أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبد الحسين شعبان - العراق: من إرث الماضي الى تحديات المستقبل















المزيد.....



العراق: من إرث الماضي الى تحديات المستقبل


عبد الحسين شعبان

الحوار المتمدن-العدد: 2159 - 2008 / 1 / 13 - 05:50
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


العراق: من إرث الماضي الى تحديات المستقبل*
بقاء العراق موحداً رهنٌ برحيل الإحتلال الأميركي!
توطئة

عندما نتحدث عن التحديات المستقبلية لا يمكن أن نغضّ الطرف عن الماضي أيضاً. فالحاضر بلا أدنى شك هو امتداد للماضي بشكل مختلف، ونحن هنا لا نؤرخ للحظة الراهنة، فهذا هو شغل الإعلاميين على حد تعبير الروائي "البير كامو"؛ الذي اعتبر الصحافي مؤرخ اللحظة، ولكننا نتحدث كباحثين معنيين بتفكيك ومناقشة الأفكار، سواءًا بصورتها الماضوية، إذا جاز لي التعبير، أو بصورتها الراهنة، مستفيدين من تقديم رؤية إستشراقية للمستقبل.
إن أخطر التحديات التي يواجهها العراق هو التحدي الراهن (ما بعد الاحتلال)، ولعل ذلك يشتبك مع سؤال طرحه "إبراهام فولر"، من مؤسسة "راند" Rand الأميركية؛ قبل نيَّف وعقد ونصف من الزمان، يتعلق بـ "هل سيبقى العراق موحداً لغاية العام 2002؟".
كان فاولر قد طرح هذا السؤال المريب، الذي يحمل في جنباته مشروعاً سياسياً أيضا حتى وإن بدى السؤال بريئاً، فهل سيبقى العراق موحداً لغاية عام 2002؟ ولم يكتف بذلك بل قدّم سيناريوهات وتصوّرات مستقبلية. لكن سؤال فولر الذي ظلّ مسكوتاً عنه، تجري الإجابات عليه حالياً بطرائق وبوسائل مختلفة!!
ولعلي أذهب أبعد من ذلك عندما أقول أن مفكراً مثل هنري كسنجر كان قد طرح هذا السؤال قبل أكثر من ثلاثة عقود من الزمان وحتى قبل أن يصبح مستشاراً للأمن القومي ووزيراً للخارجية، عندما عمل في " تروست الأدمغة "، أو "مجمّع العقول"، حيث نظّر الى تفتيت دول المنطقة وليس العراق وحده، وإنما بلدان الشرق الأوسط عبر رؤيته الخاصة، لكي لا تكون هناك أغلبية، ليصبح الكل أقليات في محاولة لاعطاء اسرائيل دوراً متميّزاً فيها، مؤكداً إن الهوية الاحادية لهذه البلدان هي ما ينبغي ان تكون عليه، وبذلك يصبح الاساس التقسيمي عبر دويلات أو مناطقيات، أو دوقيات، أو كانتونات آحادية الهوية أمراً واقعاً، سواءًا كانت الهوية دينية، أم عرقية، أم مذهبية، أم طائفية، أم هوية ذات بعد مناطقي؛ جيو استراتيجي!!
وإستكمل زبيجينيو بريجنسكي السيناريوهات والاحتمالات التقسيمية، لاسيما في كتابه "أمريكا والعصر التكنوتروني"، الذي صدر عام 1970. وقد أسس كيسنجر وبريجنسكي نظرية الهوية الاحادية للدولة في مناطق الشرق الأوسط بتقسيم الكيانات القائمة الى دويلات مصغّرة ومجزّأة ليسهل السيطرة عليها وعلى ثرواتها " ولحماية أمن اسرائيل" !
إن الهدف من هذه الاستعادة التاريخية هو للإستذكار فقط، خصوصاً بما له علاقة بالحاضر، فالرؤية - الاسرائيلية – الصهيونية معروفة " أصلاً "، لموضوع تقسيم بلدان الشرق الأوسط إلى كيانات صغيرة، بل هي تشكل محور سياسات اسرائيل منذ قيامها عام 1948 وحتى قبل ذلك، لكن الذي أود التركيز عليه حالياً هو ما تتحدث عنه مؤسسات أبحاث كبيرة، ومجمع عقول؛ يوازي المجتمع الصناعي- الحربي أو العسكري، منذ عهد كينيدي، في أوائل الستينات وإلى الآن، حيث يدخل حيّز التنفيذ.
* بين التشطير والتأطير!

لعل هذا الأمر سيكون في غاية الخطورة لاسيما بعض نتائجه الحالية، وكأننا الآن أمام حصاد ما تم زرعه، وبخاصة في اوائل السبعينات وعندما احتدم الصراع السياسي- الاجتماعي في المنطقة في مرحلة ما بعد الاستقلالات العربية في الخمسينات والستينات وبخاصة بعد تأميم النفط العراقي عام 1972، لاسيما عندما يأتي جوزيف بايدن ويطرح موضوع تقسيم العراق إلى ثلاث مناطق سميت بين "قويسات"، فيديراليات؛ ولكنها في واقع الأمر تتجاوز فكرة الفيديرالية وهي نظام معروف في الفقه الدولي وفي الفقه الدستوري.
يبدو أن ادارة الرئيس الامريكي جورج دبليو بوش ما تزال حائرة بشأن خياراتها اللاحقة وذلك بسبب التخبط الذي وصلت اليه سياساتها خلال السنوات الاربعة ونيّف الماضية في العراق. ولعلها بدأت تستعين بما في خزانتها من مشاريع وخطط كان آخرها هو مشروع جوزيف بايدن السيناتور الديمقراطي بشأن تقسيم العراق الى ثلاث كيانات: شيعية وكردية وسنيّة تحت مظلة حكومة مركزية واحدة، لكنها حكومة يُراد لها أن تكون ضعيفة أو معوّمة!!
وقد أعطت ادارة الرئيس بوش بعض الاشارات " الايجابية" بشأن مشروع بايدن، الذي كان مُهملاً، فساهمت في نفض الغبار عنه، وهو ما كشفته صحيفة نيويورك تايمز، فذكرت عن لقاءات أجريت بين بايدن وعدد من أعضاء مجلس الامن الدولي للتباحث بشأن المشروع، الذي لقي استجابات جيّدة حسب بايدن، قبل عرضه على الكونغرس الامريكي لإصدار قرار بتأييده، حتى وإن كان في الوقت الحاضر غير ملزم الاّ أن التصويت عليه في الكونغرس قد وضعه بمصاف القانون الذي يحتاج الى مصادقة الرئيس في الحال أو في المستقبل مثلما حصل بالنسبة لقانون تحرير العراق الصادر عام 1998 من جانب الكونغرس الامريكي.

