أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - شاهر أحمد نصر - في حقيقة المعارضة في المجتمعات البشرية















المزيد.....



في حقيقة المعارضة في المجتمعات البشرية


شاهر أحمد نصر

الحوار المتمدن-العدد: 537 - 2003 / 7 / 8 - 02:20
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


 

" في عالم مليء بالقبح والشقاء لا يستطيع أغنى الأغنياء أن يشتري إلاّ القبح والشقاء "

برنارد شو

 

        يرتهن مستقبل أي مجتمع بدور و نشاط و ديناميكية البنى والتنظيمات والأحزاب و المؤسسات و الأفكار التي تنسج بنيانه . لا بدّ من التجديد باستمرار في بنية و وظائف هذه  البنى ، و أشكال العلاقات الاقتصادية الاجتماعية والسياسية ، والأفكار و الأهداف التي يسعى الناس لتحقيقها ، كي يتطور المجتمع بشكل دينامي سليم و غير مشوّه . فالمجتمعات ذات التنظيمات والمؤسسات الراكدة المتخلفة المتكلسة ، هي مجتمعات راكدة ... وستحل الأزمة في البنى الراكدة عاجلاً أم آجلاً ، طالما لم تعالج أسباب ركودها .. إذ أنّها تحمل في أحشائها و تحت السطح قوى كامنة غير مرئية ثقتها مفقودة بالأشكال المحيطة بها من علاقات ومؤسسات وتنظيمات ... وبما أنّ المجتمعات حية ، ومن غير الممكن القضاء على ما هو حيوي في داخلها ، فإنّ هذه الطبيعة الحيوية وعملية التطور التاريخي تدفعان تلك القوى الكامنة إلى ممارسة نشاطات متنوعة مموهة للتعويض عن الفراغ و النقص الذي يسببه الركود ... وهكذا فظهور المعارضة مسألة موضوعية ، لا يمنع وجودها عدم اعتراف الحكام وبطانيتهم بالحقائق الموضوعية ، أو دفن الرؤوس بالرمال كالنعام ..

        كيف يمكن التعرف على حجم المعارضة ؟

وحدهم سطحيو التفكير ،عندما يرون أن القمع والتخويف يؤتي ثماره ، بحرمان الشعب من الانتظام في تنظيمات وأحزاب علنية معارضة ، يعتقدون أنّه لا وجود لمعارضة في المجتمع .. أو أنّ المعارضة محصورة فقط بقوى وشخصيات محدودة التأثير .. مع كل التقدير لدور تلك الشخصيات والقوى ، التي لا يمكن قراءة التاريخ مستقبلاً من دونها ..  فكما أنّه لا يمكن قراءة تاريخ النضال ضد الاحتلال من دون ذكر أسماء أولئك الأبطال الذي ضحوا بأنفسهم في ظل موازين قوى غير متكافئة ؛ كذلك الأمر عند دراسة تاريخ النضال في سبيل الديموقراطية ، ستصبح تلك الشخصيات والقوى التي تعرضت للسجن والظلم والتهميش ، نتيجة مواقفها ونضالها في سبيل الحرية والديموقراطية ، ستصبح مركز الدراسة التاريخية ، ولا يمكن تدوين ودراسة التاريخ بمعزل عنهم .. إلاّ أنّ قاطرة التاريخ هي الشعوب ، فإذا أردنا معرفة حجم المعارضة علينا التمعن في أحوال وتصرفات الشعب .. فلا وجود لمجتمع خال من المعارضة .. والشعوب تبدع مختلف أشكال معارضتها بنفسها ..

في المجتمعات التي تمنع فيها أشكال الدفاع عن الحقوق ودفع الظلم ، كالتظاهر والإضراب .. تبدع الشعوب أشكال إضرابها المختلفة ، والتي تتجلى بمواقفها العملية في مختلف ميادين الممارسة اليومية ، والعكوف عن تنفيذ الأوامر .. وهكذا فالمعارضة الحقيقية إذا لم يتح لها الإعلان عن نفسها بشكل ديموقراطي متحضر ، فإنّها تكمن في أعماق المجتمع والشعب ، الذي تتحول غالبيته إلى معارضة تعبر عن ذاتها بأشكال متنوعة دفينة ، وتتحين الفرصة المناسبة لرفع العبء الثقيل عن كاهل الشعب ..

