أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - شاهر أحمد نصر - المجتمع المدني ضرورة اجتماعية ووطنية















المزيد.....


المجتمع المدني ضرورة اجتماعية ووطنية


شاهر أحمد نصر

الحوار المتمدن-العدد: 702 - 2004 / 1 / 3 - 06:31
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


نظرة تاريخية
مرت المجتمعات البشرية بمراحل مختلفة في تطورها، أخذت البنية الاجتماعية فيها أشكالاً متنوعة مختلفة، من حيث موقع الفرد في المجتمع والتفاعل المتبادل بينهما.. وقد اصطلح، في علم الاجتماع، على تسمية الحالة التي تتميز، في إطارها العام، باستقلال الفرد عن الأسرة والعشيرة، واعتماده على المجتمع، واعتماد المجتمع على الفرد ؛ بالمجتمع المدني.
لقد قصد أكثر من معنى من اعتماد هذا المفهوم، حسب المرحلة التاريخية التي استخدم فيها؛ فمع استقلال الإنسان عن الطبيعة، وبنائه علاقات جديدة، أسما من العلاقات الطبيعية (شبه الحيوانية) بنيت اللبنات الأولى في كثير من الحضارات للشكل الجنيني من المجتمع المديني، والذي يحوي في جوهره أجنة المجتمع المدني..
 ومع تطور المجتمع الإقطاعي أخذ أفراد المجتمع يشكلون بنى على أسس وعلاقات جديدة تتمايز عن العلاقات الأسروية الأبوية والدينية، وأخذت الدولة بالتشكل على أسس جديدة.. وللتمييز، في هذه المرحلة، بين البنى والعلاقات الجديدة المتمايزة عن العلاقات الدينية، أو الأبوية، اعتمد مفهوم المجتمع المدني ليرتبط "منذ ذلك الوقت بمفهوم القانون والعقد الاجتماعي كتعبير عن هذا القانون المختلف عن العرف، وبالسيادة الشعبية. إنه يجسد مفهوم السياسة الحديثة بوصفها سياسة نابعة من المجتمع البشري كما هو، وليست مسقطة عليه من قبل عالم آخر. ولذلك فإن كلمتي دولة ومجتمع مدني تتطابقان تماما هنا ولا وجود لأي فصل بينهما".(1) 
المجتمع المدني في فكر هيغل وماركس:
مع تطور المجتمعات البشرية، خاصة في أوروبا، ارتقت وتعقدت البنية الاجتماعية السياسية، مما تطلب ارتقاء في المجتمع المدني، فأخذ هذا المفهوم، ومفهوم الدولة يحتلان حيزاً هاماً من اهتمام مفكري القرن التاسع عشر، وفي طليعتهم هيغل وماركس..
يشكل المجتمع المدني Civil Society  حسب رأي هيغل جزءاً مكوناً أساسياً من النظام الأخلاقي Ethical System  ... ذلك لأن النظام الأخلاقي يتألف من المؤسسات الموجودة في العالم الخارجي، وهي من الأسرة "والمجتمع" المدني، والدولة ... والأسرة هي أول لون من ألوان وجود الجوهر الأخلاقي، والوجدان الذي تقوم عليه الأسرة هو الحب. إلاّ أنّ التطور الاقتصادي الاجتماعي يقود إلى تفكك الأسرة، فـ "ينشأ تعدد الشخصيات المستقلة التي ترتبط بعضها ببعض ارتباطاً خارجياً بوصفهم ذوات اجتماعية متعددة ومستقلة. وطالما بقوا داخل الأسرة فإنّهم لا يكونون غايات في ذاتها، بل تكون الأسرة غايتهم، لأنّها غاية أعلى من الفرد. أما الآن فقد أصبح كل شخص مستقل غاية في ذاته، ولا يعترف بغاية أخرى غير نفسه، ومن ثم فكل منهم يميل إلى أن يعامل ذاته وحدها على أنّها غاية بينما يعامل كل الأشخاص الآخرين على أنّهم وسائل لتحقيق غاياته. ومع ذلك فكل واحد يصبح معتمداً اعتماداً كلياً على الآخرين جميعاً، لأنه من دونهم، بوصفهم وسائل، لا يستطيع تحقيق غاياته. وهكذا ينشأ اعتماد متبادل مطلق بين الكل على الكل. فكل واحد يستخدم الآخرين جميعاً على أنّهم وسائل لإشباع مطالبه. وحال الاعتماد على المتبادل هذه، اعتماد الشخصيات المستقلة بعضهم على بعض هو ما يسميه هيغل بالمجتمع المدني".(2)
ويرى هيغل أنّ المجتمع المدني يمر "بثلاث مراحل هي: 1 ـ نظام الحاجات  System Wants. 2 ـ الهيئة القضائية(القانون), 3 ـ الشرطة والنقابات Police & Corporations".(3)
نظام الحاجات:
هو نظام من الاعتماد المتبادل في النسيج الاجتماعي للمجتمع. فالفرد يعمل لإشباع غاياته الخاصة، لكن الآخرين يعتمدون على عمله لإشباع حاجاتهم، وهو بدوره يعتمد عليهم لإشباع حاجاته، وبالمعنى المتطور بحث الفرد عن ممارسة الرفاهية. ويتكون هذا النظام من ثلاثة عوامل، هي: الاعتماد المتبادل، والعمل، والثروة الناتجة عن العاملين السابقين والتي يمكن أن ينظر إليها على أنّها ملكية المجتمع ككل. "وينشأ في دائرة نظام الحاجات هذا تقسيم المجتمع إلى طبقات أو فئات. وهناك ثلاث طبقات رئيسية، حسب رأي هيغل، هي: 1 ـ طبقة الزراع أو الفلاحين، 2 ـ طبقة التجار والصناع، 3 ـ الطبقة الكلية. وهذه الطبقة تنشد في عملها تحقيق المصالح الكلية للمجتمع والدولة، وهي الطبقة الحاكمة التي تعتمد على مبدأ العقل. وما يقرر تحديد الطبقة التي ينتمي إليها الإنسان ليس المولد أو النسب، حسب هيغل، بل اختيار الفرد الحر ومقدرته في إنجاز وظائف الطبقة التي يتطلع إليها.
القانون ـ
 بما أنّ المجتمع المدني يتألف من أشخاص، ولأنهم أشخاص فإن لهم حقوق، وعليهم واجبات. .."وعندما يصبح الحق المجرد سلطة قائمة في المجتمع فإنّه لا يعود بعدئذ مجرداً لكنه يصبح حقاً إيجابياً أي قانونياً. وهكذا ينشأ نظام العدالة أو الهيئة القضائية" (نظام القانون).(4)
ممارسة الرفاهية، وحمايتها( التنظيمات الاجتماعية، والشرطة):
بما أنّ المجتمع المدني يقوم على نظام الحاجات الذي يسعى كل فرد فيه وراء إشباع غاياته الخاصة، وتحقيق رفاهيته؛ فإنّ حالة الرفاهية التي يعيشها الفرد والمجتمع تحتاج إلى حماية، ومن هنا تبرز أهمية وضرورة الشرطة التي تقوم بالإشراف والرقابة... وهذا ما يطلق عليه الجانب السلبي لتحقيق رفاهية الإنسان في المجتمع المدني.. أما الجانب الإيجابي لتحقيق رفاهية الفرد في المجتمع المدني، فيتجلى في حقه في تنظيم رفاهيته، ويقود ذلك إلى ظهور التنظيمات الاجتماعية، وقد عرفها هيغل في حينه بالنقابة...وهي الرابطة التي تشكلها جماعات الأفراد التي تقوم رفاهيتهم على مصالح متشابهة.. ولقد رأينا أنّ الفرد حين يعمل لنفسه في المجتمع المدني ، فإنّه يعمل من أجل الآخرين أيضاً. لكن هذه الضرورة اللاواعية لا تكفي. ولهذا فإننا نجد أننا نصل لأول مرة إلى الحقيقة الأخلاقية والنظرية عن وعي وإدراك في : النقابة" (فلسفة الحق، فقرة 255).(5)  .. إنّ هذا الشكل من التنظيم الاجتماعي تطور منذ عهد هيغل وأصبح يأخذ أشكالاً متنوعة تتجاوز النقابة، والتنظيمات المهنية..