لكي لا يُساء الفهم، أريد أن أقول أن الفيدرالية، وأنا حريص على تبيان هذه القضية، هي نظام اداري عصري ومتقدم، وإنني كنت وما أزال، وسأبقى ربما من دعاة تطبيق مبدأ الفيدرالية كمبدأ نظري عام، مع الأخذ بنظر الاعتبار ظروف البلدان، فلكل نموذج حسب شؤونه واختصاصاته، ودرجة تنوع ديموغرافيته ومذاهبه وأديانه وتكويناته.
أقول إن الفيدرالية هي نظام متطوِّر، وهذا النظام العصري يطبق حاليا في 25 بلد في العالم وأن أكثر من 40 في المئة، (ربما 43) في المئة من سكان العالم، هم منضوون تحت إطار النظام الفيدرالي، ولكن الفيدرالية شيء والديمقراطية شيء آخر، وليس بالضرورة كل نظام فيدرالي ديمقراطي، ولكن النظام الديمقراطي يمكن أن يكون نظاماً فيدرالياً ناجحاً. (بعض الانظمة الشمولية في اوروبا الشرقية والاتحاد السوفيتي حيث كانت شكلاً من اشكال الفيدرالية لكنها لم تكن أنظمة ديمقراطية).
النظام الفيدرالي؛ بالمفهوم الذي أؤمن به أنا، لا علاقة له بمشروع جوزيف بايدن أو بمشاريع التقسيم التي تنتظر العراق، فهذا شيء وهذا شيء. وأريد أن أقول أن مشروع النظام الفيدرالي لا علاقة له بالدستور العراقي الحالي، أي الدستور الدائم الذي تم الاستفتاء عليه يوم 15 تشرين الأول (أكتوبر) عام 2005، والذي أجريت الانتخابات على أساسه في 15 كانون الاول (ديسمبر) عام 2005 وجاءت حكومة نوري المالكي طبقاً للقواعد الدستورية التي جرى تكريسها في الدستور.
لماذا الدستور لا علاقة له بالفيدرالية؟ هناك ضوابط وقواعد "rules" عامة، للنظام الفيدرالي، وهذه القواعد لا تنطبق على الدستور العراقي، فالدستور العراقي ينحو منحىًً بعيداً عن هذه القواعد التي هي تذهب بعيداً عن النظام الكونفيدرالي، وليس النظام الفيدرالي، بل هي في واقع الأمر نظام تقسيمي أو يمهد لعملية التقسيم، ويضع لمساتها وخطوطها العريضة، وإذا ما تراكمت بعض "الحقوق" والامتيازات خصوصاً لأمراء الطوائف في العراق، فالأمر، لا محالة، سيؤدي إلى التقسيم، خصوصاً إذا ما تكرست المصالح والامتيازات التي يريدها أمراء الطوائف والتي يمكن أن تؤدي إلى شيء آخر غير وجود الدولة العراقية الحالية.
إن دعاة التقسيم يقولون إن الدولة المركزية ونموذجها (نظام صدام حسين) ستؤدي إلى الديكتاتورية والاستبداد لا محالة، وبالتالي لا بد من تفكيك الدولة المركزية، ويضيفون الآن سواءًا جوزيف بايدن، أو بعض أمراء الطوائف، لكي نطبق الفيدرالية (التقسيم) ونقضي على الإرهاب، لا بد من تفكيك الدولة المركزية وجعلها لا مركزية وهم يقصدون بذلك الفيدرالية كما سوّقوها بالمعنى الدارج والمبتذل أحياناً، أي نظام أقرب الى كانتونات، أو طوائفيات أو دوقيات أو مناطقيات أو سمِّها ما شئت، إلاّ أنك لا تستطيع القول أنها نظاماً فيدرالياً بالصيغة التي عرضتها.
ومثلما كانوا يقولون في السابق، القضاء على الديكتاتورية يتطلب تفكيك الدولة المركزية، أي تحويل بعض صلاحيات الدولة المركزية إلى الأقاليم، فإنهم يقولون اليوم إن القضاء على موجة العنف الطائفي والارهاب يتطلب تفكيك الدولة المركزية وتوزيع صلاحياتها على الاقاليم، ولعل هذا ما تم بالفعل دستورياً وعملياً حيث تم تعويم الدولة العراقية وإضعافها ونزع صلاحياتها تلك التي يقرّها النظام الفيدرالي نفسه مثل وحدانية الجيش ووحدانية التصرف بالثروات الطبيعية والامور المالية ووحدانية التمثيل الخارجي والعلاقات الدبلوماسية، لصالح نظام آخر لا علاقة له بالنظام الفيدرالي بل انه في واقع الحال سيؤدي الى تقسيم البلاد.

الصلاحيات وفق النظام الفيديرالي
ما هي الوظائف الرئيسة للنظام الفيدرالي؟ المسألة الأولى لأي نظام فيدرالي في العالم سواءًا كانت الصلاحيات واسعة أو ضيقة، تتعلق بإخضاع القوات المسلحة بالكامل لصلاحيات الدولة الاتحادية أي للدولة المركزية.
أما في النظام الفيدرالي العراقي، فلا يمكن للدولة الإتحادية أن تحرك جندياً واحداً في الأقاليم إلا بموافقة إدارات الأقاليم، وإذا لم توافق إدارات الأقاليم فليس من حق الدولة الاتحادية أن تتصرف عكس ذلك ولا بدّ لها من اخضاع قرارتها لمصالح الاقاليم واداراتها وليس العكس، وإذا ما عرفنا ان الدستور الراهن ينحاز الى الأقاليم فيما إذا حصل أي نوع من التعارض بين الدستور الاتحادي، ودساتير الأقاليم، فالدستور الاتحادي أو القانون الاتحادي " المركزي" سيخضع للدستور أو للقانون الإقليمي، أي المحلي، أي لقوانين الأقاليم طبقاً للدستور النافذ، فما بالك لو تعارضت قوانين الاقاليم ذاتها، فان فوضى قانونية عارمة ستسود ويصبح عندها تمترس كل طرف بمنطقته واقليمه، وتضيع امكانية وجود نظام اتحادي حقيقي لحساب امتيازات الاقاليم ومصالحها الانانية أحياناً التي يتحكم بها المتنفذون على حساب المصلحة الوطنية العراقية العليا.
وحسب الانظمة الفيدرالية المعروفة فإن العلاقات الخارجية والدبلوماسية والدولية، تكون بيد الدولة الاتحادية، أما في الدستور الدائم الحالي فإنه يعطي الحق لكل إقليم في فتح فروع له في السفارات والممثليات الدبلوماسية العراقية لمتابعة القضايا الإنمائية والثقافية والاجتماعية، ومثل هذا الأمر لا علاقة له بطبيعة النظام الفيدرالي، الاّ إذا افترضنا انها سفارة داخل سفارة او مجمّع سفارات في السفارة الواحدة وهذه مسألة غريبة ثانية.
أما المالية، والخطط المركزية والعملة وكل ما له علاقة بالواردات الرئيسية فهي من صلاحيات السلطة الاتحادية في النظام الفيدرالي، أما في نظامنا العراقي الراهن، فالدستور يقول "النفط والغاز ملك الشعب"، وهذا صحيح لكنه يستدرك بتخصيصها على الحقول المستخرجة، وإذا ما عرفنا أن معظم الحقول في العراق غير مستخرجة، فستكون هذه الصلاحيات حصرياً بيد سلطات الأقاليم، وسلطات الأقاليم ستباشر بالتنفيذ لما تريد، وفعلياً، باشرت سلطات الأقاليم، خصوصاً سلطة إقليم كردستان (الاقليم الوحيد الموجود) بعقد أربع عقود نفط، انطلاقاً من صلاحياتها في الدستور، وستكرّ المسبحة لاحقاً لأشياء غير منظورة.
دعوني أذكر مثلاً مهماً وربما صورة كومودرامية ولكنها " فنتازية" أو حتى سريالية لمشهد يدعي أن له علاقة بالفيدرالية، لنفترض أن السماوة أصبحت إقليماً، ولهذا الإقليم دستور خاص بها، وأن الحلة إقليم آخر، وأن الديوانية إقليم ثالث وأن بغداد إقليم بالطبع أو أكثر من إقليم وأن الرمادي إقليم أيضاً، أو جزء من الرمادي اقليم اي مدينة من مدن الرمادي...، وأردنا أن نأتي ببضاعة من الشام لنقل إلى إقليم السماوة.
فما الذي سيحصل؟ وهنا أتحدث عن القاعدة القانونية المجردة والعامة فمثل هذا الافتراض يضع عدداً من التصورات، فهل ستنقل البضائع عن طريق الجو أو عن طريق البر، أو إذا كان هناك سكك حديدية؟ فمن حق اقليم الحلة أن يرفض لأي سبب كان مرور بضائع تعود الى اقليم السماوة عبر أراضي إقليمها الاّ بشروط قد تكون مجحفة، وهكذا ستخسر السماوة مرور البضائع عبر اقليم الحلة وقد تلجأ الى وسائل أخرى، بسبب ان قانون اقليم الحلة او دستورها أو الديوانية أو الرمادي أو بغداد يعطيها مثل هذا " الحق"، والأمر ينطبق على المرور الجوي فالبضاعة لا تمرّ بالطائرات فوق السماء الإقليمية للفيدراليات المقررة في الدستور!
ولا نريد أن نقول أن العراق كله صغير، فما بالك بشركات مصغرة تكاد تكون مجهرية إزاء الكارتيلات والاحتكارات العالمية الكبرى، التي تتفاوض حول استخراج النفط وحول مستقبل الثروة المعدنية وغيرها لأقاليمنا المصغرة التجزيئية التقسيمية، أن الدستور الحالي يجعل الفضاء الجوي " المسكوت عنه" من اختصاص الأقاليم فعلياً.
إن هذه قضية ذات بُعد خطير فيما يتعلق بمستقبل الدولة العراقية ولذلك فإن الحديث الذي يجري أحياناً عن التقسيم، لم يَعُدْ موضوع تقديس أو تدنيس، فتقسيم العراق قد يأخذ طريقه الى التنفيذ، والموضوع لم يعد بين التشطير والتأطير وقد تجاوزنا هذه المرحلة وانتقلنا من التنظير إلى التطبيق.
انجوزيف بايدن أو بعض دعاة التقسيم المعلن أو المستتر يراهنون على الوقت للشروع بوضع اللمسات الأخيرة له، ( ولعل تصويت الكونغرس على مشروع قرار بهذا الشأن يعني إن الأمر اكتسب جدية أكبر والمطلوب من الادارة الامريكية سواءًا الحالية أو القادمة المصادقة على القرار ليكتسب طابعاً إلزامياً).
هناك دعوة، أقرها البرلمان العراقي لإقامة أقاليم الجنوب، وحظيت الدعوة بأغلبية في البرلمان، ولكن بسبب الظروف وبسبب معارضة شعبية أيضاً فقد تم تأجيل التنفيذ الى 18 شهراً ستنتهي قريباً وسيفتح ملف الاقاليم مجدداً لمسألة مختلف عليها في الدستور وما بعده وفي لجنة الصياغة التي لم تنتهِ من عملها حتى الآن، رغم أن القرار الذي صدر عشية الانتخابات بموافقة " جبهة التوافق" على التصويت لصالح الدستور يقضي بإنجاز التعديلات خلال أربعة أشهر (ولكنه مرّت حتى الآن سنة ونيّف ولم تنجز التعديلات، وقد طلبت اللجنة الدستورية التي تنظر في التعديلات تمديد مهمتها الى عام آخر لاستكمال عملها واقتراح التعديلات الضرورية).
وإذا كانت الكتل السياسية المذهبية والأثنية في البرلمان قد حصلت على غالبية المقاعد البرلمانية في الانتخابات السابقة (15 كانون الاول/ديسمبر 2005) فإن هذه الانتخابات وإن أجريت طبقاً لقانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية والقرار 1546 الصادر عن مجلس الامن الدولي في 8 حزيران (يونيو) 2004، فإن الأمر تشوبه الكثير من الطعون القانونية ناهيكم عن الشرعية، خصوصاً وان الانتخابات أجريت في ظروف ملتبسة ومعقدة وبوجود الاحتلال وفي إطار قانون انتخابي عليه الكثير من الانتقادات الجوهرية والمآخذ الكبيرة وبخاصة نظام " القائمة المغلقة"!
لا شك ان النتائج ستكون معروفة سلفاً في مثل هذه الشروط والاحوال وبعد 35 عاماً من الاستبداد والديكتاتورية، والقمع الفكري والسياسي والبوليسي المنفلت من عقاله، وليس عبثاً أن ينتقل الناس إلى النقيض أحياناً، ولكن في لحظة من لحظات تزييف الوعي، وفي ظرف استثنائي عصيب حيث استغلت فيه أسماء كثيرة، ابتداءًا من المرجعية، إضافة الى وسائل الترغيب والترهيب، الى الدعم الخارجي بما فيه الإقليمي حيث كان لإيران دور فيه، إلى وسائل أخرى ونقائص وثغرات وعيوب احتواها القانون الانتخابي نفسه.



