعلومات المتعلقة بالشهود الرئيسيين لأن "الكشف عن مثل هذه المعلومات المحددة يضر بالحرب على الإرهاب والتحقيق في هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، ولأن القانون الأمريكي ينص على ضرورة سرية كافة المعلومات المتعلقة بجلسات هيئات المحلفين".(20) ورفضت الوزارة أن تحدد ما هي المعلومات التي يجب أن تظل سرية على وجه الدقة على أساس صلتها بجلسات هيئات المحلفين ومصالح الأمن القومي. وبدلا من ذلك، ظلت تخفي هوية الشهود، بل إنها رفضت أيضا الكشف عن عددهم الفعلي وحيثيات اعتقالهم وطول مدة الاعتقال ومكانه. والمعروف أن اعتقال الشهود الأبرياء في ظروف يكتنفها الغموض يثير مخاوف خطيرة؛ فكما ذكرت إحدى المحاكم مؤخرا "إن حجب هذه المعلومات قد يؤدي إلى خلق الاعتقاد عند العامة بأن الحكومة ألقت القبض على فرد من أفراد المجتمع وسجنته سرا دون توجيه اتهام إليه".(21)

فوق القانون:
السلطة التنفيذية في الولايات المتحدة بعد الحادي عشر من سبتمبر/أيلول

ممارسة الرئيس للسلطات المخولة له في زمن الحرب


منذ الحادي عشر من سبتمبر/أيلول وإدارة بوش تقول إن سلطة الرئيس بوصفه قائدا عاما في وقت الحرب تخول له الحق في احتجاز أي شخص يصنفه على أنه من "مقاتلي العدو" في سياق "الحرب على الإرهاب"، وذلك إلى أجل غير مسمى وبدون توجيه أي تهمة إليه. وعلى هذا الأساس تحتجز الحكومة حاليا ثلاثة رجال في ثكنات عسكرية في الولايات المتحدة، بمعزل عن العالم الخارجي، وحوالي 660 من غير المواطنين في خليج غوانتانمو في كوبا. وفيما يتعلق بالثلاثة المحتجزين في الولايات المتحدة، فإن الإدارة تصر على القول بأن المحاكم الأمريكية يجب أن تمتثل لقرارها باحتجازهم بوصفهم من "مقاتلي العدو". أما فيما يتعلق بالمعتقلين في غوانتانمو، فتذهب الإدارة إلى القول بعدم اختصاص المحاكم الأمريكية العادية بإعادة النظر في اعتقالهم. كما سمحت الإدارة بإنشاء محاكم عسكرية لمحاكمة المواطنين غير الأمريكيين الذين يزعم أنهم مسؤولون عن أعمال إرهابية. وبناء على اقتراح الإدارة تتجنب هذه المحاكم المتطلبات الضرورية لنزاهة المحاكمة، مثل تهيئة الفرصة الكاملة لتقديم الدفاع والحق في المراجعة القضائية المستقلة. وهكذا تكشف تصرفات الإدارة الأمريكية عن اعتقاد خطير بأن السلطة التنفيذية في حربها على الإرهاب هي سلطة فوق القانون.

 

فوق القانون:
السلطة التنفيذية في الولايات المتحدة بعد الحادي عشر من سبتمبر/أيلول

مقاتلو العدو المحتجزون في الولايات المتحدة


اتخذ الرئيس بوش سلطاته العسكرية بوصفه قائدا عاما في زمن الحرب مبرراً للالتفاف حول متطلبات القانون الجنائي الأمريكي. إذ تقول الحكومة إن الأشخاص الذين تزعم أنهم من المشتبه في ضلوعهم في أعمال إرهابية لا داعي لمعاملتهم كمجرمين لأنهم أعداء في سياق الحرب على الإرهاب. وخلال الشهور والسنين التي مرت منذ اعتقال هؤلاء المشتبه فيهم في الولايات المتحدة، لم تحاول السلطة التنفيذية تقديمهم إلى المحاكمة؛ بل إنها زعمت أن لها سلطة إبقائهم في الحبس لأجل غير مسمى، قد يصل إلى السجن مدى الحياة، في ثكنات عسكرية بناء على قرار الرئيس بأنهم من مقاتلي العدو. وعلى الرغم من عدم وجود أي حرب دائرة بالمعنى التقليدي في الولايات المتحدة، وأن النظام القضائي يباشر كل مهامه بالكامل، فإن إدارة بوش تزعم أن هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول حولت الولايات المتحدة كلها إلى ساحة حرب يمكن أن تمارس فيها صلاحياتها العسكرية في اعتقال مقاتلي العدو.

وقد أطلقت الحكومة الأمريكية حتى اليوم وصف مقاتلي العدو في الولايات المتحدة على مواطنيْن أمريكييْن وآخر غير أمريكي مقيم في الولايات المتحدة بتأشيرة دراسية. وزُعم أن أحد المواطنيْن الأمريكييْن، واسمه ياسر عصام حمدي، أُسر أثناء الحرب في أفغانستان ونقل إلى الولايات المتحدة بعد أن عرف الجيش أنه مواطن أمريكي. أما الاثنان الآخران، وهما خوزيه باديّا وهو مواطن أمريكي، وعلي صالح كحلة المري، وهو طالب قطري، فقد قبض عليهما في الولايات المتحدة، حيث قبض على باديّا أثناء مغادرته طائرة في مدينة شيكاغو بعد عودته من رحلة بالخارج، أما المري فقد قبض عليه بينما كان نائما في بيته.

وزعمت إدارة بوش في بادئ الأمر أن مقاتلي الأعداء هؤلاء ليس لهم الحق في الطعن في اعتقالهم أمام المحكمة، على الرغم من أنهم مواطنون أمريكيون و/أو يقيمون في الولايات المتحدة. ثم أقرت وزارة العدل في آخر الأمر بحقهم الدستوري في المثول أمام القضاء للنظر في مشروعة اعتقالهم، لكنها ظلت تسعى جاهدة لحرمانهم من إمكانية التشاور مع المحامين للدفاع عن أنفسهم في جلسات المحاكمة، فضلاً عن حضورهم الجلسات، وأصرت على ضرورة تصديق المحاكم بدايةً على إعلانها أنهم من مقاتلي الأعداء الذين لا يحق لهم التمتع بضمانات الحماية التي يكفلها نظام القضاء الجنائي.

وفي حالة المواطن الأمريكي خوزيه باديّا،(22) فقد أيدت محكمة فيدرالية على مستوى المقاطعة في الرابع من ديسمبر/كانون الأول 2002 سلطة الحكومة في الأمر باحتجاز المواطنين دون محاكمة بوصفهم من مقاتلي الأعداء. كما قبلت المحكمة بمعيار وجود "أدلة ما" الذي قدمته الحكومة، وذلك في سياق مراجعة المحكمة لما انتهى إليه الرئيس من أن باديّا كان "مشتركا في مهمة ضد الولايات المتحدة نيابة عن عدو تخوض الولايات المتحدة حربا معه". لكن محامي باديّا نجحوا في إقناع المحكمة بأن حقه في المثول أمام المحكمة للنظر في قانونية اعتقاله يتضمن الحق في التشاور إلى محام. واستأنفت الحكومة هذا الحكم، ولا تزال القضية منظورة أمام الدائرة الثانية لمحكمة الاستئناف.
أما علي صالح كحلة المري، وهو مواطن قطري دخل الولايات المتحدة بتأشيرة دراسية، فقد ألقي القبض عليه ووجهت هيئة محلفين فيدرالية الاتهام إليه بسبب ما زعم عن كذبه على المحققين، والاحتيال في استخدام البطاقات الائتمانية وغير ذلك من صور الاحتيال.(23) ولكن بعد صدور قرار الاتهام قررت السلطة التنفيذية أن تعيد تصنيفه من جديد على أنه من مقاتلي الأعداء، ونقلته إلى منشأة تابعة للقوات البحرية في ولاية ساوث كارولينا في 23 يونيو/حزيران 2003. وأوضحت الحكومة أنها قررت أن المري من مقاتلي الأعداء بناء على معلومات استقتها من استجواب شخص متهم بأنه من مسؤولي تنظيم القاعدة.(24) وقد تعطلت الطعون القضائية في هذا الاعتقال حتى الآن بسبب النزاع بين محامي المري والحكومة حول تعيين المحكمة المختصة بالنظر في طلبه إعادة النظر في قانونية اعتقاله.(25)

