أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - فرانسوا باسيلي - تسعون عاما على ميلاده: لماذا لايموت عبد الناصر؟















المزيد.....


تسعون عاما على ميلاده: لماذا لايموت عبد الناصر؟


فرانسوا باسيلي

الحوار المتمدن-العدد: 2201 - 2008 / 2 / 24 - 04:22
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


فى الاول من تشرين الاول (اكتوبر) 1970، اليوم الثالث لوفاته فى 28 سبتمبر، خرج ستة ملايين مصرى يشيعون جمال عبد الناصر ، فى مشهد لم تعرفه مصر قبلها والى الآن ، واذا كان من الممكن اتهام العرب بالميل الى المبالغة فى الوصف وفى الارقام فإننى ارجع وانا اكتب الان الى عدد مجلة "لايف" الامريكية الشهيرة الصادرة فى 9 اكتوبر 1970م حاملا صورة عبد الناصر على غلافه وايضا عدد شقيقتها مجلة "تايم" الصادر فى 12 اكتوبر فى نفس العام، وقد احتفظت بالعددين فى مكتبتى الخاصة ، وبالمجلتين عشرات الصور لمشاهد الجنازة وقد ظهر عشرات الالاف من المصريين تكتظ بهم القطارات ، ويقول مراسلو المجلتين ان الملايين قد تدفقت على القاهرة من كافة انحاء مصر لحضور الجنازة و انفجرت المظاهرات الفورية فى كل مكان هاتفين ناصر.. ناصر.. فى تكرار لا نهائى وتحولت القاهرة الى نهر عظيم من الحزن والالم والغضب والدمع، وارتعش وبكى الرجال كالاطفال وخرجت النساء "تلطم.. وتعدد" كعادة المصريين من ايام الفراعنة و اتشحن بالسواد وكأن من مات هو زوج او اب او اخ .

وتقول مجلة "تايم" ان القاهرة عبر الالف وواحد سنة من تاريخها لم تعرف مثل هذا المشهد من قبل، وان المشيعيين انتظروا على ضفتى النيل، بعمق مئتى شخص فى بعض الاماكن وبطول ضفتى نيل القاهرة وانهم تسلقوا الاشجار واسطح المنازل وراحو يضغطون على حائط الجنود المحيط بالنعش من كل جانب وهم يهتفون "لا اله الا الله.. ناصر ياحبيب الله" ، وراحو ايضا يهتفون "لم يمت جمال عبد الناصر.. كلنا جمال عبد الناصر" وراح العالم يراقب بذهول وهو لايصدق كيف يحزن شعب بهذ القدر على قائد مات بعد ان سبب له اعظم كارثة سياسية فى تاريخه الحديث حيث انهزمت جيوش ثلاث دول عربية امام اسرائيل ، ورحل وماتزال اسرائيل تقبع على ضفة القناة وقد احتلت كل سيناء وكل قطاع غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية وايضا مرتفعات الجولان السورية ، كيف لم يزل فى قلوب هذا الشعب اية مشاعر للحب او التقدير لهذا القائد الذى سبب لهم كل هذا الخراب!! سؤال ربما مايزال الغرب لايفهمه حتى الآن.

ان الحرب الكلامية ماتزال دائرة على اشد وطيسها بين مناصريه- المعروفين بالناصريين - وبين خصومه الكثيرين.. لايكاد يمر اسبوع فى مصر الا وتقرأ عدة مقالات تدافع عن عبد الناصر والناصرية، او تهاجمه وتهاجمها هجوما ضاريا ، ونعرف ايضا ان فى مصر ليس فقط ناصريون كافراد ولكن هناك ماتزال "الناصرية" كحركة وفلسفة وتيار لها تجمعاتها واحزابها وجرائدها بما يمكن ان نستنتج معه ان هتاف المشيعين بأن عبد الناصر لم يمت وكلنا جمال عبد الناصر لم يكن مجرد انفعال عاطفى. و ان ماقاله الشاعر المصرى الكبير محمود حسن اسماعيل فى قصيدته "من لحظة الحزن العظيم" هو ايضا نبوءة شعرية اثبتت السنوات صدقها.. "ان المسجى على راحة الخلد حي وثائر/ مازال حيا لم يمت ناصر/ مادام فى الارض حر وثائر".