دور المرجعية الشيعية!
تتحمل المرجعية مسؤولية كبيرة، فيما وصلت إليه البلاد، فموقفها كان عائماً، أو أصبح عائماً بعد أن كان " منحازاً "، ولنتحدث بصراحة ووضوح، فالوطن فوق الجميع، وإذا كان للمرجعية دور وتستطيع أن تؤثر إيجاباً، (يُقال أن لها دور وتستطيع)، لماذا إذاً لا توقف حمامات الدم أو لم تتمكن من الحد منها حتى الآن، فما هو دورها إذاً ؟ أو أين هي مسؤوليتها أيضاً ان كانت قادرة؟
وإذا انحازت المرجعية لهذا الفريق أو ذاك فيعني أنها تتدخل في السياسة وبهذا المعنى فهي تتخلى عن كونها مرجعية، أو عليها الابتعاد عن السياسة وعندئذ تبقى مرجعية وتترك السياسة للسياسيين.
واعتقد ان دور رجال الدين ارشادي ووعظي، إذ أن مكانهم، وأقولها هنا علناً وصراحةً، الجوامع والمساجد والحسينيات والكنائس ودور العبادة، أما أن يتدخلوا في الرياضة والسياحة والسفر والتجارة والأدب والفن والملبس والمأكل والانحياز إلى هذا التجمع أو ذاك، فهذا ليس شأنهم، وبهذا المعنى سيكون رجال الدين طرفاً وسيتخلون عن مرجعيتهم، وعند ذاك عندما يكونون طرفاً سيخضعون للخطأ والصواب إذاً، وسيكونون مسؤولين بهذا المعنى!!
ولذلك أنا أعتقد أن المرجع الديني آية الله العظمى السيد علي السيستاني في النجف نأى بنفسه وإن كان بوقتٍ متأخر عن الانخراط في العمل اليومي الدائر، وكان في البداية قد طرح السيد السيستاني أربع قضايا صحيحة: ان الاحتلال لا بد أن ينتهي، ولا بدّ أن يكتب العراقيون الدستور، وأن العراق لا بد أن يقوم على أساس وحدة وطنية وتعايش وعدم التشجيع على العنف واجراء انتخابات لاختيار الشعب لممثليه، لكن تأييده لقائمة الائتلاف العراقي الموحد (الشيعية) جعله "مسؤولاً " وطرفاً وبالتالي فإن ما يجري في العراق لم يكن بمعزل عن دوره، والاّ لماذا اتخذ مثل هذا الموقف ان لم يكن منحازاً!
ان بعض الاطروحات الصحيحة التي تبنّاها السيستاني في البداية تم تجاوزها بتأييده قائمة الائتلاف العراقي الموحد (الشيعية) بما اعتبره البعض انحيازاً ودخولاً في حلبة الصراع، بل ان البعض حمّله المسؤولية في تأييد بعض القوى المتعاونة مع الاحتلال، فضلاً عن فشل الحكومات التي "باركها" لا سيما بتدهور الوضع الأمني وانفلات العنف الطائفي، ولا أريد أن أقول أن موقفه بعدم الاصرار على إنهاء الاحتلال وانسحاب القوات المحتلة من العراق، قد استغله البعض للمساومة مع الاحتلال أو لتبرير تعاونه مع المحتل بحجة عدم القدرة في مقاومته وعدم توفر شروط فتوى بالجهاد أو التدرج في الحصول على السيادة تحت باب الواقعية السياسية.