وبعد مرور عامين على سقوط حكومة طالبان لا يزال ياسر عصام حمدي، وهو مواطن أمريكي، محتجزا في السجن الحربي بدون أي تهمة. وقد أفادت الحكومة الأمريكية أنه كان "تابعا" لوحدة من وحدات طالبان في الحرب الأفغانية، وكانت هذه الوحدة قد استسلمت لقوات التحالف الشمالي الأفغانية في نوفمبر/تشرين الثاني 2001، ثم تم تسليم حمدي إلى الجيش الأمريكي بعد ذلك.(26) وعند النظر في قانونية اعتقاله، أشارت محكمة فيدرالية على مستوى المقاطعة إلى أن"هذه القضية على ما يبدو هي الأولى من نوعها في تاريخ القضاء الأمريكي، حيث يخضع مواطن أمريكي للاحتجاز بمعزل عن العالم الخارجي، ويتعرض للاعتقال إلى أجل غير مسمى في قلب الأراضي الأمريكية بدون توجيه أي تهمة إليه، وبدون أي نتائج تخلص إليها محكمة عسكرية، وبدون السماح له بالاستعانة بمحامٍ".(27) إلا أن محكمة المقاطعة ومحكمة أخرى من محاكم الاستئناف ارتأتا أن الرئيس الأمريكي يتمتع بسلطة دستورية تخول له إطلاق وصف مقاتلي العدو على أي شخص حسبما يتراءى له. وفضلا عن ذلك، فقد قضت محكمة المقاطعة بأن حمدي من حقه التشاور مع محاميه، إلا أن محكمة الاستئناف ألغت هذا الحكم.(28)

وتأييدا لزعمها بأن وصف مقاتلي العدو ينطبق فعلا على حمدي، فقد قدمت الحكومة إعلانا فضفاضا من تسع فقرات أعده مسؤول بوزارة الدفاع الأمريكية يُدعى مايكل موبز. وقالت الحكومة إن "إعلان موبز" يمثل "أدلة ما" على أن حمدي مقاتل من مقاتلي العدو، وإن وجود "أدلة ما" يعد كافيا. وبعد عدة جلسات(29) قبلت إحدى محاكم الاستئناف بوصف مقاتل العدو لأنها لم "تقتنع اقتناعا تاما" بأن اعتقال حمدي بوصفه من مقاتلي العدو "يتعارض مع الدستور أو مع قوانين الكونغرس".(30)

وعلى الرغم من أن محكمة الاستئناف قالت إن الحقائق المتصلة باشتراك حمدي في القتال في أفغانستان لا جدال فيها، فإنها لم توضح كيف يتسنى لحمدي أن يطعن في هذه الحقائق إن لم يكن قد اطلع أبدا على الإعلان، ولم يكن قد سمح له بالتشاور مع محاميه، ولم يتمكن من الإدلاء بأقواله أمام المحكمة مباشرة. وفي الأول من أكتوبر/تشرين الأول 2003 طلب محاموه مراجعة قضيته أمام المحكمة العليا. ولكن قبل أن تقرر المحكمة العليا ما إذا كانت ستقبل النظر في القضية غيّر مسؤولو وزارة الدفاع في الثالث من ديسمبر/كانون الأول موقفهم مرة أخرى، قائلين إن حمدي سيسمح له بمقابلة محام لأول مرة منذ عامين. إلا أن موقف الحكومة كان يتمثل في أن حمدي سيسمح له بمقابلة محام "من باب حسن التقدير والسياسة العسكرية، غير أن هذه المقابلة لا يكفلها القانون المحلي أو الدولي، ولا يجب اعتبارها سابقة". (31) وإذا كان السماح لحمدي بمقابلة محام قد حل مشكلة من المشاكل المطروحة أمام المحكمة العليا الأمريكية، فما زالت هناك قضايا أخرى عديدة دون حل.
وإذا كانت المحكمة العليا الأمريكية تؤيد معيار وجود "أدلة ما"، فإن ذلك من شأنه أن يقوض بصورة خطيرة حق المعتقل في المثول أمام القضاء لإعادة النظر في قانونية اعتقاله. ففي قضية باديّا، على سبيل المثال، يشير إعلان موبز الحكومي إلى تقارير للاستخبارات مستقاة من مصادر سرية دون تحديد الأدلة المدعمة لها. كما أن الإعلان نفسه يعترف بوجود ما يدعو للقلق بشأن درجة الثقة في مصادر المعلومات.

وتؤكد الحكومة الأمريكية أن طريقة تعاملها مع باديّا وحمدي والمري تجيزها قوانين الحرب (المعروفة أيضا بالقانون الإنساني الدولي)؛ ففي أثناء الصراع الدولي المسلح تسمح قوانين الحرب باعتقال جنود الأعداء الذين يقعون في الأسر حتى انتهاء الحرب، دون توجيه تهمة إليهم أو عقد محاكمة لهم بالضرورة. لكن الحكومة الأمريكية تسعى إلى تحويل العالم بأسره إلى ساحة قتال في سياق "الحرب على الإرهاب"، وهي حرب غامضة غير واضحة المعالم، وأغلب الظن أنها لن تنتهي أبداً. وبهذا المنطق يمكن سجن أي شخص يُعتقد أنه يمت بصلة ما للإرهابيين إلى أجل غير مسمى بدون تقديم أي دليل على ذلك، وبدون إتاحة أي فرصة للمعتقل للدفع ببراءته. ولم يكن القصد من وراء قوانين الحرب مطلقاً تقويض أركان الحقوق الأساسية للأشخاص، سواء أكانوا مقاتلين أم مدنيين، إلا أن ذلك بعينه هو ما يترتب في واقع الحال على هذا التأويل الجديد للقانون من جانب الإدارة الأمريكية.

 

فوق القانون:
السلطة التنفيذية في الولايات المتحدة بعد الحادي عشر من سبتمبر/أيلول

المعتقلون في غوانتانمو و المحاكم العسكرية


تحتجز الحكومة الأمريكية منذ عامين أكثر من 700 من الأفراد في قاعدة بحرية أمريكية في خليج غوانتانمو في كوبا، وكان معظمهم قد وقع في الأسر في أثناء الحرب في أفغانستان أو بعدها مباشرة. وتؤكد الولايات المتحدة أن لها صلاحية ممارسة السلطة المطلقة على مصير الأفراد المحتجزين في منطقة تسعى إدارة بوش إلى تحويلها إلى أرض مشاع غير مملوكة لأحد من الناحية القانونية.