في مجتمع لا تصل فيه نسبة الاقتراع في أية انتخابات ، على الرغم من مختلف أشكال الترغيب والترهيب ، عن 15ـ20% ، ماذا يطلق فيه على النسبة المتبقية والتي تزيد عن 75% من الشعب ؟!

في الأنظمة الشمولية ، في غالب الأحيان ، ونتيجة تشوه مختلف جوانب الحياة في المجتمع فإنّ المعارضة ، التي تعلن عن نفسها في مثل هذه الظروف ، تبقى مع الأسف متأثرة بالمناخ العام السائد ، وتتشابه أحياناً بل تتماهى مع أنظمة الحكم ، ليصبح الحكم وبعض المعارضة وجهان لعملة واحدة .. بل أحياناً تجد قوى في المعارضة أكثر تخلفاً وهزالاً من الأنظمة الحاكمة ..

ويصب ذلك كل في مجال إضعاف المجتمع وخدمة أعدائه ..

 

لِمَ الخوف من المعارضة ؟

الويل لأمة لا تنمو فيها المعارضة بشكل ديمقراطي متحضر !

علينا أولاً التمييز بين الوطن وأنظمة الحكم ، جميع أبناء الوطن ، الذين يعملون لإعلاء شأنه ، ورفعته ، وسموه وحماية وجوده ، هم وطنيون ، بغض النظر عن موقفهم من نظام الحكم .. لا يمكن وصف أي مواطن معارض لنظام الحكم بأنّه غير وطني ـ وهذا ما درجت عليه الأنظمة الشمولية وأجهزتها ـ ففي كل مجتمع سليم معافى معارضة جدية معترف بها ، ولها كامل الحق في الوصول إلى الحكم بالوسائل القانونية الشرعية والديموقراطية .. النظم السليمة تفتخر بمعارضتها ..

أما الأنظمة الشمولية فترى أنّها تمثل الكمال في كل زمان ومكان ، والحاكم ينوب عن الشعب ، الذي يعبأ في بنى لا حول لها ولا قوة .. وتقود آلية الحكم هذه إلى تغييب ليس المعارضة فحسب ، بل والشعوب أيضاً .. وتسود الاقتصاد والمجتمع حالة من السبات والتخلف ، يدعوها المستفيدون منها بالاستقرار ، وللاستمرار في نفوذهم ينظمون المهرجانات الكرنفالية التي يسوقون فيها العباد سوق النعاج ، ويجرون الاستفتاءات التي يجعلون النسبة التي يفوز بها الحاكم تقارب الـ 100% ، ويوهمون أنفسهم وأصحاب القرار بأنّ المعارضة لإرادتهم هزيلة ، لا وزن لها في صفوف الرأي العام ، بل يذهبون إلى أبعد من ذلك ، عندما ينادون بأبدية الحاكم ، متجاهلين سنن الحياة والكون ..

الحياة مبنية على التغيير والتجديد ، الموت حد أساسي من حدود الحياة ، لا حياة من دونه .. كم هي عظيمة حكمة الموت .. كم أراح البشرية من ويلات ، وهو في نفس الوقت يؤكد حقيقة أنّ الإنسان والمجتمع لا يمكنه أن يبقى كما هو.. كما الموت حكمة وحقيقة لا يمكن تجاهلها ، وما تجاهلها إلاّ ركض وراء السراب ، فإنّ للحياة الاجتماعية  سننها التي لا تعترف بالثبات والجمود والأبدية .. وحدها الأنظمة المتخلفة الإقطاعية ، والدينوجية ، والأحزاب والبنى الشيوعية الإقطاعية ، ومن سار في ركبها ،( مع كل التقدير للفكر الاشتراكي ، الذي يعد حصيلة المسيرة الفكرية للإنسانية ، والذي لا يمكن للبشرية الاستغناء عنه ، إذا أرادت التطور بشكل عقلاني سليم )  اعتبرت (تلك الأنظمة المتخلفة ) الثبات والجمود مبدأية في الفكر والموقف ، فنادت بأبدية الأمين العام والحاكم ..

