أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - كريم عبد - أزمة الثقافة السياسية ومشروع تكوين الأمة العراقية















المزيد.....

أزمة الثقافة السياسية ومشروع تكوين الأمة العراقية


كريم عبد

الحوار المتمدن-العدد: 714 - 2004 / 1 / 15 - 02:33
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
    


 1 - ثقافة الاغتصاب !!

خلال العصور المتأخرة وعلى أنقاض عهود الإقطاع والتخلف، وعبر مآسي الحروب الصغرى والكبرى، كان لا بد أن تنشأ وتتأسس مفردات ومفاهيم حقوق الإنسان، لتصبح لاحقاً أهم المبادئ الأخلاقية لعصر الحداثة، وذلك بـموازاة عملية تنظيم علاقة الـمجتمع بالدولة، وضمناً ليتم التأسيس لـمفهوم دولة المؤسسات، بما يقلل أو يلغي نفوذ النـزعات الفردية في عملية اتـخاذ القرارات لما ينطوي عليه الأمر من مسؤوليات تتعلق بمصير المجتمع ككل وليس مصير الإقطاعي أو الملك أو الوزير الأول الذي بدأ يفقد صلاحياته السياسية لمصلحة سلطات الدولة الثلاث بالتدريج وتساوقاً مع تلك التطورات.
لقد تطور مفهوم دولة المؤسسات مع تطور الثقافة الديمقراطية ليصبح نظاماً. ومع تلاقي مصالح البرجوازية الكبيرة المطردة مع هذا النظام، فقد كان لا بد من تبرير مفاهيم النظام الديمقراطي، حقوقياً واجتماعياً، عبر ربط مصالح البرجوازية الكبيرة بالمصلحة العامة للـمجتمع، وذلك عبر تنازلات فُرضت عليها أحياناً، وتبنتها أو اختارتها في أحيان أخرى.
وإذا كان من المعروف، بأن الديمقراطية اكتسبت رجاحتها، ليس لأن الحياة في ظلها فردوس، بل لأنها أقل الأنظمة سلبية، فإن تطور النظام الديمقراطي في الغرب مع رسوخ دولة المؤسسات، ظل ينطوي على دعامة إجرائية لحماية الدولة والمجتمع من خطرين أساسيين هما : تدخل الجيش في السياسة . وعدم توفير ظروف ملائمة لنشوء ظاهرة الحزب الثوري الانقلابي .
وقد أدى هذا بالتدريج إلى نشوء وترسخ المجتمع الرسمي ( مجتمع الدولة ) في ظل التقاليد الدستورية الديمقراطية، إلى جانب نشوء المجتمع المدني على خلفية الحريات العامة وسلطة الصحافة ونظام الضمان الاجتماعي. وقبل ذلك بطبيعة الحال فصل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية بعضها عن بعض. وهكذا نجد أن ليس بوسع المرء أن يتصور وجود إحدى هذه الظواهر دون أن تكون مرتبطة بالظواهر الأخرى، أي دون وجود الفلسفة والنظام الاجتماعيين اللذين أوجداها، إذ لا يمكن تصور وجود حرية صحافة أو حريات عامة أو نقابات حرة في ظل نظام عسكري أو شـمولي، حتى لو أراد ذلك النظام أن يـخفف من وتيرة أزمته مع الـمجتمع عبر فسح الـمجال لإيجاد إحدى هذه الظواهر .
ومن هنا يأتي زيف وعبثية دعوات الـمصالحة بين هذه الأنظمة وبين اتجاهات الـمجتمع الـمتضررة من وجودها، لأن وجود هذه الأنظمة هو نتاج أزمة سياسية وثقافية مركبة، وبالتالي لا يمكن التفكير بوجود حلول حقيقية لتلك الأزمة مع وجود مثل هذه الأنظمة .
وهنا في هذه النقطة تـحديداً تكمن أزمة البنية الاجتماعية إلى جانب أزمة الفكر السياسي العربي المعاصر ، أي في عدم وجود مشاريع حلول عملية تنقذ الـمجتمع من سلطات مستبدة دون أن يكون البديل ( ثورياً ) يعيد إنتاج الاستبداد بمفاهيمه الـمعروفة وشعاراته البراقة والتافهة من حيث الـجوهر .
