أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - الطيب طهوري - ناقة قديشة















المزيد.....

ناقة قديشة


الطيب طهوري

الحوار المتمدن-العدد: 2355 - 2008 / 7 / 27 - 06:32
المحور: الادب والفن
    


قصة قصيرة
أخرج المبروك الناي من جيب معطفه الداخلي.. بلل بالريق أصابعه الرقيقة، ثم مسح على الثقوب السبعة فيه..
كان الفصل خريفا.. نسائم خفيفة تأتي من جهة الشمال، والأرض جرداء..وبالقرب منا بعض أشجار السدر الشوكية..
بين شفتيه وضع الناي.. امتد الصوت حنينا راعشا فينا.. وتدريجيا أخذت الرؤوس تتمايل.. إلى اليمين تارة..وإلى اليسار تارة أخرى.. إلى الأعلى مرة.. وإلى الأسفل مرة أخرى..
ـ إيه يا المبروك..إيه! .. صوت نايك اليوم أكثر حزنا..علق أحدنا..
ـ وفرحا أيضا.. أكمل آخر..
ـ وأرق صوتا..أضاف الثالث..
واستيقظ الوهج في الداخل.. غزالا كان..
تحولت الأرجل والأذرع رقصا غجريا..
مد عمي خليفة في مقدمة الركب يده اليمنى.. قبض على طرف البرنوس وأخذ يلوِّح يمينا وشمالا.. رجلاه تتحركان إلى الأمام.. وفي انسجام مدهش ترتفعان وتنزلان..
وفي الوسط كان عمي الساسي..طويل القامة..أبيض الوجه عريضه.. يخيل للناظر إليه أنه إما أبله أو مجنون.. تغرينا براءته المفرطة فنتدافع ليكون قريبا منا..نستمع إليه منجذبين وهو يحكي مزهوا بجده: كان إذا وُضعت قصعة الشخشوخة أمامه يجلسني في حجره.. ويأكل.. لاينهض حتى يأتي على آخرها..ثم يتبعها بدلو ماء كامل.. ويضيف: وكان إذا أتته العاقر يمسح بكفه على بطنها هكذا ـ ويمرر كفه على بطنه ضاحكا ـ فتنجب الغلام الذي تريد..
ونقول مؤكدين: وليا صالحا كان جدك ياعمي الساسي.. وليا صالحا حقا كان..
وكان عندما يحس بأن الوهج ازداد اشتعالا أكثر فينا، يطلق نكتة ما.. تسري بيننا كالماء الزلال في الحلوق.. تعيدنا إلى أنفسنا.. تضحكنا وتبكينا.. ثم يرفع صوته عاليا:
بَلْبَلْ بلبل بلبل بلبل بَلْبَلْ بلبل بلبل بلبل
بلبل بلبل بلبل بلبل بلبل بلبل بلبل بلبل
إيه ياعمي الساسي..إيه..!
كانت أصوات نقرات الدفوف المصاحبة لأنين الناي تملأ الفضاء حولنا.. وكنا نواصل سيرنا بطيئين حين لاح في الأفق الممتد أمامنا قطيع الإبل..
هاهو القطيع.. انظروا..إنه قريب منا.. قال عمي خليفة.. ونظرنا..
وكان عمي الساسي مايزال يحكي عن جده حين ارتفعت نقرات الدفوف فجأة، وامتد صوت الناي عاليا كأنه يعلن عن فرح العمر الذي انتشر فينا.. وتقدمنا..كنا نسرع في اتجاه القطيع.. أصواتنا تتداخل وأرجلنا تسابق بعضها ..
رأينا اضطراب القطيع في البدء.. ثم رأيناه وقد عاد إليه الهدوء حين وقفنا..
أمام القطيع وقفنا.. سادنا الصمت المفاجئ.. ووحده المبروك واصل حنينه الدافئ، تعانقه نقرات الدفوف الخفيفة من حين إلى آخر..
وكانت عيوننا مشدودة إلى هناك حين رأيناها تحرك أرجلها الأربعة في شبه رقص آدمي.. العينان في اتجاهنا.. والعنق الشهباء تمتد إلينا.. شق عمي خليفة طريقه بين النياق خفيفا.. فرحا.. مسح بكفيه على فخذها الأيسر.. وشمَّ.. رفعت الناقة رجلها إلى الأعلى.. ثم.. إليه أنزلت رأسها.. مد عمي خليفة ذراعه واحتضنها..
وكان رأسها يلامس صدره، حين صاح: ريحة لَوراس ياناس.. ريحة لوراس..
التفتنا جميعا ونحن نسمع صيحته: كيف هي ريحة لوراس ياعمي الساسي.. كيف؟!