الدستور العراقي وواقع الحال

يمكن القول ان الدستور العراقي الحالي يعتبر من أحسن الدساتير العربية في ميدان الحقوق والحريات وكذا الحال في ميادين استقلال القضاء، ومنع التعذيب وتأكيد مبادئ المساواة وفي الموقف من المرأة وخصوصاً الكوتا الايجابية 25% وفي قضايا حقوق الإنسان وحقوق المواطنة، وهو تأكيد عصري لهذه المبادئ الحديثة، لكن المبادئ الدستورية الايجابية التي تم تقديمها بيد قد تم سحبها باليد الأخرى، حيث جاءت بعض النصوص متناقضة وغير منسجمة مع هذه المبادئ لاسيما تلك التي تستخدم " التعاليم الاسلامية" بالضد من مبادئ الدولة العصرية بحجة تطبيق " الشريعة الاسلامية" أو عدم سن قانون يتعارض معها، وتلك أهم قيود الدستور التي تنزع روحه أحياناً وتفقده هويته، بحيث تجد الشيء وضده!!
ان ما كتب في مقدمة الدستور، كان تعبيراً عن نزعة طائفية تسيء تماماً إلى العراق والعراقيين وإلى الطائفة الشيعية التي يدعي البعض النطق بإسمها. وقلت وأقول، بصريح العبارة، أن رجل الدولة هو غير رجل الحسينية، أنا أعرف قراء منابر حسينية، بعضهم أكابر وعلماء وأفاضل وأعرف علماء ورجال دين أفاضل، ولكن الدستور كُتِبَ بلغة سياسية متدنية، وما أقوله ليس من باب التجريح بأحد، أقوله من موقعي كباحث وعراقي موجوع ومهموم ويختزن سنوات العمر كلها، في الدفاع عن الحريات والحقوق، وفي نفس الوقت أيضاً، معني بالتفاصيل اليومية والآنية، وحريص على أن يكون المستقبل غير هذا الذي نشاهده. الحاضر هو جزء من الكارثة القائمة، والمقدمات ستقود إلى الكارثة لا محال!
العراق يعاني من الطائفية السياسية التي كُرِّست بصيغة بول بريمر "السحرية"، عندما قسَّمت المجتمع إلى شيعة وسنة وأكراد وكذا كذا الخ...، وأعطت 13 مقعداً للشيعة و5 مقاعد للسنة و5 مقاعد للاكراد ومقعد واحد للتركمان وآخر للكلدوآشوريين، بطريقة بدائية سمجة وللأسف أن الطيف السياسي الذي جاء مع الأميركيين وافق على أطروحاتهم، وقبل بهذه الصيغة واعتمدها، من الوزير إلى الخفير، حتى وإن تنكّر لها لاحقاً بعد فشلها الذريع وتأثيراتها المدمرة.
الطائفيون سيلحقون ضرراً بليغاً بالطائفة سواءًا كانوا من هذه الطائفة أو من تلك، ولا يمكن بأي شكلٍ من الاشكال أن يكون المرء طائفياً ووطنياً، أو طائفياً ولديه مشروع وطني، إذا كان طائفياً فلديه مشروع طائفي، أما أن يكون وطنياً فهو إذاً نقيض الطائفية، وهذه قضية مفهومة على صعيد الواقع العملي والممارسات اليومية وعلى الصعيد الفكري والمستقبلي حيث ستطرح تأثيراتها لاحقاً.
أما بخصوص الدستور العراقي فرغم بعض الاحكام والمواد الايجابية الاّ أنه بشكل عام احتوى على الكثير من الألغام والقنابل غير الموقوتة التي يمكن أن تنفجر في اية لحظة، فضلاً عن ان الدستور استند على قانون ادارة الدولة للمرحلة الانتقالية (2004) التي طارت اشاعة تقول ان الذي قدم الصياغة الأولية هو نوح فيلدمان اليهودي الامريكي الصهيوني التوّجه، مما دفع السيد السيستاني للقول لا بدّ للعراقيين من كتابة دستورهم.
أستذكر هنا الباحث الاجتماعي الكبير العلاّمة علي الوردي، فمنذ أكثر من نصف قرن من الزمان قال "هؤلاء الطائفيون بلا دين" لأن المؤمن الصحيح لا يمكن أن يكون طائفياً، فالمسلم الحقيقي ضد الطائفية والمتدين السليم لا يمكنه أن ينخرط في إطار مشروع طائفي وقد يجرّه أحياناً ضد الوطن، ولذلك فإن تركة (بول) بريمر ستكون خطيرة بفعل التشظي وامتيازات أمراء الطوائف، من الذين تعاونوا معه أو من الذين تمترسوا في مواجهة طائفية لاسيما وان الاحتقان وصل إلى حد الحرب الأهلية.
نحن نعيش في العراق في حرب أهلية، أما الذين يقولون إننّا ما زلنا بخير، فإمّا يريدون أن يجمدون الميت الذي هو في غرفة الانعاش ولكنه يدخل في غيبوبة منذ فترة غير قصيرة، لأنه لم يمت بعد، أي لم يحصل التقسيم حتى الآن، ولكنه واقع فعلاً انهم لا يريدون أن يقولوا اننا فشلنا. نحن في حرب أهلية ليست نمطية، أي ليست بين الشيعة والسنة إطلاقاً، أو بين العرب والكرد إطلاقاً، أو بين الكرد والتركمان بتاتاً. هي حرب الجميع ضد الجميع، حرب يحركها الاحتلال أولاً، المسؤول عن كل الذي حصل في العراق، وثانياً أمراء الطوائف المستفيدون من الوضع العراقي الحالي، والطامعون في الحصول على المزيد من الامتيازات، خصوصاً بعد أن تشظَّى المجتمع العراقي.
وانتشرت الرشوة والفساد إلى أبعد الحدود، ولعل ذلك واحداً من التحديات الكبرى التي تواجهنا، وقد كشفت مفوضية النزاهة عن أن 15 وزيراً مطلوبون إلى القضاء و93 مسؤولاً كبيراً في الدولة، متهمون بتهم الفساد، وهؤلاء يهربون أو يُهَرَّبون بطرق مختلفة.
ومن المؤكد أن بقاء الاحتلال يعني استمرار مشروع حرب دائمة في العراق لن تنتهي الحرب بوجود الاحتلال، إذاً لا بدّ للاحتلال أن ينسحب وأن يرحل وإذا ما رحل الاحتلال، فالكثير من التكوينات التي تشكلت مع الاحتلال، وفي ضوئه وبمساعدته، سوف لا يكون لها مستقبل في العراق، وهذه معادلة من نوع آخر.
لقد جاءت ظاهرة الإرهاب مع احتلال العراق وهذا الإرهاب الأعمى، قاد البلاد إلى التناحر باتجاه الحرب الأهلية المستمرة، وما زاد الحرب الأهلية اشتعالاً هو تفجير مرقدي الإمامين علي الهادي والحسن العسكري، في سامراء في 6 شباط/فبراير عام 2006 وردود الفعل الطائفية الخطيرة.
وفيما يخص ظاهرة الإرهاب، والجثث المقطوعة الرؤوس، المجهولة الهوية، التي تُلقى على الطرقات، وعلى الأرصفة في أكياس النفايات، وفي صناديق الموز، فقد أصبحت ظاهرة من أخطر الظواهر.
ان العنف المستشري والانفلات لشلال الدم في العراق لا مثيل له، ولا يوجد في أي مجتمع، وقد زاده اتساعاً وعمقاً وجود ميليشيات، ولا يمكن أن تبني دولة عصرية أو ديمقراطية، كما يتم الادعاء، في ظل الميليشيات. إذا كان هناك مشروع دولة فلا بدّ لها أن تحتكر استخدام السلاح لوحدها، وحق التقاضي لوحدها وحق فرض القانون لوحدها والآّ سنكون أمام ازدواجية خطيرة .

الواقعية السياسية بين التشاؤم واليأس!!