ومع وجود هذه الإشكالية الـمطروحة على الـمجتمع ككل، نستطيع أن نعرف من خلالها أيضاً، الفارق الحضاري بين الدولة الديمقراطية وبين الأخرى الاستبدادية، حيث نتعرف بوضوح على مفهوم ( النسق ) الذي يعبر عن وجوده وهويته من خلال مجموعة ظواهر مترابطة ضمن آلية لا يمكن تـجزئتها، ليكشف بالتالي كل نسق عن المستوى الحضاري للحالة السائدة، وهو مستوى لا يتطابق بالضرورة مع مستوى الـمجتمع المعني مائة بالـمائة، لكنه ليس بعيداً عنه. فالـمجتمع الـمتخلف حضارياً ينشئ بالنتـيجة نظام علاقات وتقاليد مـتخلفة، ضمن مبدأ السبب والنتيجة. لكن داخل بنية الـتخلف هذه توجد بالضرورة بوادر أو ظواهر حضارية تحاول باستمرار التعبير عن نفسها كنقيض. وإذا كان من الـمشروع والمنطقي أن يدافع كل مـجتمع عن وجوده ومصالحه، فليس من الذكاء أو الـمنطق الدفاع عن التخلف بـما يعنيه من أزمات اقتصادية وإنسانية، بذريعة الدفاع عن ( الأصالة ) أو (الوطن ) أو (الأمة ) إلا إذا كان الـهدف من ذلك تحويل هذا الدفاع إلى قناع لـتبرير العجز عن حل الأزمات الاجتماعية المصاحبة لـحالة التخلف، إذ تمتلك الجهات المستفيدة من تكريس الـتخلف إصراراً لا يستنفذ على تضليل الـمجتمع وإقناعه بتلك الذريعة .
إن هذه الـحالة أو المأساة موجودة فعلاً ، وعندنا في البلاد العربية تحديداً. والأكثر منها إننا نـجد بعض المثقفين العرب يدافعون عن وجود ومصالح وسمعة الأمة العربية، من خلال دفاعهم عن أنظمة ديكتاتورية وعسكرية تصل في همجيتها إلى أدنى درك ممكن !!
وهو الدرك ذاته الذي تصله أية ثقافة لا تـجد ما يثير حماسها وشهامتها غير شخصية ديكتاتور تأكل في رأسه غرائز وكوابيس معتمة، ولا يـجد حلا لأزماته إلا باغتصاب الـمجتمع وامتهان كرامته وانتهاك تقاليده وحرماته !!
لكن ثقافة الاغتصاب لا تقتصر على شخصية الديكتاتور وتصرفاته، بل إن هذه الشخصية هي نتاج وتمظهر عنيف ومنظم لهذه الثقافة، فالـمتتبع لنشوء ثقافة الاغتصاب عندنا سيجد لـها تاريخاً مديداً. فالـمجتمعات العربية ظلت مكشوفة على مختلف الأصعدة منذ انـهيار الدولة العباسية، إذ تحولت البلدان العربية لاحقاً إلى أماكن متنازع عليها من قبل قوى خارجية، ولـم يكن خضوع العرب للدولة العثمانية ناتجاً عن قناعتهم بـهذه الدولة بحكم ( اسلاميتها ) بقدر ما هو نتيجة لخوفهم من ضياع أكبر ، وهو خوف كامن في شعورهم الجمعي، حيث أصبح تعلقهم الطبيعي بالإسلام من جهة وحذرهم شبه الدائم من ( الصليبيين ) من جهة أخرى، مبرراً لعلاقتهم بالدولة العثمانية رغم الإجحاف الذي لحق بـهم جراء تمركزها . وظل الأمر على هذا الحال حتى بدأت الدولة العثمانية بالتفكك، حيث سادت سلطة قطاع الطرق وأشقياء المناطق بالتزامن مع شيوع نظام الخرافات ورموز الجهل في عقول الناس ومشاعرهم وطريقة عيشهم ، وكان للأوبئة والـمجاعات حصتها في سياق نشوء ثقافة الاغتصاب هذه . 
إن مأساة ومأساوية الوعي العربي المعاصر تكمن في الفارق الكبير بين تاريخ غني ومتنوع وبين واقع منكفئ ومرتد إلى قاع الحضيض، وتحت وطأة هذه المفارقة، نشأت لدينا ( عقدة بطولة ) و ( انتظار منقذين ) ، وهي عقدة نفسية ذات منحى رومانسي، لذلك عبر الشعر أكثر من سواه عن وجوهها المختلفة . الشعر الذي يريده البعض أن يحل محل ما عداه في عصر التقنيات الحديثة والبرامج الاقتصادية الكبرى !! وفي غمرة هذه الأجواء الـمختلة نشأت عندنا ظاهرة الازدواجية الثقافية بموازاة ظاهرة الأحزاب الثورية، أحزاب ثورية انتابتها الـحماسة فجأة، وفي لحظة تاريخية هي من أخطر اللحظات على الصعيد العالمي، لحظة الـتحولات العلمية والحروب العالمية الاستعمارية. ولأسباب ومعطيات كثيرة، فكّرت هذه الأحزاب بان عليها، وبأنـها قادرة على قلب المعادلات والمعطيات التاريخية والراهنة بما يبرر وجودها، لأنـها قرنت وجودها ودعوتـها وصاغت شعاراتـها على هذا الأساس، أي على أساس تلك (المهمة التاريخية ) .
أحزاب ثورية محتشدة بالحماسة وبحق المطالبة بالعدالة الدولية، لكنها لا تملك شرعية اجتماعية، فهي لم تتأسس على إدراك واع للضرورة وسياقاتـها، ولم تنبثق عبر انتخابات عامة، لكي تمتلك مبررات التمثيل الاجتماعي ، بل هي نشأت وتكونت بينما مجتمعاتـها في غفلة عنها وعن سواها، بحكم حالة العزلة والخذلان الحضاري المفروضة على تلك المجتمعات .
