أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مقابلات و حوارات - عبد الجبار خضير عباس - المواطنة دونما اشتراطات تغدو سجناً للحرية والإرادة















المزيد.....



المواطنة دونما اشتراطات تغدو سجناً للحرية والإرادة


عبد الجبار خضير عباس

الحوار المتمدن-العدد: 2192 - 2008 / 2 / 15 - 10:40
المحور: مقابلات و حوارات
    


في حوار مع الأمين العام للتيار الإسلامي الديمقراطي حسـين درويــــش العادلــي:
أخذ مفهوم المواطنة والاسلام والديمقراطية الكثير من مساحة اشتغال الباحث حسين درويش العادلي ،ويلحظ المتتبع، لكتاباته وبحوثه مدى اهتمامه بهذه المواضيع ،واخرى ذات صلة بالثقافة الديمقراطية ، فضلا عن تركيز على موضوعة المجتمع المدني وقيمه، اذ يرى العادلي:لا يمكن الحديث عن الدولة المدنية من دون ترابط بنيوي بين المواطنة والديمقراطية كجوهرين لإنتاج الدولة، ويؤكد العادلي: إنَّ المواطنة الحقة هي وليدة النظام الديمقراطي القائم على مبدأ سيادة الشعب والإعتراف والتمكين لحقوق رعايا الدولة وفي طليعتها المساواة والتكافؤ وحق الإختيار والمشاركة السياسية. إنَّ الدولة الديمقراطية تعي أنَّ المواطنة الصالحة والفعّالة تمثّل إمكانية مثلى لتكريس سيادة القانون وحكومة الشعب، ومن هنا أيضاً تنتج التبادلية العضوية بين الديمقراطية والمواطنة. ولالقاء المزيد من الضوء بشأن هذه المواضيع، كان لنا هذا الحوار مع الأمين العام للتيار الإسلامي الديمقراطي حسين درويش العادلي:
* مفهوم المواطنة كوحدة أنتماء اخذ الكثير من مساحة اشتغالاتكم الفكرية، والمتتبع لكتاباتكم يلحظ اهتمامك ـ بهذا المفهوم، وسعيكم للمساهمة في التأسيس أوالتأصيل والتعريف به في الراهن العراقي، ما هي مرجعيتكم الفكرية والفلسفية بهذا الشأن؟

ـ أرى أن المواطنة مبدأ وليس بمفهوم، ومرجعيتي الأساس في كافة كتاباتي السياسية هي القواعد المعيارية للدولة المدنية الحديثة، فلا يصح الحديث عن الدولة كجماعة سياسية دونما مواطنة وديمقراطية وحريات راسخة ومجتمع مدني واقتصاد حر، فعلى أساس من هذه المقومات تصاغ منظومة الدولة من دستور وقوانين ومؤسسات وثقافة وهوية. وأعتقد بأنّ جميع أشكال الدولة الطائفية والقومية والإشتراكية هي نمط لا يلتقي وجوهر الدولة المدنية الحديثة، لأنها تستبدل رابطة المواطنة بروابط عرقية ودينية وطائفية وافتراضية.
وبالمجمل، لا يمكن الحديث عن الدولة المدنية من دون ترابط بنيوي بين المواطنة والديمقراطية كجوهرين لإنتاج الدولة، إنَّ المواطنة الحقةهي وليدة النظام الديمقراطي القائم على مبدأ سيادة الشعب والإعتراف والتمكين لحقوق رعايا الدولة وفي طليعتها المساواة والتكافؤ وحق الإختيار والمشاركة السياسية. إنَّ الدولة الديمقراطية تعي أنَّ المواطنة الصالحة والفعّالة تمثّل إمكانية مثلى لتكريس سيادة القانون وحكومة الشعب، ومن هنا أيضاً تنتج التبادلية العضوية بين الديمقراطية والمواطنة، إذ تكون المواطنة على أساس هذه التبادلية المنطلق للمطالبة بالديمقراطية لغرض صنع السلطة المتأتية من خلال حق المشاركة، لأنَّ الديمقراطية في حقيقتها تعني حكم ممثلي الشعب بموجب القيم الديمقراطية وعلى رأسها قيم المواطنة الحقة والفعّالة.
ولضمان سيادة المواطنة لابد من اشتراطات انسانية ديمقراطية حقيقية وفعالة في جوهر بنية الدولة، ومنها: الفصل بين الدولة كمؤسسة دستورية راسخة والحكم كسلطة تداولية، وأيضاً إقصاء التحكم الفردي أو الفئوي بالسلطة، كذلك اعتبار الشعب مصدرا للسلطات وأساس شرعيتها، وتمتع الكل الوطني بدرجات ومستويات الحقوق والواجبات المدنية والسياسية والإقتصادية نفسها دونما أدنى تمييز، لضمان إنتاج المواطنة الكاملة. من هنا أقول دائماً: ليس كل مواطنة ديمقراطية، إلا أن كل ديمقراطية حقيقية مواطنة، وأؤكد بأنَّ جميع أنماط المواطنة غير الديمقراطية هي مواطنة منقوصة، فالمواطنة المضطهدة والباهتة والمهمّشة والمحجورة.. هي مواطنة ناقصة ومنقوصة إذ أنَّ وجودها مقترن بالإنتهاك القانوني والسياسي والثقافي بفعل التمييز أو الإستبداد أو الإستعباد. ولتمتع المواطنة بكامل وجودها واستحقاقاتها يتوجب اعتماد النظام الديمقراطي الذي يعني دولة القانون والمؤسسات المستندة إلى إدارة المواطنين واختيارهم الحر ومساهمتهم الفعّالة في خلق تجاربهم على أساس من الحرية والأهلية التامة غير المُصادرة. من هنا يعد المواطن في الدولة الديمقراطية كيانا سياسيا كونه أساس العملية الديمقراطية القائمة على التعددية والإنتخابات الحرة، فتمتعه بالمواطنة الكاملة غير المنقوصة يعني تمتعه بحرية الإختيار انطلاقاً من التعددية، ومن ممارسة وتفعيل حقوقه الأساسية وفي طليعتها حقه السياسي من خلال الترشيح والإنتخاب، وهو ما سينتج عنه نظام الدولة الديمقراطي. لذا لا يمكن ضمان المواطنة الكاملة إلاّ وفق قواعد النظام الديمقراطي، فالإقرار بالحقوق المدنية والقانونية والإجتماعية والإقتصادية والسياسية ليس كافياً للتعبير عن مراعاة وتكريس مبدأ المواطنة واستحقاقاته دون حاضن من نظام سياسي يفعّلها بالمشاركة الحقيقية وهو ما يجود به النظام الديمقراطي ذاته وهو ذاته . إنَّ المواطنة الديمقراطية هنا ليست عبارة عن قيمة ناجمة عن توافق عقدي جامد بين الدولة ورعاياها، بل هي التوافق والمشاركة والإعتماد المتبادل والإعتراف المشترك، وعليه فهي رابطة عضوية فعّالة وزاخرة بالحركة والنتاج على قاعدة الحقوق الإجتماعية والإقتصادية والسياسية والثقافية والمدنية العامة. المواطنة وفق هذه المعايير إنما هي وحدة إنتماء سياسي للدولة، والمواطنية هي وحدة قياس لتفعيل حقوق وواجبات المواطنة، والوطنية هي وحدة إخلاص للدولة.
* العديد من القوى والشخصيات السياسية تعبر عن انتقادها للهويات الفرعية على حساب الهوية المجتمعية، الا انها في الممارسة السياسية الفعلية وفي الفعالية البرلمانية تتحرك بالضد تماما من ذلك، فولاؤهم من السهل اكتشافه سواء كان أثنيا أوالطائفيا أوقومي متناسين انهم ممثلون للشعب العراقي كيف يمكنكم قراءة هذه الظاهرة السياسية.؟

