ترجمة/ سامي شكر علي
في كل يوم حينما كان الفجر يقبل وجنة الليل، وينشر اللون الوردي في مقلته، شبح رجل كان يبدو في القرية رويدا رويدا. وكانت خطواته مثقلة باضطهاد الأيام وقساوة العمل، وكلما كان يسرع في خطواته، كان الطريق يبدو بعيدا أمام ناظريه، وتحسر بآخر أنفاس التعب حتى وصل الى الاسطبل الذي كان يبعد عدة فراسخ من بيته، وكان مليئا بالجواميس "منذ أن وجدت تذوق الآلام وتمنحها للآخرين، ومنذ أن وجدت لم تفكر مرة بابنتك الوحيدة. بماذا تسعد ولماذا تغدو تعيسة؟! .. علائم السخط كانت بادية في عينيها…لكن…كيف تتراجع عن وعودك؟ أنا رجل ذو غيرة ونخوة وشهامة… انك مذنب دوما، انك ضائع وتائه في شراء الجواميس لا تفرق بين أفراد عائلتك وخاصة ابنتك والجواميس، ودوما تحاسب الجميع كأنهم بهائم. أنا أحتضر.
بهذه الكلمات كان يؤنب روحه، وأعماقه نتقطع بساطور من صخر. وفي تلك الايام التي كان يملأ فيها باب ذكرياته الحاضرة، لم يعر اهتماما لذلك الفتى الذي كان يحضر منذ مدة مع أبيه لابتياع الجواميس وقطعان الماشية، وكانا يرسلانها الى خارج الحدود، ومن ثم يعودان إلى البيت ليشتريا قطيعا آخر.
وبعد أيام نبع عشق ملتهب، أطفأ روحه، جعل أضواء المنعطفات ظلاما دامسا، علما بأن "كولة" من رهبة أبيها واخوانها الستة لم تجرؤ أن تبادله ابتسامة إلا بالخفاء، رغم أن ضفاف روحها كانت تجرفها أمواج العشق، وتحت الحصاة الصغيرة كانت تلصق حجر الأمنيات بشاهدة الضريح المقدس حيث أن صويحباتها القرويات كن ينتظرن مصائرهن، لكن أركان العشق كانت تنهار حينما تنصت لأبيها وهو يقول:
لي بنت وحيدة ولا يمكن أن أزوجها من غريب ولا أبعدها عني، فكيف الأمر بالنسبة لشخص من مملكة أخرى، إنها لابن أخي، ولا يجوز لأحد أن يتمناها. كانت خزانة عمره الملأى بالأسرار شغله الشاغل وترانيم النقود هي التي تستحوذ على نفسه المعتمة ولم تنرها المصابيح مرة لتبعده عن أهواء النفس وتغاريد الإحساس وجمع النقود والمحاصيل والبهائم. وقد جمع حوله ستة أولاد ولم يزوج أحدا منهم، لأنه كان يحب أن تكثر الأشياء حوله وأن تتصف بصفاته واسمه.
وكان يعتقد أنه إذا تزوج أحد أبنائه سيبتعد عنه، وبالتالي لا تبقى بينه وبينهم حينذاك أية علاقة، لذا غدا حتى خرير النهر بالنسبة لـ"كولة" كدرا، وأسود الكون في ناظريها وصم سمعها. وأنفاسها غدت باردة وكأنها تستقبل الموت ببطء وبصورة طبيعية. وفي مساء ذلك اليوم الذي حضر فيه حبيبها "صمد" بتخطيط مسبق منحها مفتاحا من الأمل وشيئا من القلق، وقررا بعد أن يخيم الهدوء على كل شيء وتظهر الأنجم، أن يتركا المكان.
* * *
الخريف اسقط آخر الأوراق من على الأغصان، والدموع بدأت تتساقط من عيني "طولة"، والليالي والنهارات الطويلة بلا رفيق وأنيس لن تنتهي، والحزن ضيق الخناق على العشق، والخصام بدأ يكبر بينها وبين "صمد" يوما بعد يوم.. لذا كان ذرف الدموع ملاذا تحتمي إليه في حياة التعاسة التي كانت تحياها، كانت تبكي بلوعة العشق المحرومة للأمس، ويومها الدامس. وغدها العاثر…!
اشكري ا لله.. لأنني أبعدتك عن أبيك وإخوانك كيلا يقتلوك، وأنا بقدر ما اشعر بالموت من جحودك أشعر بالموت لبعدهم عني!"كنت رهينة أهلي وستة إخوان. والآن سجينة أربعة جدران، وطوال النهار أتلقى الكلمات النابية، منذ الربيع لم أر أهلي، ولم أسمع أخبارهم، هاهو الشتاء قد حل، ولكثرة ما حلمت بهم أصبت بالصداع والآلام في رأسي، ومنذ شهور لم تدعني أن اكلم أحدا" هكذا أجابته ثم أضافت" لم يبق في قوس الصبر منزع، لنسرع إليهم ونطلب المغفرة منهم، أنا سائرة نحو الفناء.. صمد ساعدني لأزورهم".
