افتتاحية "طريق الشعب" – العدد 21 - 28/12/2003 - 2/1/2004
لم يتورع نظام صدام المقبور عن استخدام سلاح الطائفية البغيض من اجل البقاء في الحكم. لكن مخططاته الخبيثة باءت بالفشل، فقد احبط ابناء شعبنا مساعيه لتمزيق وحدتهم الوطنية، وعبّروا بكل انتماءاتهم السياسية والقومية والدينية والمذهبية عن التمسك بهذه الوحدة وتجنب الانجرار الى ما كان يخططه لهم من اقتتال واحتراب داخلي، وتأجيج الفتنة الطائفية، لصرف الانتباه عن المهمة الرئيسية المتمثلة بالخلاص منه ومن نظامه.
واليوم، بعدما تخلص شعبنا من كابوس الدكتاتورية، وهو يواجه، في ظروف بالغة الصعوبة والتعقيد، مهمة اجتثاث آثارها وترسيخ العملية الديمقراطية الى جانب انهاء الاحتلال واستعادة السيادة الوطنية، تعود بعض الاوساط والجهات، محلية وخارجية، عبر الحدود، الى العزف على وتر الطائفية والسعي الى تأجيجها تحت ستار الحرص الزائف على مصالح "الاقلية السنية" وضمان تمثيلها في عهد ما بعد صدام! كما لو ان الطاغية كان حقاً ممثلاً لابناء السنة، وهو الذي لطّخ يديه بدماء كل العراقيين، وكل من تحدى طغيانه، اياً كان انتماؤه السياسي او القومي او الديني او المذهبي.
وتؤكد تجربة العراق الخاصة إن الظاهرة الطائفية هي وليدة للأنظمة الديكتاتورية والدولة الاستبدادية وهي تقدم رداً خاطئاً وخطيراً على مشاكل قائمة فعلاً جوهرها غياب آليات ديمقراطية لتداول وتوزيع السلطة. وان الانزلاق إلى النهج الطائفي سيكون عائقاً كبيراً أمام إعادة بناء الدولة العراقية الممثلة للجميع . فالطائفية تعني تنازعاً دائماً بين الولاء السياسي والمدني للدولة التي تقوم على مبدأ المواطنة وبين الولاءات الجزئية وتوظيفها لأغراض الصراع السياسي واقتسام السلطة.
وإذا كان الوضع الاستثنائي الذي نشأ في أعقاب الحرب والانهيار المدوي للنظام الديكتاتوري، والتدمير الذي لحق بآليات التمثيل المدني للمجتمع، وتعطل مسارات الاندماج الوطني بما يلبي حاجات الجماعات والمكونات المختلفة للمجتمع العراقي، قد دفع إلى اعتماد معايير الانتماء الديني والقومي والطائفي وغيرها من الانتماءات الأساسية إلى جانب الانتماءات السياسية والمدنية الأخرى لتأمين المشاركة الأوسع في العملية السياسية الجارية، فينبغي أن يكون هذا الوضع استثناءً فعلاً وان ينتهي كلياً بتحقيق العملية السياسية غايتها في تأمين نقل السلطة للعراقيين واستعادة السيادة وانبثاق المؤسسات الدستورية والحكومية التي تقوم على مبدأ المواطنة.
ان تأجيج المشاعر الطائفية، وزرع العداء للطوائف والجماعات العرقية الأخرى، يشكل خطرا ماثلاً، وهناك من يسعى الى افشال العملية السياسية وتفجير الاوضاع ودفع البلاد إلى مسارات تكرس التشظي وتحول دون استئناف مسيرة إعادة البناء الوطني على أسس ديمقراطية ترفع الحيف والظلم عن مكوناته وتؤمّن تعايشهم على اساس الرغبة المشتركة والمصلحة المشتركة.
ويقع على عاتق القوى السياسية والاجتماعية المنخرطة في العملية السياسية، التي تتصدى لمسؤولية إعادة البناء السياسي والمؤسسي والاقتصادي والمجتمعي، محاربة الطائفية وسمومها دون هوادة، وشحذ اليقظة ورفع مستوى الوعي ازاء هذا الخطر. لكن المعالجة الحاسمة لمخاطر الجنوح لاستخدام الانتماءات الأولية كوسيلة وأداة في الصراع السياسي تقتضي، اولاٌ وقبل كل شيء، اقامة وترسيخ اسس في غاية الوضوح لمباديء تداول وتوزيع السلطة على جميع المستويات في المجتمع، تضمن انفتاحها لجميع أبنائه على أسس المواطنة.. ليكون عراقنا وطناً للجميع.