ـ أتصور أنها تعود لسببين، الأول طارئ وحركي تؤشر عليه ظاهرة الإعتياش السياسي الذي يستهدف السلطة والثروة على حساب الدولة والمجتمع،.. والثاني جوهري وعميق يتصل بطبيعة الرؤية التي تتحكم بممارسات معظم النخب السياسية الحالية، فتصدر الولاء الفرعي يؤشر على طبيعة الثقافة والهدف السياسي لدى المتصدي، إنها تتصل بفلسفة وآلية بناء الدولة العراقية الجديدة لدى هذه النخب ومديات تجسير الخلافات والإختلافات والإنهدامات التي أصابت كيان المجتمع والدولة،.. فالذي أتصوره أن معظم النخب لم تتأهل لمهامها التأريخية لإعادة بناء المجتمع والدولة على وفق أسس المواطنة والديمقراطية والمصالح الوطنية. المشكلة الحالية أننا نفتقد الثقافة السياسية اللازمة لإنتاج حياة سياسية ونخب سياسية قادرة على النهوض بمهامها الوطنية الكبرى، وبدل أن تكون نخبنا الرائدة في تنقية دولتنا من أمراضها المزمنة.. نرى أنها بذاتها غدت أزمة وجزءا من المشكلة لا جزءا من الحل، بسبب انتماءاتها النمطية لولاءات ضيقة تنتجها ظاهرة الإعتياش وظاهرة القصور البنيوي في الرؤية والخطاب والبرنامج السياسي. مشكلة معظم النخب الحالية أنها نخب لحظوية أو ماضوية، لحظوية كونها تريد عيش اللحظة الراهنة وحلبها قدر المستطاع دونما إدراك لمهام التأسيس والريادة، وهي ماضوية من حيث حملها الثقافي وبوصلة انتمائها الولائي والمصلحي.
* نلاحظ ان أغلب الأحزاب الإسلامية، تتلون بالصبغة الطائفية، وبما انها إسلامية يفترض بها ان تضم في عضويتها جميع الطوائف، لكن عند قراءة المشهد السياسي، نرى ان تركيبتها غير ديمقراطية ، إذ ان الأحزاب السنية غالبية اعضائها من السنة والأحزاب الشيعية من الشيعة، هل من الممكن ان نشهد احزابا اسلامية ديمقراطية ليبرالية تكسرهذا الحاجز، ببرامج وخطابات سياسية جديدة، تحتوي الإسلامي السني والشيعي والمختلف دينيا في حزب واحد ؟
ـ هذا ناتج عن تعدد القراءات للنص الديني، وتعدد القراءات ينتج تعدد الإجتهادات، وتعدد الإجتهادات ينتج تعدد الفرق والمذاهب والأحزاب..الخ، فتلوّن الحزب الإسلامي بلون طائفي أو مذهبي أو حركي معين نابع من مرجعيته الفكرية المستمدة من فهمه للنص، هذا أولاً، وثانياً، أن نشوء أي حزب لا ينفك عن تراث بيئته ومعاناتها وتطلعاتها التي سرعان ما ستسحبه إلى مربع مذهبي معين دون مذهب آخر جراء تعدد التراث والتجربة التأريخية للمذاهب، وثالثاً، أن ولادة معظم الأحزاب الدينية لم تأت جراء ولادة طبيعية سلمية تتيح النمو والإتساع الطبيعي بسبب اجواء الإستبداد المطلق للنظام السياسي العراقي السابق مما يقود إلى ولادات حزبية منغلقة في بيئتها الذاتية السرية، ورابعاًً، أن تجربة الأحزاب الإسلامية القافزة على التلون المذهبي لابد أن يسبقه تجربة (إسلام بلا مذاهب) لنصل لمرحلة (حزب إسلامي لا مذهبي).
بشكل عام، يمكن قيام أحزاب اسلامية ديمقراطية، شريطة أن تنجح في إنتاج منظومة متكاملة تتألف من ثلاثة مستويات، المستوى الأول: مركّب قيمي يجمع بين (الأصالة والحداثة والمدنية) كركائز لإنتاج المجتمع. المستوى الثاني: مركّب سياسي يجمع بين (المواطنة والديمقراطية والتنمية) كركائز لإنتاج الدولة. المستوى الثالث: مركّب حركي يجمع بين (التعددية والمؤسسية والسلم). وما زالت محاولات كهذه وليدة ومحاربة من قبل التيار العام، وهذا حال اي تأسيس يخالف السائد.
* المواطنة أصبحت عند الكثيرين مفهوما مجردا غير واضح يسوق في وسائل الاعلام المرئية والمسموعة والمقروءة لكنها تبقى مفردة بلا معنى ان لم يشعر بها الفرد عبر اشتراطات توفير مستلزماتها ما تعليقك؟
ـ هذا صحيح، فالمواطنة دونما اشتراطات تغدو سجناً للحرية والإرادة، فدولة المواطنين هي دولة الأحرار، لا دولة العبيد والرعايا، وهي دولة الحقوق قبل أن تكون دولة الواجبات، واشتراط الحرية مقدم على اشتراط التكليف شرعاً وعقلاً.تعرّف المواطنة على أنها: (عضوية كاملة تنشأ من علاقة بين فرد ودولة كما يُحدّدها قانون تلك الدولة، وبما تتضمّنه تلك العلاقة من واجبات كدفع الضرائب والدفاع عن البلد، وبما تمنحه من حقوق كحق التصويت وحق تولي المناصب العامة في الدولة). واستناداً إلى هذا التعريف تكون المواطنة من أشد أنماط عضوية الفرد إكتمالاً في الدولة الحديثة، فهي هنا ليست صورة باهتة لإنتساب صورّي بين أفراد المجتمع ودولتهم المعينة بقدر ما هي كينونة لجنس العلاقة الرابطة بين الفرد ومن ثَمَّ المجتمع بدولتهم التي يستظلونها وينتمون إليها. ومثل هذا الإنتماء يفرض حقوقاً ويسلتزم واجبات كمنظومة متكاملة لا تعرف الفصل والتفكيك في أنظمتها واستحقاقاتها واشتراطاتها، إنطلاقاً من هذه العضوية المسمّاة بالمواطنة في ظل الدولة المعاصرة، ولتي تُكتسب بشكلٍ عام في ظل الأنظمة القانونية الحديثة على أساس الولادة في الدولة والإنحدار من أبوين مواطنَين والتجنّس. إنَّ المواطنة على هذا الأساس صفة موضوعية عامة يتمتع بها جميع منتسبيها بشكل محايد لا تقبل التفاوت والتفاضل بذاتها، فليس