وتأملَنا.. حد الدهشة تأملنا.. عمي الساسي.. ثم أجاب: عندما تحسون بالفرح يملأ جوانحكم.. وترون الأمل يعانق القلوب فيكم .. تلك هي.. وأطلق العنان لصوته:
بَلْبَلْ بلبل بلبل بلبل بلبل بلبل بلبل بلبل ..
صحنا جميعا: إننا نحس به.. والله نحس به..
مشى عمي خليفة في اتجاهنا.. ومشت الناقة.. واستدرنا..
بعض النسائم الخفيفة تأتي من جهة الشمال.. والأرض شبه جرداء..
وكان عمي خليفة في المقدمة، يلوِّح ببرنوسه، مادا ذراعيه إلى الأمام حين دخلناها..
كان أنين الناي فرحا أخضر في أزقتها..
كنا نسير.. والناقة تسير مبهورة في وسطنا..
كنا نسير والأطفال حولنا صراخا يتعالى فرحا ند يا..
كنا نسير.. والنساء الواقفات في الأبواب يزغردن سعيدات.. يمرِّرن أكفهن على الناقة.. ينزعن المناديل من على الرؤوس ويلوحن بها.. يزغردن أكثر وينثرن الحلوى .. يفتحن قارورات العطر ويسكبنها علينا..
كنا نسير.. وكان الوقت مساء..
صاح عمي خليفة: ياناس.. أيها الركب..حيث تبرك الناقة نبيت.. وبتنا.. القمر ساطع.. والنجوم المتلألئة تُعِدنا..
وكانت الشمس تلقي بأشعتها الوهاجة حين كنا نتخاطف كريات الروينة من يدي عمي الساسي فرحين .. وانطلقنا..
ثلاثة أيام كاملة.. وحيث تبرك الناقة.. كنا نبيت..
وسرنا..
وكان اليوم الرابع.. صباحا.. حين كنا.. هناك.. عمي خليفة في المقدمة.. والناي حنينا ينأى..
كانت الخيام منتصبة أمامنا.. ورأينا الجموع وضاءة مستبشرة تنطلق نحونا.. ودخلنا..
دخلنا الساحة فرحين.. وانقسمنا..
قبائل.. كنا..
تعددت النايات.. وارتفعت أصوات الدفوف مدوية.. وسرنا..
الذين غرب الوادي.. وقفوا شرقا..
والذين شرقه.. وقفوا غربا..
وفي الوادي أوقفنا الناقة.. حيث تتوجه يأتي الخير.. زرعا وضرعا.. قلنا..
ومشت الناقة.. وتوقفت.. ثم مشت.. وتوقفت..و..
كانت الحجارة حقدا يصب.. تئن الناقة.. تتلوى.. والحجارة تصب..
الواقفون في الشرق: إلى الغرب.. إلى الغرب..
والواقفون في الغرب: إلى الشرق.. إلى الشرق..
كان الصياح يتعالى هرجا مرجا.. و..
بركت الناقة.. ثنت ساقيها الأماميتين ثم الخلفيتين.. وبركت..
ـ لا خير إذن.. صاح عمي الساسي حزينا..
ـ ما كنا هكذا..حرة كنا نطلقها.. تتجه حيث تشاء.. وحيث تشاء تسير.. أضاف عمي خليفة.. ما كنا هكذا.. ما كنا هكذا..
لا خير إذن.. ومتحسرا ضرب الكف بالكف.. واستدار..
الأرض جرداء.. وهرجا.. مرجا.. كان الوقت.. ورأيناهما:
من شرق الوادي انطلق.. لحيته المشعثة تعانق ركبتيه.. والقندورة الفضفاضة تحاصره..
من غرب الوادي انطلق الآخر.. رأسه حاسر.. والبذلة سوداء..
كانا.. كالبرق.. ترتفع مؤخرة شاش المقندر وتنزل.. وترتفع مؤخرة معطف الآخر وتنزل أيضا.. ورأيناهما يَغمدان خنجريهما في مؤخرة عنق الناقة.. و..
تلوت الناقة.. كانت تبكي.. ترنحت يمينا.. ثم شمالا.. ثم.. رغت رعدا.. وتحركت من تحت أرجلنا الأرض صخورا..
رحماك يا رب..!.. صاح عمي الساسي..
وصحنا: رحماك يارب.. رحماك يارب..!.. ومبهوتين جلسنا..
وكان يسرع.. رأيناه يمسح بكفيه على الحُوار.. يغطيه ببياض برنوسه، ويحمله..
وتسمرت عيوننا فيه حين عدا وكأنه يطير في اتجاه الخيام التي كانت تنتصب في الساحة، أمام مقام قديشه.. وسمعنا غناء دافئا يأتينا من هناك:
قديشه زينةْ لوطان بين جْبال محضيه
خلوتْها سبعْ بيبـان اُفيها ديمه محميـه
وحين استدرنا.. كان السراب يمتد.. ورأينا ضباعا وذئابا وثعالب تتقدم من بعيد.. في اتجاهنا.
الطيب طهوري
قاص وشاعر من الجزائر



