أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - ياسر العدل - الدمايطة الجدد















المزيد.....

الدمايطة الجدد


ياسر العدل

الحوار المتمدن-العدد: 2293 - 2008 / 5 / 26 - 09:01
المحور: المجتمع المدني
    


فى الأسبوع الماضى وبالتحديد فى الخامس عشر من مايو الحالى 2008م قابلت صديقى، كلامه قليل وسيارته عاطلة ويسب سيارتى ولم يقم طوال عمره المديد بزيارة لمدينة دمياط، وأنا املك سيارة فاضحة البساطة مستأنسة الفقر تكفل لركابها أن تتركهم العيون دون حسد عليهم أو خوف منهم أو رجاء فيهم، منذ سنوات خلت قمت بزيارات قديمة لمدينة دمياط، هكذا أصبح الأمر جاهزا لأن نركب سيارتى من فصيل الماعز القديم، كثير من الصوت والرجفة وقليل من الحذر، وأصبحت فى التاسعة صباحا داخل القاهرة قائدا ومرشدا لرحلة يخوضها اثنان من حملة أمراض السكر والضغط والذكريات العجوزة.

اسمع يا صديقى، فى زياراتى السابقة إلى دمياط القديمة رايتها مدينة تقع على الشاطئ الشرقى لنهر النيل، كتلة من المبانى غير المنظمة تتخللها حارات وشوارع ضيقة تنتشر فيها مئات الورش لصناعة الأثاث والحلويات ومنتجات الألبان، لا يملك أهلها البسطاء متنفسا على نهر النيل، فشاطئ النهر الطويل استولت عليه أندية الصفوة، ومجرى النهر الضيق استولت عليه مزارع سمك يعيش على النفايات فأصبح ضارا بالإنسان والنهر، سمك لا يعرف العوم، وماء النهر الكسول اختلط بمياه صرف صحى تلقيها البيوت المتاخمة للشاطئ، هكذا يا صديقى امتلكت دمياط شاطئا نهريا فقيرا ملوثا نفاذ الرائحة، نهر يعبرونه إلى محطة القطار فوق كوبرى ضيق من المعدن لا يزيد طوله عن مئة متر، كوبرى اثرى حصلوا عليه فى أوائل القرن الماضى،

يا صديقى اسمع، رأيت فى معظم الدمايطة صناع وحرفيون يعيشون وفقا لنظام قاسى من العمل فى الورش الصغيرة، ساعات طويلة يقضونها فى العمل وتتركز اهتماماتهم على الكسب من الإنتاج والتجارة، ونتيجة لذلك أصبح متصورا لدى أمثالى أن العاملين فى نظام الورش الصغيرة وأصحاب الصناعات الصغيرة لا يكترثون بالعمل السياسى المعتمد على تفاعل المجموعات الكبيرة، وأصبح مبررا عند أمثالى ممن يعيشون على ثقافة الزراعة أن يصدقوا ملح ونوادر تشاع عن الدمايطة، حين يلقونك ( تشرب شاى وإلا إنت مش كيُيف) وحين يستضيفونك ( تحب تتعشى وإلا تنام خفيف).

وصلنا مدينة دمياط ظهرا، وفى أول مقهى بالميدان الكبير ألقينا الجثث على الكراسى المريحة وطلبنا اثنين شاى، فجأة واجهتنا لافته سوداء علقت على البناية المقابلة ( لا لمصنع السموم) ولافته أخرى ( نريد حياة أفضل لأطفالنا) ، وثالثة (بالروح والدم نفديك يا دمياط) ، لا نعرف ما هى الملامح التى ظهرت علينا حتى اكتشف بعضهم أننا غرباء، لعله إجهادنا أو تلكئنا أو أرقام سيارتنا الغريبة، هى دقائق حتى اقبل علينا رجل هاش باش فى الأربعينات من عمره، أقترب منا وعرف لنا نفسه بأنه صاحب المقهى، وحين أبدينا له دهشتنا لتلك اللافتات جلس معنا مرحبا وقال :

- أهلا بالضيوف، شرفتم دمياط، ثم ابتسم قائلا:

- أولا إحنا دمايطة وانتم ضيوفنا، يعنى الشاى على حسابنا، فابتسمنا نلاطفه وجاوبناه:

- يا عم إنت دمياطى، أوعى تقول غدائنا عليك، فابتسم وقال مؤكدا:

أنا دمياطى أصيل، نعرف نكرم الضيف، عندنا كل اللى تطلبوه، فهششنا له وقلنا:

- ربنا يكرمك، قل لنا إيه الحكاية فجلس بجوارنا وأخبرنا:

هذه اللافتات ومئات مثلها منتشرة فى منطقة دمياط وضواحيها حتى مدينة رأس البر، الحكاية إن فيه ناس أكل العمى قلوبهم، من أجل مصالحهم الشخصية يحاولون إنشاء مصنع لسماد الأمونيا الملوث للبيئة والضار بصحة الناس واختاروا أجمل موقع فى بلدنا على جزيرة رأس البر، هذا المصنع وأمثاله لا يقيمه الأوربيون أو الكنديون أو الأمريكان فى بلادهم لأنهم يعرفون أضراره على الصحة والبيئة، نحن فى نظرهم الحيطة المايلة يركبوها ببعض الأساليب الملتوية وغير الشريفة، إنهم يريدون أن يكسبوا بلايين على حساب صحتنا ومستقبل أولادنا، مصنع سماد الأمونيا لو قام هنا فانه سيضر بحياة ومصالح مليون شخص ويقتل أكثر من ثلاثة مليون شجرة حيه ومثمرة من النخيل والفواكه ولا يحقق فرص عمل لأكثر من مائتين وخمسين فرد فقط، يعنى عدد عماله لا يزيدون عن عدد عمال مصنعين صغيرين أو ثلاثة لصناعة الحلويات، إحنا فى دمياط عاوزين الناس تشتغل وتكسب بالحلال والأصول، وإذا كان لازم ولابد من إنشاء المصنع فعليهم إقامته فى منطقة ثانية بدون ضرر لأحد.

كان الرجل متحمسا يرى انه صاحب قضية، وحين استعدنا نشاطنا مع تناول الشاى طلب لنا مشروبات باردة واخذ يؤكد لنا أنه واحد من عشرات آلاف الرافضين لإنشاء المصنع وأشار بالسبابة والإبهام إلى صدره قائلا:

- نحن الدمايطة مصممون على الحفاظ على بلدنا وسنتصدى لأصحاب المصنع بالأصول وبالقانون، كان صادقا فتحمسنا لأرائه، وعلى غير توقعنا أقسم على أن مشروباتنا عل حسابه وأصر على أن يصطحبنا إلى باب السيارة مودعا.

تركنا مقهى الرافض الأول لنجد أمامنا عربه تحمل بعض الكراسى الخشبية يجرها حصان يسير برشاقة وضع صاحبه ( الرافض الثانى) على رأسه لافته صغيره من ورق صلب ( لا للسموم)، ومر أمامنا شاب صغير يركب دراجة هوائية وفق رأسه (حفاظا على أطفالنا).

عبرنا نهر النيل على كوبرى جديد واسع من المعدن وسرنا على الشاطئ واختفت من النيل مزارع الأسماك وقرأنا لافته رائعة كتبها دمايطة يفتخرون بإرادتهم الشعبية ( إحنا اللى نقلنا الكوبري.. الدمايطة) وتعددت اللافتات تحمل نفس العبارة افتخارا بنقل بقايا الكوبرى القديم ووضعه على شاطئ النيل أمام مكتبه عامه رائعة ليجتمعا فى شكل حضارى يستمتع به سكان المدينة.

هكذا أصبحت مدينة دمياط أكثر نظافة واتساعا، تصافح وجهها النهر بكورنيش جميل رائع ويصافحها النهر بمياه نظيفة خالية من بقايا مزارع الأسماك ومياه الصرف الصحى.

عند اقتراب وقت العصر تمايلت سيارتنا على طريق زراعى لمسافة عشرة كيلومترات حوله أشجار وارفة وزراعات مثمرة وبينها عشرات من لافتات المقاومة المدنية، ( بالروح بالدم نفديك يا دمياط )، (لا للفساد00 لا للتلوث)، ( نحن ننقذ أطفالنا )، ودخلنا جزيرة رأس البر حيث فى طرفها الشمالى مدينه راس البر السياحية، مدينة رائعة الجمال تقدم خدماتها لكل طبقات المصريين، وعلى شاطئ البحر المتوسط عند ملتقى النيل والبحر التقينا بثلاثة من الأصدقاء يتنزهون بجوار الفنار الجديد، شاركناهم الجلوس على مقاعد خشبية تحتها أرض من أحجار الجرانيت الملون، وبدأ نسيم البحر يلاطفنا فى أيام صيف رائعة، قلنا لهم:

- المكان هنا رائع تصميمه حضارى رائع، لابد انه تكلف كثيرا، قال أحدهم:

نحن دمايطة نعرف معنى العمل والتجارة، هذا المكان الجميل تكلف ثلاثة مليون جنيه لم تدفع الحكومة منه مليما واحدا، المحافظة قامت بإنشاء هذا المشروع وبجواره بعض المحلات السياحية وقامت بتأجيرها بحوالى اثنى عشر مليون جنيه، إنها تسعة ملايين جنيه إيراد صافى للمحافظة استخدمته فى إنشاء خدمات حضارية للمواطنين فى باقى قرى ومدن المحافظة، هذه هى الخطة الإدارة المحلية لمحافظتنا تستفيد بشكل علمى من مدينه راس البر باعتبارها دجاجة تبيض ذهبا ينفق منه على أغراض تنموية وحضارية تحت الرقابة الشعبية.