- تستطيعين، مثلما لحقت بي إلى هنا، أن تعودي إلى أهلك.
هذه العبارة كانت لعنة تهز كيانها وآفة كانت تثقب أعماقها رويدا رويدا، وكانت الجاموسة السوداء التي ابتاعها صمد وأبوه واللبن الخاثر هي سلواها..!
حيث انهم قاموا بتربيتها لأنفسهم، وغدت حضنا حنونا لاستقبال دموعها. يوما بعد يوم كانت آفة الحزن تنتشر في جسدها الغض وتشل أقدامها وبسمات ربيعها فارقتها بسرعة، وغدت ذابلة بشكل لم تقو على عمل أي شيء عدا برنامجها اليومي الذي يتكرر يوميا، حيث كانت كرضيع مفطوم عن أمه ويحبو نحو الأسطبل الذي ربطت فيه الجاموسة السوداء، كانت تحتضن الجاموسة وتمطرها بالقبلات، وكل قبلة تجسد صورة أبيها وأمها وأهلها ومعارفها في بؤبؤة عينها.
" أفدي عينيك العسليتين أيتها الجاموسة الحبيبة،عيناك تشبهان عيني صديقتي (بهار)، حيث كنت أبوح بكل أسراري لها مثلما أفعل الآن معك، كنت اضجرها بحديثي ليل نهار عن حبـي لصمد الجاحد، أيتها الجاموسة العزيزة فيك أجد رائحة أهلي ووطني وأنت بمثابة كل شيء لدي.
ثدياك تفوح منهما رائحة أصابع أمي التعبة الخشنة، وجهك ورقبتك تلتصق بهما رائحة أبي واخواني، لم يبق لي إلا أنت، وكم من مرات كلمتك، فلو كنت صخرة لنطقت، قولي ماذا افعل؟
قولي لي كم من الزمن نبقى، نحن ذو حظ عاثر، حياتنا كولادتنا ليست باختيارنا، أحلامنا لاتصل الى حد النطق وتذبل.
بربك، لا تكوني كالزمن اويني، عرفيني بشيء يشبه الوطن، كل الصور قد ضاعت في مقلتي، فقد تستطيع أيادي الغربة السوداء ان ترشق كل تلك الصور في الذاكرة، ماذا افعل … كيف أكسر قيود الغربة والبعد وقيود هذا الظالم؟ ليس بوسعي التحمل، انظري كيف علمني حزن الغربة ان أنطق، تعالي نهرب معا، أه لو كان بإمكانك ان تردي على لامتطيت ظهرك وتوجهنا نحو منزلنا، انني اسير نحو الموت، فالافضل ان أموت عندهم أو يقتلوني أو إذا تبرأوا مني فلأمت في وطني، لأنني وحيدة هنا بلا أصدقاء مخلصين، كان صمد ملاذي وقد تحول الآن الى حالة لم أكن اتصورها.
الجاموسة السوداء في هذا الوقت بالذات و(بانفعال) رفعت رأسها واغرورقت عيناها بالدموع، راحت تنظر الى أعماق السماء وبخوار يائس ومهموم هزت المكان، ولكثرة ماشكت طولة حالتها للجاموسة، راحت تضعف ويقل حليبها ويشيخ وغدت حالتها أشد سوءا، وكانت الاثنتان في معادلة نفسية متشابهة، لذا قررت ان تقوم بتحرير نفسها ثانية في ذات الوقت والساعة التي كانت قد هربت فيها مع حبيبها، وان تعود مع الجاموسة الى اهلها ووطنها وهيأت نفسها لايام وأعدت صرة وضعت فيها الخبز والمستلزمات الضرورية للرحيل.
وفي الليل وفي الساعة التي هربت مع حبيبها غادرت البلد الكئيب المظلم مع الجاموسة واتجهتا نحو القرية النائية.
الجاموسة السوداء استمرت في قطع الوديان والسهول والجبال، لكن التعب أصابها وبدأت تتعثر وتميل يمينأ وشمالا وتبتعد عنها، ولشدة هطول المطرد والبرد اصبحت شفتا كولالة زرقاوين، واصابها الإنهاك، وكانت تئن انينأ خافتأ مسموعا كالهمس، وجعبتها فيها من الطعام كان يكفي لعدة ايام- لكن طولالة المنهكة المتعبة تحملت البقية الباقية من العناء والمشقة، حتى عبرت الحدود ووصلت الى وطنها.
وفي كرنفال النسيمات الاحتفالية تلك، نثرت أنفاسها على وريقات الأزاهير، وروحها المشردة توجهت الى أزقة اخرى، حيث كان بيتها قابعا هناك مواعيد لقائها كانت هناك ايضا حيث كان الملتقى في اسطبل الجاموسة السوداء.