وكان هؤلاء المعتقلون قد احتجزوا في بادئ الأمر في أقفاص مؤقتة، ثم نقلوا إلى زنزانات في مبان سابقة التجهيز، وهم الآن محتجزون في شبه عزلة عن العالم الخارجي. ففيما عدا مسؤولي الحكومة الأمريكية ومسؤولي السفارات والمسؤولين الأمنيين القادمين من بلدان هؤلاء المعتقلين، لم يسمح إلا لمنظمة الصليب الأحمر الدولية بزيارتهم، إلا أن مناهج العمل السرية التي تتبعها المنظمة تمنعها من إصدار تقارير علنية عن ظروف الاعتقال. وعلى الرغم من ذلك، فقد ذكرت المنظمة في أكتوبر/تشرين الأول أنها لاحظت وجود "تدهور مقلق في الصحة النفسية لعدد كبير" من المعتقلين يعزى إلى القلق بشأن مصيرهم في المستقبل. فقد حاول 32 معتقلا الانتحار،(32) ولم تسمح إدارة بوش لأقارب المعتقلين أو محاميهم أو منظمات حقوق الإنسان، ومن ضمنها هيومن رايتس ووتش، بزيارة القاعدة، فضلاً عن المعتقلين أنفسهم. وإذا كان مراسلو وسائل الإعلام قد سمح لهم بزيارة القاعدة للحديث مع المسؤولين، فلم يسمح لهم بالحديث مع المعتقلين، وظلوا على مبعدة منهم بحيث لم يروا إلا طيفاً ظلياً لهم تلقيها أشعة الشمس على جدران الزنزانات. ولم يتمكن المعتقلون من الاتصال بعائلاتهم إلا في أحوال متفرقة من خلال الخطابات التي تخضع للرقابة.
وتزعم إدارة بوش أن كل من أرسلوا إلى غوانتانمو هم من عتاة المقاتلين والإرهابيين، أي "أسوأهم جميعاً"؛ إلا أن بعض المسؤولين الأمريكيين قالوا للصحافة إن بعض من أرسلوا إلى غوانتانمو على الأقل كانوا على صلة واهية بالحرب الأمريكية في أفغانستان أو على الإرهاب، أو لا صلة لهم بها مطلقا. ويتضمن المعتقلون في غوانتانمو رجالا طاعنين في السن وأحداثا، منهم ثلاثة أطفال بين الثالثة عشرة والخامسة عشرة من العمر محتجزون في منشآت منفصلة. وتعترف الحكومة الأمريكية بأن بعض المعتقلين في القاعدة تتراوح أعمارهم بين السادسة عشرة والسابعة عشرة وهم محتجزون مع البالغين، دون تفسير لذلك، وترفض الكشف عن عددهم على وجه التحديد. وقد تم الإفراج عن حوالي 60 معتقلا لأن الولايات المتحدة قررت أنها لم تعد لها مصلحة في إبقائهم في الحجز.
وحسب ما تقوله إدارة بوش، فإن المعتقلين في غوانتانمو ليس لهم الحق في المثول أمام القضاء لإعادة النظر في مشروعية اعتقالهم، ولا حتى أمام محكمة عسكرية. وتصر الإدارة على أن قوانين الحرب تخول لها سلطة مطلقة لمواصلة احتجاز المقاتلين ما دامت الحرب مستمرة، وتقول الإدارة إن "الحرب" المعنية هي الحرب على الإرهاب، لا الصراع الدولي المسلح في أفغانستان الذي انتهى منذ وقت طويل، والذي أسر خلاله معظم المعتقلين في غوانتانمو.(33)

وقد تجاهلت إدارة بوش اتفاقيات جنيف والممارسات العسكرية الأمريكية القائمة من وقت طويل، والتي تقضي بضرورة معاملة المقاتلين الأسرى كأسرى حرب ما لم تقرر "محكمة مختصة" خلاف ذلك. ولكن بدلا من الفصل في هذا الأمر على نحو فردي من خلال مثل هذه المحاكمات العسكرية حسب مقتضيات اتفاقيات جنيف، فقد عقدت إدارة بوش النية الشاملة على عدم السماح لأي شخص قبض عليه في أفغانستان بالتمتع بوضع أسير الحرب؛ ومن ثم فإن الولايات المتحدة تحتجز على نحو غير مقبول، وبلا تهمة أو محاكمة، جنود طالبان، ومدنيين سيئي الحظ أُلقي القبض عليهم عن طريق الخطأ، إلى جانب أشخاص يُشتبه في ضلوعهم في أعمال إرهابية، اعتُقلوا خارج أفغانستان ومن الواجب تقديمهم للمحاكمة أمام محاكم مدنية.

وفي إطار عزمها على أن تشق لنفسها في العالم موقعاً لا تصل إليه يد القانون، تجاهلت إدارة بوش مرارا الاحتجاجات الصادرة من حكومات المعتقلين والمؤسسات الحكومية، مثل لجنة الدول الأمريكية لحقوق الإنسان، والمقرر الخاص التابع للأمم المتحدة المعني باستقلال القضاة والمحامين، ومجموعة العمل التابعة للأمم المتحدة المعنية بالاعتقال التعسفي، ومفوض الأمم المتحدة لحقوق الإنسان. وبدون أن تقدم الحكومة الأمريكية حجة مفصلة توضح مشروعية إجراءاتها في ظل قوانين الحرب أو قانون حقوق الإنسان الدولي، اكتفت الحكومة بالإصرار على أن الأمن القومي يسمح لها بسجن المعتقلين في غوانتانمو إلى أجل غير مسمى بدون توجيه اتهام أو بدون مراجعة قضائية.

وقد تمكنت الحكومة الأمريكية حتى الآن من الحيلولة دون الإشراف القضائي على حالات الاعتقال في غوانتانمو. ففي اثنتين من الحالات اتفقت المحاكم الفيدرالية على مستوى المقاطعات ومحاكم الاستئناف مع وزارة العدل على أنها ليس من اختصاصها النظر في التماسات إعادة النظر في قانونية الاعتقال لأن المعتقلين محتجزون خارج الأراضي الخاضعة لسيادة الولايات المتحدة.(34) إلا أن الحكم بعدم اختصاص المحاكم يستند إلى اعتقاد قانوني خاطئ مؤداه أن غوانتانمو لا تزال خاضعة للسلطة القانونية الكوبية؛ فالولايات المتحدة لديها عقد دائم للانتفاع بالأراضي التي تحتلها في كوبا، يخولها السلطة والسيطرة التامة على القاعدة ما لم يتفق البلدان على إلغاء هذا التعاقد.

وفي ظل القانون الدولي تعتبر الدولة مسؤولة قانونا عن حقوق الإنسان الخاصة بالأشخاص الموجودين في كل الأراضي التي تمارس عليها "السيطرة الفعلية". والمعروف أن حماية الحقوق تتطلب تمكين كل الأشخاص الذين انتهكت حقوقهم من الحصول على التعويض والإنصاف الفعلي، بما في ذلك الاحتكام إلى سلطة مناسبة ومختصة تابعة للدولة؛(35) وهذا ما يزيد من القلق والمخاوف التي تثيرها جهود إدارة بوش للحيلولة دون المراجعة القضائية أمام المحاكم الأمريكية ومنع الصحافة والعامة من الرقابة؛ فلا يجوز أن تقيم أي حكومة سجنا تمارس على نزلائه سلطة مطلقة جامحة بلا ضوابط.