هكذا تتجمد البنى الاجتماعية ، وتفقد أية إمكانية للتجاوب مع متطلبات التقدم والتطور ، وتصبح السمة العامة للمجتمع في مجمل مناحيه الاقتصادية والسياسية والفكرية والثقافية ، هي التخلف ..

        فالبحث في أسباب تخلف وركود النشاط الاجتماعي وأشكال الوعي والأدوات المعرفية ، يجب أن ينصب في التدقيق في البنى الاجتماعية والسياسية السائدة ، ويعد العمل المستمر على  تجديد تلك البنى ، يعد ، مهمة اجتماعية مستمرة من الدرجة الأولى ، لأنّ التغافل عن هذه المهمة يودي بالمجتمعات إلى كوارث مأساوية يدفع الجميع على كافة المستويات ثمنها . والمجتمع المبني على أسس ديموقراطية سليمة ، والحريص على سلامة بنيانه وتطوره يستفيد من تجاربه الخاصة ، ومن التجارب التاريخية لتطور المجتمعات الإنسانية ككل . والبنى الديموقراطية تصحح مسار تطورها باستمرار .

        إلاّ أنّ استفادة البشرية من التجارب التاريخية مازالت ضعيفة .

        على الرغم من التصورات و البراهين المتعددة حول قوة نظم الحكم التي بنيت في الاتحاد السوفياتي ، ودول أوربا الشرقية ، على سبيل المثال ، والأبعاد الدولية لمناطق تأثيرها و نفوذها ، والملايين الذين كانوا يشاركون في المسيرات التي كانت تنظمها ، وعدد أعضاء الأحزاب الشيوعية التي جاوزت عشرات الملايين .. فإنّها لم تستطع الصمود ومواكبة التطور التاريخي ، نتيجة تضافر عدة أسباب أهمها الركود الشامل الذي عمّ جميع مفاصلها ، كما أنّها لم تستطع معالجة أزماتها الداخلية ، وأيجاد البديل نظراً لاستبعادها فكرة المعارضة السياسية المنظمة .. ومع انهيار تلك الأنظمة التي كانت تزعم بعدم وجود معارضة داخلية لها ، باستثناء بعض الأصوات من المثقفين التي كانت تتهمهم بالعمالة للغرب ـ كما يفعل بطانية كثير من الأنظمة العربية حالياً ـ تبين العكس تماماً ، مع انهيارها وجد القليلون ممن دافعوا عنها ، وتبين أنّ غالبية الشعب تعارضها .. فالمعارضة كانت كامنة في أعماق الشعب .. والمعارضة لا يمكن إلغائها بقرار ، إنّها حقيقة جزء مكون للمجتمعات البشرية .. وكلما زاد تجاهلها كلما زادت عمقاً وتجذراً في وجدان وضمير الشعوب .. وحدها الأنظمة الغيورة على شعوبها وتطور مجتمعاتها تسمح لهذه المعارضة أن تتفتح وتنمو بشكل ديموقراطي متحضر ، لتحمي البنية الاجتماعية من التشوه ، ولتزيد المجتمع مناعة وقوة واحتياطياً ضرورياً للمنعطفات التاريخية ..

أما المجتمعات التي تقمع المعارضة ، ولا تسمح بتفتح طاقات المجتمع في مؤسسات مدنية ديموقراطية فإنّّها تعاني من أمراض وويلات تظهر هشاشة البنيان الاجتماعي السياسي في أية محنة يتعرض لها .. قد يبدو البنيان سليماً وقوياً لوهلة من الزمن ، ولكن ماذا عن المستقبل ؟! إنّ الغيورين على شعوبهم ومستقبل أبنائهم لا يفكرون في اللحظة الراهنة فحسب ، بل يخططون للأجيال المقبلة .. ولما كانت الأجيال المقبلة ستعيش في ظروف غير الظروف الحالية ، فمن المنطقي أن نهيأ لها إمكانية ظهور بنى غير البنى السائدة حالياً تنسجم مع متطلبات المرحلة المقبلة ، من غير المقبول أن يهيمن فكر سياسي ومفرزاته التنظيمية لمدة تزيد عن القرن من الزمن .. هذه حقيقة عرفها الأولون عندما قالوا : لا تربوا أولادكم على ما نشأتم عليه ، لأنهم ولدوا لزمن غير زمانكم .. فإبقاء نفس الفكر والبنى جاثمة على صدر الشعوب لأجيال وأجيال ، يلعب دوراً معرقلاً في تطورها ..