البعض يتحدث عن الواقع بتفاؤل كبير، وقد يكون الأمر مختلفاً بين التشاؤم واليأس، فالتشاؤم لا يعني القنوط أو الاستسلام، خصوصاً برؤية الواقع كما هو دون تزيين أو تجميل، وهناك فرق بين تشاؤم الواقع وتفاؤل العقل، فكل ما حولنا يشي بالتشاؤم: مفخخات وإرهاب وطائفية، وتقاسم وظيفي واحتلال، وغير ذلك، ولكن المرء يظل يحتفظ بتفاؤل الإرادة وليس التفاؤل الساذج.
وكان "غرامشي" دائماً يتحدث عن تشاؤم الواقع ثم يستدرك بتفاؤل العقل، بمعنى الإرادة، هذه النظرة التفاؤلية، إذا جاز لي التعبير أن أقول، وحتى وإن كان فيها شيء من الاسقاط على الواقع من "الإرادوية"، لكنها تظل تحمل وعداً، برغم أنني أعتقد أنها ليست حاملة لبرهان في الوقت الحاضر، قد يأتي البرهان لاحقاً وقد لا يأتي، فالماضي أصبح ماضياً، نحن نتحدث عن الحاضر والمستقبل: " الآن هو الآن، أمس قد كان، ليس هناك من شك"، كما قال الشاعر التشيلي الشهير "بابلو نيرودا".
يمكن القول ان معظم الأطراف السياسية لا تمتلك قدراً من الواقعية السياسية وان هناك فوضى في القرار، وفوضى القرار جاءت مع الفوضى غير الخلاقة التي تحدث عنها المشروع الأميركي.
أما مسألة تدويل القضية العراقية، فإنها تعود إلى زمن أطول من ذلك ولاسيما خلال ربع القرن الماضي كله، فالحرب العراقية ـ الإيرانية كانت مدوَّلة، وعملية غزو الكويت ساهمت في تعميق تدويل القضية العراقية، وذلك بصدور اكثر من 60 قرار من الأمم المتحدة بفرض الحصار الدولي الجائر على العراق، الذي كان تدويلاً للقضية العراقية، وحرب قوات التحالف التي أدت إلى احتلال العراق، لاحقاً في 2003، دوّلت القضية العراقية، وأن الوضع العراقي بعد الاحتلال مدوّل بالكامل.
يمكن هنا أن نتحدث عن حلول ومعالجات دولية بعد أن دوّلت القضية العراقية، ولا يمكن حصر القضية العراقية بالأطراف العراقية فحسب، فهناك أطرافاً اقليمية، ومن دول الجوار العربي والاسلامي، وهناك أطرافاً دولية صاحبة قرار، إضافة إلى ذلك هناك الأمم المتحدة والحديث عمّا يمكن أن تلعبه من دور، خصوصاً إذا كان دوراً محورياً ومركزياً بتأكيد موضوع انهاء الاحتلال بسحب القوات المحتلة من العراق وفقاً لجدول زمني، والاتيان بحكومة عبر الأمم المتحدة، تحكم لمدة سنتين بتوافق اقليمي ـ عربي ـ دولي، وبشيء من التوافق العراقي، عند ذاك يمكن الحديث عن مرحلة انتقالية لانهاء الوضع الذي وصلنا إليه.
اعتقد ان هناك العديد من الأمور التي هي مصدر خلاف كبير، فهل هناك دولة عراقية، أم لا؟ هل الدولة العراقية التي نتحدث عنها تعود إلى 1350 سنة أي بالمصالحة " التاريخية" أو غير التاريخية بين الإمام الحسن ومعاوية؟ كما يذهب بعض من يريدون تفسير الامور على نحو " تاريخاني".
وما الفرق بين الرؤية لإستعادة الحق بالجهاد التي مثلها الامام الحسين، ورؤية الإمام الحسن " الصلح مع معاوية" والاعتراف به خليفة للمسلمين، وما هو الفرق بين الرؤية التصالحية- الاتفاقية والرؤية الاعتراضية الاستشهادية؟ فمن يؤمن "بالمقدسات" يعتبر هاتان الرؤيتان امتداداً لرؤية واحدة، ومن يؤمن باستخدام العقل وتدوير الأمور، سياسياً، وسوسيولوجيا، قد يتوصل إلى استنتاجات أخرى لسنا نحن الآن بصددها، بشأن اختلافهما!.
نحن نتحدث عن الدولة العراقية، وأنا أقول أن هناك أربع نقاط ضعف أساسية في الدولة العراقية التي أسسّت في 23 آب/أغسطس عام 1921، بالاتيان بالأمير فيصل، ملكاً على العراق، بدولة ساهمت فيها وفي خلقها وفي تأسيسها، حتى المرجعيات، لاسيما عندما طرحت نظرتها لقيام دولة مستقلة بملك عربي بالمواصفات المعروفة، وبدستور مقيّد، يعني مقيّد لسلطات الملك.
ان نقاط الضعف الأربعة، تكمن في أن الدولة كانت " أقلوية"، خصوصاً عبر قوانين الجنسية السيئة الصيت، التي ظلت مسماراً يضرب في رأس الدولة العراقية منذ تأسيسها حتى عام 2003، خصوصاً بالتقسيم السيئ الصيت الذي وضعه البريطانيون لقوانين الجنسية، عندما حددوا فئتي (أ) و(ب)، واعتبروا من كانوا من رعايا الدولة العثمانية هم من التبعية (أ) ومن كانوا من رعايا غير الدولة العثمانية، حتى وإن كانوا عرباً أقحاحاً هم من التبعية " ب" ، وهذا الأمر شكّل محور قوانين الجنسية والمواطنة للدولة العراقية منذ تأسيسها، الأمر الذي كان عامل إضعاف لوحدتها الوطنية ولهويتها، وبهذا المعنى جرت عملية تهجير سكاني لا إنساني طالت حوالي نصف مليون مواطن عراقي وكانت عربوناً، للحرب العراقية ـ الإيرانية التي اندلعت، في 22 أيلول/ سبتمبر عام 1980 واستمرت لثمان سنوات.
سأوضح هذه المسألة أكثر، حيث تناولتها في كتاب صدر لي عام 2002 وعنوانه "من هو العراقي"؟، وكان الصحافي جهاد الزين يعرفّني به باستمرار في صحيفة النهار، فيقول فلان مؤلف كتاب من هو العراقي؟ وحسب قوانين الجنسية في العالم، إذا تأسست دولةً ما، يعتبر كل المواطنين الموجودين في هذه الدولة، قبل تأسيسها، هم مواطنون بالتأسيس إلاّ في العراق، اعتبروا من التبعية (أ) والتبعية (ب). وثانياً، لا يوجد قانون في العالم كله، حسب معرفتي المتواضعة بقوانين الجنسية، يشترط وجود الجنسية وشهادة للجنسية، فلا يكفي أن يكون للمرء جنسية وإنما ينبغي أن يكون لديه شهادة للجنسية العراقية، وهي التي تؤكد عثمانيتة من عدم عثمانيته".
وسابقاً لم يكن لقوانين الجنسية من معنى آنذاك؛ فأي واحد ممكن أن يكون حاملاً الجنسية العثمانية أو الجنسية الإيرانية أو غيرها إذا رغب بذلك.
دعني أذكر لكم هذه المفارقة التي نقلها الأستاذ حسن الدُجيلي؛ وكان وزيراً في حكومة عبد السلام عارف، ويناقش معه مشروع الدستور العراقي الموقت الذي صدر في العام 1964، فقد ورد فيه مواصفات تنطبق على الرئاسة وتم تفصيلها على مقاس الرئيس عبد السلام عارف، قال الوزير للمشير (الرئيس) "يا سيادة الرئيس، أتعرف أنني عربي بمحض الصدفة؟". قال له "كيف، أنت من الخزرج، والخزرج من العرب؟". قال له "نعم إن والدي ذهب من الدجيل إلى النجف للدراسة الدينية، وهناك جاءه القنصل الإيراني فعرض عليه الجنسية الإيرانية. فوافق والدي لأن فيها بعض الامتيازات، منها الحماية، ويمكن أن يزور قبر الإمام الرضا في مشهد، ويُستثنى من الخدمة العسكرية (الجندية)، فوافق والدي، فذهب إلى القنصلية لإملاء الاستمارات أو للحصول على الجنسية الإيرانية، فلم يجد القنصل، وفي المرة الثانية تقاعس، وهكذا أنا وزيرك عربي بمحض الصدفة الآن!! "
لو شاءت الأقدار وحصل والد الدجيلي على الجنسية الايرانية لأصبح إيرانياً واعتبر من التبعية غير العثمانية حتى وان كان عربياً أباً عن جد، علماً بأن الجنسية لم يكن لها من معنى آنذاك سواءًا كانت عثمانية أم فارسية لأنها لا تفصل في هوية المرء ومواطنته. هذا الامر حصل مع الشاعر الكبير الجواهري حيث ناقشت هذا الموضوع بكتابي عنه "الجواهري- جدل الشعر والحياة" الذي صدر منذ 11 سنة تقريباً، فعندما اراد أن يتعيّن بوظيفة معلم في عام 1926 اكتشف ان جنسيته ايرانية مما ادى الى فصله من قبل ساطع الحصري، الأمر الذي أثار ضجة تدخل أثرها الملك فيصل الأول فقام بتعيين الجواهري في البلاط الملكي ليحسم فتنة طائفية، تلك التي اندلعت لاحقاً اثر كتاب ألفه أنيس النصولي امتدح فيه الدولة الأموية وانجازاتها فثار البعض ضده معتبرين ذلك تنديداًً بآل البيت وقتلة الحسين بن علي، في حين انتصر له من يدافع عن حرية التعبير آنذاك رغم عدم اتفاق عدد كبير منهم مع آرائه.
أريد أن أقول إن هذه واحدة من المشاكل التي واجهت الدولة العراقية منذ تاسيسها واستمرت باستمرار قوانين الجنسية التمييزية ، منذ القانون الاول الذي صدر برقم 42 لسنة 1924 وقانون رقم 43 الذي صدر عام 1963، ثم بقرارات من مجلس قيادة الثورة التي صدرت في فترة السبعينات. ولعل أخطر قرار صدر حول الجنسية هو القرار 666، في 7 أيار/مايو عام 1980 عندما أسقطت الجنسية عن أعداد من العراقيين إذا كانوا غير موالين للحزب والثورة، أي لاعتبار سياسي، فضلاً عن الاعتبارات الأخرى التي تعود الى الاصول بقرار من فقرتين. وبموجب هذا القرار، سُفِّر خارج العراق إلى إيران حوالي نصف مليون عراقي اعتبروا من التبعية الإيرانية بقرار لا سابق له في كل بلدان العالم.
الاشكالية الثانية التي عانت منها الدولة العراقية منذ تاسيسها هي ضعف البنى والهياكل الحكومية، وهشاشة التجربة الجنينية " الديمقراطية"، ورغم تقدم الدستور الاول واحتوائه على بنود ومواد متقدمة في حقل الحقوق والحريات واستقلال القضاء، الاّ ان تدخلات السلطة التنفيذية كانت صارخة في المجالس النيابية التي يتم تزويرها باستمرار وضاقت قاعدة الحكم لدرجة التبرم بأي رأي آخر، وخصوصاً فترة التحضير لحلف بغداد العام 1955 وربط العراق العراق بعجلة الاجنبي على نحو سافر.
والأمر الآخر، هو عدم الاعتراف بحقوق الأكراد فبعد الحرب العالمية الاولى ابرم الحلفاء معاهدة "سيفر"، التي أقرت بعض حقوق الأكراد عام 1920، لكنه جرى التآمر على هذه الحقوق بمعاهدة لوزان عام 1923 التي شرّعت على أساسها قوانين الجنسية لاحقاً، فاستبعد الأكراد من المشاركة السياسية ومن الاعتراف بحقوقهم، وبالتالي، بالاعتراف بهم وبلغتهم وإلخ..، هذه القضايا الإشكالية ظلت تنخر في جسم الدولة العراقية.