أحزاب ثورية مفعمة بالروح ( الوطنية ) و ( القومية ) ، قدمت الـمزيد من التضحيات والشهداء، وبدوافع نبيلة في كثير من الـحالات، لكنها أحزاب بدون ثقافة يعتد بـها، فليس ثمة أي حزب ثوري عندنا، استطاع أن يقدم مؤلفاً واحداً مهماً ينطوي على قراءة تاريخية واجتماعية موضوعية لوقائع الحياة في بلده . أحزاب ثورية لا تـملك أدوات معرفية لتحليل الواقع وإشكالياته، وهي تزعم وتدعي بأنها موجودة لتغيير هذا الواقع نحو الأفضل !! وبسبب هذا الفشل المعرفي المسبق، واللاشرعية الاجتماعية، والـمنشأ السيكولوجي المضطرب، كان لا بد أن تنشأ في داخل هذه الأحزاب ثقافة أخرى مغايرة، هي ثقافة الاغتصاب !! وهنا تكمن أخطر ظواهر الازدواجية الثقافية في حياتنا العربية المعاصرة، حيث الاستبداد والتخلف ينظم ويعيد إنتاج نفسه بأقنعة الإنقاذ والتحرر !! وعلى هذا الأساس اغتصبت هذه الأحزاب سلطة تمثيل المجتمع، أي ادعتها إدعاءً ، بل وظلت تتصارع فيما بينها وبشكل رهيب على اغتصاب سلطة التمثيل هذه، بواسطة شعارات طبقية وقومية وأصولية لا تصمد أمام أي نقاش علمي وموضوعي، ومن هنا كرست نزعتها الاستبدادية وخوفها المزمن من التعددية وحرية الآخرين والحوار الديمقراطي، فهي غالباً ما تروّج شعاراتـها وتعممها عبر العاطفة والغريزة.
وحين تسنى لبعضها أن يغتصب سلطة الدولة، لم يجد أمامه برنامجاً للإصلاح والتطوير لكي يكون منسجماً مع ادعاءاته ومزاعمه الإنقاذية، بل استمر في تطوير ثقافة الاغتصاب وبرنامجها الوحيد الذي هو إخضاع المجتمع عبر المفهوم المعروف والمبتذل جداً للشرعية الثورية .
وهكذا تم اغتصاب حقوق المواطنين المدنية والسياسية ومصادرة حق الاحتجاج على ذلك، باعتبار الاحتجاج عملاً معادياً ومدفوعاً من الخارج !! واصبح الخضوع لظاهرة شراء الذمم من قبل الأجهزة الحزبية والأمنية هو الذي يـحدد ( وطنية ) المواطن أو عدمها !!
أحزاب أنشأتـها حقب تاريخية مُغتصَبة، فظلّت أزمتها الثقافية والحقوقية كامنة في داخلها، فهي تدعي الحرية لكنها تعلم تماماً إنها عاجزة عن إنتاجها، وذلك لأن ( فاقد الشيء لا يهبه ) كما تقول الحكمة.
ثقافة القمع تنشأ أساساً داخل التنظيم ومنذ تكويناته الأولى، وهذا ما يفسر ظاهرة الانشقاق شبه المستمرة التي تميز تاريخ الأحزاب الثورية. ولشدة انكفائها الحضاري، لم يعد بوسعها سوى إعادة إنتاج ثقافة القمع والاغتصاب وتعميمها على الـمجتمع، ولم يعد بوسعها أن تتخلى عن ثقافتها هذه، لأن ذلك يعني سقوطها، لذلك لا يمكن نقضها إلا بإعادة الاعتبار لثقافة حقوق الإنسان والحريات العامة ومفاهيم المجتمع المدني ودولة المؤسسات الدستورية وكل ما له علاقة بالثقافة الديمقراطية. وكل هذا لا يمكن أن يأتي من خلال استمرار الانقلابات العسكرية وتدخل الجيش في السياسة والمؤامرات المعهودة بـهذه الأحزاب ذاتـها، لأنـها ستعيد إنتاج نفس الكارثة. وهذه المأساة إن استمرت لعدة عقود متواصلة، فإن قوانين الحياة لا يمكن أن تسمح لها بالاستمرار إلى الأبد. وقوانين الحياة المقصودة هنا ليست لغزاً، بل هي مصالح المجتمع ذاتها. مصالح المجتمع العراقي التي تضررت من ظاهرة الأحزاب الثورية وعواقبها الكثيرة، فهي فشلت سياسياً وحقوقياً داخل السلطة، كما هو حال تجربة حزب البعث التي وضعت العراق في غمرة الكارثة، بينما فشلت ثقافياً وسياسياً خارج السلطة، فهي لم تستطع أن تقارع هذه السلطة وتسقطها، ولم تتمكن من فرض نفسها كمعارضة ذات شأن على الدول الإقليمية أو الجهات الدولية المؤثرة، بل ظلت تابعة ومهمشة رغم التضحيات الجسيمة التي تحملتها بعض الأطراف. لكن الخلاصة النهائية وذات الدلالة هنا، هي الانكماش الاجتماعي الذي يواجه هذا الأحزاب التي لا تستطيع بأية حال الإدعاء بأن وضعها التنظيمي الراهن أفضل مما كان عليه في الخمسينات والستينات، ناهيك عن تلك الأحزاب التي تتشكل من أفراد معدودين لا يمتلكون سوى الأوهام الانقلابية القديمة ذاتها !!