        سنستعرض بعض مظاهر الركود في البنى و التنظيمات و المؤسسات الاجتماعية ، التي لا تعترف بضرورة المعارضة ومؤسسات المجتمع المدني، للتنبيه على المآسي والمساعدة في البحث عن سبل تلافيها ، وآثار ذلك الركود على عملية التطور  ..

 

        من آثار الركود الاقتصادي الاجتماعي :

       استقرار أم ركود ؟‍‍‍‍:

        يعلمنا التاريخ أنّ لكل مجتمع مظهرين متلازمين متناقضين متداخلين هما الاستقرار و التغيير . وكل قيّم على رأس نظام سياسي يميل إلى تبيان المظهر الأول ( أي الاستقرار ) و إخفاء الثاني . و هذا ما يحدث في البلدان التي تعتمد الأساليب الأوامرية في إدارة المجتمع .. حيث تسود اللامبالاة الحكومية تجاه حقوق ومتطلبات الناس والاستخفاف بالرأي العام . حيث يعد الرأي المعارض جريمة كبرى أمام الدولة و المجتمع . وتتربى أجيال على هذه المبادىء ، والقيم .

       

         يتجلى الركود في البنى والأحزاب والمؤسسات الاجتماعية في الانحطاط والبيروقراطية على صعيد الجهاز العام ، والتوقف عن تحقيق الوظائف الأولية و ظهور البنى الموازية للتعويض عن عدم فاعلية تلك البنى الرسمية . ويخدم تشوه وركود المؤسسات الاجتماعية و يمهد في نفس الوقت الطريق لضرورة التغيير ، و يتجلى ذلك فيما يلي :

        ـ يقود ضعف مراقبة المؤسسات الاجتماعية إلى عدم محاسبة منتهكي القواعد الاجتماعية و التنظيمية ، والقانون ، وبالتالي إلى الحالة العامة من اللامسؤولية .. ويصبح الانحراف الفردي في سلوك الأفراد جماهيرياً ، ويكتسي طابعاً خطيراً ، و يتعمق تشوه القواعد الاجتماعية .

        ـ و ينعكس الضعف الوظيفي للأحزاب و المؤسسات الاجتماعية المترهلة و المعمرة لفترة طويلة من دون تجديد في بنيانها و فكرها  ، ينعكس على المناخ المعنوي في التنظيم و المجتمع .

        ـ يحدث تشوه المؤسسات و ركودها توتراً اجتماعياً نظراً لانسداد الأفق و انعدام أي مجال للأمل و الأفق الاجتماعي .

        هذا ما يؤدي إلى إضعاف النظام الاجتماعي ككل عاجلاً أم آجلاً مع كل ما ينجم عن ذلك من آثار .

        و تولد هذه الحالة  الرغبة و الميل في المجتمع لاستبدال البنى والتنظيمات و العلاقات القائمة بأخرى غير رسمية ، تأخذ أحياناً طابعاً دفيناً ، وقد تتصف باللاايجابية .

       

        من آثار الركود الاجتماعي الاقتصادي على سلوك الناس :

        يؤدي الركود في المجتمعات التي تهيمن فيها قطاعات الدولة غير الديناميكية إلى سلسلة من التغيرات في سلوك الناس ، يتجلى أهمها فيما يلي :

        أولاً : نهب الملكية العامة و ملكية الدولة بمختلف الطرق والأساليب، بما فيها الاستغلال الفظ لقصور القوانين والالتفاف عليها واستخدام الثغرات فيها لتبرير هذا النهب ... و يترافق ذلك مع تراقص القادة النقابيين والحزبيين وجهاز المراقبة حول الإدارات لتغطية سلوكها بما يضمن المكاسب والمصالح الشخصية ...