وفي الحادي عشر من نوفمبر/تشرين الثاني 2003، قررت المحكمة العليا مراجعة أحكام المحاكم الأدنى منها التي تقضي بعدم اختصاصها بنظر الالتماسات التي قدمها المعتقلون إليها لإعادة النظر في قانونية اعتقالهم. وكان عدد من جماعات أسرى الحرب الأمريكيين السابقين والدبلوماسيين والقضاة الفيدراليين وضباط الجيش والمنظمات غير الحكومية، بل وفريد كورماتسو وهو مواطن أمريكي ياباني الأصل احتُجز في الولايات المتحدة إبان الحرب العالمية الثانية، قد قدموا للمحكمة مذكرات تتضمن معلومات وآراء استرشادية، وذلك بصفتهم مشاورين وليسوا خصوماً في الدعوى. وإلى أن تصدر المحكمة حكمها في يونيو/حزيران أو يوليو/تموز 2004، فسيظل المعتقلون في وضع قانوني مبهم، لا يجدون محكمة يلتجئون إليها للطعن في مشروعية اعتقالهم.

لا غنى عن المحاكمات العادلة أمام محاكم محايدة ومستقلة لإقامة العدل، كما ينص على ذلك قانون حقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي. إلا أن الحكومة الأمريكية تخطط لمحاكمة بعض الأشخاص على الأقل من بين المتهمين بالتورط في الإرهاب أمام لجان عسكرية خاصة يُخشى أن تضرب بمعايير العدالة عرض الحائط.

وكان الرئيس بوش في نوفمبر/تشرين الثاني 2001 قد منح تفويضا لهذه اللجان لمحاكمة المشتبه في ضلوعهم في الإرهاب من المواطنين غير الأمريكيين، ومن المتوقع أن تراعي هذه اللجان ضمانات إجرائية معينة، مثل افتراض البراءة، وعقد جلسات علنية مفتوحة للعامة، والحق في توكيل محام للدفاع والحق في استجواب الشهود. إلا أن ضمانات استيفاء معايير العدالة والإنصاف في الإجراءات القضائية لن تكون ذات معنى إلا إذا كانت الإجراءات في مجملها تحمى الحقوق الأساسية للمتهم، وهنا نجد أن لوائح البنتاغون الخاصة باللجان العسكرية تكشف عن فشل ذريع في هذا الصدد.
ولعل أشد بواعث القلق في هذا الصدد هو عدم وجود أي مراجعة قضائية مستقلة لقرارات هذه اللجان، بما في ذلك أحكامها النهائية. فأي مراجعة تتم من خلال السلطة التنفيذية، الأمر الذي يعني أن إدارة بوش في واقع الحال تقوم بدور النيابة والقضاة والمحلفين، وربما الجلاد أيضا في حال تطبيق عقوبة الإعدام. ولا يوجد حق في الاستئناف أمام محكمة مدنية مستقلة ومحايدة، على العكس من الحق الذي يكفله نظام القضاء العسكري الأمريكي في الاستئناف ضد حكم المحاكم العسكرية أمام محكمة استئناف مدنية، ثم أمام المحكمة العليا في آخر الأمر. كما تثور الشبهات حول عدالة وقائع المحاكمات لأن قرارات حظر النشر التي أصدرها البنتاغون لمنع محامي الدفاع من الإدلاء بأي تصريحات علنية عن وقائع المحاكمات بدون إذن عسكري مسبق، بل ومن إثارة أي مسائل تختص بسلامة الإجراءات ولا تتعلق بدواعي القلق الأمنية، ومن التعليق بأي حال من الأحوال على أي شيء يتعلق بالجلسات المغلقة من المحاكمات.

كما أن هذه اللجان العسكرية تفتئت عل حق المتهمين في الاستعانة بمحامين، إذ يتعين عليهم عند مثولهم أمامها توكيل محامي دفاع عسكري، على الرغم من أنهم قد يوكلون أيضا محامين مدنيين على نفقتهم. وتسمح لوائح اللجان العسكرية للمسؤولين الأمريكيين بمراقبة المحادثات التي تدور بين المحامي وموكله لدواع أمنية أو استخبارية، الأمر الذي يقوض ميزة سرية العلاقة بين المحامي والموكل، التي تشجع الموكل على التعبير الصريح عما يجول في نفسه إلى المحامي في سياق الإعداد للدفاع.

وتدعو لوائح هذه اللجان العسكرية إلى فتح وقائع الجلسات كما هو مفترض، لكن المحاكم تتمتع بهامش كبير من الحرية في إغلاق الجلسات حسبما ترى. ويمكن لرئيس الجلسة أن يقرر إغلاق جانب منها أو كل وقائعها في حالة التعامل مع معلومات سرية، ومنع المحامين المدنيين من الحصول على المعلومات المحمية مهما كانت أهميتها لقضية المتهم، حتى ولو حصلوا على التصريح الأمني اللازم. وهذا ما يضع المتهم ومحاميه المدني في موقف لا يحسدان عليه حيث يصبحان مضطرين إلى إعداد الدفاع ضد أدلة سرية لم يطلعا عليها.

وفي يوليو/تموز 2003، قالت إدارة بوش إن ستة من المعتقلين في غوانتانمو مؤهلين لمحاكمتهم أمام لجنة عسكرية. ثم جمدت الحكومة الأمريكية إجراءات المحاكمة في ثلاث من هذه الحالات، تضم مواطنيْن بريطانييْن ومواطنا أستراليا، استجابة لبواعث القلق التي أثارتها الحكومتان البريطانية والأسترالية بشأن استيفاء معايير العدالة القضائية أمام اللجان العسكرية. وتم التوصل إلى قرارات تقضي بألا تفرض الولايات المتحدة على هؤلاء الثلاثة عقوبة الإعدام، أو التصنت على محادثاتهم مع محامي الدفاع، إلا أن الحكومة ما زالت تتفاوض حول مسائل أخرى في هذا الصدد، ولا توجد أية مؤشرات حتى الآن تبين أن المفاوضات الثنائية تعالج أوجه القصور الموجودة مثل عدم وجود مراجعة استئنافية مستقلة. كما أن إدارة بوش لم تنوه بأن أي تعديلات في الإجراءات الخاصة بالمعتقلين البريطانيين أو المعتقل الأسترالي سوف تطبق على كل المعتقلين في غوانتانمو بغض النظر عن جنسياتهم. وهكذا فإن هذه المفاوضات تثير احتمال تلقي بعض المعتقلين محاكمة أكثر عدلاً بعض الشيء، بينما يظل الباقون خاضعين لإجراءات تتراجع فيها العدالة أمام اعتبارات الملائمة والمصلحة.

 

فوق القانون:
السلطة التنفيذية في الولايات المتحدة بعد الحادي عشر من سبتمبر/أيلول

أساليب الصدمة والرعب


تعتبر حماية أمن الأمة من الوظائف الرئيسية الواقعة على عاتق أي حكومة، إلا أن الولايات المتحدة تعي منذ أمد طويل "أن درع الضرورة العسكرية والأمن القومي يجب ألا يستخدم في وقت الشدة لحماية الإجراءات الحكومية من الفحص الدقيق والمحاسبة الدقيقة... ويجب أن تكون مؤسساتنا التشريعية والتنفيذية والقضائية مستعدة لممارسة سلطاتها لحماية جميع المواطنين من المخاوف والتحيزات التافهة التي قد تثور بمنتهى السهولة".(36)

وعلى الرغم من هذا التحذير فقد استخدمت إدارة بوش منذ الحادي عشر من سبتمبر/أيلول عبارة "الأمن القومي" كتكتيك للصدمة والرعب يضعف من استعداد الشعب لمساءلة الحكومة عن أفعالها. ومن يجرؤ على التساؤل نادرا ما يجد إجابة، إذ نجحت الحكومة إلى حد كبير في ضمان عدم إعلان أي تفاصيل تُذكر عن هوية المعتقلين وأسباب اعتقالهم، فحرصت على التعتيم على إجراءات الترحيل التي التي خضع لها المعتقلون بعد الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، حتى يظل الجمهور غافلاً عنها؛ ومن المؤكد أن لوائح اللجان العسكرية تفتح الباب أمام احتمال إغلاق جلسات المحاكمة إلى حد كبير. وما دام ستار السرية قائماً، فسوف تظل الشكوك تحوم حول عدالة هذه السياسات، وسيصعب معالجة أي أخطاء تقع في إطارها.