2- مشروع الحل المستقبلي

وبغض النظر عن طبيعة معادلات الواقع التي يصعب التحكم بـها حسب الرغبات، حيث من المتوقع استمرار ظاهرة الأحزاب الثورية خلال العقد القادم أو أكثر قليلاً، فإن مشروع الحل الممكن مستقبلاً، إنما يبدأ الآن، و ( الآن ) تعني كل لحظة يمكننا الشروع فيها بالعمل على نقض ثقافة الاستبداد والرطانة الثورية، داخل عقولنا ولغتنا، وتبني المفاهيم الديمقراطية داخل البيت قبل المدرسة ، والمدرسة قبل الشارع، والشارع قبل الأحزاب . ولن يكون بوسع المجتمع أن يبدأ بإنقاذ نفسه ومستقبله، إلا بالشروع بمبادرات جديدة وذلك بتشكيل أحزاب مدنية ديمقراطية ، كبديل راهن ومستقبلي للأحزاب والتنظيمات الثورية التي استهلكتها التجربة الماضية واستهلكت هي نفسها شعاراتها المملة، حيث اصبح بين أوهام هذه الأحزاب وبين طموحات وهموم الشارع العراقي أكثر من وادٍ وبحر وصحراء .
الأحزاب الديمقراطية التي يحتاجها العمل السياسي العراقي في حقبة ما بعد نظام صدام حسين، يجب أن تكون مغايرة لناحيتي الشكل والغاية، فالذي يميز الأحزاب الثورية، علمانية كانت أم دينية، هو أن لها أيديولوجيا وشعارات مقدسة ، أي غير قابلة للنقض أو النقد، تريد تحقيقها عبر استلامها السلطة واستئثارها بالدولة ومؤسساتها وامتيازاتها على حساب المجتمع وقواه المختلفة، وهذه الأيديولوجيات والشعارات ثَبُتَ، من خلال التجربة التاريخية والمعاصرة، بطلانها وأصبحت خارج التاريخ وأصبح من العبث بل من الظلم الكبير الاستمرار في تضليل شباب العراق ودفعهم إلى التشبث بالأوهام والعدوات التي كانت هذه الأحزاب وما تزال تنتجها، ويصبح على قادة هذه الأحزاب وكوادرها، ومن أجل مصلحتهم هم قبل سواهم، أن يتوقفوا قليلاً مع ضمائرهم، ليسألوا أنفسهم عن جدوى الاستمرار في مشاريع فاشلة ولا مستقبل لها بعد أن تخلى عنها الحاضر ووضع شعاراتها على الرف ؟!
أن الحزب الديمقراطي المدني هو ظاهرة أخرى مختلفة، ظاهرة حضارية تنتمي لثقافة وضرورات العصر الحديث، ولذلك فإن أوهام وخرافات الأيديولوجيا لا تدخل ضمن اهتماماته، بل أن وجوده وثقافته ومستقبله يعتمد على مفاهيم واقعية واضحة ومحددة تتعلق بالمصالح المشروعة للجماعات أو الفئات التي يمثلها، مصالح تتعلق بنوعية البيت الذي يسكنه المواطن والشارع الذي يأخذ أولاده إلى المدرسة ومناهج التعليم التي يتلقونها، وسوق العمل والقيمة الشرائية للعملة المحلية، أي تلك العوامل التي يتشكل منها مستوى المعيشة اللائق، ولكن لن يكون بوسع أطفال العراق أن يحلموا بكل هذا مع وجود ( بطل تاريخي ) تمتلئ مخيلتهم البريئة بصوره الرهيبة التي يجدونها أمامهم أينما التفتوا، وَتُبح أصواتهم الطرية وهم يرددون الأناشيد التي تمجده !! وهذه باعتقادنا أكبر جريمة ترتكبها الأنظمة الثورية بحق مواطنيها، في حين لا نجد مثل هذه الظواهر السمجة في النظم الديمقراطية، لأنه لا أحد يجد مبرراً أو فائدة منها. 
أن ظاهرة الحزب الديمقراطي المدني تتأسس على ثلاثة أبعاد، هي :