من تاريخ المرجعية
أعتقد أن هناك إشكالية حول دور المرجعية، وأعرف هذا الجو بتفاصيله، بما له وما عليه، وأتحدث هنا من زاوية النقد، والنقد الذاتي، فالمرجعية في فترات غير قليلة تخلّت عن أدوارها، وإذا استعرضنا المرجعية من عام 1920 إلى 2003، سنعرف الكثير من النواقص والثغرات، فهناك خلافات في الفقه، وفي الجوانب السياسية أو في الجوانب العملية لأطراف المرجعية، ناهيكم عن التأثير الاقليمي وبخاصة من طرف ايران.
لعل مرجعية 1920، عندما كان الشيرازي يتصدّرها هي التي دعت إلى ثورة العشرين، ضد البريطانيين، وقبله قاد السيد محمد سعيد الحبوبي مجموعة من رجال الدين بمن فيهم السيد محسن الحكيم الذي كان شاباً آنذاك ورؤساء العشائر وذهب إلى " الشعيبة " لمقاومة البريطانيين عام 1914 في الحرب العالمية الأولى. هذا الدور بدأ يتقلص تدريجياً، فقد اتخذت المرجعية موقفاً سلبياً من الدولة لاحقاً بسبب " أقلويتها " ومحاولات التمييز وبسبب نظرتها القاصرة الى العمل الحكومي والوظيفي الذي ظلّت حتى سنوات متأخرة تعتبره "محرّماً " وأن الراتب الذي يتقاضاه المواطن بحاجة الى فتوى خاصة. أقول هذا لأن بعض التنظيرات اللاحقة التي دعت، بين قويسات، "الشيعة" لقبول ما يريده الإحتلال لكي لا تذهب الدولة باتجاه الطرف الآخر مثلما ذهبت العشرينات، يوم اتخذت المرجعية موقفاً سلبياً منها.
لعل موقف المرجعية في العشرينات كان خاطئاً يوم دعت الى عدم التعاون مع الدولة بعد تاسيسها، رغم أن موقفها من الاحتلال كان صحيحاً. وموقفها حالياً خاطئ أيضاً بسبب مهادنة الاحتلال. دعوني أقول لكم إن المرجعية في العشرينات بموقفها من الاحتلال كسبت الوطن والوطنية حتى وإن كان تعاطيها مع الدولة خاطئاً لاحقاً بتحريم التوظف فيها باعتبارها دولة غير شرعية آنذاك، أما في 2003، وما بعده فقد خسرت الوطن والوطنية بسبب موقفها من الاحتلال، ومنذ العشرينات وحتى عام 1958 لم يكن للمرجعية دور يُذكر، باستثناء فتوى مهمة هي فتوى الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء بالذهاب إلى فلسطين وإلى القدس والحج إليها من أجل فك الحصار الصهيوني عن الشعب العربي الفلسطيني لاسيما بعد ثورة 1936. ولعل استذكار بعض الوقائع مهم جداً الآن على صعيد الواقع العملي.
لماذا يُطلق العنان لعشرات الآلاف ومئات الآلاف من الناس للذهاب للزيارة إلى هذا المكان أو ذاك مع احترام كامل للطقوس والمعتقدات، الاّ أن حدوث مجازر وأعمال عنف قد تجعل رجل الدين الواعي والمتنور يستعيض أو يؤجل مثل هذه التجمعات خصوصاً اذا كان كلمته مسموعة، اقتفاءًا بأثر كاشف الغطاء بالحج الى القدس، فالضرورات تبيح المحظورات، أو أن للضرورة أحكاماً كما يقال. يمكن أن ترجئ الزيارة، أن يُستعاض عنها، بدفع تبرُّع على سبيل المثال، لبناء مدارس، أو لبناء مستشفيات، أو لبناء مؤسسات، أو لتزفيت شوارع أو غير ذلك، كل هذا سيصب في التوّجه الروحاني نفسه الذي ينبغي للمرجعية أن تتخذه.
أريد أن أقول إن المرجعية بدأت تنشط بعد عام 1958، خصوصاً بصعود التيار اليساري الشيوعي، فقد أصدر آية الله العظمى السيد محسن الحكيم فتوى اعتبرت الشيوعية كفراً وإلحاداً، وبغض النظر عما ارتكبه الحزب الشيوعي من إساءات، او من خروقات وبخاصة لجهة الاستحواذ على الشارع بالقوة، لكن هذه مسألة تركت تأثيرات خطيرة لاحقاً، وأسهمت في انشقاق الشارع وعمّقت الخلافات السياسية القائمة.
وإذا كان بوسع المرجعية أن تفعل ذلك فلماذا لم تتصد للحكم السابق. يذهب البعض الى اعتبارها مرجعية صامتة كما أطلق عليها، في حين ان المرجعية الناطقة تم تصفيتها او تعرضت الى الرحيل واختارت المنفى، لكن الأمر أبعد من ذلك حين يقر السيد السيستاني حتى وان كان إكراهاً تنفيذ رغبة الحاكم بإصدار فتوى بالجهاد ومعه ايات الله بشير النجفي وإسحاق فياض والسيد محمد سعيد الحكيم، وهؤلاء من المراجع العظام حين وقعوا على بيان يوم 13 شباط/ فبراير 2003، قبل الحرب على العراق بشهر وأسبوع، يدعون فيه لمقاومة المحتل والتصدي له، أي أنهم رفعوا راية الجهاد.
ولكن أتساءل، وليست لدي إجابة إذا كان السيستاني قد دعا للجهاد آنذاك، فماذا لو دعا الآن إلى مقاومة المحتل، هل سيكون خلفه نوري المالكي أو الجعفري أو السيد عبد العزيز الحكيم، أو حزب الدعوة، أو المجلس الإسلامي الأعلى، أو السيد مقتدى الصدر؟ أنا شخصياً أشك في ذلك، فالدنيا والدين في تعارض أحياناً، لا أدري؟ ولست متأكداً"؟ فالسلطة ملك عضوض كما يقال!!
وإذا كان السيستاني أو المرجعية يعتقدا أن الجمهور سيتبعهما فينبغي عليهما أن يتخذا هذا القرار، وإذا اعتقدا أن الجمهور سوف لا يتبعهما، إذاً ليتركا الأمر للآخرين وينصرفا الى شؤون الدين ويبتعدا عن السياسة.
هذه مسألة تثير الكثير من الأسئلة الساخنة الحادة التي تواجهنا نحن أبناء هذا الوسط ونعرف هذا الوسط بتفاصيله، نعرف إيجابياته وهي غير قليلة، ونعرف سلبياته وهي كثيرة، بما فيها " الخبايا والخفايا"، فنحن أبناء هذا الوسط وننتقد من موقع النقد والنقد الذاتي وأريد أن أقول أيضاً، هل " الأغلبية الشيعية" كما تُسمى هي التي تحكم ؟ أنا أشك في ذلك، فأي أغلبية هي التي تحكم؟ الذين يحكمون هم الاحزاب الدينية الشيعية ولا علاقة لهم بالاغلبية، وإذا اردت أن تقول ان 12 مليون هم الذين صوتوا لهم، فساقول لك أنها لحظة من لحظات تزييف الوعي، والدعم والتداخل الخارجي، واستثمار فترة الاستبداد الطويلة الأمد لـ 35 عام، غضافة الى قانون انتخابي رديء!!
أنا أشك إذا استطاع أحداً فيهم أن يدعو الى تظاهرة من 50 ألف شخص في كل العراق. لا تقل لي إنهم يذهبون سيراً على الاقدام في زيارة نصف شعبان الى كربلاء أو في مناسبة دينية أخرى إلى سامراء، أو إلى النجف، أو في العاشر من محرم ...، هذا شيء وهذا شيء آخر. ولعل الذي كان يحرِّك هذه الجماهير المليونية في فترة الخمسينات لم تكن الحركة الدينية، ولم يكن هناك وجود لشيء اسمه حزب الدعوة أو المجلس الاسلامي الاعلى أو شيء من هذا القبيل، وشعارات هذه القوى، لم تكن شعارات دينية، أيضاً.
ان شعارات هذه الجماهير المليونية المسحوقة، التي كانت تمارس طقوسها ومعتقداتها المتوارثة كانت وطنية عامة تمجّد الشهادة وتنبذ الظلم. دعوني أتذكر، في سنة 1954، كان مشروع حلف بغداد، وكانت الجماهير في مناسبة " عاشوراء وصفر" قد نزلت إلى الشارع، الهتافات كانت "مشروع الجمالي، بالراديو حكا لي، ويريد يربطنا بحلف ما إله تالي، ويريد يربطنا بحلف ما إله تالي".
وفي سنة 1956 كان العدوان الثلاثي على مصر، والجماهير نزلت إلى الشارع تهتف "قالوا القائد جمال أرواحنا كلها إله، يا هلا، نريد مثله نمثله، يا هلا: "أمريكي بالدولار، وفرنسا أم العار، والثالثة بريطانيا، رمز الخباثة".
لم يكن هناك حزب الدعوة أو المجلس الاسلامي الاعلى أو حتى حركة دينية منظمة واستطيع أن اعدد لك من الذاكرة الآن العديد من الشعارات، فقد كان هناك نوع من الانفصال بين الحكم والشعب واستمر هذا الانفصال بين السلطة والشعب، سابقا وحالياً!!