بين المواطنين مَن هو مواطن أكثر من الآخر، وجميع الفوارق أو الإختلافات أو الإمتيازات كلها ساقطة ولا اعتبار لها في ظل هذه الصفة، من هنا تكون الدولة الوطنية دولة الإنسان ودولة القانون التي تقر المساواة ولا تعرف التمييز، وجميع أشكال الدولة (كالدولة الدكتاتورية والعرقية والطائفية والحزبية والعشائرية والعائلية) هي دولة ما قبل دولة المواطنة الحقيقية والكاملة، كونها دولة الإمتياز لا الحقوق التي تؤسس كيانها على أساس الهيمنة والإقصاء والحجر في تنظيم العلائق والإستحقاقات بين المواطنين شركاء الوطن الواحد. على أنّ المواطنة لا يمكنها أن تنتظم دونما تفعيل حقيقي لجوهرها المتمثل بالمساواة والحرية والعدالة،.. وهذا الجوهر يستند في عمقه إلى منظمومة (الحقوق والواجبات) كأساس تنبثق عنه قيم المساواة ومنح الحريات وتطبيق العدالة .. ومنظومة الحقوق والواجبات وإن كانت أساساً جوهرياً في التشكيل الحديث للدولة، إلاّ أنها منظمومة قيمية إنسانية في حقيقتها قبل أي شيءٍ آخر، وما الدولة سوى ظاهرة إنسانية تستند إلى القواعد القيمية لكسب مشروعيتها وسلطتها الواقعية،.. فإذا ما سلبت الحرية وصادرت الإرادة وأفشت الظلم.. فلا شرعية لها، وعندها فكل ما تمارسه يعد غصباً وفسادا.
* يطرح بين الباحثين ان اسباب انهيار التعايش السلمي وأختفاء التسامح ولغة الحوار بين المكونات، هو الاحتلال او قوى الإرهاب الآتية من خلف الحدود، الا اننا نرى ان مشكلة التهجيرحصلت منذ ابادة الاشوريين وغيرهم من المسيحيين والتهجير الذي تم للاقليات، ثم للكرد في اربعينيات القرن الماضي وللكرد الفيلية في السبعينيات وبشكل واسع في الثمانينيات وثم المسيحيين والصابئيين بعد نيسان 2003 فمنذ التأسيس الأول للدولة العراقية ؛ لم يكن هناك وعي حقيقي يحتضن كل مكونات الأمة العراقية فيعبر عن مصالحها المجتمعية لماذا فشلت الدولة العراقية ان تكون حاضنة وتبلور منظومة الدولة الامة، لهذه الجماعات المختلفة؟
ـ الدولة أمة سياسية، والمجتمع أمة إنسانية،.. وفي تصوري لن تقوم دولة اذا ما فشل المجتمع الإنساني في تشكيل ذاته سياسياً، فعندما تتشكل الأمة السياسية تتشكل الدولة،.. المشكلة ليس في تشكيل المجتمع (أي الأمة الإنسانية)، بل المشكلة في تكمن بتشكيل الأمة السياسية (أي الدولة)،.. ولكن كيف تتشكل الأمة السياسية؟ تتشكل عندما تعتمد الرابطة (وهي العلاقة) الصادقة على جميع أعضائها دونما تمييز أو تفاوت،.. فلو تم اعتماد الرابطة العرقية أو الطائفية..الخ فستصدق على مكون دون آخر، فيحدث لدينا التمييز والتصادم.. فتنهار الأمة السياسية،.. ولقد أثبتت التجربة التأريخية أنّ المواطنة هي الرابطة الأمثل لتشكيل الأمة السياسية (الدولة)،.. وهذا ما فشلت الدولة العراقية في تحقيقه منذ فجر ولادتها، فلم تكن لدينا دولة المواطنة يوماً، لذا ساد التمييز العرقي والطائقي والإثني، وبنيت على أساس منه الأنظمة والثقافة والهوية لجميع أوجه الدولة، وهو ما أسس لإنهيار التعايش وتوالد الأزمات الوطنية.
البعد الثاني، أن دولتنا فارقت الديمقراطية ولم تنتج مجتمعاً سياسياً تعددياً قادراً على التعايش من موقع الإختلاف، بل التحول الإختلاف الطبيعي الى خلاف ثم الى صراع ثم الى اقصاء فدموية. وبسبب مفارقة الديمقراطية فارقنا السلم الأهلي والسياسي، واختزلت الدولة بالسلطة المجردة التي تستهدف الحكم والإستمرار فيه بأية وسيلة،.. ومعلوم أن ممارسة السلطة دونما اشتراطات ديمقراطية تفضي لا محالة الى الإقصاء والعنف والدموية وهو ما يهدد أسس التعايش الإجتماعي والتضامن الوطني.
لا يمكن أن تكون الدولة حاضنة للكل المجتمعي الوطني إذا ما فارقت المواطنة والديمقراطية والتنمية، مشكلة دولتنا أنها فارقت هذه المباديء والمناهج والسياسات.. فانهارت.. ومالم تتبنى بصدق هذه المباديء وتؤسس عليها المناهج وتتبنى على وفق استحقاقاتها السياسات.. فلن تنجح في مهام الإحتضان وتمثيل جميع رعاياها بصدق وحيادية وعدل. كان يمكن للدولة العراقية أن تهذب جميع التناقضات المجتمعية وإرث الماضي وتحديات بناء المجتمع السياسي.. لو توفرت لها المبادئ الصحيحة والآباء المؤسسون المخلصون والسياسات الواقعية.. إلا أنها خابت في ذلك، فتهدد التعايش المجتمعي والتضامن الوطني... وآمل ألا يتم تجذر (مبادئ ما بعد التغيير) وفي طليعتها المحاصصات الطائفية والعرقية والسياسية، فذلك سوف يكرر لعبة ابتلاع الدولة وانقسام السلطة ويقود لا محالة غلى انهيار التعايش وانتفاء المجتمع الوطني.
* عاش العراقيون مدة 35 عاما في ظل نظام استبدادي قمعي يرفض الآخر المختلف ولا يؤمن بمبدأ التداول السلمي للسلطة، ولا يعرف الديمقراطية، وارتكزت جميع السلطات بفرد واحد يتلاعب بمقدرات ومصائر شعب بأجمعه، وتجارب الشعوب بمثل هذه الحالة تؤكد على ضرورة قيام حكومة انتقالية ،امدها ثلاث سنوات الى خمس، وبعدها تجري عملية البناء الديمقراطي، هل نحن بحاجة الى حاكم مستبد عادل أم ترسيخ التجربة الديمقراطية الحالية؟