الأول :  الثقافة المدنية التي تؤمن حقيقةً بالديمقراطية وصناديق الاقتراع كخيار حضاري لا بد منه، بحيث يرتبط وجود وتطور هذه الأحزاب بالنظام الديمقراطي ارتباطاً مصيرياً، لكي يتحول تباين المصالح واختلاف وجهات النظر إلى حوار يخدم دائماً المصلحة الوطنية التي يأتي في مقدمتها وجود واستمرار النظام الديمقراطي نفسه، لأن هذا النظام هو الذي حمل الحزب المعني إلى السلطة وهو الذي يكفل في نفس الوقت حقوق الأحزاب الأخرى وخاصة حقها في المعارضة والتعبير عن الرأي في مختلف المجالات، أي مسئولية الدولة في دعم أحزاب المعارضة مادياً ومعنوياً لكي تتمكن من الاستمرار والتطور .
الثاني : أن تكون لهذه الأحزاب هوية عراقية تعتمد أساساً على مبدأ احترام إنسانية المواطن العراقي وحقوقه ومصالحة، بعيداً عن لونه أو قوميته أو دينه أو طائفته، وهذا ما سيكرس ثقافة الوحدة الوطنية التي يجد فيها الجميع مصالحهم وضمان مستقبلهم، فيصبح ضمان وحدة العراق واجب ومبدأ وثقافة، طالما ارتبطت هذه الوحدة بالمصالح اليومية والمصيرية للعراقيين عموماً، ومن هنا تتشكل نواة الأمة العراقية سياسياً وحقوقياً فتصبح الدولة العراقية هوية حضارية مشتركة لجميع العراقيين، ووجود الأمة العراقية في هذه الحالة لن يتناقض مع وجود ومصالح الأمة العربية أو الكردية .. بل سيغنيها ويطور مصالحها المشتركة .
الثالث : أن تكون لكل حزب هوية طبقية لا تتناقض مع الثقافة الحقوقية لنظام الدولة الديمقراطية، بل يعتمد كل منهما على الآخر في ضمان وجوده وتطوير مصالحه. فالحزب أو الأحزاب التي تمثل مصالح البرجوازية الكبيرة والمتوسطة لا بد وأن تكون منبثقة من صفوفها لتمثل وتضمن مصالحها داخل الدولة وخارجها، حيث يحق لهذه الطبقة أن تساهم مباشرة في تكوين وإدارة وتطوير النظام المصرفي والصناعي والتجاري في العراق، فبدون أن تمتلك هذه الطبقة ما يمثل حقوقها وحريتها في العمل داخل بلدها ، يصعب الحديث عن تطور ملحوظ للاقتصاد العراقي. وليس من الخطأ الحديث عن حزب مواز لبرجوازية الريف وامتداداتها داخل المدينة، ناهيك عن إمكانية تصور وجود أكثر من حزب يمثل الطبقة نفسها ..، أما الحزب أو الأحزاب التي تمثل مصالح الموظفين والعمال وعموم شغيلة المدن والأرياف، فهي ستتمتع بكافة الحقوق التي للأحزاب الأخرى،  إلى جانب زخمها المطلبي، فهي ستعمل أساساً على إيجاد وتطوير ( نظام الضمان الاجتماعي ) الذي يعتبر العنوان الأساسي لثقافة حقوق الإنسان، وهو لا بد أن ينهي وإلى الأبد ظاهرة الفقر والتشرد في العراق، وذلك من خلال المعالجات الدائمة لأنظمة الإسكان والتطوير المستمر لسوق العمل، بحث يصبح العمل والإنتاج قيمة أساسية ومقدسة في الثقافة العراقية، فتصبح الأولوية في تحمل المسؤولية للمهندس والعامل والعالِم والتاجر والأكاديمي والصناعي، وليس لحملة تلك الألقاب الزائفة ( كالقائد والزعيم والرفيق  والمناضل .. ) إذ ستتغير اللغة السياسية السائدة مع تغير البنية الحقوقية للدولة، وهذا موضوع جديد في الثقافة العراقية لنا وقفة أخرى معه.