ان ناصر اذن حى يرزق ليس فقط فى ذاكرة الشعب التى لاتنسى المخلصين من ابنائها، ولكن فى واقع الصراعات الفكرية اليومية الراهنة.

الناصرية كحركة وفلسفة

ولنا ان نلاحظ ان قليلين جدا من رجال التاريخ من يرتبط اسمهم بحركة وفلسفة تعرف بهم، كما ارتبط ناصر بالناصرية ، وفى التاريخ الحديث مع الاختلاف الكبير فى المضمون والاهداف ، نجد ماركس والماركسية وديغول والديغولية ، ولانعرف فى العالم العربى ظاهرة مشابهة للناصرية.. وحتى فى التاريخ المصرى الحديث واذ يمكننا ان نقول ان ارتباط الشعب المصرى بعبد الناصر وحبه له قد يشابه ارتباطه وحبه لسعد زغلول الذى كان له نفس هدف عبد الناصر وهو التحرر من الانكليز ورغم وجود من عرفوا "بالسعديين" الا ان سعد زغلول رغم هذا لم يكون تيارا فاسفيا سياسيا و اجتماعيا واقتصاديا متكاملا يعرف به كما لم يكن له اهتمام وتواجد فى العالم العربى ، وبذلك يظل ناصر والناصرية ظاهرة فريدة فى التاريخ العربى الحديث.

ونجد بعد هذا ان محاولة فهم عبد الناصر عن طريق مقارنته بعدد من رجالات العصر وقادته كما فعل البعض ممن قارنوه مرة بديغول ومرة بنابليون لاتؤدى بنا سوى الى الاقتناع بخصوصية وتميز عبد الناصر كتجربة عربية فريدة ، فاذا نظرنا الى من قارنوه بمحمد على فى التاريخ الاقرب وبصلاح الدين فى التاريخ الابعد ، ورغم تقديرى لمن يعترضون على مثل هذه المقارنات من خصومه الذين يقولون – بحق- ان صلاح الدين حرر القدس من الصليبيين بينما اضاع عبد الناصر البقية الباقية من القدس فى حزيران 67 م فكيف نشبهه بصلاح الدين ، اقول انه برغم وجاهة هذا الاعتراض فان حجم الهزيمة التى وقعت لعبد الناصر لاتقلل من حجم الظاهرة الهائلة التى يمتلكها وانما تضفى بعدا مأساوياً عظيما عليها بحيث يمكن رؤيته كبطل من ابطال التراجيديا الاغريقية الذى تتعاظم جوانبه البطولية الباهرة بنفس الدرجة التى تكشف عن نفسها جوانبه الانسانية الضعيفة المحزنه.

هو المستبد العادل عند البعض، والمستبد الظالم عند البعض الآخر. ومن تناقضات وغرائب تجربته ان المثقفين والكتاب الذى القى بهم فى السجون بسبب او لآخر.. او بدون سبب على الاطلاق هم من اصبحوا من بين المنحازين له والمدافعين عنه الان.. وهو نفس اللغز الذى يبدو لمن يحاول ان يفهم سبب حزن مصر الهائل يوم وفاته وهو يتركها محتله احتلالا عسكريا باطشا اشد قسوة وغلاظة من احتلال الانكليز الذى خلصهم منه فى مطلع عهده.. لهذا كله تأتى مصداقية تساؤلنا الراهن: لماذا لايموت عبد الناصر؟