وفي رأي هيغل المجتمع المدني ليس إلاّ عاملاً مجرداً في الدولة. وهذا المجتمع لم يظهر ولا يمكن له أن يوجد بدون الدولة.. أنّ هيغل "لم يفترض لحظة واحدة أنّ هذه المؤسسات والمنظمات يمكن لها أن توجد بدون الدولة، فالمتجمع المدني لا يمكن أن يوجد من دون الدولة الذي هو مجرد عامل فيها، وإذا ما نظر إليه بمعزل عن الدولة لكان تجريداً محضاً.. والفارق الأساسي بين المجتمع المدني والدولة، هو أنّ الفرد في المجتمع المدني ينظر إلى نفسه على أنّه غاية وحيدة لدرجة أنّه يصبح غاية جزئية، في حين أنّ الدولة تعد غاية أعلى يوجد الفرد من أجلها لدرجة أنّ غايته تصبح كلية".(6)
 
أما الماركسية فقد نظرت إلى المجتمع المدني في إطار المجتمع الطبقي ككل، وربطت حرية الفرد بشرطي التحرر السياسي والاجتماعي، ورأى الماركسيون ـ اللينينيون في الصراع الطبقي وسيلة ومخرجاً من تناقضات المجتمع الرأسمالي، وأولوا الاهتمام للصراع الطبقي ودور الطبقة العاملة الطليعي في انتصار الثورة، وبالتالي تجاهلوا مسألة المجتمع المدني، بل عدوّها مرتبطة بالفكر والثقافة البرجوازية، ورأوا في المجتمع المدني تعبيراً عن المصالح البرجوازية .. والبديل الصحيح في رأيهم هم المجتمع الاشتراكي المنظم، الذي يحكم فيه الشعب نفسه بنفسه، بعد القضاء على الدولة البرجوازية، وتأسيس الدولة الديموقراطية الشعبية التي ستضمحل في المرحلة الشيوعية.. والجميع يعرفون الأفق المسدود الذي وصلت إليه النظرية الماركسية ـ اللينينية في الدولة والحكم الديموقراطي الشعبي، والتي يتم التطرق إليها بتفصيل أكبر في بحث الدولة.
إلاّ أنّ بعض الماركسيين استطاعوا التحرر من الدوغمات التي فرضت على الماركسية، خاصة من قبل المركز الجديد في موسكو، بعد تصفية لينين وبقية المفكرين الماركسيين هناك.. وقام بعض الماركسيين الجدد في أوائل القرن العشرين في أوروبا الغربية، وفي طليعتهم المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي بتطوير النظرة الماركسية إلى المجتمع المدني، في "سياق إعادة بناء الاستراتيجية الثورية في مجتمعات أوربة الصناعية". فمن وجهة نظر غرامشي "..لا يكفي للوصول إلى السلطة .. والاحتفاظ بها السيطرة على جهاز الدولة ولكن لا بد من تحقيق الهيمنة على المجتمع، ولا يتم ذلك إلا من خلال منظمات المجتمع المدني وعبر العمل الثقافي بالدرجة الرئيسية... وهي استراتيجية مباينة تماما للاستراتيجية البلشفية التي سودها لينين والتي تعتمد على التنظيم الاحترافي للثورة، والتي اعتمدت في الواقع شكل الانقلاب الذي تقوم به فئة منظمة قوية ومسلحة بهدف إحكام قبضتها على جهاز الدولة. .. ففي منظور غرامشي المجتمع المدني هو المجال الذي تتجلى فيه وظيفة الهيمنة الاجتماعية مقابل المجتمع السياسي أو الدولة الذي تتجلى فيه وتتحقق وظيفة السيطرة أو القيادة السياسية المباشرة. ولأن الهيمنة مرتبطة بالايديولوجية فإن المثقفين هم أداتها.. لكن المراهنة على المجتمع المدني لم تلغ عند غرامشي دور الدولة ولا أهمية السيطرة عليها".(7)
 ومع التطور الاقتصادي الاجتماعي للمجتمعات، وخاصة الأوروبية منها، اعتباراً من النصف الثاني من القرن العشرين، أخذت تتشكل منظمات وهيئات ومؤسسات اجتماعية "تعمل إلى جانب الدولة لكن ليس تحت إمرتها على تنظيم المجتمع وتنشيطه وتحقيق الاتساق فيه. وبهذا المعنى فالمقصود بالمجتمع المدني كما يستخدم اليوم تلك الشبكة الواسعة من المنظمات التي طورتها المجتمعات الحديثة في تاريخها الطويل والتي ترفد عمل الدولة".(8)