ـ هذا رأي صائب، ولقد كان متداولاً في أوساط المعارضة قبل إسقاط النظام،.. ولكنه ليس خياراً الآن، بسبب تقادم العملية السياسية والتأسيس الذي بني عليها من دستور ومؤسسات حاكمة..الخ، لذا فلا مناص من الإستمرار في العملية السياسية صوب ترسيخها، شرط المبادرة لتصحيح أخطائها وخطاياها من قبيل حسم طبيعة الدولة المراد إنتاجها واستقرار مناسيب السلطة ودوائرها والتخلص من المحاصصة والتوافقات اللاغية للروح الديمقراطية والحد من ظاهرة ابتلاع الأحزاب للدولة وما أوجده من انقسام للسلطة والعمل باستحقاقات الدولة من تكامل السيادة الوطنية وهيمنة القانون وشيوع المحاسبة والشفافية.
لا تنجح الديمقرطيات من دون تراكم للتجربة التأريخية ومراجعات نقدية مستمرة وآلام كبيرة ونازفة، وإقرارها قد يستغرق عقوداً، لأنها تستهدف في النهاية إعادة إنتاج المجتمع وبناءاته التحتية والفوقية.
* يرى محمد عبده ( ان الحاكم في مجتمع مسلم ينبغي ان يكون حاكما مدنيا من كل الوجوه، وانتخابه يخضع لارادة الناس، وليس حقا الهيا يجعل الحاكم يدعي لنفسه سلطة الدين ) ويرى الشيخ محمد جواد مغنية ان الاسلام دين علماني وعقلاني، ويقول ضياء الشكرجي(لا نجد لدعوى التعارض بين الديمقراطية والإسلام. بل التعارض والتناقض إنما هو بين الديمقراطية و (الإسلام السياسي)، ما تصوراتكم بشأن الاسلام / الديمقراطية، وهل ان الاسلام كمنظومة عقائدية دينية قادر على استيعاب الديمقراطية/ الحداثة كتقاليد وقيم؟
ـ هذا يتبع نمط القراءة التي يتم اعتمادها للإسلام، وأتصور أنه لو تم اعتماد خطاب (ولاية الأمة على نفسها) كما هو معتمد لدى العديد من الفقهاء والحركيين الإسلاميين.. فلا مشكلة جوهرية في الموائمة بين الإسلام والديمقراطية.
مقاربتي للإسلام والديمقراطية تعتمد نظرية ولاية الأمة على نفسها، وأقول في ذلك: أنّ الفكر السياسي الحديث استقر على اعتبار أنَّ الديمقراطية هي الطريقة والآلية والمنهج الذي يمنح القدرة لمواطني الدولة جمبعا على حُكم أنفسهم من خلال ممثليهم بانتخابات حُرّة ونزيهة قائمة على تعددية حقيقية مفعمة بحرية التعبير والتجمّع والصحافة.. فالديمقراطية هي وسيلة ونظام تعتمد إرادة المواطنين الأحرار لإقامة السلطة. وعلى هذا الأساس لا أرى أيّ تعارض جوهري يحول دون اعتماد الديمقراطية إنطلاقاً من:
أولاً: بعد انتهاء مرحلة عصر النص والوحي والعصمة، فإنَّ الحديث عن شكل الحكم يقوم على الأصل الثابت وهو ((ولاية الأُمة على نفسها))، باعتبار ((أنَّ مسألة الحكم في الوقت الحاضر لم تُعالج في نص خاص على مذهبي الشيعة والسنة معاً)) كما قال السيد الشهيد محمد باقر الصّدر، فيكون الرجوع إلى أصل ولاية الأُمة على نفسها لتنظيم آليات حياتها بما يحفظ لها وجودها وبقاءها وتقدمها هو الراجح ما دامت الأُمة لا تتحدد بصيغة ثابتة للحكم ولكونها الأدرى بما يُناسبها لتسيير أمورها العامة وهي صاحبة المصلحة في كل ذلك،.. وعليه فلها حق الإختيار وحق التطبيق لصيغ الحكم التي ترى صلاحها لتنظيم وإدارة واقعها، ومنها الصيغة الديمقراطية.
وأيضاً، فلا دليل شرعي قاطع على جميعا النظريات التي تُحاول طرح بدائل لمبدأ ولاية الأمة على نفسها وما ينجم عنها من صيغ متحركة تبعاً للواقع المتغير والمتحرك، فالنظريات التي تُحدد صيغة الحكم بولاية الفقيه أو الإمارة أو الخلافة.. هي نظريات اجتهادية بالأساس تُحاول تلمّس الدليل الشرعي هنا وهناك كما هو واضح من خلال استعراض أدلة روّادها،.. وهي في أحسن الأحوال لا تعدو أن تكون سوى قراءة اجتهادية للنصوص الشرعية المعتمدة، ولها المؤيد والرافض من داخل الدائرة الإسلامية ذاتها، وكونها قراءة اجتهادية يعني أنها قراءة إلى جنب القراءات الأخرى، وعليه لا تمتلك الشرعية القاطعة لنفي القراءات الإجتهادية المغايرة لها، وبالنتيجة لا يمكنها الإدعاء باحتكار التمثيل لوجهة نظر الإسلام بالحكم وبطلان سواها، وينتج عن ذلك الإقرار بأصل اختيار الأمة لبديل من البدائل الإجتهادية المطروحة وهو مصداق من مصاديق ولاية الأمة على نفسها بالتبع،.. فلها أن تختار الصيغة الديمقراطية لإقامة وإدارة السلطة والحياة السياسية العامة، وكما قال المرحوم الشيخ شمس الدّين ((لا يوجد لدينا في الشرع على الإطلاق لا في الكتاب ولا في السُنّة ولا في الفقه العام ما يمنع من اعتماد الديمقراطية وأساليبها ومؤسساتها في هذا الحقل)).
