أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود جلبوط - مشروعا صغيرا للفرح والمقاومة















المزيد.....

مشروعا صغيرا للفرح والمقاومة


محمود جلبوط

الحوار المتمدن-العدد: 2258 - 2008 / 4 / 21 - 07:18
المحور: الادب والفن
    


هدية إلى الأسرى الفلسطينين في سجون الاحتلال وكل أسرى الرأي في السجون العربية

مشروعا صغيرا من الفرح والمقاومة

لماّ تسلل عبر القيد أروقة العالم السفلي , عرّاه الجلاد من كل أحزمته خشية الانتحار...عرّاه من كل ملابسه , من قدميه , من عينيه , ونزع منه صوته , ثم أودع في غرفة الأمانات أعضائه التناسلية...ولما حاولوا الاقتراب من ذاكرته قاوم .
لقد أدرك منذ الصفعة الأولى أن الذاكرة ستكون قلعته الأخيرة , لأنها ستتسلل إلى ساحة الخيال فتتحول ياسمينا معتقا , فلا مندوحة من أن يعض على ذاكرته بالنواجز .
قال للجلاد: قد أخذت كل أحزمتي , وصادرت كل أشيائي ..لكن ذاكرتي لا..خيالي لا , لن أسمح لك انتزاعهما مني .
تركه الجلاد , وعندما أودعه جوف الزنزانة تمتم هازءا: ستستنزف الزنزانة معظم ذاكرتك وكل خيالك...

لم يهتم الأسير لمصادرة صوته , لأن الغناء في عالمهم السفلي ممنوع , وأدرك أن لا فائدة للقدمين , فقد صادروا الشوارع وملؤوها حواجز , وفرضوا حظر التجوال في المدينة ومنعوا التنقل بين القرى والمدن وكذلك المخيمات ...
وبالطبع هو لا يحتاج أعضاءه التناسلية , لأن جرحا ينشف يكف عن الصراخ و يتخشب...

أماّ الذاكرة فهي نور الأمل الذي لن ينطفيء عندما تتسرب العتمة إلى زنزانته .ستكون جزيرته الخضراء التي تسكنها الفراشات والعصافير ليلجأ إليها كلما تخور عزيمته ضجرا من وسائل تعذيبهم .هي حريته بعد أن اعتقلوا الفضاء والزعتر والغابة والمقابر والضفدع والمستنقع.
هي شجر التين والزيتون والياسمين وأحواض القرنفل التي اقتلعوها ليصير السجن أوسع , وليكثروا مراكز التوقيف...
ستكفيه الذاكرة إذاَ وسيكفيه الخيال...
بل كيف كان يمكنه مقاومة الزنزانة دون خيال وذاكرة ؟ كيف يمكن أن يعانق حبيبته ؟ أن يقبل أطفاله؟
أن يحاور صديقه ؟ أن يواصل حياته عندما يتقيأه السجن إلى المنفى...؟
كيف يمكن أن تشرق الشمس من جديد , أن يكتب الشعر , أن يبوح من ذاكرة معتقل سابق....

هناك , حيث العالم السفلي, يحتاج المرء الذاكرة ليجتر بها وجوه الأحبة ..يخفف عنه كثافة الرطوبة , لون الجدران الصفراء الشاحبة...

هناك , حيث العالم السفلي , يحتاج المرء خياله ليكّون من الوجوه هيئات جديدة وأحداث جديدة تحرك الزمن الراكد بعد أن ينفخ فيها من ذاكرته...فيرتسم للوجوه ابتسامات , تكشيرات , تنطق الشفاه كلمات , تفوح من الأفواه رائحة , فيزول من الزنزانة الصمت المؤبد , وتصير الأيام أجمل , تنبت آمالا , ولا يعود الإنتظار الممل جنرال المكان .

هناك , في العالم السفلي , حيث يسيطر السأم على المكان , يفتح صنبور الخيال على الوجوه حتى لا تتلف العفونة ذاكرتها , فلا يعود سكونا , ويصبح للمكان إشراقا خاصا , يمتليء الوقت أحلاما وابتساما فيكتب بها قصصا قصيرة جميلة , وشعرا , ويصنع منها مشروعا صغيرا للمقاومة .