جدلية الإحتلال والمقاومة
تبدو سلطة الحكم الحالية، سلطة أسيرة، معتقلة في المنطقة الخضراء. لا يستطيع أحد أن يخرج من هذه " الربع بلدية"، التي هي أصغر من الضاحية الجنوبية، حيث يقبعون في حماية بمساحة منطقة حارة حريك، ولا يخرج أي منهم إلى الشارع، ولا أحد يستطع أن يفعل ذلك، فحتى خروجه ودخوله الى المنطقة الخضراء مرتبطة بموافقة الامريكان وهؤلاء محميّون من قبل شركات أمنية مثل فرقة بلاك ووتر، وحراسها، وفرسان مالطا التاريخيين. ولدى فرسان مالطا، وشركة بلاك ووتر و160 شركة في العراق حصانة وحماية قانونية كاملة من القانون العراقي، ومن القانون الأميركي أيضاً.
لا يستطيع أحد منهم أن يفعل غير ذلك، فالرئيس جورج دبليو بوش تحطّ طائرته في الأنبار دون أي ابلاغ أحد من المسؤولين ثم يناديهم هكذا بالإصبع، فرداً فرداً من رئيس الدولة الى رئيس الوزراء الى نوابه وكأنهم موظفون لديه، فكيف يكون البلد المحتل إذاً؟ هكذا يتم الاصطفاف من رئيس الجمهورية الى رئيس الوزراء يأتون إلى الأنبار، ليحدثهم بوش عن شؤون دولة العراق المستقلة، ذات السيادة!!
هل سمعتم أن شعباً تحتل أراضيه ولا توجد فيه مقاومة وإن وجد هكذا شعب، محتلة أراضيه ولم يقاوم فماذا نسميه؟ أليس هو شعب من العبيد، فالشعب الذي لا يقاوم محتليه هو شعب من العبيد ولا أظن أن العراقيين هم شعبٌ من العبيد، الشعب العراقي شعب حيوي، نابض بالحياة، يريد الانعتاق، يريد الحرية.
نعم هناك انقسام في الصف السياسي، لمصالح أنانية ضيقة، لأسباب تتعلق بأمراء الطوائف، ثم الذين جاؤوا الى السلطة لا يوجد بينهم أحد يعتبر بحق رجل دولة بالمواصفات المعروفة. لاحظوا الارتجال والارتباك والتخبط فالدكتور أيّاد علاوي، يصدر قراراً بالانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية، وقلت في حينها إن هذا القرار شيء رائع وعظيم وكتبت رسالة بهذا الخصوص! معقول ان حكومة علاوي تقدم على الانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية، ولكن بعد أسبوعين بالضبط، ينسحب اياد علاوي من الانضمام الى المحكمة الجنائية الدولية، لا يبرر، لا يفسر، لا يعطينا شيء، لأن أمريكا منسحبة أصلاً من المحكمة الجنائية الدولية، وإسرائيل منسحبة من المحكمة الجنائية، فكيف يتجرأ وهكذا أصدرنا بياناً انتقدنا فيه هذه الخطوة بعد تأييدنا لانضمام العراق قبل أسبوعين من هذا التاريخ؟ ثم البرلمان يقيل رئيسه أو يعلق رئاسته لعدم كفاءته كما قيل، وبعد أخذ ورد، وأسبوعين من الجدال يعود الرئيس وكأن شيئاً لم يكن، أين الأغلبية؟ لا تعرف!!
ويطلب السيد عبد العزيز الحكيم من مجلس الحكم الانتقالي المصادقة على قرار " يلغي" بعض حقوق المرأة المكتسبة، والمثبتة في القانون رقم 188 الذي اتخذ عام 1959. ثم يصل القرار هذا إلى بريمر، ويكتشف الاخير هذا القرار، ويقول "ما هذا الكلام"، هل هؤلاء يلعبون على راحتهم؟ نحن نقول كوتا للمرأة، وهؤلاء يأتون ويلغون القرار"، ويعترف ببعض حقوق المرأة، فيعيد الكرة إلى المجلس مرة ثانية، ويطلب منهم التصويت، فيسقط القرار، الذي اتخذه السيد عبد العزيز الحكيم في فترة إدارته للمجلس.
يتخذ رئيس الوزراء نوري المالكي قراراً بوقف "بلاك ووتر"، ولكن بعد يومين يعتذر الناطق الرسمي باسم الحكومة، من "بلاك ووتر"، ويبرر بأن عليها (فقط) أن تراعي القوانين والأنظمة. ولعل هناك نقصاً في القانون الدولي الإنساني، فيما يتعلق بمحاسبة الشركات الامنية والمرتزقة، وهذا يعني ان هناك ضعفاً إلى حدٍ ما، وهناك بعض القواعد تشير إلى ذلك، وتسقط عنهم الحصانة، ولا تعترف بهم كأسرى الحرب، إذا ما تجاوزوا أو دخلوا طرفاً في الصراع، لكن هناك بشكل عام ضعف في هذا الموضوع وهو الذريعة التي يتعكز عليها المسؤولين!
فما السبيل لتجاوز الوضع الراهن ؟ أعتقد أن أطرافاً من داخل العملية السياسية وأخرى من خارجها يمكنها أن تتوافق على أساس ثلاث نقاط: انسحاب القوات المحتلة من العراق، بوضع جدول زمني، إحالة الأمر إلى الأمم المتحدة وتمكينها من إدارة شؤون العراق، بالتعاون مع حكومة عراقية لمدة عامين مثلاً، حكومة محايدة، من "تكنوقراط"، وبالطبع أن تحظى بدعم اقليمي ودولي على إعادة الاعمار ويمكن أن يشترك أناس من داخل العملية السياسية، وأناس من خارج العملية السياسية، في هذا الإطار، بما فيهم بعض أطراف المقاومة، واجراء الانتخابات على اساس التعددية وعبر قانون انتخابي جديد.
إذا وصلت الولايات المتحدة إلى طريق مسدود، وفشلت استراتيجيتها، العسكرية والسياسية في العراق، وتريد الانسحاب منه، كيف ستفكر الولايات المتحدة؟ هل ستترك العراق على طبق من ذهب إلى إيران، وهي تقول إن إيران تتدخل في الشأن العراقي ؟
اما حول الدور الايراني فهناك وجهان الأول يتعلق بموقف ايران من الاحتلال ومن الوجود العسكري الامريكي في المنطقة، ولعل أهم ما في إيران وأحسن شيء فيها، إنها طرحت المسألة على نحو واضح وصحيح منذ البداية، أنها لا تريد للاحتلال الأميركي أن يبقى في العراق، ولا تريد حدود مع الولايات المتحدة عبر العراق، لأنه إذا نجح مشروع الاحتلال في العراق، فإنه سيتمدد وستصبح إيران هدفاً، وسوريا هدفاً، وبلدان أخرى ستكون أهدافاً، فإيران ستفعل كل شيء لتكون بغداد خط الدفاع الأول، وهذا أمر طبيعي في العلوم العسكرية.
أما الوجه الآخر لإيران فإن لها أطماع تاريخية في العراق إضافة الى الأطماع الجيوسياسية سواءًا في فترة الشاه او في فترة الخميني وحكم رجال الدين " الملالي" كما يسمّون، وبهدف الحصول على مركز متميز للنفوذ تسعى إيران لتكون اللاعب الرئيس في العراق، وأحياناً بمضاهاة الولايات المتحدة عبر قوى وجماعات سياسية قريبة مذهبية منها أو حتى بعيدة.
ان مصالح الدول والعلاقات الدولية تاريخياً، هي صراع واتفاق مصالح، ولذلك أنا هنا أدعو، ودعوت منذ الاحتلال لاسيما بعد اتساع دور المقاومة الى صفقة ايرانية- امريكية حول العراق، أساسها انسحاب امريكا من العراق، مقابل تعهد إيران بعدم التدخل في شؤون العراق، وأعتقد وهذا مجرد اجتهاد أن الأمر سيكون لمصلحة العراقيين ولمصلحة حسن الجوار بين العراق وإيران، ولمصلحة مشروع إيران السياسي الاستراتيجي البعيد المدى، كما أنه سيكون لمصلحة مشروع وطني عراقي. ان من مصلحة إيران أن تقيم صداقة مع العراقيين، ومن مصلحة العراقيين، بجميع تياراتهم، واتجاهاتهم، أن يكون لديهم عمق استراتيجي اسمه إيران، خصوصاً لموقفها المتميز من قضية القدس ومن القضية الفلسطينية تحديداً، ومن الصراع العربي ـ الإسرائيلي بشكل عام، فوجود ايران كصديق منتظر ومرغوب ومحتمل خير من عدو جاهز وخصم قائم وجار غادر، والعكس صحيح أيضا بالنسبة لإيران.
وفي إحدى محاضراتي في منتدى الفكر العربي الذي اسسه ورعاه الأمير الحسن في عمان وكان السفير الإيراني حاضراً، وكانت المحاضرة بعد مقتل الزرقاوي بأسبوعين، في (28 حزيران/ يونيو 2006)، فكتب لي ورقة حيّا فيها موقفي من جهة إزاء الاحتلال ومن جهة أخرى عتب علي لأنني انتقدت إيران كثيراً على تدخلاتها في العراق إضافة الى اشاراتي حول دور المرجعية من خلال تناولي لكتاب بريمر " عام قضيته في العراق"، وقلت أنا أدعو لصفقه إيرانية ـ أميركية وشرحت الاسباب.
وبالنسبة إلى الدستور وسد الثغرات إذا أخذنا باب الحقوق والحريات فهو متميز بصراحة، ومن أحسن الدساتير العربية كلها، ولكن إذا أخذنا الألغام الكثيرة التي فيه، فهو خطير جداً، وأخطر من كل الدساتير التي سبقته، رغم انها دساتير شمولية. أولاً انه يعوّم عروبة العراق، وهي التي طبعت تاريخه الغالب. أتستطيع أن تعوِّم الأمة الفارسية؟ علماً أن الأمة الفارسية لا ترتقي إلى 50 في المئة من المجتمع الإيراني. بينما الأمة العربية أو عرب العراق يؤلفون أكثر من 80% من المجتمع العراقي.
ثانياً، أنا أتحدث عن إضعاف سلطات الدولة الاتحادية لحساب سلطات الاقاليم، وكذلك اشكالية توزيع الثروات، وخصوصاً موضوع النفط والغاز، غير المستخرج الذي ينبغي ان يكون تحت اشراف السلطة الاتحادية. كذلك الجيش ينبغي أن يخضع للسلطة الاتحادية التي لها الحق في الاشراف على القوات المسلحة في كل العراق، أي أن يكون لكل العراق، جيش واحد، لإدارة واحدة، إلخ.. من القضايا والألغام الخطيرة التي توجد فيه (الدستور)، موضوع الفيدرالية الذي كما قلت انني معه لكن ما ورد هو أقرب الى التقسيم منه الى النظام الفيدرالي العصري، أنا قلت إني مع مبدأ الفيدرالية لأنه مبدأ عصري ومتطور، لكن الذي ورد في الدستور لا علاقة له بالفيدرالية.
أختم بما ذهبنا إليه، هل سيبقى العراق موحداً؟ هذا سؤال خطير فنظرية "شيعستان"، و"سنستان" لا أعتقد انها ستمر بسهولة، ولكنها قد تمرّ اذا ما حصل استمرار في هذا الوضع، أي ان يصبح التقسيم أمراً واقعاً. في الدول والتاريخ والعلاقات، تحدث تقسيمات وتقاطعات حادة طائفية أو مذهبية أو دينية. لقد كانت الطائفية السياسية في السابق بين السلطة وفئات سكانية واسعة، أما الشعب فقد كان بعيداً عنها، أما الآن فقد أصبحت طوائفية مجتمعية، رأسية، لعب فيها أمراء الطوائف دوراً كبيراً. وإذا تكرّست هذه التقسيمات لسنوات طويلة، وأصبح لفئات معينة بعض المصالح سيكون التقسيم أمراً واقعاً، وربما سنصل في مرحلة ما أن نطالب بالتقسيم، باعتباره أحسن الحلول السيئة، وهذا يعني ان كل الحلول ستكون سيئة، وهذا ما يريده المحتل، ولذلك قد يكون قبول التقسيم أحسن الحلول السيئة.
لعل كل الذي يجري في العراق طيلة السنوات الأربع ونصف يُراد منه أن نصل ونقول: أوقفوا الحرب الأهلية، أوقفوا الجثث المقطوعة الرؤوس، أوقفوا الإرهاب، ارحمونا قليلاً، لنقسم العراق (لا سمح الله)...، وعملياً قد يصبح الامر واقعاً، فهناك الآن "بلوكات" تطهير عرقي ومذهبي ديني.
إن مشروع جوزيف بايدن يقول " العراق ينقسم الى ثلاث تكوينات شيعية وسنية وكردية، توضع بينها نقاط للتفتيش ـ "check points"، وهذه تحتاج لها 300 ألف جندي لكي يتم تطبيقها كما يُراد أن يخصص لها مليار دولار حتى تطبق.
إن ما يجري الحديث عنه، هو ما ذهب اليه كيسنجر في الستينات أو في السبعينات، ونحن الآن نناقشه باعتباره أمراً محتملاً بعد أن كان مستحيلاً أو شبه مستحيل. كان مجرد "يوتوبيا"، ولعل ما سنناقشه بعد 15 أو 20 سنة، هو كيف الفصل بين هذه الحدود أو تلك ؟ لا نأمل، ولا نتمنى ولذلك أنا أعتقد أن عدوى التقسيم العراقي ستنتقل إلى كل بلدان المنطقة، ودعوني أسمي؛ ستنقل إلى سوريا لا محالة، ستنتقل إلى المنطقة الشرقية من السعودية، ستمر مروراً مؤثراً في الكويت لتصل إلى البحرين، وإيران سوف لا تسلم من التقسيم لاسيما المنطقة الكردية، وتركيا سوف لا تسلم في التقسيم خصوصاً المنطقة الكردية أما لبنان، فهو معوّم، ولا وجود لدولة متماسكة ويُراد تحويله الى كانتونات.
وهناك التمهيد لصراع حماس ـ فتح فهو شكل من أشكال التقسيم (قطاع غزة والضفة الغربية)، والمملكة الأردنية الهاشمية يراد ابتلاعها وقد يكون بضم الضفة الغربية اليها أو لتنتهي الدولة الفلسطينية، ونصبح أمام كونفدرالية أردنيةـ فلسطينية، وحتى في مصر، يثار موضوع الاقباط، وفي المغرب العربي لديه مشاكل بشأن حقوق الأمازيغيين وكذلك مشكلة جنوب السودان ما تزال متفاقمة، فالصورة ما تزال كالحة وشبح التقسيم الكيسنجري ما زال يخيّم على المنطقة لاسيما بعد اختلال موازين القوى على المستوى الدولي وبعد التصدعات التي اصابت الحركة الوطنية العربية بجميع تياراتها.