كما أنَّ الجزم العقلي ((مع فسحة عدم وجود نص قطعي)) يؤكد سلامة مبدأ اختيار الأُمة لأنسب الصيغ الممكنة التي ترى صلاحها لإقامة الدولة وصيانة وحفظ الهيكل القيمي والإجتماعي والسياسي والإقتصادي للنّاس.. ذلك أن العقل يحكم بأنَّ إدارة الحياة الإنسانية وإقامة السلطة لتحقيق النظام وإجراء الحقوق وتطبيق الواجبات.. يستلزم رضا الناس وتحقيق إرادتهم واختيارهم لنمط الآليات التي تحفظ لهم حقوقهم ومصالحهم، بما فيها آليات المشاركة والمحاسبة والشفافية.. وهو ما تجود به الديمقراطية كصيغة لإدارة أوجه الحياة العامة للنّاس وفي القلب منها السلطة. وأيضاً، فإنَّ أية صيغة الحكم لابد لها من شرعية تُلزم الناس بها وتُحقق النظام والطاعة، ومع انتفاء النص الذي يُحدد صيغة الحكم في زمننا الحاضر، نعود إلى أصل مبدأ الإستخلاف الذي يقوم عليه مبدأ ولاية الأمة على نفسها، فالإنسانية المتمتعة بقوى الإرادة والإختيار والمتحملة للمسؤولية والجزاء هي المعنية بالخلافة والتي هي عبارة عن إنابة الجماعة البشرية في قيادة وإعمار الحياة والكون {وإذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكَةِ إني جاعِلٌ في الأرضِ خَليفة..} 30 البقرة، وعلى ((هذا الأساس تقوم نظرية حكم الناس لأنفسهم وشرعية ممارسة الجماعة البشرية حكم نفسها بوصفها خليفة عن الله ، ومن هنا كانت الخلافة أساساً للحكم، وكان الحكم بين الناس متفرعاً على جعل الخلافة)) {الشهيد محمد باقر الصدر}، فشرعية الحكم هنا تتحقق استناداً إلى الإستخلاف الذي يمنح صلاحية إدارة الجماعة البشرية لنفسها. إنَّ ثبوت مبدأ نفي سيطرة الإنسان على الإنسان إسلامياً، يقضي بالرجوع إلى رضا الناس وقبولهم لتحقيق الشرعية السياسية للحكم، وما البيعة أو العقد أو الإنتخاب سوى مصاديق كاشفة ومؤكِدة لرضا الناس واختيارهم بما يُحقق شرعية التسلّط من قِبل دولة أو حكومة أو كادر مُعين،.. والصيغة الديمقراطية هي الأنسب حالياً للكشف عن رضا الناس وقبولهم العملي بالسلطة وكادرها، كونها تقوم على إرادتهم واختيارهم،.. وإلاّ كيف يمكننا الإطمئنان إلى إحراز رضا الناس بالسلطة؟ لاسيما وأنَّ الإسلام يعد السلطة مسؤولية وليست امتيازاً وأنها من حق الأُمة وأنَّ الأصل فيها نفي الإستبداد من خلال نفي سيطرة الإنسان على أخيه الإنسان،.. من هنا فإنه لا يعترف بشرعية أية سلطة تقوم على التغلّب أو الوراثة أو الإكراه
ثانياً: أما مقومات الحياة الديمقراطية إضافة لإختيار الناس لنوعية الحكم والسلطة، والتي تمتد لتشمل تداول السلطة وسيادة القانون والتعددية السياسية والمساواة والعدالة بين رعايا الدولة وإقرار الحريات في التعبير والرأي والعمل..الخ، فهي مما اشتمله الإسلام كمفاصل رئيسة في رؤيته الكونية،.. وهي مسألة تُجمع عليها المدرسة الإسلامية بغالب خطوطها، وهذا يعني تطابقها مع مقومات الديمقراطية وشروط إنتاجها العملي،.. فكيف لنا الحكم بالتنافر والتضاد بين مضامين وغايات الديمقراطية مع روح ومقاصد الإسلام؟
لقد أقام الإسلام رؤيته للإنسان على أساس استخلافه لإعمار الأرض {وإذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكَةِ إني جاعِلٌ في الأرضِ خَليفة..} 30 البقرة، ومن مقتضياتها العقل والإرادة والإختيار الحر، فالإستخلاف هنا حركة واعية وحُرّة، ولا جوهر لها مع انتفاء الإرادة والإختيار، فعندها ستغدو قانوناً جبرياً يصدق على الإنسان كما يصدق على الجماد، ولإنعدمت حركة التأريخ ولساد الجبر،.. واقتران الجزاء في الدنيا والآخرة مقترن بالحرية والتأسيس القائم على ضوئها، من هنا كان للعمل الإنساني أصالة {فاستَجابَ لهُم ربُّهُم أنَّي لا أُضيعُ عَمَلَ عاملٍ منكُم من ذَكرٍ أو أُنثى..} 195 آل عمران، لأنه مقترن بالقدرة على الإختيار {إنَّا هَديناهُ السّبيلَ إمَّا شاكراً وإمَّا كفوراً} 3 الإنسان، ومن هنا أيضاً تترتب عليه النتيجة {فَمنْ يعمل مِثقَالَ ذَرّةٍ خَيراً يَرَه. ومَنْ يعمل مِثقالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه} 7-8 الزلزلة . ويقوم على ذلك كله تأصيل الإختيار ونفي الإكراه {لا إكرّاهَ في الدّين..} 256 البقرة، {ولو شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ في الأرضِ كُلُّهم جميعاً أفَأنتَ تُكرِهُ النَّاسَ حتّى يكونوا مُؤمنين} 99 يونس، ويؤسَّس عليه حرية التعبير عن العقيدة والرأي والفكر والضمير،.. وتتفرع عنها جميع حريات الإنسان في العمل والتجمّع والتملّك والسفر والإقامة..الخ، لأنَّ النّاس إسلامياً مُسلّطون على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم ومصائرهم.. وذلك كله من مقتضيات إرادتهم الحرّة.