الأثار السلبية لخطر طغيان سلطة الدولة على مؤسسات المجتمع المدني:
تعززت نظرة الناس والمفكرين إلى دور مؤسسات الدولة مع عظم الآمال والمهام التي أنيطت بها، ووصلت إلى درجة التقديس عند هيغل في القرن التاسع عشر ، كما يتبين في فصل الدولة.. ومع وصول الأحزاب الشيوعية، والأحزاب القومية (الماركسية) إلى الحكم غدت سلطة الدولة أملاً في تحرر المجتمع والفرد من الاضطهاد والاستغلال، وضمانة للحرية.. وتحولت في نظر أبناء المجتمع من ملاذ وأمل، وفي ممارسة الحكام إلى غاية.. ولتحصين الدولة من العدو الخارجي، وللقضاء على (الرجعية) وأعداء (التقدم) في الداخل تضخمت مؤسسات وسلطة الدولة  لتطغى على جميع مؤسسات المجتمع المدني.. وكانت الخسارة في المجتمعات الاشتراكية، وتلك التي سارت على منوالها، كمجتمعنا، مزدوجة؛ إذ أنّها من ناحية لم تسمح بتشكل مؤسسات المجتمع المدني بشكل سليم، بل حطمت كل مقومات وجوده السليم، فأفقدت المجتمع من حصانة تحميه عند الأزمات، ومن ناحية أخرى لم تبن مؤسسات الدولة في هذه البلدان، على الأسس القانونية والمؤسساتية القائمة على القانون والرضى والحرية السياسية.. وهكذا كانت تلك الدول هشة، سرعان ما تتصدع أمام التحديات والصراعات الخارجية والداخلية، ونتيجة عدم استطاعتها تلبية متطلبات التطور التاريخي..
وفي عصر المعلوماتية والعولمة، ومع انتشار وهيمنة الشركات العالمية المتعددة والمتعدية الحدود والقوميات، وظهور وهيمنة المؤسسات الدولية ما فوق الدول والتي تتحكم بسياساتها واقتصادها عن بعد، ومع التطور الاقتصادي والتقني الذي يتجاوز في كثير من الأحيان توقعات الكثيرين، تفتح مجالات جديدة من النشاطات والعلاقات، داخل الدولة الواحدة، وعلى الصعيد العالمي، تجعل مؤسسات السلطة في أية دولة أعجز من استيعابها، وهذا ما يحتم وجود مؤسسات جديدة، في المجتمع كالأشكال المختلفة للنشاط المالي والتجاري والاقتصادي، واستثمار شبكة الانترنت على سبيل المثال لا الحصر..  يحتمها التطور ليس فقط داخل الدولة، بل وفي العالم أجمع. وهكذا تصبح مؤسسات المجتمع المدني ضرورة اجتماعية، يفرضها التطور الاجتماعي التاريخي السليم.
من الملاحظ أنّه بعد انهيار الاتحاد السوفيتي والمعسكر الشرقي، أخذت بعض مؤسسات المجتمع المدني على الصعيد العالمي تلعب دور المجابه لسياسة ونهج الاحتكارات الرأسمالية العالمية، كسد أمام اكتساح وحش الاستغلال والاستثمار الجشع لمقدرات الشعوب.. وأخذت تلعب دور الملطف من آثار تلك الوحشية على البيئة والإنسان، أي تزداد أهمية مؤسسات المجتمع المدني على الصعيدين الداخلي والعالمي الإنساني..