هناك , حيث العالم السفلي , يعلن الوقت عن نفسه بوجبات الطعام فيتمكن المصلون من تأدية واجب الصلاة , ولماّ تعلن الوجبة الثالثة أفول النهار يضطرب الخيال فيتقلّص الزمن يوما...
وعندما يختلط صراخ المعتقلين المعذبين بشتائم الجلادين وأصوات الغناء المنبعث من أجهزة التسجيل يعلن عن نفسه نهار جديد فيتمدد الزمن يوما آخر..

هناك , في العالم السفلي , حيث منتصف اللا نهار , يشارف المعتقلون حد الجنون أو حد التهور أو حد الإنهيار , ولماّ يطل الجلاّد من نافذة الزنزانة , يتكور المنفرد بنفسه كجرذ في إحدى الزوايا , يحدّق مباشرة في عيون الجلاّد . فيرتعد الجلاد فزعا , يخاف أن تحفظ ذاكرة المسجون صورته..
كيف يخشى سجان سجينه وقد حزم يديه وقدميه بالسلاسل؟؟
لأنه يخشى نظراته الجذلى , يقهره وجهه الأليف المتورد الوجنات , وترعبه ذاكرته..لقد هزم الجلاّد بنظراته , بابتسامته , وسحقه بذاكرته...
يتسائل الجلاّد : كيف لهذا الجرذ أن يحافظ على الحياة فيه وقد أودعناه قبراَ ؟؟
لا يفقه الجلاد كيف تعلّم الأسير أن يشرع الصبر في وجه القاتل , والابتسام في وجه القبح , وذاكرة وقادة في وجه الظلام , فيشرق شمسا تحت الأرض...
لأنه منذ القبلة الأولى على جبينه تعلّم أن الحب يهزم كل الأحقاد...
ومنذ الصرخة الأولى والنظرة الأولى والمذبحة الأولى أدرك أهمية ذاكرته , فبالذاكرة وحدها سيحمل الصور المذبوحة لكي لا تهرب في عاصفة المنفى...

هناك , في العالم السفلي , تندر الحياة إلى حد قملة في الرأس أو ذبابة تطير في فضاء الزنزانة أو نملة تدب , وأحيانا كثيرة تختصرها دودة ما طاقت عفونة البطانية التي يتلحف بها فخرجت تحبو على أرض الزنزانة .
ولماّ كان يحلّ عليه إحداها ضيفا يتعذر عليه النوم كثرة توتر الفرح.. تتداوله رغبة للغناء , للبكاء , للإصغاء , ورغبة جامحة للرقص على إيقاع طنينها أو دبيبها , فيتدحرج الوقت , وتشتعل الذاكرة ويتّقد الخيال .

هناك , في العالم السفلي , عندما كان الليل يسدل على المكان هذيانه , ويسود الصمت المقبرة , يدرك أن الحياة نزوة وأنها اختبار لانفجار الكراهية .
كان الجميع يسعى للوصول حد الهذيان لكي ينسوا , وعندما ينسوا تخبو الذاكرة , كان يدرك أنه في مواجهة الزنزانة ستحترق الذاكرة وسيتلبد الخيال , كان يتردد في صدره خوف مفزع : ما أبشع أن تموت الذاكرة محترقة وينطفيء الخيال .

هناك , حيث العالم السفلي , كان كلما يقذفه الجلاّد جوف الزنزانة بعد حفلة التعذيب يختنق الخيال لديه , فتأتيه أمه , ترفعه حتى يطل من عينيها , تجلسه في حرجها , تضع راحتيها على جبينه , تمسح دماءه وترجوه ألا ينسى , ولفورها تتقد الذاكرة , يرتجف ألما وخوفا , يصمت فيصير الصمت دويا ...