كما أقام الإسلام رؤيته على وحدة الأصل الإنساني ووحدة نوعه وهويته بعيداً عن أي تمايز بسبب العِرق أو اللون أو المال أو الطبقة {يا أيُها النّاسُ اتقوا ربّكُم الذي خلقكُم من نفسٍ واحدةٍ..} النساء 1، {يا أيّها النَّاس إنّا خَلَقنَاكُم مِن ذَكَرٍ وأُنثى وجَعلنَاكُم شُعُوباً وقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أكرَمَكُم عِنَدَ اللهِ أتقَاكُم إنَّ اللهَ عَليمٌ خَبير} 13 الحُجُرات، ويؤسَّس عليه نبذ التمييز والدونية والإنغلاق، وإشاعة التكافؤ والمساواة والإنفتاح.
كما أكد الإسلام على الكرامة الإنسانية الفريدة {ولقدَ كَرَّمنا بَني آدمَ..} 70 الإسراء، التي ترفض الظلم والإستبداد والإضطهاد، لذا أكسب الإنسان حق الحياة وحق العدل وحق التكريم وحق الأمن. من جانب آخر، تُقر النظرة الدينية الإختلاف كسُنّة تتقوم بها الحياة وتقوم عليها الحركية الإنسانية التأريخية {ومِنْ آياتِهِ خَلقُ السَّمواتِ والأرضِ واختلافُ ألسنتكُم وألوانكُم إنَّ في ذَلِكَ لآياتٍ للعَالِمين} 22 الرّوم، وهو ليس اختلاف تضاد بل اختلاف تكامل فالتشابه يقضي على إمكانية نشوء الحياة والحركة الإنسانية،.. ويستتبع ذلك الإقرار بحقيقة التعددية في الحياة الدنيا {قُلْ كُلٌّ يعملُ على شَاكِلَتِهِ فَربُّكُم أعلَمُ بِمَنْ هُوَ أهدَى سَبيلا} 84 الإسراء، {ولِكُلٍ وِجهَةٌ هو مَوَلِّيها فاستبِقُوا الخيرَات..} 148 البقرة، {..لِكُلٍ جَعَلنا شِرعَةً ومنهَاجاً ولو شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُم أُمةً واحِدةً ولكن لِيَبلُوَكُم فيما آتَاكُم..} 48 المائدة،.. من هنا يستلزم الواقع الإعتراف بوجود الآخر المختلف سواء في العقيدة أو المنهج بغض النظر عن رأينا بعقيدته ومنهجه.. استناداً إلى حقيقة الإختلاف وما ينجم عنها من تعددية في الحياة التي تتخذ صور التعددية في الفكر والعمل والسياسة.
ثالثاً: إشتراك الإسلام والديمقراطية بنفي ونبذ ومحاربة الإستبداد بوصفه جذر الكوارث التي تشل الحياة وتُعطل مقومات الإنسانية من حرية وإبداع وتطوّر،.. وهنا تجب الإشارة، إلى أنَّ الإسلام لم يؤكد على مبدءٍ أو قيمة أو مَعلَم -بعد توحيد الله تعالى- أكثر من تأكيده على العدل والقسط.. حتى أنه جعل إقامة القسط من أهم غايات النّبوات وأهداف الكِتاب {ولَقَد أرسَلنَا رُسُلَنَا بالبَيِّنَاتِ وأنزَلنَا معهُمُ الكِتَابَ والمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بالقِسط..} 25 الحديد، من هنا جاء التأكيد بوجوب إقامة وإشاعة العدل اذ يعد عماد ومقياس أية تجربة، وفي طليعة استحقاقات العدل إقرار حقوق البشر ونفي استعبادهم وظلمهم واستغلالهم ومصادرة حقوقهم في الولاية على أنفسهم،.. وإنَّ في نفي الإسلام للتسلّط وهضم الحقوق تأكيد على نفي أية شرعية للحكم الإستبدادي المنافي لرضا وقبول الناس،.. وسواء قلنا بالشورى الإلزامية أو البيعة المشروطة أو الانتخاب الحر.. فهي كافة أوجه لتأكيد رضا الناس وقبولهم بما ينفي الاستبداد والتسلّط بالإكراه، وبما يؤصّل لاختيارهم بعيداً عن التغلّب والإضطهاد.
* يتشيأ الأفراد من دون مجتمع مدني، ولا ديمقراطية من دون تحقيق المواطنة ، فأين تضع الحال العراقي وبأي تصنيف، ونحن إزاء إشكالية تحديد المرحلة، هل نحن في مرحلة ما قبل المجتمع المدني أي المجتمع الطبيعي، أم في مرحلة انتقالية، ماذا تسمي هذه المرحلة؟
ـ حتى المجتمع الطبيعي أخذ يتشيأ!! بفعل تضخم النزعات الطائفية والعرقية والفئوية، وبفعل تشظي الذات العراقية بسبب الفوضى وطغيان النزعة الأنوية المنفلتة وانعدام المرجعيات القيمية وانهيار بنى الثقافة،.. في الحقيقة نحن في (مرحلة التشيؤ) التي لم تهتد بعد لنسق حياتي محدد يعتمد رؤى ومرجعيات واضحة ومحسومة،.. لهذ قد تفضي أو لا تفضي (مرحلة التشيء) هذه إلى مجتمع طبيعي متماسك أو مدني حقيقي متطور، فهذا وذاك رهن تطور صيرورة المجتمعٍ وحركيته التأريخية ونتائج مخاضاته الحالية.
* توفرت كل اشتراطات البناء الديمقراطي وتكوين الدولة، من انتخابات ودستور وبرلمان واستقلالية القضاء، لكن إلى جانب ذلك نجد هيمنة المجتمع الأهلي على المجتمع المدني كيف تقرأ ذلك؟