ناصر ونابليون وديغول

لانريد ان نضع ثقلا كبيرا فى ميزان المقارنة بين عبد الناصر ونابليون اذ بنى نابليون مجده اساسا باعتباره قائدا عسكريا عظيما وفاتحا فذا رفع العلم الفرنسى بالقوة والعدوان على اماكن شاسعة من العالم.. ولكن المقارنه تنحصر فى ان نابليون قد انتهى مهزوما شر هزيمة امام عدوه البريطانى اللدود فى معركة ووترلو ومات منفيا وحيدا مهملا فى جزيرة سانت هيلانه عام 1821م ة ورغم نهايته الغير مشرفه هذه ورغم انه تسبب فى مقتل مئات الالاف من الشباب الفرنسى فى معارك وحروب لاتنتهى الا ان الشعب الفرنسى لم يسقط نابليون من ذاكرته ووضعه فيها موضعا مبجلا غفر له فيه هزيمته وماسببه من خراب وقدر له فى النهاية لرتباطه الجنونى بمجد فرنسا حسب مفهوم المجد فى ذلك الزمان.. كما قدر له ايضا خصاله الايجابية الاخرى مثل تقديره للعلم والعلماء والثقافة والتاريخ بالاضافة الى شجاعته الشخصية الفائقة .. المسألة اذن ليست فقط هى كيف تأتى نهاية البطل.. فالبطل سيموت فى النهاية وقد يموت مهانا مخذولا ولكن المسألة هى شخصية البطل وخصاله التى ظهرت فى مواقفه وافعاله ..اى ان الشعوب تميل هنا الى محاسبة البطل على اساس ان "الاعمال بالنيات" وليس بالنتائج ومن هنا يظل عبد الناصر حيا فى الذاكرة المصرية والعربية.. كما يظل نابليون فى الذاكرة الفرنسية والعالمية.

اما المقارنة مع ديغول، فتأتى فى حديث المفكر الفرنسى اندريه مالرو مع محمد حسنين هيكل احد اخلص خلصاء عبد الناصر اذ قال مالرو لهيكل مقارنا بين عبد الناصر وديغول : كلاهما واجه فى عصره اختيارا دوليا هائلا وكلاهما رفض هذا الاختيار.. كلاهما قيل له: هل انت مع امريكا ام مع الاتحاد السوفيتى؟ وكلاهما قال: لست مع امريكا ولست مع الاتحاد السوفيتى. وانما انا مع وطنى وامتى.

ورغم ان هذا الموقف يعكس فكرا استراتيجيا بالغ الذكاء نجح فى تكوين حركة دول عدم الانحياز الا انه يعكس ايضا موقفا شخصيا بالغ الاعتزاز بالكرامة لان التابع لاكرامة له لذلك تقترن صفة التابع دائما بصفة الذليل فى سياقنا العربى.. ويمكننا اذن ان نقول ان اختيار عبد الناصر لنفسه ولامته الا تكون تابعة لهذه القوة العالمية او تلك والتى عكستها حروبه الاعلامية الضاربة ضد التحالفات التى اراد الغرب فرضها على دول المنطقة.. ان هذه افصحت للامه العربيه عن مدى استقلالية شخصية عبد الناصر وشدة اعتزازه بنفسه كمصرى وكعربى وكان هذا من اكبر عوامل الجذب البراقة الحارة التى اختطفت قلوب الشعوب العربي ة حوله.. لانها شعوب تحررت لتوها من استعمار واستعباد طويل الامد، وكانت كرامتها وعزتها وحريتها امام الاجنبى من اشد همومها فى ذلك الوقت. وسنجد ان الاعتداد بالكرامة الى حد مفرط هى الصفة التى تكررت مرارا وصبغت حياة ومواقف عبد الناصر السياسية كلها وكانت من اول الروابط العاطفية التى ربطته بالشعوب المسحوقة والجماهير التى طال شوقها للحياة الكريمة الحرة التى طالما تحدث عنها فى خطبه.