العلاقة المتبادلة بين الديموقراطية والمجتمع المدني:
إنّ الصعوبات الجدية التي تعترض تطور البلدان العربية، في ظل البنى الاجتماعية والسياسية المعتمدة فيها، تبين كم أصبح من الضروري البحثُ عن شكل وإطار مجتمعي اقتصادي سياسي جديد ، يُنظر فيه لأبنائه كمواطنين وليس رعاع، ويفسح المجال للحياة الكريمة لأبنائه ، ولفكر التنوير وأدواته المعرفية أن تنمو بشكل سليم، ولإبداعات الناس أن تتفتح بشكل إنساني حر.
 وفي إطار هذا البحث لا بد من أخذ الواقع المحلي بعين الاعتبار، من حيث خصائص الوعي الاجتماعي، والطابع الاقتصادي السائد، ومعدل النمو السكاني الكبير، والتزايد المطرد للشرائح الفقيرة في المجتمع، وما ينجم عن ذلك من قضايا، إن لم تعالج ، تتفاقم وتكبح أي مشروع نهضوي تنويري،  والتأكيد على أنّ العدالة الاجتماعية مسألة جوهرية يتعلق مستقبل شعوبنا ونهضتها بمدى الاستجابة لمتطلباتها، وأنّ تجاهلها يفاقم الأزمات الاجتماعية، ويعيق أي مشروع تنموي ونهضوي.. ولكن العدالة الاجتماعية لن تتحقق وفق آلية يزداد فيها معدل النمو الاقتصادي، مع انخفاض نصيب الأغلبية من العائدات الاقتصادية ..