إن تجاهل إدارة بوش للمراجعة القضائية، واعتمادها على القوة الجبرية التنفيذية وميلها إلى السرية يحد من إمكانية محاسبتها. والمعروف أن ضياع فرصة المساءلة يضر بالحكم الديمقراطي والتقاليد القانونية التي تعتمد عليها حقوق الإنسان. فعملية الفحص القضائي والرقابة من جانب الكونغرس والشعب عموما مسألة ضرورية لا غنى عنها لمنع السلطة التنفيذية من تحريف وتشويه الحقوق الأساسية حتى تصبح معالمها مبهمة. وقد أكدت بعض المحاكم على استقلالها، وأجرت فحصا دقيقا للإجراءات الحكومية المخالفة للمتطلبات الدستورية، إلا أن بعض المحاكم الأخرى تخلت عن مسؤوليتها في القيام بالدور الضامن للعدالة، وفشلت بعض المحاكم في تطبيق مبدأ بسيط نادت به "الماغنا كارتا" (الوثيقة العظمى) وهو أن "الملك - بإيجاز - لا يعلو على القانون، وسيظل كذلك دائما"(37) وقد بدأ الكونغرس من ناحيته في طرح علامات الاستفهام الجادة منذ وقت قريب حول قانونية الاعتقالات التي نفذتها إدارة بوش بعد الحادي عشر من سبتمبر/أيلول ومدي ضرورتها.
إن الولايات المتحدة في مواجهة المعركة الصعبة والمعقدة مع الإرهاب العالمي يجب عليها ألا تتخلى عن تقاليدها الراسخة في مجال العدالة والمساءلة العامة. فالولايات المتحدة منذ وقت طويل تعتبر نفسها تجسيدا لمفهوم الحكم الرشيد. لكن الحكم الرشيد - وحمايته لحقوق الإنسان - هو بعينه ما يتعرض للخطر حاليا من جراء سياسات إدارة بوش لمكافحة الإرهاب بعد الحادي عشر من سبتمبر/أيلول.

 

خطوة صائبة للأمام
تأملات بمناسبة مرور خمسة وعشرين عاما من جهود حركة حقوق الإنسان: 1978-2003

ريد برودي


قطعت حركة حقوق الإنسان شوطا طويلا منذ تأسيس منظمة "هيومن رايتس ووتش" قبل خمسة وعشرين عاما، ففي كل حدب وصوب تقريبا في شتى أنحاء العالم يرفع الدعاة والمناضلون راية حقوق الإنسان دعما لما يطالبون به من الاحترام والكرامة. وبفضل هذه الحركة أصبحت حقوق الإنسان مع انتهاء القرن الماضي أيديولوجية من الأيديولوجيات السائدة في العالم التي لا تنفك الحكومات تعلن عن التزامها بها. وعلى الرغم من أن الحركة لم تتمكن من إيقاف مذابح الإبادة الجماعية في العراق ورواندا ويوغوسلافيا السابقة وعمليات القتل الجماعية في غيرها، فقد بدأت تبسط سلطان العنصر الأخلاقي على العلاقات الدولية بقوة غير مسبوقة في التاريخ الحديث. وأصبحت الحركة عاملا من عومل التحول الديمقراطي في أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية وبعض أجزاء القارتين الأفريقية والآسيوية.

إلا أن حركة حقوق الإنسان تواجه الآن تحديات جسيمة، وهي على وجه التحديد الهجمات المريعة التي وقعت في الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001 والتي استهدفت ضرب السلطة الأمريكية في الصميم، مما أطلق العنان لردود فعل تهدد بمحو العديد من المكتسبات تحت ستار "الحرب على الإرهاب" التي تبدو لا نهاية لها. ومع اطراد هذه الحملة بدأت الحكومات المؤيدة للحركة تعيد حقوق الإنسان إلى المرتبة الثانية، مثلما كانت تفعل قبل الحرب الباردة وخلالها، بينما بدأت حكومات أخرى تنتهز الفرصة لاستخدام الحرب على الإرهاب ذريعة لتبرير القمع الداخلي. وفي مواجهة هذه التحديات يجب على الحركة أن تبين أن تعزيز الحقوق الأساسية ضروري للأمن وأداة لا غنى عنها لمكافحة الإرهاب.
***
تقول روبرتا كوهين المديرة التنفيذية للرابطة الدولية لحقوق الإنسان "إن دعاة حقوق الإنسان، الذين عانوا من التجاهل أو الازدراء على مر سنين باعتبارهم جماعة غريبة الأطوار، يركبون الآن موجة الشعبية بفضل تركيز الرئيس كارتر على قضية الحقوق. إنهم يقولون إن التجربة رائعة ومثيرة للانزعاج في آن واحد. ولقد أصبحت حقوق الإنسان فجأة من مستلزمات الأناقة، فبعد سنوات كنا فيها الخطباء الواعظين أو المثاليين السخفاء أو المتطفلين الذي يتدخلون فيما لا يعنيهم، أصبحنا الآن نحظى بالاحترام والتقدير".

كان هذا هو استهلال مقالة نشرتها صحيفة "نيويورك تايمز" عام 1977 عن حركة حقوق الإنسان. وفي وقت لاحق من ذلك العام، فازت منظمة العفو الدولية بجائزة نوبل اعترافا بإنجازاتها التي كانت تحظى بالتقدير من قبل. وفي العام التالي تأسست منظمة هيومن رايتس ووتش. واليوم أصبحت حقوق الإنسان وحركة حقوق الإنسان ملمحا أساسيا من الخارطة السياسية الدولية.

وفي السنوات الخمس والعشرين الماضية، بعثت مجموعة ضخمة وجديدة من المنظمات الوطنية والدولية الحياة من جديد في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وغيره من الصكوك التي اعتمدت بعد الحرب العالمية الثانية. وأصبح لواء حقوق الإنسان مرفوعا في شتى أنحاء العالم، يرفعه الرهبان في التبت وعمال المزارع في الإكوادور والمنظمات النسائية الأفريقية ودعاة المثلية الجنسية ذكورا وإناثا في الولايات المتحدة. وأصبح هناك مفوض سام تابع للأمم المتحدة مختص بحقوق الإنسان، وهو الراعي الرسمي للإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وسنت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وغيرهما قوانين تجعل احترام حقوق الإنسان عاملا مهما من عوامل العلاقات الثنائية. وفي معظم البلدان نجد اليوم هيئات محلية لحقوق الإنسان أو قاضيا للمظالم مختصا بشكاوى حقوق الإنسان. كما صادقت معظم البلدان على المعاهدات الرئيسية لحقوق الإنسان. وأنشئت محكمة جنائية دولية لتتولى التحقيق في بعض الفظائع التي تعد من أسوأ ما شهدته البشرية، بينما تمكنت الحركة من الإيقاع ببعض رموز البطش مثل أوغسطو بينوشيه وسلوبودان ميلوسيفيتش.

كما أصبحت حركة حقوق الإنسان نفسها تتميز بقدر أكبر من الشمولية، فغدت كالفسيفساء الغنية التي تتضمن عددا كبيرا من المنظمات الدولية المحترفة غير الحكومية إلى جانب آلاف المنظمات الإقليمية والوطنية والمحلية التي تتناول قضايا تتراوح ما بين تقرير المصير وحقوق الأطفال، وما بين الحصول على أدوية فيروس نقص المناعة البشرية والحق في الحصول على المياه.