وقال الثانى:

- هذا جمال بلدنا ورثناه عن جدودنا ونحاول أن نضيف إليه، ومع ذلك تحاول شركة أجريوم الكندية وشركائها فى مصر إنشاء مصنع للسماد ينتج فى منطقتنا خليطا من الفساد والنشادر والأمونيا والصرف الصناعى قاصدين القضاء على هذه الجزيرة الجميلة والإضرار بمستقبل أولادنا فى حقهم فى الحياة فى بيئة نظيفة.
وحين سألنا الأصدقاء من الذى ينظم هذه المقاومة الشعبية الرائعة، قال الثالث:

- كلنا دمايطة نجود على أنفسنا بكل ما نستطيع وإنا لفاعلون.

كان تعاطف الأصدقاء الدمايطة معنا كافيا لنطرح عليهم سؤالا حيويا ذو شقين، ماذا سيحدث لو أن القيادات الكبيرة المتعاطفة معكم تخلت عنكم ؟ فهل لديكم آليات للاستمرار فى مقاومتكم؟، قالوا:

هذه نقطة ضعف فى المقاومة الشعبية، إننا لا نعرف يقينا كيف سيكون الحال حين يتخلى عنا المخلصون، إن المقاومة تعتمد على خطط ومناورات يقوم بها خبراء على الطرفين والغلبة لمن هم أكثر تنظيما وامتلاكا لآلية الاستمرار بعيدا عن وجود شخص أو رحيله، لكننا واثقون من جدوى أسلوبنا الحالى، وبالتأكيد سنغير أدواتنا حين تتغير الظروف.

مع اصفرار الشمس وعلى بعد لا يزيد عن خمسة كيلومترات من قلب مدينة رأس البر مررنا على الأرض المزمع قيام المصنع عليها غرب الجزيرة، ورأيت مع صديقى أن الخراب قادم لا محالة إذا نجح التدليس ومشاريع العولمة الجهنمية فى إقامة المصنع فى هذه المنطقة.

عندما أتى المساء كنا ننطلق على ظهر سيارتى المعزة محملين بهدايا من الحلوى قاصدين اللحاق بأهلنا لنقص عليهم أن صورة الانتفاضة الرائعة لأهل دمياط تضرب أمثلة عليا لقدرة الضغط الشعبى على صناعة القرارات المصيرية.

على مقربة من القاهرة وفى الوقت المناسب نطق صديقى، مؤكدا أن سيارتى رائعة أحسن من المعزة قليلا، سارت أكثر من أربعمائة كيلومتر دون أن تتعطل، وان رحلتنا فى بلادنا أروع، نرى الناس فى جمالهم الحقيقى، وأننا فى مصر بحاجة إلى أهداف حضارية كبيرة يتكاتف الجميع على إنجازنا، أهداف يصاحب تنفيذها وجود آليات علمية تضمن مواصلة السير على الطريق، لنصبح جديرين بحمل لقب الدمايطة الجدد.



#ياسر_العدل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- دعوة للثقافة 00 بشروط
- دعوة للثقافة ... بشروط
- أنا عاوز أتجٌوًز
- إنهم يأكلون سذاجة
- أولاد العم تاج
- رجل غراب ..وخُف جمل
- أنا شاهد وكنت يقظا
- بعض الكتبة مزعجون .. وأنا أيضا
- بعض الكتبة مزعجون
- جدل التمييز الدينى والدولة المدنية
- ديمشلت 00 دعوة لجمع التراث
- اللغة العربية والتفاعل الحضارى
- سياسة التعليم وخرابنا القومى !!
- موظفون يفسدون عيد الدقهلية
- رواتب الولاء00!!
- مشروعنا النووى 00 مطالب!!
- شهادة البنت 00 نوسه!!
- نحن لها 00 يا سيادة الرئيس!!
- سيناء 00 أرض التيه!!
- إسترعاء 00 واستبراء


المزيد.....




- منسقة الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية تؤكد مسئولية المجتمع ال ...
- ارتفاع حصيلة عدد المعتقلين الفلسطينيين في الضفة الغربية منذ ...
- العفو الدولية: المقابر الجماعية بغزة تستدعي ضمان الحفاظ على ...
- إسرائيل تشن حربا على وكالة الأونروا
- العفو الدولية: الكشف عن مقابر جماعية في غزة يؤكد الحاجة لمحق ...
- -سين وجيم الجنسانية-.. كتاب يثير ضجة في تونس بسبب أسئلة عن ا ...
- المقررة الأممية لحقوق الإنسان تدعو إلى فرض عقوبات على إسرائي ...
- العفو الدولية: استمرار العنصرية الممنهجة والتمييز الديني بفر ...
- عائلات الأسرى المحتجزين لدى حماس تحتشد أمام مقر القيادة العس ...
- استئجار طائرات وتدريب مرافقين.. بريطانيا تستعد لطرد المهاجري ...


المزيد.....

- أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال ... / موافق محمد
- بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ / علي أسعد وطفة
- مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية / علي أسعد وطفة
- العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد / علي أسعد وطفة
- الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي ... / محمد عبد الكريم يوسف
- التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن ... / حمه الهمامي
- تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار / زهير الخويلدي
- منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس ... / رامي نصرالله
- من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط / زهير الخويلدي
- فراعنة فى الدنمارك / محيى الدين غريب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - ياسر العدل - الدمايطة الجدد