 والبحثُ عن شكل وإطار مجتمعي اقتصادي وسياسي جديد، يكون ضامناً لعملية التنمية، والنهضة والتنوير، يحتم التعرف على تجارب الشعوب الأخرى والاستفادة منها..
وتبين التجربة أنّ مؤسسات المجتمع المدني تساهم في خلق مناخ اجتماعي إبداعي ودينامي  متطور، يمتاز بوجود فعاليات متعددة ومتنوعة، قادرة على المراقبة وفضح السلبيات، مستقلة عن الآليات الرسمية الجامدة  المكلفة بحماية الأنظمة والمستفيدين منها مهما كان سلوكها.. ونظراً للدور الهام الذي تلعبه مؤسسات المجتمع المدني في تجاوز حالات التشرذم المذهبي والقبلي والعشائري المتخلف في المجتمع، وفضح آليات الفساد والانحطاط الشامل في المجتمع، فليس غريباً أن تتكاتف القوى المتضررة من هذا الدور وتشن حملة تهويش وتشويه ضدها ..
وكالعادة في مواجهة كل ما هو إبداعي جديد، تنسب إليه صفات تتعارض مع القيم السائدة وأحياناً المقدسة في الوعي الاجتماعي، لخلق جو من التوجس والنفور المسبق عنه في المجتمع؛ ومن تلك الصفات التي ينسبها أعداء مؤسسات المجتمع المدني إليها أن المجتمع المدني مفهوم غربي غريب عن المجتمعات العربية.. وفي هذا الخصوص لا بد من تبيان القضايا التالية:
*- مؤسسات المجتمع المدني إنجاز إنساني عام ، تشكلت بهذا الشكل أو ذاك في جميع بلدان العالم مع تطورها، بما فيها بلاد عربية عرفت دساتير تسمح بالتعددية السياسية ، وتقر بالتداول السلمي للسلطة، وتنص على الحقوق في تأسيس الجمعيات والمنتديات والنقابات والنوادي، وتبيح حق التظاهر وحرية الصحافة والكلام، فتأسست الجمعيات والنوادي وغيرها من المؤسسات الاجتماعية التي أخذت أشكالاً مختلفة، منها المهني، الثقافي، الفني، الرياضي، الأدبي، والفكري وغيرها...
*- يُخطأٌ من يعتقد بالدعوة إلى استيراد المجتمع المدني من الغرب، كما عُرِف   هناك، وتطبيقه في بلداننا، كما أخطأ من استورد تصورات ونماذج اجتماعية سياسية، تحت مسميات مختلفة، كالديموقراطية الشعبية، وغيرها من أوروبا الشرقية ليطبقها في بعض البلدان العربية ..
هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى فالقول بعدم ملائمة مؤسسات المجتمع المدني للواقع العربي لأنّها تنتمي إلى مفهوم غربي، قول بعيد عن النظرة العلمية والموضوعية، ويثير الشكوك؛ إذ أنه لا يمكن تصور تطور أي بلد من بلدان العالم بعيداً عن التأثر بغيره من البلدان، وكما يعترف الموضوعيون من مفكري الغرب بأن إبداعات العرب كأعمال الفيلسوف العربي ابن رشد ، وغيرها تُعد ركناً أساسياً من أركان النهضة الأوروبية، فمن الطبيعي أن يستفيد العرب مما أنتجه الغرب من فكر وعلوم اجتماعية وتطبيقية. كما أنّ العديد من الأفكار والنماذج الاجتماعية السياسية التي يطبقها بعض من يقولون بغربية مفهوم المجتمع المدني، ليست من إبداعهم بل مستوردة من أوروبا: كالنقابات (السنديكا )، ومفهوم الديموقراطية الشعبية الذي طبق لأول مرة في دول أوروبا الشرقية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، ومفهوم الجبهات ( التعاون بين الأحزاب الوطنية ) أول من دعا إليه جورجي ديمتروف في الكومنترن ( الأممية الشيوعية ) منذ ثلاثينات القرن المنصرم، والعديد من أطر التنظيمات الاجتماعية الأخرى وجدت تطبيقها لأول مرة خارج الوطن العربي، ونقلت إليه من الخارج..