#كريم_عبد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تـحتَ مطرٍ خفيف
- المرأة في أروقة الدولة العربية !!
- المضطرب يُنتج أفكاراً مضطربة عن نفسه وعن الآخرين
- طبيعة السلطة وتأثيرات النسق الثقافي – الاجتماعي
- في تحولات الثقافة الإنسانية : العودة إلى الغابة !
- العالم موضوع فرجة والإنسان كائن متفرج !!
- الضحية تشتاق إلى جلادها، حمزة الحسن نموذجاً
- ثلاثُ مراثٍ لرياض إبراهيم
- قصيدة حب
- القناع المقدس والعنف الرسمي !!
- إلى موفق محايدين : شيوعيو ( مجلس الحكم ) أنبل بالتأكيد من قو ...
- الموتُ رمحُُ طويلُُ ُ تكسَّـر في قلوبنا !! - من أجل شريف الر ...
- الدولة والثقافة ومصير الإنسان !!
- نداء إلى جميع الكتاب العراقيين الشرفاء
- أزمة الثقافة العراقية في سياقها العربي ( 1 & 2 ) :ثقافة سعدي ...
- كتاب لا يتحدث عن العراق لكنه ضروري جداً للعراقيين !!
- من أوراق المنفى : رسالة إلى حسين كامل !!
- الإعلام المصري والمسؤولية الأخلاقية !!
- رداً على مناقشة حسين بن حمزة ونجم والي إبداعات المنفى العراق ...
- الحزبية الثورية ، في المعارضة أو الحكم


المزيد.....




- روسيا تعلن احتجاز نائب وزير الدفاع تيمور ايفانوف وتكشف السبب ...
- مظهر أبو عبيدة وما قاله عن ضربة إيران لإسرائيل بآخر فيديو يث ...
- -نوفوستي-: عميلة الأمن الأوكراني زارت بريطانيا قبيل تفجير سي ...
- إصابة 9 أوكرانيين بينهم 4 أطفال في قصف روسي على مدينة أوديسا ...
- ما تفاصيل خطة بريطانيا لترحيل طالبي لجوء إلى رواندا؟
- هدية أردنية -رفيعة- لأمير الكويت
- واشنطن تفرض عقوبات جديدة على أفراد وكيانات مرتبطة بالحرس الث ...
- شقيقة الزعيم الكوري الشمالي تنتقد التدريبات المشتركة بين كور ...
- الصين تدعو الولايات المتحدة إلى وقف تسليح تايوان
- هل يؤثر الفيتو الأميركي على مساعي إسبانيا للاعتراف بفلسطين؟ ...


المزيد.....

- الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات / صباح كنجي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل ... / الحزب الشيوعي العراقي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو ... / الحزب الشيوعي العراقي
- المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت ... / ثامر عباس
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11 / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3 / كاظم حبيب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - كريم عبد - أزمة الثقافة السياسية ومشروع تكوين الأمة العراقية