أماه, يا أماه, إن للذاكرة أسنان حادة..أماه, يا أماه, إن للذاكرة المتقدة في العالم السفلي مخاطر , ثم يسرّ لها أنه يخشى إن رؤوه متلبسا بذاكرته ثانية سيقتادوه للمحرقة فيعترف بكل الأسماء والمعلومات المخزنة فيها فيصبح للذاكرة أنياب تمزق روحه وتصير له عدوا , رجاها أن لا تتردد إليه كثيرا لكي تخبو الذاكرة...
تصمت أمه , تمسد بيدها الحانية جبينه الكنعاني فتغادر الرعشة جسده , وكلما تخور عزيمته يسمع صدى صوتها في ذاكرته حياّ يردد:(أنا أنتظرك يمّا , لا تقلق , ستخرج إلي يوما , كن رجلا يمّا, واعلم أن استشهاد الرجال عندنا تغني له الصبايا وتزغرد النساء , ويطأطيء الرجال له الرؤوس يماّ, وسيرثه الصغار لآخر أيام عمرهم , سألقاك يمّا وسط الغناء والزغاريد,وما أقوى أن تكون ذكرى في قلوبهم يمّا)....فتنهض الذاكرة من كبوتها , وتضيء باللون اللازوردي الزاهي , وحين يجيء الجلادون تنهض , تتحدى , وتزرع الخوف فيهم....

هناك في العالم السفلي كانوا يضربون ذاكرته بقسوة متناهية كي تتقيأ بما يبغون , وعندما يتملك الألم منه يشعر أن الضعف قد تسرب إلى عزيمته , يأتيه من الذاكرة صوت أمه: يماّ , حبيبي يماّ , إصحى يماّ , أوعى يماّ , إما حياة تسر الصديق , وإما ممات يكيد العدى....

عندما تقيأه السجن للشمس كانت مفرداته قد ازدادت ونمت , فأدرك أن التجربة قد أضاءت ذاكرته , وراح يؤرخ نفسه فما عاد يحتاج لمن يؤرخه ...
اختلطت في الذاكرة حدود الوطن , لجوئا , ملاحقة , سجنا , شتاتا , وأخيرا هاهو المنفى يتلقفه .
في المنفى , أسر له صديق قد احترف المنفى:(يمكنك أن تصنع الآن قصصا وشعرا جميلا من ذاكرتك الحزنى)
وذكّره أن أدباء العالم العربي قد أنتجوا روائعهم في ظل القهر الحزين , وسرد له رتلا من الأدباء والرسامين والشعراء , ثم أردف له : من عمق الحزن تولد الروعة....
والسعداء يا رفيقي؟؟ ...ألا ينتج السعداء شعرا و رسما وموسيقى ؟؟ ....ألا يؤلفون قصصا و ينتجون روعة؟؟
هل حقا أن السعداء ينامون ملء أشداقهم فلا ينتجون سوى البلاهة والاستبداد والعنصرية ؟؟
إذا: هي سعادة ثور بلا خيال وبلا ذاكرة ...

ألا تبا أن يعيش المرء سعيدا كالبقرة .
محمود جلبوط
[email protected]



#محمود_جلبوط (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- يوم للتضامن مع الأسير العربي والفلسطيني معا
- حكاية حب
- هل من مهمات العلماني العربي شتم الإسلام ومن متطلبات التغيير ...
- حول شعار تحرير المرأة وأخواته
- أحجية القصة القصيرة
- لا تندهي ما في حدا فقد تأسرلنا
- وجهة نظر في أسباب تخلفنا
- قصة قصيرة ...ألاعيب الذاكرة
- غادر الحكيم السديم العربي
- معطيات مفزعة عن واقع البناء في القدس الشرقية
- قصة قصيرة جدا
- قصص قصيرة جدا من مجموع ندى الذاكرة
- قصة قصيرة جدا ....من مجموعة - ندى الذاكرة-
- قصص قصيرة جدا من مجموعة - ندى الذاكرة-
- (موضوع مؤجل)....قراءة في كتاب منشور باللغة الألمانية يتناول ...
- في المشهد الأوربي
- الكلمة القذرة
- ماذا يحصل للفلسطينيين في لبنان؟
- رأي حول محاكمة رجالات النظام العراقي السابق
- ترجمة مقال من اللغة الألمانية للعربية لداعية السلام المناضل ...


المزيد.....




- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود جلبوط - مشروعا صغيرا للفرح والمقاومة