*- هناك من يضع تعارضاً بين الدولة ومؤسسات المجتمع المدني.. كنا قد نوهنا إلى علاقة الدولة بالمجتمع المدني، وبينا أنّ دور كل منهما يكمل الآخر.. فالدولة القانونية لا تلغي مؤسسات المجتمع بل تساعد على تفتحها، ومؤسسات المجتمع المدني تساعد الدولة في القيام بمهامها".. لكيلا تقوم هذه المتضادات، هذه الطبقات ذات المصالح الاقتصادية المتنافرة ، بالتهام بعضها بعضاً وكذلك المجتمعات في نضال عقيم.."
فمؤسسات المجتمع المدني ليست بالضرورة المجتمع المدني الغربي، بل من نتاج التطور الحضاري لكل مجتمع، وهي ليست غريبة عن مجتمعاتنا .
ومؤسسات المجتمع المدني ليست عصى سحرية بمجرد قيامها تحل جميع مشاكل المجتمع؛ فعلى الرغم من معرفة الدول الغربية لمؤسسات المجتمع المدني منذ أكثر من قرن من الزمن، مازال بعضها مرتعاً للفساد.. بالتالي لا بد من صيغة تقدم آلية متجددة لمراقبة هذه المؤسسات والنظام ؛ هذه الصيغة هي الديموقراطية ..
فالإطار العام الذي يمكن لهذه المؤسسات أن تعمل ضمنه بشكل صحي مضبوط وسليم هو الديموقراطية. إن جميع قوى وفعاليات المجتمع العربي، تقر بذلك...
  هناك من يحاول إبراز الجوانب السلبية في استخدام الديموقراطية، ومؤسسات المجتمع المدني، لخلق مبررات الهروب من استحقاقاتها..
 إنّ وجود سلبيات، قد تظهر أثناء الممارسة الديموقراطية نتيجة لأسباب المصلحة الأنانية الضيقة،  لا يعني أن ندير ظهرنا لها، بل نبحث عن سبل الوقاية من تلك السلبيات عن طريق تشريع قوانين تتفق عليها الأغلبية، تبين الحدود التي لا يمكن تخطيها في إطار الثقافة والواقع والوعي الاجتماعي المحدد..  علينا أن لا نعقد البسيط. بل نبسط المعقد بإصدار القوانين الضرورية للممارسة الديموقراطية.
بدل الخاتمة:
يعكس المجتمع المدني الجوانب الفعالة في المجتمع البشري خلال تطوره التاريخي، التي تخفف من وطئ استثمار سلطة الدولة.. كما يقوم ببعض الأدوار الضرورية لبقاء المجتمع، في حال تعرض السلطة لمختلف أنواع الكوارث والعيوب والأمراض والفشل، بما في ذلك الاحتلال.. والدول التي تتكون فيها مؤسسات المجتمع المدني بشكل سليم، تكون السلطة فيها أقل عرضة للفشل، وتكون الدولة أكثر حصانة من الأخطار، لأنّ المجتمع المدني يبتدع مختلف أشكال المؤسسات البديلة في اللحظات الحرجة..
 ونظراً للشكل المشوه الذي نقلته السلطات الحاكمة في البلاد العربية عن الخارج، والبنية الذي استبعدت النمو السليم لمؤسسات المجتمع المدني، فقد وصلت هذه السلطات وأوصلت مجتمعاتها إلى مآزق كثيرة وكبيرة في داخل البلاد وفي علاقتها مع العالم، وفي تراجعها المستمر أمام التطور العالمي المتسارع.. وفي البحث عن أسباب الخلل، يتبين أنّ غياب مؤسسات المجتمع المدني تكمن في صلبها.. إذ تتطلب مهمة وقف تفكك المجتمعات، ونموها المشوه، فضلاً عن مأساة ابتعاد السلطات عن تلبية حاجات المجتمع، وتحولها إلى بؤرة مصالح فاسدة، تهدد التطور الاقتصادي الاجتماعي السليم.. كل ذلك يتطلب وجود بنية اجتماعية دينامية تحمي المجتمع والدولة من هذه المخاطر.. والمجتمع المدني، مع الآليات الديموقراطية، هو الإطار السليم لتطور تلك البنية الاجتماعية الدينامية..
الهوامش
 (1) برهان غليون ـ "مفهوم المجتمع المدني وتطوره ـ ندوة المجتمع المدني والديمقراطية/جامعة قطر، 14-17 مايو 2001
(2) ولتر ستيس ـ فلسفة هيغل ـ المجلد الثاني فلسفة الروح ـ ترجمة: د. إمام عبد الفتاح إمام ـ دار التنوير ـ بيروت ـ 1982 ـ ص98
(3) نفس المصدر،  ص102
(4) نفس المصدر، ص 104
(5) نفس المصدر، ص108
(6) نفس المصدر، ص 100
(7) برهان غليون ـ "مفهوم المجتمع المدني وتطوره ـ ندوة المجتمع المدني والديمقراطية/جامعة قطر، 14-17 مايو 2001
(8) نفس المصدر