ومع اتساع نطاق الحركة دخلت القضايا التي كانت مهملة فيما مضى إلى التيار الرئيسي للاهتمام، وخصوصا القضايا المتعلقة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية. وتزايدت نقاط التلاقي بين جهود المنظمات المكرسة لتعزيز التنمية الاقتصادية والاجتماعية من ناحية، والمنظمات المهتمة بحماية حقوق الإنسان من ناحية أخرى. وبدأ العديد من منظمات التنمية يتحول من المناهج الإنسانية والمناهج القائمة على الاحتياجات والموجهة لتحقيق الكفاية، إلى المناهج القائمة على الحقوق في التعامل مع قضية التنمية. وبعد أن كانت منظمات حقوق الإنسان تركز إلى حد كبير على القضايا المدنية والسياسية مثل الاعتقالات السياسية والتعذيب، بدأنا نتجه تدريجيا إلى تناول الأسباب الاجتماعية والاقتصادية الكامنة وراء هذه الانتهاكات أو إلى مناصرة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية مثل التعليم والصحة والسكن.

وأصبحت حقوق المرأة التي كانت على الهامش فيما سبق قوة دافعة لحركة حقوق الإنسان منذ أن فاجأت المنظمات النسائية مؤتمر الأمم المتحدة العالمي لحقوق الإنسان المنعقد في فيينا عام 1993، وفازت بالاعتراف الكامل بأن "حقوق المرأة من حقوق الإنسان". وأدى التركيز على حقوق المرأة إلى نتائج عدة منها الإسهام في توسيع المفاهيم الأساسية لحقوق الإنسان مثل "الانتهاك" و"المنتهك"، فتحولت الحركة من الاقتصار على التركيز على الإجراءات المتخذة من جانب الدولة إلى دراسة مدى مسؤولية الدولة عن التقاعس عن اتخاذ إجراءات للتصدي لانتهاكات من المعروف أنها حدثت على أيدي أطراف خاصة.

وجدير بالذكر أن المستويات المختلفة في الحركة يكمل بعضها بعضا. ففيها ما يمكن أن نسميه بالمنظمات أو الحركات الأولية للأشخاص المناضلين من أجل حقوقهم، مثل بعض منظمات الحقوق المدنية في الولايات المتحدة، والعديد من المنظمات النسائية، وحركة العمال غير الملاك في البرازيل، وما شابهها. وهناك منظمات تسعى إلى تعزيز الحقوق عن طريق وضع اللبنات الأساسية للمجتمع الذي يحترم الحقوق، وهي الصحافة الحرة والقضاء المستقل والتوعية بحقوق الإنسان والتسامح والسيطرة المدنية على الجيش. وهناك منظمات وطنية ودولية ترصد معايير احترام حقوق الإنسان وتبذل الضغط لمنع وقوع الانتهاكات أو لإيقافها، مثل اللجنة الكولومبية للقضاة ومنظمة هيومن رايتس ووتش.

كما وصلت الحركة إلى مستوى راق من التطور في طريقة الدعوة إلى الحقوق، حيث تطورت من أسلوب الحملات المبكرة لإرسال الخطابات الذي ابتدعته منظمة العفو الدولية حتى أصبحت تضم فرق الحملات والمنظمين وأنصار بذل الضغط والخبراء الإعلاميين. وللمنظمات الدولية غير الحكومية الكبرى الآن باحثون على أرض الواقع يتصلون عن طريق البريد الإلكتروني بمكاتب الدعوة إلى الحقوق في الأمم المتحدة والعواصم الكبرى، الأمر الذي يجعلنا في موقف قوي يمكننا من التأثير على القرارات الدولية وهي لا زالت في طور التكوين. وتهدف بعض المنظمات المعنية بالرصد، مثل هيومن رايتس ووتش، إلى دعوة الحكومات القوية لتعيز الحقوق، مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وتتعامل معها أحيانا على أنها شركاء لها في بذل الضغط لإحداث التغيير، وأحيانا على أنها بديل للحلفاء المنتهِكين الذين يرفضون النقد الديمقراطي أكثر من غيرهم (وأحيانا بالطبع على أنها مرتكبة الانتهاكات). ولا يفوتنا هنا أن نشير إلى التحذير الشهير الذي وجهه إيان مارتن من أن "حركة حقوق الإنسان لا يمكن أن تقبل بالعمل من خلال علاقات السلطة القائمة حاليا في عالم اختلت فيه موازين المساواة، بل لا يمكنها أن تكون محايدة في موقفها منها". ولكن عندما نطبق منهج "التسمية والفضح"، الذي لا يطول الحكومات المنتهكة فحسب بل يطول حلفاءها الدوليين أيضا، وعندما يتم ذلك بدعم من شركائنا في البلدان المضارة، فإن الحركة تكتسب قدرا كبيرا من القوة التي لا يستهان بها.


بعد الحرب الباردة
بعد سنوات من تأسيس منظمة هيومن رايتس ووتش جاءت الحرب الباردة لتمثل حافزا للحكومات على استغلال حقوق الإنسان كسلاح، وعقبة أمام من يسعون إلى التعاون الدولي القائم على مبادئ من أجل تعزيز حقوق الإنسان. وحرصت الولايات المتحدة على رفع راية حقوق الإنسان في حربها الأيديولوجية مع الاتحاد السوفييتي وحلفائه، بينما كانت تتستر على الانتهاكات التي ترتكبها النظم المستبدة التي تقدم الولايات المتحدة لها المعونة (وإن لم تكن ترعاها رعاية مباشرة)، وذلك كما هو واضح لكونها متاريس تقف في طريق المد الشيوعي. أما الكتلة الشرقية من ناحيتها فقد رفضت توجيه النقد إلى سجلها في مجال حقوق الإنسان واعتبرت ذلك "تدخلا [غير مقبول] في الشؤون الداخلية" للبلدان ذات السيادة، وشلّت آلية الأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان.

ولكن حتى في أثناء الحرب الباردة فقد ساعدت تعبئة حقوق الإنسان على التوصل إلى العديد من الإنجازات الهامة، ولعبت دورا لا يستهان به في إنهاء الفصل العنصري في جنوب أفريقيا والتحول نحو الحكم الديمقراطي في الكثير من مناطق أمريكا اللاتينية. وأدت عملية هلسنكي - التي تمخضت عن إنشاء منظمة "هلسنكي ووتش" السابقة على منظمة "هيومن رايتس ووتش" - إلى وضع إطار داخل الكتلة السوفييتية وخارجها يتصدى الأفراد من خلاله للحكومات القمعية، الأمر الذي أدى في آخر الأمر إلى انهيار النظام السوفييتي الذي كان ينكر حقوق الإنسان الأساسية في الواقع الفعلي.

ويبدو أن انتهاء الحرب الباردة أفرز اتفاقا جديدا في الآراء حول مبدأ حقوق الإنسان. فالمنشقون عن الكتلة السوفييتية الذين أنشأوا حركة حقوق الإنسان هناك، والذين كانت حركة حقوق الإنسان الدولية تناصرهم، لم يصبحوا أحرارا فحسب، ولكنهم صعدوا إلى السلطة في بعض الحالات. وظهر في أفريقيا اتجاه نحو الديمقراطية التعددية، بينما استكملت أمريكا اللاتينية التحول من حقبة الدكتاتوريات العسكرية التي تساندها الولايات المتحدة. وفي بعض البلدان الآسيوية مثل الفلبين وكوريا الجنوبية ساعدت حركات حقوق الإنسان أيضا على إدخال التحول الديمقراطي. وساعدت الأغلبية الديمقراطية الجديدة - التي تضم الآن العديد من بلدان أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية - على إطلاق يد لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، الأمر الذي أدى في أوائل التسعينيات على إطلاق العنان للأمم المتحدة للاهتمام بحقوق الإنسان اهتماما جادا، وفي بعض الحالات إلى تبني دور يشبه دور دعاة حقوق الإنسان وفقا لتصور إليانور روزفلت.