زعيم الوحدة العربية

ان حب الجماهير لعبد الناصر خارج مصر ربما يفوق حب المصريين له.. ويبدو ان هذا صحيح الى اليوم وليس هذا بالعجيب اذا مالاحظنا ان عبد الناصر هو الوحيد فى التاريخ العربى الحديث الذى يوصف بأنه زعيم الوحدة العربية. ورغم ان فكرة الوحدة العربية لم يبتدعها عبد الناصر اذ كان قبله كثير من المبشرين بها من المفكرين العرب وخاصة فى سورية ولبنان الا ان الوحيد الذى استطاع ان يأخذ هذه الفكرة من الورق الى الواقع هو عبد الناصر حين حقق الوحدة بين مصر وسورية فى عام 58 بعد اربعة اعوام فقط من رئاسته لجمهورية مصر ..ورغم انهيار الوحدة مع سورية بعد ثلاث سنوات ونصف من تكوينها الا ان هذا لايغير من ان عبد الناصر هو الزعيم العربى الاكثر اخلاصا وانتماء لفكرة الوحدة العربية.. اذ كانت جزءا اساسيا من تكوينه النفسى وتفكيره الاستراتيجى منذ اشتراكه فى حصار الفالوجة فى حرب 48م من اجل فلسطين .. حيث اكتشف كيف ان تفكك العرب وعدم التنسيق بين الجيوش العربية المشتركة فى المعارك كان سبب هزيمتها.

ومن عبث الاقدار الذى تلتف فى حباله المأساوية دائما شخصية البطل التراجيدى ان وفاة عبد الناصر فى 28 ايلول (سبتمبر) عام 70م جاءت على اثر اخر عمل قام به من اجل الوحدة العربية وحقن الدماء العربية التى كانت تسيل فى شوارع عمان بين الجيش الاردنى وقوات المقاومه الفلسطينيه وقتها. و حصل عبد الناصر على موافقة الملك حسين وياسر عرفات على وقف اطلاق النار.. ودهش الجميع من هذه النتيجة التى لم يتوقعها احد فقد كان حجم الدم المراق وعمق الخلافات السياسيه تشير الى استحالة ذلك.

ان عبد الناصر وهو فى اضعف حالاته كان له مع هذا من القوة والنفوذ والسلطة المعنوية والرمزية الهائلة مايمكنه من ايقاف حرب ضارية بين جهتين عربيتين وهو وضع لم يتمكن احد من تحقيقه فى النزاع على ابار النفط بين الكويت والعراق مما ادى الى عدوان العراق على الكويت ولكن هكذا هى شخصية البطل التاريخى فله من القوة الداخلية فى شخصيته وضميره ورؤيته وجاذبيته ماتؤهله لان يقود فيتبع الاخرون.

فما هى تلك الخصال فى شخصية عبد الناصر التى جعلته قويا حتى فى ضعفه ومؤثرا حتى وهو جريح ينزف فى آخر يوم فى حياته؟

كان عبد الناصر تجسيدا لنظرية البطل كصانع للتاريخ فقد كان ظهوره وصعوده السريع كشخصية فذة اتخذت ابعاد البطل التاريخى وما امكنه تحقيقه بسبب قوة هذه الشخصية ونصاعة جوانبها الرمزية من شجاعة واعتداد بالنفس والكرامة و "الطهارة الثورية" حسب مصطلح تلك الفترة والترفع عن طلب اللذة والمال والرفاهية الشخصية والفساد بالاضافة الى كاريزماتية الشكل والصوت والصورة والخطاب وسحر الدغدغة العاطفية لشعب محروم من العزة والكرامة لقرون طويلة.. كان هذا كله تأكيدا لاهمية الفرد البطل كصانع للتاريخ.. وكان الخطأ الفادح هو فى اكتفاء هذا البطل الفرد واكتفاء المناخ الذى صنعه حوله من رجال وثقافة بهذا البطل الفرد نفسه كبديل عن بقية الملايين من الافراد التى سلب حريتها تدريجيا لكى تصب احلامها وطاقاتها كلها فى فرد واحد على القمة.