#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العرب ومفارقات العولمة
- القضية العراقية بين التدويل والتأويل
- الدولة العراقية: سياقات التماسك والتآكل
- اختلاس الزمن في ظاهرة الاختفاء القسري!
- البصرة هل هو ثمن الحرية!
- الهوية الثقافية: الخاص والعام
- حين يختفي الاعلامي مؤرخ اللحظة !!
- مجتمع الايتام والآرامل!!
- اللاجئون العراقيون: مسؤولية من!؟..
- شهادة حية على التعذيب في سجن ابو غريب
- الاقليات والحقوق الثقافية
- المساءلة والحقيقة في تجارب العدالة الانتقالية
- التنوّع الثقافي والشعية الدولية !!
- التنوّع الثقافي: الاقرار والانكار !
- بعد 90 عاماً: هل تعتذر بريطانيا عن وعد بلفور ؟!
- الديمقراطية : أزمة وعي أم أزمة ثقافة ؟
- دارفور وتجارة الاطفال
- المعرفة وحرث البحر
- واشنطن بين حليفين لدودين
- بلفور العراقي: حامل لوعد أم حامل لبرهان


المزيد.....




- الحرس الثوري يُهدد بتغيير -العقيدة النووية- في هذه الحالة.. ...
- شاهد كيف تحولت رحلة فلسطينيين لشمال غزة إلى كابوس
- -سرايا القدس- تعلن سيطرتها على مسيرة إسرائيلية من نوع -DGI M ...
- تقرير للمخابرات العسكرية السوفيتية يكشف عن إحباط تمرد للقومي ...
- حرب غزة: لماذا لم يطرأ أي تحسن على الأوضاع الإنسانية للغزيين ...
- كيف تُقرأ زيارة رئيس الوزراء العراقي لواشنطن؟
- الكرملين: الدعم الأمريكي لكييف لن يغير من وضع الجيش الأوكران ...
- مسؤول إيراني: منشآتنا النووية محمية بالكامل ومستعدون لمواجهة ...
- بريطانيا توسع قائمة عقوباتها على إيران بإضافة 13 بندا جديدا ...
- بوغدانوف يؤكد لسفيرة إسرائيل ضرورة أن يتحلى الجميع بضبط النف ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبد الحسين شعبان - العراق: من إرث الماضي الى تحديات المستقبل