طرطوس 30/12/2003                  شاهر أحمد نصر
                                      [email protected]

 



#شاهر_أحمد_نصر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الاستراتيجية الأمريكية، والقصور العربي، في السياسة الخارجية
- رسالة مفتوحةإلى: المناضل، عميد كلية الاقتصاد السابق، الدكتور ...
- عصر المعلوماتية 2-2
- عصر المعلوماتية
- الحوار المتمدن عنوان الأممية الحرة
- من متطلبات الدخول السليم في عصر المعلوماتية
- قانون الأحزاب السياسية من وسائل الإصلاح السياسي الديموقراطي
- مشكلة العرب والمسلمين ليست مع اليهود كيهود
- مصير العملاء السريين
- العلم عند العرب بين النهوض والتعثر
- إذا أردتم تحرير المرأة ، فابنوا مجتمعات على أسس متحضرة
- هل استكملت الأنظمة العربية عملية بناء الدولة القابلة على الب ...
- هل هناك من يريد ويعمل على البحث عن مطبات تعرقل الإصلاح؟
- المصلحة الوطنية تقتضي منع محاكمة من يتوجه لحضور محاضرة!
- الأنظمة الديموقراطية الشعبية المتكلسة ديموقراطية المظهر، ديك ...
- الديموقراطية في دولة الحق والقانون وسيلة ضرورية للتطور ومواج ...
- في أسباب انتشار الفكر الغيبي ـ أساليب الحكم وفق قوانين الطوا ...
- يوم كئيب في تاريخ الصحافة السورية
- في آلية الصراع داخل الأحزاب السياسية في البلدان العربية ـ ال ...
- في حقيقة المعارضة في المجتمعات البشرية


المزيد.....




- إيلون ماسك ونجيب ساويرس يُعلقان على حديث وزير خارجية الإمارا ...
- قرقاش يمتدح -رؤية السعودية 2030- ويوجه -تحية للمملكة قيادة و ...
- السعودية.. انحراف طائرة عن مسارها أثناء الهبوط في الرياض وال ...
- 200 مليون مسلم في الهند، -أقلية غير مرئية- في عهد بهاراتيا ج ...
- شاهد: طقوس أحد الشعانين للروم الأرثودكس في القدس
- الحرب على غزة| قصف إسرائيلي مستمر وبلينكن يصل السعودية ضمن ج ...
- باكستان.. مسلحون يختطفون قاضيا بارزا ومسؤول أمني يكشف التفاص ...
- كلاب المستوطنين تهاجم جنودا إسرائيليين في الخليل
- بلينكن يصل إلى السعودية للاجتماع مع وزراء خارجية دول مجلس ال ...
- ما علاقة الحطام الغارق قبالة سواحل الأردن بالطائرة الماليزية ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - شاهر أحمد نصر - المجتمع المدني ضرورة اجتماعية ووطنية