والأهم من ذلك أن مبدأ سيادة الدولة بدأ يتراجع تراجعا مطردا أمام الضغوط في مجال حقوق الإنسان. ففي عام 1993، وضع مؤتمر الأمم المتحدة الدولي لحقوق الإنسان المنعقد في فيينا حداً حاسماً لحجة الدفاع عن السيادة عندما أعلن أن "تعزيز وحماية حقوق الإنسان يعتبر من مجالات الاهتمام المشروعة لدى المجتمع الدولي". فالطريقة التي تعامل بها الدولة شعبها مسألة تهم الجميع. وفي مواجهة التحديات التي يطرحها أنصار النسبية الثقافية و"القيم الآسيوية" أكد مؤتمر فيينا أيضا على إعلانه أن "الطبيعة العالمية لهذه الحقوق والحريات مسألة لا جدال فيها".

وأصبحت حقوق الإنسان، على حد تعبير مايكل إجناتييف، "اللغة الأخلاقية السائدة في الشؤون الخارجية"، حتى ولو كانت الأهداف الاقتصادية والأمنية غير المتسقة كثيرا ما تطغى عليها على مستوى التنفيذ. ومع صعود لغة حقوق الإنسان، وبث التليفزيون والإنترنت التقارير الفورية عن الانتهاكات، بدأت حرية الحكومات في العمل على خدمة المصالح المعروفة للنخب الحاكمة تصبح مقيدة أمام المجتمع المدني النشط والمطلع على مجريات الأمور، أكثر من أي وقت مضى في التاريخ الحديث. وقد لاحظ ريتشارد فولك في قول سديد له أن "التحرك في عقد التسعينيات نحو الاتفاق العالمي في الآراء حول حقوق الإنسان يمثل بداية لثورة معيارية في العلاقات الدولية التي بدأت أهميتها تفوق مكانة الحسابات الواقعية للسلطة والمكانة في المخيلة السياسية للمراقبين وواضعي السياسات".

ولكن حتى في عقد التسعينيات، الذي يفترض أنه العقد الذهبي لحركة حقوق الإنسان، لم تتمكن الحركة من إيقاف مذابح الإبادة الجماعية في يوغوسلافيا السابقة ورواندا، ولا الجرائم التي ارتكبت ضد الإنسانية في تيمور الشرقية والشيشان، ولا قتل الملايين من المدنيين في الصراعات المسلحة في أواسط أفريقيا. (بل إننا بينما كنا نجتمع في فيينا احتفالا بانتصار حقوق الإنسان، كانت المذبحة في البوسنة مستمرة بلا هوادة على بعد ما لا يزيد عن بضع مئات من الأميال). ولا زال نصف سكان كوكبنا البالغ عددهم ستة مليارات يعيشون في فقر، ومنهم 24% يعيشون في "فقر مدقع". وهناك ملياران ممن تدافع عنهم حركة حقوق الإنسان ليس أمامهم سبيل لتلقي الرعاية الصحية، ومليار ونصف المليار لا يجدون سبيلا للحصول على المياه الصالحة للشرب.

وفي هذا العالم الذي يشتد فيه التعصب والتطرف، والذي يلقى فيه الملايين حتفهم في الصراعات المسلحة، والذي يستشري فيه الفقر والبؤس، لا يجد البعض، مثل ديفيد ريف، مفرا من التساؤل عما إذا كان تطوير المعايير قد حقق أي شيء على الإطلاق "لمن يحتاجون إلى العدل أو المعونة أو الرحمة أو الخبز؟ وهل حمت هذه المعايير إنسانا واحدا بالفعل من يد البطش والطغيان؟"

ولكن ينبغي هنا ألا يخلط المرء بين مشاعر الكآبة الناجمة عن المسار الحالي للأحداث على صعيد حقوق الإنسان، والتشكك في قيمة جهود حقوق الإنسان أو إنجازات الحركة. فلا شك في أن المعايير وحدها لن توقف طاغية أو فصيلا متطرفا عازما على ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، وهنا يأتي دور حركة حقوق الإنسان التي ينبغي عليها، كما ينبغي على كثيرين غيرها، أن تواجه السؤال الصعب الذي يدور حول التدخل العسكري لإيقاف الفظائع. (وأعتقد أن معظم زملائي سيوافقونني على أن اللجوء إلى القوة ليس مشروعا فحسب، ولكنه ضروري أيضا من الناحية الأخلاقية في مواجهة مذابح الإبادة الجماعية أو ما يعادلها من فظائع وأهوال. ولكن يظل الخلاف شديدا حول كيفية الترخيص باستخدام هذه القوة وطريقة استخدامها). وإذا كانت النظم الدكتاتورية لا تتقيد بالمعايير، فالديمقراطيات المفتوحة تتقيد بها ما دامت هذه المعايير تحظى بتأييد المجتمع المدني الحريص على المشاركة. وفيما بين قصف العراق والصرب، الذي يعد في طبيعته أشبه بالعملية الجراحية نسبيا، والقصف الجوي الشامل الذي تعرضت له لاوس وكمبوديا، فضلاً عن تدمير هيروشيما أو دريسدن، يمكن أن نلمس حدوث تطور ملحوظ يتجاوز طيبة القلب في نفوس الجنرالات. كذلك أصبح من الصعب أكثر من ذي قبل أن يسجن شخص مثل نيلسون مانديلا 25 عاما، أو شخص مثل شيا ثاي بوه السنغافوري 23 عاما؛ فما كان أمرا معتادا من خمسين عاما أو خمسة وعشرين عاما لم يعد اليوم مقبولا على الإطلاق.

إن المعايير تعطي القوة لكل من النشطاء والضحايا، وذلك بأن تضع مقاييس معينة وتضفي المشروعية على مطالبهم، وتنشر "المثل الأعلى المشترك الذي ينبغي أن تبلغه كافة الشعوب والأمم" كما ورد في صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وفي مجموعة من المجالات التي تتراوح بين حقوق المرأة والاتجاه نحو إلغاء عقوبة الإعدام، يمكن أن نرى أن عملية وضع المعايير ثم التعبئة لتنفيذها حققت بالفعل نتائج ملموسة.

وعندما شاركْتُ في قضية بينوشيه في مجلس اللوردات الإنجليزي عام 1998، دهشت لمدى النضوج الذي حققته حركة حقوق الإنسان. فقد طبقت أخيرا الإعلانات السامية مثل اتفاقية الأمم المتحدة للقضاء على التعذيب في قضية حقيقية ملموسة، ليس هذا فحسب بل إنها طبقت في قضية رجل بات رمزا للدكتاتورية عديمة الرحمة بوجهه الساخر المختفي وراء نظارته الشمسية الداكنة، والذي استخدم تكتيكات قمعية على مدى 25 عاما مضت، فأطلق العنان للقوى التي أدت إلى القبض عليه وإلى عقد جلسات محاكمته - ألا وهي الدعوة إلى حقوق الإنسان والاتفاقيات الدولية. وكان بينوشيه قد نفى مئات الآلاف من أبناء شيلي الذين يجهرون بالرأي، فتدفق هؤلاء بمساندة الرأي العالمي الغاضب لينضموا إلى صفوف منظمات مثل منظمة العفو الدولية، التي بذلت بدورها الضغط لاعتماد اتفاقية القضاء على التعذيب التي مهدت للقبض على الدكتاتور السابق.