بهموم مثقلة كانت تعبر الجاموسة قرية بعد أخرى، وخوارها كان يذيب القلوب المتحجرة، والناس حينما ينظرون اليها يصابون بالذهول والإندهاش والخرس لفترة وجيزة، وبعضهم كان يلح ويقول :-
- انه يوم النشور، لم نر ولم نسمع الى الآن بأن جاموسة تحمل ميتا، وتكون على قدر من الدراية بالطريق وتعود الى الدار وتذرف الدموع كالانسان على الميت.
- إنها لخرافة …. لخرافة ..!!
- وفتح باب الكلام، وكان لكل واحد منهم وجهة نظر و رأي.
- ربما هي معجزة نزلت من السماء
- الناس اصبحوا بلا رحمة وشفقة، وهذه تريناحب الحيوانات.
- كل هذه الخطايا، ولم لا تقوم القيامة؟
- تمعن كيف ان هذه الجاموسة بهذه الجرأة … فداؤك الذين امتلأت قلوبهم بالكراهية.
- انها لمعجزة تدعو الناس للتوبة، هذه المرأة بريئة، لذا أثابهــا ا لله بهذه المعجزة.
- من يدري انها من صنوف الأولياء والأئمة والصالحين، لنذهب ونقص جزءا من قماش ثوبها ونجعله بركة.
- لنتبع خطوات الجاموسة ونقتفي أثرها، لنعلم الى أين تسير وماذا تفعل؟
- كيف تقول هذا الكلام، ألا تخاف ان تصاب بالعمى بسبب محاولتك معرفة أسرارها؟!
- من يدري لعلها من بنات خضر الولي
- ايها الملا (…) نورنا بربك
- بسم ا لله الرحمن الرحيم. هذا سر لايعلمه إلا ا لله سبحانه وتعالى، لا احد منا يستطيع ان يفتي في هذا الأمر لانه سيؤول كفرا …
قديسة هذا الحيوان الأعجم لقد ورد اسمه في القرآن الكريم، وغدا اسمه مباركا، وفي الوقت الذي يخاطب فيه موسى عليه السلام قومه ! (ان ا لله يأمركم ان تذبحوا بقرة) وفي جواب القوم قالوا (أدع لنا ربك يبين لنا ماهي ان البقر تشابه علينا وان شاء ا لله لمهتدون)/ سورة البقرة.
ومن أجل ذلك ايها الاخوان المؤمنون والمؤمنات لاتشغلوا بالكم بهذه الوساوس.ليبعدنا ا لله لأنها تسبب لكم الكفر والظنون، حيث ان موسى نفسه لم يبصر شكل ولون هذا الحيوان حتى أتاه الوحي من رب العالمين، فالزموا الصبر (ان ا لله مع الصابرين). هدأ الناس، والتفتت الجاموسة السوداء بغموض واحتقار اليهم، ما هذه التهم التي اتهمتموني بها.
وكان هناك رجل لم ينبس ببنت شفة، أومأ برأسه وترك الجموع حتى وقف أمام هذا الحيوان تأمله عن كثب كأنه يحاوره بالعين، والجاموسة تنظر اليه بعيون ملأى بالدموع، وتئن أنينا خافتا لاتتحمله عاطفة أي انسان، وكان الرجل يفهم ما أرادت، فأتى بحبل وشد به الميت الموجود على ظهر الجاموسة كي لايسقط …! وبعد ذلك أسرعت الجاموسة أكثر من ذي قبل في السير حتى توارت عن الأنظار، وبعد ثلاثة أيام بلياليها وصلت القرية قبل طلوع الفجر.
* * *
أهل كولالة كانوا قد تنبؤا بحصول شيء بإحساسهم، حيث لم يروا شيئا ملموسا ومرئيا، والإخوان الستة وبقرار من والدهم كسحوا الثلج من الزقاق وباحة الدار منتظرين من غير أن يعلموا بأن الذي سيأتي ترح أم فرح، وكانوا منشغلين بتنفيذ قرار أبيهم الذي كان يؤدي صلاة الصبح، لقد صحت أمهم من نومها على أثر تراتيل ودعاء أبيهم، حيث قال الأب :
هيئي طعاما كثيرا لهذا اليوم، واتركي الحزن والبكاء والنوح على الأولاد، لأنني حلمت بأن ضيوفا سيزوروننا، ضيفا عزيزا وحبيبا لنا كنا بانتظاره منذ زمن، سأبقى في البيت ولن أغادره وأنتم كذلك، وفي هذه الأثناء سمعوا خوارا معروفا لهم. الخوار الحزين يقترب وعند فتحهم الباب وجدوها تمسح الباب بأنفها وعلى ظهرها العزيزة الهاربة.
حزيران/ 1997 السليمانية.