والذى يهمنا هنا هو محاولة فهم الجوانب المختلفة فى شخصية عبد الناصر التى جعلته يلعب دور البطل فى الساحة العالمية وفى الشارع المصرى والعربى.. بشكل يرفض ان ينحسر الى اليوم .

الشجاعة الشخصية

لننظر الى الشجاعة الشخصية لعبد الناصر.. وقد تكون كلمة "الشجاعة" قد فقدت بريقها فى ايامنا هذه وقد يعتبرها البعض من مخلفات اخلاق الفروسية فى عصور مضت ولكن الشجاعة كخصلة شخصية ما تزال هى الفارق بين القائد والتابع حتى على مستوى الريادة والزعامة فى المجال الادارى والاقتصادى التجارى وهى من الصفات التى اقوم حاليا مع غيرى من خبراء التدريب والتطوير الادارى الامريكيين بتدريسها لكوادر المديرين بالشركات والمؤسسات باعتبارها احد المقومات الضرورية لفن القيادة.

والشجاعة بالطبع خصلة طبيعية غريزية لا يتعلمها الانسان على كبر ولكن توجد معه وتبدو علاماتها عليه منذ الصغر. ولننظر كيف ظهرت هذه الصفة فى عبد الناصر مبكرا فى الحادثة المعروفة فى حصار الفالوجة فى احداث 48 بداية المأساة الفلسطينية فبعد هزيمة جيوش مصر والاردن والعراق وسورية ولبنان التى عبرت حدودها الى فلسطين بعد اعلان الدولة الاسرائيلية وبعد ارتفاع عدد الفلسطينيين المطرودين من بيوتهم وقتها الى مايقرب من المليون وعندما قبلت مصر وشقيقاتها فى النهاية بوقف القتال .. لم تعد هناك بين القوات الاسرائيلية المنتصرة وبين اجتياح كل فلسطين سوى مناطق مقاومة معدودة – من هذه القدس القديمة والتى كانت تحت الجيش العربى ومنطقة اخرى هى الفالوجة حيث رفضت كتيبة مصرية الاستسلام ويقول وزير الخارجيه البريطانى انتونى ناتنج فى كتابه "ناصر" الذى صدر عام 72 مايلى "وقد كان الفضل جله لجمال عبد الناصر الذى قاد هجوما مضادا ضاريا اجبر العدو على تخفيف ضغطه بما امكن للمدافعين المحاصرين من الصمود لفترة اطول حتى وقعت مصر واسرائيل على معاهدة الهدنة فى شباط "فبراير" من العام التالى 49.

وهكذا نجد عبد الناصر لايستسلم وهو محاصر من كل جانب فى حرب خاسرة وامام عدو كان قد انتصر على الجيوش العربية فعلا حتى يمكن القول ان المقاومة كانت ضربا من الجنون واللاجدوى .. ولكن كانت هذه صفة الشجاعة المرتبطة بكرامة الانسان وكرامة الوطن فى الوقت نفسه والتى ميزت عبد الناصر فى مستقبله السياسى بعد ذلك وحتى يوم وفاته.

العفو عند المقدرة

تظهر الشجاعة مرة اخرى فى الموقف المدهش الذى وقفه "الضباط الاحرار" الذى حققوا انقلابهم العسكرى فى 23 يوليو 52 من ملك مصر فاروق الاول واسرته فقد كان بعض رجال الثورة يريدون محاكمة الملك تمهيدا لاعدامه لضمان عدم مطالبته بالعرش ولعقابه على فساده وكان عبد الناصر ممن عارضوا هذا قائلا "مامعنى محاكمة تعرفون مقدما انها ستؤدى الى اعدامه كما تريدون؟ الافضل ان نتركه يذهب هو وعائلته.. وكان هذا موقفا ثوريا فريدا ومميزا للثورة المصرية فلا الثورة الفرنسية ولا الروسية قبلها ولا الثورة العراقية بعدها تورعت عن قتل والتمثيل بمن ثارت عليهم من ملوك وقياصرة بشكل دموى فظ وعنيف.