        ثانياً : الشراء المباشر للمناصب و للوجوه التي تستطيع بمختلف السبل الحصول على مكاسب ، واستشراء الفساد والرشوة ، و الاستخدام غير النزيه للسلطة .

        ثالثاً : البحث عن قنوات أخرى لتحسين الوضع المادي : منها شغل منصب مربح  و هنا تأخذ تلمع بلون باهر علاقات القرابة ، و العائلة والوساطة و المعارف المربحة و أفضلية الانتساب العشائري ... مما يسعّر الخلافات في المجتمع .

        رابعاً : يلجأ كثير من المواطنين إلى القيام بأعمال إضافية بطرق قانونية و غير قانونية ، مما يرفع مداخيل جزء من المواطنين  و بنفس الوقت يؤدي إلى زيادة حدة التشوهات الاجتماعية و الفروقات في مستوى حياة الناس ، ويثير عدم الرضى و الغضب و الحسد ،  انتشار المكائد والدسائس، وتنتشر السرقات و الجريمة و تتدنى الأخلاق ، وينتشر الإدمان على المخدرات و غيرها من الآفات الاجتماعية ...

 

        من علائم تشوه القانون و الأخلاق في المجتمعات الراكدة

        مع تغير الحياة و تطورها وبقاء القوانين كما هي ، وسيادة القوانين الاستثنائية الطارئة ، يتوقف المقياس القانوني عن القيام بوظيفته . و يعيق الركود استبدال تلك القوانين ، فتأخذ تعرقل عملية التطور الاجتماعي ... وتأخذ لا منطقية القرارات المتخذة بناء على تلك القوانين تضفي طابعاً وخيماً على هيبة القانون .

        ونتيجة لعدم تطابق المتطلبات القانونية مع الظروف الواقعية لحياة وعمل الناس تظهر الأخلاق المزدوجة (ذات الوجهين) . فتستخدم نفس المعايير المتناقضة من قبل نفس الشخص أو المجموعة الاجتماعية لأهداف مختلفة ، وفي حالات متناقضة . و تظهر ( قيم الظل ) ، أي خلق قواعد غير رسمية للسلوك تتبعها مجموعات ملموسة من الناس .

        وتظهر ( قيم الظل الإبداعية ) في بعض الحالات ، و تتجلى في إقامة و تبني معايير مستقلة داخل هذه الجماعة أو المؤسسة أو التنظيم ، وأحياناً في تأسيس لجان   وتنظيمات لم يلحظها القانون تدل على أنّ الناس يسعون بهذا الشكل أو ذاك إلى التعويض عن الهيئات و المؤسسات القائمة وغير الفاعلة ...

        و يقوم مبدعو ( أخلاق الظل ) بإنشاء منظومة من القواعد التي تحكم علاقاتهم : اعطني لأعطيك : ( حك لي، أحك لك ) .. و مع قصور التصورات الأيديولوجية و الاجتماعية و الأدبية المرافقة لمجتمع الركود يجري تقويم شامل لها ، مما ينسف التصورات المعنوية و القيم ... فتضعف و تفتقد مفاهيم احترام الأكبر و هيبة السلطة . و تولد خيبة الأمل من الحاضر تولد عدم الرضى العميق حتى من تلك المواقف البطولية و الأحداث المشرفة في التاريخ .

        على هذه الخلفية تأخذ تتطور اتجاهات أخلاقية سلبية ، أو كما يقال أحياناً ( ضد القيم ) : الغش ، و العدوانية ، والأنانية ، و عدم احتمال الآخر، و الاستهتار بكل ما هو ذي مصلحة اجتماعية عامة ...

        ولا يستثني الركود الهيئات الحاكمة و القضاء  الذي يعاني من نفس العملية و الظروف ، مثله مثل سائر البنى والمؤسسات ... فتتوقف الملاحقة القضائية بفضل الرشاوى  ولا يكشف النقاب عن العديد من الجرائم الكبيرة ... وينتشر في صفوف الجهاز الحاكم والقضاء المرتشون والمختلسون ... مما يدل على تغلغل الأزمة إلى نظام القضاء ، وهو آخر حصن معنوي ينتظر الناس حمايته و الدفاع عن حقوقهم من خلاله ...