ـ ما ذكرته ليست اشتراطات بنيوية تفضي بالضرورة الى التحول الديمقراطي المدني، فهي آليات ديمقراطية ليس أكثر، وأتصور أنّ الإشتراط الأهم هو اشتراط الثقافة المدنية الديمقراطية، فعلى أساس هذا الإشتراط يتشكل المجتمع المدني وتنهض الدولة بهويتها المدنية. وهيمنة المجتمع الأهلي نموذج لتراجع الثقافة المدنية، لذا لا ديمقراطية متجذرة دونما ثقافة مدنية متكاملة تشكل المضمون البنيوي للمجتمعين الإنساني والسياسي. ولكن يجب أن نقر أيضاً: بأنّ الآليات الديمقراطية آنفة الذكر تشكل لبنات في إجراء التحول صوب الثقافة المدنية، وإنّ ترسيخها والعمل بفروضها وتوسيع قاعدتها المعرفية واحترام ما تنتجه من مؤسسات وتقاليد.. تساعد على إنتاج ثقافة مدنية راسخة. أود أن أوضح هنا: أنّ المجتمع المدني أعلى مرتبة من المجتمع التقليدي أو الطبيعي في الرابطة والوعي والأداء، فرابطته تعتمد المواطنة، ووعيه يعتمد المواطنية، وأداؤه طوعي ومسؤول،.. لذا فهو شرط وجودي لنشوء وبقاء الدولة كدولة لا يتم تغييبها وابتلاعها من قبل السلطة. المجتمع المدني هو المجتمع الرافض ثقافياً ومعرفياً لشرعية القوة والإحتكار السياسي، وهو مجتمع الاختيار والقانون، لا مجتمع القوة والاستبداد، إذ لا يتأسس على الغريزة والخوف بل يقوم على الحرية والإختيار،.. وهي مواصفات وجودية أعلى مرتبة من المجتمع الطبيعي.
لا يقوم البناء الأفقي والعمودي للدولة دونما مواطنة وديمقراطية، وهي مسألة مجتمعية قبل أي اعتبار آخر، لأنها تعبير عن إنتاج الأُمّة لذاتها إنسانياً وسياسياً، فهو إخراج لذات الأمة من حيزّها الضيّق في معاييره العِرقية أو الطائفية أو العائلية إلى رحاب الأنا الكلية المدنية المُنظمة، أي تطور المجتمع من (طبيعي) إلى (مدني). ومالم يتم إنجاز هذا التحول فلا سيادة للمجتمع المدني على المجتمع الأهلي.
* يتجاوز المواطن في المجتمعات المدنية الهوية الفرعية إلى الهوية الوطنية،إلا إننا نجد في العراق ،ان هناك ميلا باتجاه الهوية الفرعية أكثر من الهوية الوطنية، كيف السبيل لتغيير ذلك؟
ـ بروز الهويات الفرعية تعبير عن سقوط اطروحة الدولة العراقية التقليدية التي نحرت المواطنة والديمقراطية فأنتجت الاستعباد والاستبداد، وجراء ركون العملية السياسية بعد التغيير إلى المحاصصات المتخزنة للهويات الفرعية العرقية والطائفية. في تصوري، إنّ مجال اشتغال الهويات الفرعية إنما هو المجتمع كجماعة إنسانية وليس الدولة كجماعة سياسية، وهذا ما خابت به الدولة العراقية والعملية السياسية معاً. من الممكن القول والقبول بتعدد الهويات الفرعية ضمن إطار الجماعة الإنسانية، في حين لا يمكن القبول بتعدد الهوية الوطنية، كونه سيقود لإنشطارها وانتفائها بالضرورة، وهو ما سيقود لتلاشي وانهدام الجماعة السياسية أي الدولة. الهويات الفرعية لأي مجتمع هي هويات طبيعية في مدياتها التكوينية، وهي جزء من صيرورة ثقافة الجماعة الإنسانية المعينة التي شكّلتها حركتها التأريخية بفعل مقوماتها الخاصة والعامة التي دخلت في عمق عملية الإنتاج، فهي هنا روح جماعية تتجلى في اللغة والديانة والأعراف والتقاليد والمصالح.. ضمن وحدة متحركة لا تعرف الجمود على امتداد خط تفاعلها الذاتي والخارجي. إلاّ أنّ المشكلة ليست في ذات الهوية الفرعية سواء في أبعادها الإنسانية أو في تعبيرها عن الجماعة المنتمية إليها، بقدر ما تكون المشكلة في تصدّرها كأساس في تكوين الجماعة السياسية أي الدولة، فالدولة هي الإطار الكلي الجامع للتنوع الثقافي وبالنتيجة لتنوع وتعدد الهويات الفرعية، والإشكالية لدى المجتمعات التقليدية تتلخص بتصدّر الخاص على العام وببروز التعارض بين أنماط الثقافات والهويات الفرعية التي تحاول الهيمنة على المشهد الوطني برمته.. وهو ما سيخلق التصادم بين آحاد الهويات الفرعية، في حين أنّ المطلوب إيجاد التوازن بين هذه الثقافات بما يحقق الإعتراف والمصلحة لجميع الهويات والثقافات الداخلة في التكوين السياسي للدولة.تجاه مشكلة التكوين للدولة تبرز ضرورة إيجاد وحدة مجتمعية تستند الى ثقافة مجتمعية كلية تعترف بالجميع وتوفر لهم الحماية وتمنحهم حق التعبير والمشاركة وتحقيق المصالح العامة وبما يحفظ خصوصيات الثقافات والهويات الفرعية في مديات التعبير الطبيعي عن ذاتها ومساحات تحقيق هذه الذات من دون الإضرار بهوية وشخصية المجتمع السياسي المكون للدولة، وهنا وبالضرورة تتطلب مهام تكوين الدولة اعتماد جملة من الأسس الوجودية اللازمة لتشكيل الدولة وفي مقدمتها المواطنة والديمقراطية والحرية والمساواة وسيادة القانون والمشاركة السياسية والتنمية. هذه الأسس لازمة لإنتاج روح الهوية الوطنية الكلية للجماعة السياسية، وإذا ما فشلت الدولة باعتماد هذه الأسس فالإنهدام للروح الكلية والشخصية السياسية الجماعية ستكون هي المحصلة الحتمية، وبالنتيجة ستتصدر الهويات والثقافات الفرعية المشهد العام وتكون هي المعبرة عن الذات والدور الفردي والجماعي، فبغياب المشترك يبرز الخاص، وعندها لا مبرر أساساً لوجود المشترك فتنحط الدولة ويتشرذم المجتمع.