عبد الناصر والإخوان

وقد تكرر ظهور شجاعة عبد الناصر بعد هذا فى حادثة المنشية الشهيرة والتى اطلق عليه فيها الرصاص وهو يخطب فى الاسكندرية من قبل فرد قيل انه مرتبط بجماعة الاخوان المسلمين. واذكر اننى كنت طفلا صغيرا فى بداية وعيه بما يجرى فى وطنه وقتها وكنت استمع الى خطاب عبد الناصر فى الراديو بالبيت ومازلت اذكر الى اليوم كيف ان عبد الناصر عاد الى تكملة خطابه بعد اطلاق الرصاص عليه والقبض على الجانى وكل ما اذكره اليوم انه راح يخطب وهو فى اعلى درجات التأجج العاطفى صائحا "لو مات جمال عبد الناصر" ثم يذكر قائمة الاحلام التى يتطلع الى تحقيقها لوطنه وبين كل حلم منها يعود ويصرخ "لو مات جمال عبد الناصر".

الحادث لم يكن تمثيلية بل كان محاولة اغتيال اذ ان الرصاص كان قريبا جدا من موقع وقوف عبد الناصر ولاشك ان استمراره فى الخطاب بعد هذا يشكل شجاعة شخصية اثبتت الاحداث السابقة واللاحقة ان عبد الناصر يتحلى بها. اود هنا ملاحظة ان تعذيب الاخوان المسلمين فى السجون بعد هذا طوال فترة حكم عبد الناصر تعذيبا بلغ فى الكثير من الاحيان حدا لاانسانيا هو وصمة فى جبين عبد الناصر لايصح لاحد محاولة غسلها بالكلام والمبررات وهى احدى سقطات العهد الناصرى الرئيسية.. فإذا كان من الضرورى ادخال المخربين والارهابيين السجون فما ضرورة تعذيبهم واهدار كرامتهم؟ اذ كيف لمن يطلب العزة والكرامة لابناء وطنه فى كل خطاب له ان يسمح بأن تهان الكرامة الانسانية بشكل وحشى فى سجونه حتى ولو كانت ضد خصومه المتآمرين عليه. واحيانا يقول المدافعون عن عبد الناصر انه لم يكن يعرف بكل حوادث المسجونين ولا بكل حوادث التعذيب واحيانا يقولون قد يكون على علم بها لكنها كانت ضرورية لتأمين سلامة الثورة ضد الاعداء الكثيرين المتربصين بها، وكلا الدفاعين يجب ان يكون مرفوضا بشدة لان مثل هذا التبرير هو الذى يكرس الطغيان ويمنحه اعذاره السياسية التى يجب الا يقبل بها احد.

العدوان الثلاثى

وكما اجتمعت الشجاعة الشخصية مع الموقف الوطنى فى موقف عبد الناصر فى الفالوجة فقد اجتمعتا مرة اخرى وبشكل اعظم فى موقفه ابان العدوان الثلاثى عام 56م فبعد رفض البنك الدولى تمويل السد العالى بسبب رفض امريكا وبريطانيا لاسباب سياسية اثبتت الايام قصر نظرها الشديد لانها ادت الى دخول النفوذ السوفيتي الى الشرق الاوسط.. قام عبد الناصر باعلان تأميم قناة السويس وبشكل مفاجئ وعلنى جاء كصفعة على وجه بريطانيا وفرنسا واذ بهما تقومان بالتآمر مع اسرائيل لكى تبدأ هى الهجوم من سيناء وتتقدم حتى قناة السويس فيطالب بيان بريطانى فرنسى بانسحاب القوات الاسرائيلية والمصرية عشرة اميال على جانبى القناة وهو وضع يترك اسرائيل فوق معظم سيناء بينما ينسحب المصرييون داخل الدلتا تاركين القناة لانكلترا وفرنسا. وعلينا هنا تذكر ان هذا التهديد الخطير من دولتين عظمتين ومعهما اسرائيل جاء عامين فقط بعد خروج الانكليز من مصر ولم يكن عبد الناصر قد اصبح بعد الزعيم العربى الاول اذ كان مايزال العالم ينظر اليه "كبكباشى" قام بانقلاب عسكرى ولاتتعدى خبرته كرئيس للجمهورية عامين فقط وهكذا كان التصور انه بعد وصول الجيش الاسرائيلى الى ضفة القناة وامام مطالب واضحة تعززها الاساطيل وقوات مظلات بريطانية فرنسية مستعدة للطيران والهبوط فى بورسعيد ان ذلك الضابط الغرير قليل الخبرة رئيس دولة صغيرة لن يستطيع سوى الاستسلام والرضوخ وبهذا تعود بريطانيا الى مصر وتأخذ اسرائيل سيناء وتأخذ فرنسا القناة.