        فالركود الذي يحبذ البعض أن يسميه استقراراً يمهد الطريق إلى الانحطاط الشامل الذي يتطلب التخلص منه كثيراً من الويلات .

 

        ما السبيل لكبح هذا الاتجاه من الانحطاط ؟‍‍!

        استعرضنا باقتضاب شديد بعض مظاهر الركود التي تقود إلى انهيار أقوى الدول ، التي تتبجح بعدم وجود معارضة لأنظمتها السياسية الحاكمة ، والتي أسفرت ، على سبيل المثال ، عن ذلك الزلزال الفظيع الذي أصاب أقوى نظام عرفه القرن العشرين ، وهو النظام العملاق في الاتحاد السوفياتي ، تلك القلعة التي طالما وصفت بالحصينة وعلقت البشرية عليها آمالاً عظاماً . فما بالك بالدول النامية التي يتفشى فيها ذلك الداء .. وبينا أنّ حالة الركود المدعمة بالقوانين الاستثنائية الطارئة ، تلك القوانين التي تتحول مهمتها والغاية من الاستمرار في العمل بها ، ليس حماية الوطن، بل حماية الحالة السائدة ، والتي يهيمن فيها الجمود الفساد ، فتعمل على حماية الفساد ، وتساعد في تفريخه اليومي ، ليصبح الصواب خطأ ، والخطأ صواباً .. فهل يقف التاريخ هنا ؟!

        هل تقف الشعوب بأعماقها وضميرها ووجدانها ، مع هذه الحالة ؟ هل تؤيد الفساد بمجمله ؟! كلا ، لا يمكن أن يحصل ذلك ، و إلاّ لانهارت المجتمعات  !

بكل تأكيد لا يمكن أن تكون هذه الحالة نهاية للتاريخ في المجتمعات البشرية  ، بل إنّ المجتمعات البشرية تحمل في أعماقها الجانب النقيض ، وهذا ما اصطلح على تسميته بالمعارضة .. إذ تبقى المقولات الايجابية للأسس الضرورية لبقاء المجتمع وتطوره موجودة في الوعي الاجتماعي متضمنة في القيم الإنسانية العامة ، وتتجلى في القواعد البسيطة للأخلاق الإنسانية ـ الصدق ، النزاهة ، الصراحة ، الشفقة ، الاهتمام بمصائب الآخرين ، الخ .. توجد هذه القيم دائماً في أعماق كل المجتمعات الإنسانية ، في جميع بلدان العالم . وعلى من يريد البحث عن المعارضة أن يتمعن بنظرة علمية وموضوعية عميقة ، بعيدة عن الهوى ،  في الشعب الذي في أعماقه يتجسد التعبير الحقيقي للمعارضة .. بكل تأكيد تبقى مهمة إظهار المعارضة وتعميقها و توسيع مجال انتشارها مسألة اجتماعية تدخل في نطاق عمل ونشاط الأفراد والجماعات والتنظيمات . إلاّ أنّ القيود التي تفرض على نشاط تلك التنظيمات ، والأمراض التي تعاني منها بعض قوى المعارضة في المجتمعات ذات البنى المشوهة ، تجعل قوى كثيرة من هذه المعارضة شبيهة إلى درجة كبيرة بأنظمة وأشكال الحكم السائدة ، كما بينا ..

ومن أشد الأخطار التي تضعف المعارضة تماهيها مع أنظمة الحكم في جميع المواقف .. لاشك بوجود مهام وأهداف وطنية مشتركة بين المعارضة والحكم ، خاصة عندما يصبح الوطن معرضاً للأخطار .. وفي مثل هذه الحالات الحرجة ، تجد مسئولين من مختلف المستويات والمهام في الأنظمة الشمولية ، يدلون بتصريحات ، من غير المألوف للشعب أن تصدر عنهم، تتضمن الكثير من الأفكار التي تطرحها المعارضة ، بل تجد من يزايد أكثر منها .. ونظراً للتجربة الطويلة المرة التي عرفت الشعوب فيها هؤلاء ، فإنّها تشعر بعدم الثقة بتصريحات العديد منهم حول الديموقراطية والإصلاح السياسي، نتيجة خبرتها بمستوى النفاق الطاغي على تاريخهم .. بل إنّها تعرض عن سماعهم ، وهذه الشعوب تنادي وتقول لأولئك المسئولين : طالما مفتاح الربط والحل بأيديكم ، فبدلاً من التصريحات والوعود الرنانة أرونا أفعلاً ملموسة في الممارسة السياسية اليومية ..