الحادي عشر من سبتمبر/أيلول
إلا أن حركة حقوق الإنسان في أوج قوتها واجهت تحديا جديدا كان، ولا يزال، يهدد بتقويض الكثير مما حققته. فبينما كان موظفو منظمة هيومن رايتس ووتش ينظرون من نافذة غرفة الاجتماعات في صباح الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001، إذ رأوا الطائرتين المختطفتين تدمران مركز التجارة العالمي. فأطلقت هذه الجرائم ضد الإنسانية، والتي استهدفت ضرب السلطة الأمريكية في الصميم، العنان لردود أفعال تهدد بمحو الكثير من المكاسب تحت ستار "الحرب العالمية على الإرهاب" التي لا نهاية لها. وشهدت الحملة على الإرهاب تآكل سيادة القانون أكثر من توطيد أركانه. وهكذا تعرضت حقوق الإنسان لتقويض أركانها في وقت كانت فيه في أمس الحاجة إلى الدعم والمؤازرة.

وقد حاولت بلدان عديدة حول العالم محاولة أنانية لا تلقي بالاً لحقوق الإنسان أن تستغل الحرب على الإرهاب تبريرا لانقضاضها على المعارضين السياسيين أو الانفصاليين أو الجماعات الدينية أو للقول بضرورة حصانتها من النقد الموجه لممارساتها في مجال حقوق الإنسان. وردت بلدان كثيرة على عنف الإرهاب الأعمى بسن قوانين وتدابير جديدة لا تفرق هي نفسها بين المذنب والبريء. وأصدرت بلدان عديدة قوانين رجعية لمكافحة الإرهاب، حيث أنها توسع من السلطات الممنوحة للحكومة للاعتقال والرقابة بطرق تهدد الحقوق الأساسية. وظهرت موجة متواصلة من عمليات الاعتقال والقبض التعسفي على المشتبه فيهم دونما اعتبار للإجراءات القضائية المنصفة. وفي بعض الأماكن تعرض الموصومون بالإرهاب للاغتيال والإعدام خارج نطاق القضاء.

ومن التطورات التي تبعث على أشد القلق تجدد الجدل حول شرعية التعذيب. فحتى لو كان التعذيب متفشيا في شتى أنحاء العالم، فقد كان من المسلم به تقريبا حتى وقت قريب ألا تسمح أي دولة بالتغاضي عن التعذيب. فالتعذيب أشد صور الإذلال، وهو عمل مشين بدرجة لا توصف يعود إلى القرون الوسطى، أما اليوم فقد أصبح مستبعدا تماما من دائرة الممارسات المقبولة. وكان التعذيب من المعارك الأولى التي خاضتها منظمة العفو الدولية، وبفضل جهود الحركة أصبح التعذيب يعتبر رمزا للهمجية التي لم تعد مسموحة في أي ظرف من الظروف. وقد أشارت إحدى المحاكم الأمريكية، في أثناء نظرها قضية تعرف بقضية فيلارتيجا، إلى أن من يلجأ اليوم للتعذيب هو نسخة معاصرة من قراصنة الماضي البعيد بوصفه "عدو الإنسانية جمعاء". والمعروف أن بينوشيه جرد من حصانته بسبب التعذيب، لا القتل الجماعي. إلا أننا نرى الآن، وخصوصا في الولايات المتحدة، أصواتا ذات شأن تدعو إلى إمكانية استخدام التعذيب كأداة مناسبة في الحرب على الإرهاب. وقد أثيرت اتهامات خطيرة بالفعل حول تعرض المعتقلين الذين أسروا في أفغانستان للضرب ولما يعرف بأساليب "الضغط والإكراه" من جانب مسؤولين أمريكيين، أو للتسليم لبلدان ثالثة ربما يتعرضون فيها للتعذيب، وهي التهم التي لم تتمكن إدارة بوش من الرد عليها ردا وافياً.

وعلى مستوى العلاقة بين الحكومات، اتخذ الاهتمام بحقوق الإنسان مرتبة متأخرة بعد حشد الحلفاء للحرب على الإرهاب، الأمر الذي يعطي تصريحا مفتوحا في واقع الحال للحلفاء الجدد والحلفاء الاستراتيجيين القدامى. وجدير بالذكر أن لجنة حقوق الإنسان في جنيف لم تلمس هذا العام استعدادا من جانب أي حكومة من الحكومات لطرح قرار ينتقد الصين، بينما حالت روسيا بسهولة دون اتخاذ قرار بخصوص الشيشان على الرغم مما تقترفه من فظائع مستمرة فيها.
وقد دعت هذه التطورات مايكل إجناتييف إلى التساؤل بعد الحادي عشر من سبتمبر/أيلول "هل جاءت حقبة حقوق الإنسان وانتهت؟"

لاشك في أن حركة حقوق الإنسان تواجه تحديا جديدا، فقد بدأ النزال الحقيقي،.. اليس كذلك؟؟



#عبدالوهاب_خضر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- القرار 137 - بنى على باطل فهو باطل
- من الذى يصنع القرار فى مصر؟
- الى حركة 20 مارس ...الرأسمالية تحفرقبورها بيديها
- انفراد صحفى حول مانشيتات جرائد الاسبوع القادم فى مصر !
- أين المراهقون؟.. شارون يخلع أسلحتة الداخلية
- حملة لانقاذ175 مليار جنية من قبضة الحكومة المصرية
- حكومة مصر تسرق أموال اليتامى
- عن (بيان الحكومة) سألونى وأنا فى (الكذب) لا افهم
- الاخوة الناصريين .. استمروا فى حملة التوريث من أجل عيون مصر ...
- من يحاور من .. مبارك وبطيشة ؟؟
- أغلقوا ملف تداول السلطه.. فالرئيس مبارك باق .. باق !!
- عمال مصر بين مطرقة الحكومه وسندان رجال العمال
- خمسون يوما من التعذيب فى مصر
- فى زمن البزرميط السياسى : ردود مثيره على (البيان المنتظر ) ل ...
- انفراد صحفى : بيان الحكومه الجديد ... كلاكيت خامس مرة !!
- وردة حمراء لمؤتمر حزب التجمع المصرى
- أسرقك أه .. أسيبك لأ
- يزرع الورد ونحن نشمه
- الاشتراكيون الثوريون واختبار الديمقراطيه .. اليوم
- كنت مع عمرو موسى


المزيد.....




- وزير الخارجية الأمريكي يزور السعودية لمناقشة وضع غزة مع -شرك ...
- السلطات الروسية توقف مشتبهاً به جديد في الهجوم الدامي على قا ...
- حماس تنشر مقطع فيديو يوضح محتجزين أمريكي وإسرائيلي أحياء لدي ...
- حزب الله يقصف إسرائيل ويرد على مبادرات وقف إطلاق النار
- نائب سكرتير اللجنة المركزية للحزب بسام محي: نرفض التمييز ضد ...
- طلبة بجامعة كولومبيا يعتبرون تضامنهم مع غزة درسا حيا بالتاري ...
- كيف تنقذ طفلك من عادة قضم الأظافر وتخلصه منها؟
- مظاهرات جامعة كولومبيا.. كيف بدأت ولماذا انتقلت لجامعات أخرى ...
- مظاهرة طلابية في باريس تندد بالحرب على قطاع غزة
- صفقة التبادل أم اجتياح رفح؟.. خلاف يهدد الائتلاف الحكومي بإس ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبدالوهاب خضر - الأمن القومى فى زمن جورج بوش