و اصيب عبد الحكيم عامر وصلاح سالم بالإنهيار امام الانذار وطالبا عبد الناصر بالاستسلام للسفارة البريطانية وقال عامر ان الجيش لايستطيع ان يقاوم وان مصر ستدك بالقنابل ووافق صلاح سالم وطالبا ان تستسلم الحكومة فورا ولكن عبد الناصر وعبد اللطيف البغدادى رفضا واختارا المقاومه لكى لاتعود مصر مستعمرة للمحتلين.

ورفض عبد الناصر الانذار علنيا بشكل ادهش زملاء عبد الناصر انفسهم ولاشك ان الوضع من جميع وجوهه كان يبدو بالغ القتامة والاحباط ويبدو قرار المقاومة اقرب الى قرار انتحار منه الى موقف وطنى حكيم ولكن هذه فى النهاية هى المواقف التى يصعد فيها البطل التاريخى ليغير مجرى الاحداث فلو استسلم عبد الناصر وقتها لعادت انكلترا وفرنسا الى الشرق الاوسط وقبعتا به لسنوات طويلة بعدها ولربما تغير شكل المنطقة كلها ولكن البطل التاريخى يرفض الاستسلام المهين لنفسه ولشعبه.

وتبدأ المعركة العسكرية والسياسية العالمية الهائلة وعندما يرى الشعب المصرى كيف يرفض رئيسه الانذار المهين تشتعل فيه روح المقاومة ويهب شعب بورسعيد ليقاوم القوات الهابطة بالمظلات من بيت الى بيت فى معركة اعادت الى العالم بسالة ليننغراد. وضرب الطيران البريطانى القاهرة فأسكت اذاعة القاهرة التى كانت تلهب الجماهير بالاناشيد الحماسية بصوت ام كلثوم وعبد الوهاب وفايدة كامل وعبد الحليم حافظ والمجموعة فى نشيد "الله اكبر فوق كيد المعتدى". وسكتت الاذاعة لمدة ثلاثة ايام دار فيها عبد الناصر في سيارة مكشوفة لكى ترى الجماهير انه مازال حيا يقاوم وان الخطاب الذى سمعوه من قبل وخطب فيه من الجامع الازهر لم يكن مسجلا. ودار المسؤولون المصريون شوارع القاهرة ومدن مصر الرئيسية الاخرى يحملون مكبرات صوت ويوزعون البنادق على المتطوعين للمقاومة الشعبية ويرددون كلمة عبد الناصر: سنقاوم .. سنقاوم ولن نستسلم ابدا.

ولم تؤيد الحكومة الامريكية العدوان على مصر وطلبت من انكلترا وفرنسا الانسحاب واصدر الاتحاد السوفيتى انذارا واضطرت الدول الثلاث فى النهاية الى الانسحاب وانتصر جمال عبد الناصر وتحول من بكباشى مصرى الى زعيم عظيم يحتذى حذوه كل متطلع للحرية والاستقلال فى افريقيا واسيا.. وبدأت حركات التحرر تتوالى تؤيدها ثورة مصر فى مد ثورى تحررى هائل راح الاستعمار القديم ينسحب امامه متراجعا فى كل مكان.