 

يتفق الوطنيون جميعاً على أن مصلحة الوطن فوق كل مصلحة ، وعلى ضرورة مواجهة التحديات والتهديدات التي يتعرض لها الوطن من قبل أبنائه جميعاً ، حكاماً ومعارضة ، لكن هذا يجب ألا يلغي وجود معارضة تواجه السلبيات والنواقص التي تضعف البنيان الاجتماعي وتضعف الوطن ..  

المخرج السليم من حالة الركود الاجتماعي والاقتصادي يكمن في الإصلاح السياسي الوطني الديموقراطي .. والمناخ والنهج السليم الرئيس الذي يمكن في إطاره العمل على معالجة التشوهات الاجتماعية ، هو المناخ الديموقراطي الذي يحظى بموجبه أفراد المجتمع على نصيب من العدالة ، والحق في ممارسة العمل السياسي ،  الذي يعد فضـيلة اجتــماعية  وحقاً وواجباً ، ويضمن قانونية العمل السياسي و التنظيمي ، وحرية الصحافة و العلانية ، كي تبنى المجتمعات بشكل علمي دينامي سليم ، وتظهر المعارضة على حقيقتها ، لا أن تشوه حقيقتها ، وتربط بفئات وقوى متفرقة محدودة .. بل أن يلمس نبضها الحقيقي في وجدان الشعب  ..

 وكما تبين التجربة فإنّه : إذا أردتم معرفة حقيقة المعارضة فانصتوا إلى أنات الشعوب في لحظات الصفاء الوجدانية ..

       

                                    طرطوس 5/7/2003                                   شاهر أحمد نصر

              [email protected] 

 

 



#شاهر_أحمد_نصر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لا تدعوا هذا الصوت يخبو
- كل إصلاح اقتصادي وإداري لا يترافق مع الإصلاح الفكري والسياسي ...
- الإصلاح السياسي الديموقراطي مطلب وطني عام ، وليس مطلب شخصيات ...
- صفحات ديموقراطية مضيئة في تاريخ سورية لمحة موجزة من تاريخ ال ...
- مؤسسات المجتمع المدني في الدولة الديموقراطية القوية من ضرورا ...
- الحوار المتمدن تعبير عن حضارة وديموقراطية الشعوب
- .......سيدي الكريم حمزة الحسن // زيتونـة الشــام - هادي العل ...
- فلسطين في شعر عبد المعين الملوحي
- بحث في الحرية والديموقراطية - 2
- بحث في الحرية والديموقراطية - 1
- عقبات تحقيق المشروع التنويري العربي ؟
- هل هناك من هو أقوى من حكام الولايات المتحدة الأمريكية الحالي ...


المزيد.....




- ما هي صفقة الصواريخ التي أرسلتها أمريكا لأوكرانيا سرا بعد أش ...
- الرئيس الموريتاني يترشح لولاية رئاسية ثانية وأخيرة -تلبية لن ...
- واشنطن تستأنف مساعداتها العسكرية لأوكرانيا بعد شهور من التوق ...
- شهداء بقصف إسرائيلي 3 منازل في رفح واحتدام المعارك وسط غزة
- إعلام إسرائيلي: مجلسا الحرب والكابينت يناقشان اليوم بنود صفق ...
- روسيا تعلن عن اتفاق مع أوكرانيا لتبادل أطفال
- قائد الجيش الأمريكي في أوروبا: مناورات -الناتو- موجهة عمليا ...
- أوكرانيا منطقة منزوعة السلاح.. مستشار سابق في البنتاغون يتوق ...
- الولايات المتحدة تنفي إصابة أي سفن جراء هجوم الحوثيين في خلي ...
- موقع عبري: سجن عسكري إسرائيلي أرسل صورا للقبة الحديدية ومواق ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - شاهر أحمد نصر - في حقيقة المعارضة في المجتمعات البشرية