#الطيب_طهوري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المنتظمات الديكتاتورية أفقدتنا تذوق طعم الحياة
- أكواخ وولائم
- عبيد وجوارٍ
- مقابر عربية
- غيم لأعشاب الجفاف
- لماذا لا يهدي الله المسلمين الطريق المستقيم؟
- متى تصير القراءة ركنا إسلاميا..؟
- نفس الطريق أيضا ..؟
- تمرّين ..وهذا دمي
- أغان لتراب الطفولة
- العمدة
- أوتار للفرح الصعب
- أحزان المربي الذي..كان سعيدا
- لقاء مع الشاعر والقاص الجزائري الطيب طهوري
- الأصوليات الإسلامية وادعاءها تقليدنا الغرب
- !أيها الغرب، أنقذنا من تقليدك
- الموتى.. يهاجرون أيضا
- رحيق الأفعى
- الأصولية،الاستبداد والغرب الرأسمالي
- الطريق


المزيد.....




- فنانون يتدربون لحفل إيقاد شعلة أولمبياد باريس 2024
- الحبس 18 شهرا للمشرفة على الأسلحة في فيلم أليك بالدوين -راست ...
- من هي إيتيل عدنان التي يحتفل بها محرك البحث غوغل؟
- شاهد: فنانون أميركيون يرسمون لوحة في بوتشا الأوكرانية تخليدً ...
- حضور فلسطيني وسوداني في مهرجان أسوان لسينما المرأة
- مهرجان كان: اختيار الفيلم المصري -رفعت عيني للسماء- ضمن مساب ...
- -الوعد الصادق:-بين -المسرحية- والفيلم الأميركي الرديء
- لماذا يحب كثير من الألمان ثقافة الجسد الحر؟
- بينهم فنانة وابنة مليونير شهير.. تعرف على ضحايا هجوم سيدني ا ...
- تركيز أقل على أوروبا وانفتاح على أفريقيا.. رهان متحف -متروبو ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - الطيب طهوري - ناقة قديشة