ذلك الموقف الشجاع الملئ عزة وكرامة ورغبة فى المقاومة هو ماصنع البطل التاريخى الذى اتخذ حجما اكبر بكثير من حجمه الطبيعى لانه تحول الى رمز يمنح الاخرين املا وامكانية.. ومنذ تلك اللحظة يضمن البطل مكانه فى التاريخ حتى لو سقط فى النهاية محترقا بنيران احلام اوسع من طاقته.. لان حلمه لم يكن حلما شخصيا ماديا محدودا بل كان حلما يحتضن فى جناحيه احلام الملايين ويمنحها الصوت والصورة والرمز والمعنى ووعد الانضمام الى معركة الخير ضد الشر والمظلوم الضعيف ضد الظالم القوى.. وهو حلم الانسان فى كل الشعوب وكل العصور.
حلم عرف الشعب المصرى - والشعب العربى حوله - ان عبد الناصر هو فارسه وصانعه.. وحتى عندما اصيب الفارس فى مقتل من قبل اعدائه فإنه ظل حيا فى قلوب ومخيلة الجماهير التى اخلص لها وآمن بها واراد لها العزة والحرية والكرامة.

لهذا لا ولن يموت عبد الناصر.
* كاتب من مصر يقيم في نيويورك



#فرانسوا_باسيلي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عام على رحيله: مزامير نجيب محفوظ
- الاسلاميون يطالبون بقتل المرتد في مصر: الأسلمة والتنصير: من ...
- قم يا مصري
- فى حب رجاء النقاش: فارس الادب الجميل
- كفاية
- دعاة أم معتدون؟ من أسلمة العصر الى عصرنة الإسلام
- صلاح جاهين: شاعر الثورة وفيلسوف الفقراء
- فرضه الفكر الاخوانى- الوهابى: الحجاب فضيلة أم وسيلة؟
- استجواب
- افتحي يا مصر
- جسد المرأة وشرف الرجل: الحجاب فضيلة أم وسيلة؟
- الابعاد الدينية للخطيئة الامريكية في العراق
- بعد عامين من رحيله: سيظل عرفات هو مانديلا العرب
- ربع قرن على رحيله: السادات واغتيال النهضة المصرية الأخيرة
- في ذكري 6 اكتوبر: حرب العبور
- هل تعلّم أحد شيئاً من 11 سبتمبر؟
- حساب الربح والخسارة: من سقوط البرجين الي سقوط بغداد
- دعوة لتنصيب الرئيس مبارك ملكا على مصر
- في ذكري رحيل عبد الناصر: الملك المقامر والضابط الثائر
- بابا روما والإسلام: حوار الأديان أم حوار الطرشان؟


المزيد.....




- السعودي المسجون بأمريكا حميدان التركي أمام المحكمة مجددا.. و ...
- وزير الخارجية الأمريكي يأمل في إحراز تقدم مع الصين وبكين تكش ...
- مباشر: ماكرون يهدد بعقوبات ضد المستوطنين -المذنبين بارتكاب ع ...
- أمريكا تعلن البدء في بناء رصيف بحري مؤقت قبالة ساحل غزة لإيص ...
- غضب في لبنان بعد تعرض محامية للضرب والسحل أمام المحكمة (فيدي ...
- آخر تطورات العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا /26.04.2024/ ...
- البنتاغون يؤكد بناء رصيف بحري جنوب قطاع غزة وحماس تتعهد بمق ...
- لماذا غيّر رئيس مجلس النواب الأمريكي موقفه بخصوص أوكرانيا؟
- شاهد.. الشرطة الأوروبية تداهم أكبر ورشة لتصنيع العملات المزي ...
- -البول يساوي وزنه ذهبا-.. فكرة غريبة لزراعة الخضروات!


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - فرانسوا باسيلي - تسعون عاما على ميلاده: لماذا لايموت عبد الناصر؟