#عبد_الجبار_خضير_عباس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مرجعيات الحزن في الأغنية العراقية - القسم الثالث
- مرجعيات الحزن في الأغنية العراقية القسم الثاني
- مرجعيات الحزن في الأغنية العراقية
- المجتمع المدني المفهوم والظهور العالمي
- الرعي الجائر
- مفهوم المجتمع المدني
- الحرية ام الديمقراطية ؟
- حوار مع المفكر الإسلامي الديمقراطي ضياء الشكرجي :حركة التاري ...
- قراءة في المادة (29) من الدستور العراقي
- هرم ذو أجنحة مهولة ...زحزحة لقناعات راسخة


المزيد.....




- صديق المهدي في بلا قيود: لا توجد حكومة ذات مرجعية في السودان ...
- ما هي تكاليف أول حج من سوريا منذ 12 عاما؟
- مسؤول أوروبي يحذر من موجة هجرة جديدة نحو أوروبا ويصف لبنان - ...
- روسيا تعتقل صحفيًا يعمل في مجلة فوربس بتهمة نشر معلومات كاذب ...
- في عين العاصفة ـ فضيحة تجسس تزرع الشك بين الحلفاء الأوروبيين ...
- عملية طرد منسقة لعشرات الدبلوماسيين الروس من دول أوروبية بشب ...
- هل اخترق -بيغاسوس- هواتف مسؤولين بالمفوضية الأوروبية؟
- بعد سلسلة فضائح .. الاتحاد الأوروبي أمام مهمة محاربة التجسس ...
- نقل الوزير الإسرائيلي المتطرف إيتمار بن غفير للمستشفى بعد تع ...
- لابيد مطالبا نتنياهو بالاستقالة: الجيش الإسرائيلي لم يعد لدي ...


المزيد.....

- قراءة في كتاب (ملاحظات حول المقاومة) لچومسكي / محمد الأزرقي
- حوار مع (بينيلوبي روزمونت)ريبيكا زوراش. / عبدالرؤوف بطيخ
- رزكار عقراوي في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: أبرز الأ ... / رزكار عقراوي
- ملف لهفة مداد تورق بين جنباته شعرًا مع الشاعر مكي النزال - ث ... / فاطمة الفلاحي
- كيف نفهم الصّراع في العالم العربيّ؟.. الباحث مجدي عبد الهادي ... / مجدى عبد الهادى
- حوار مع ميشال سير / الحسن علاج
- حسقيل قوجمان في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: يهود الع ... / حسقيل قوجمان
- المقدس متولي : مقامة أدبية / ماجد هاشم كيلاني
- «صفقة القرن» حل أميركي وإقليمي لتصفية القضية والحقوق الوطنية ... / نايف حواتمة
- الجماهير العربية تبحث عن بطل ديمقراطي / جلبير الأشقر


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مقابلات و حوارات - عبد الجبار خضير عباس - المواطنة دونما اشتراطات تغدو سجناً للحرية والإرادة