وضاح المقطري
الحوار المتمدن-العدد: 2131 - 2007 / 12 / 16 - 11:23
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
الكتاب «إقتصاد يغدق فقراً» من تأليف: هورست أفهيلد، ترجمة: عدنان عباس علي، الناشر: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب- الكويت.
اتخذ النمو الاقتصادي في ألمانيا مساراً خطياً، بمعنى تراجع معدلات النمو من عام إلى آخر، وهو ما يشير إلى احتمال وصولها إلى الصفر مستقبلاً، وجسد النمو المتحقق في الربع الأخير من القرن العشرين نمواً في الأزمة وفقراً في القطاعين العام والخاص، وزيادة كبرى في البطالة، واتجه المجتمع الألماني إلى الانقسام على نفسه داخلياً، وتفاقمت الأوضاع سواءً بارتفاع دخول وثروات أصحاب المشاريع بمقابل تدني أجور العمال أو بقاءها عند مستواها المعهود، فنمو الناتج القومي يسير بمعزل عن الرفاهية، وبالتالي فإن الهدف المرجو من الاقتصاد (وهو تحقيق نمو في دخول العاملين بأجر) لا يتحقق في مقابل تحقق نمو في الناتج القومي الإجمالي .
كانت زيادة دخول أصحاب المشاريع الكبرى إشارة واضحة لمسيرة ألمانيا من الفقر الذي لازمها بعد سني الحرب والاحتلال إلى مجتمع الرفاهية، لكن السياسة الألمانية أثقلت كاهل العامل الأجير بتكاليف مالية مرتبطة بنظام التأمين الصحي والاجتماعي، وارتفاع عبئه الضريبي مع انخفاض دخله، في حين ارتفعت دخول أصحاب المشاريع والثروة، وانخفضت أعبائهم الضريبية .
إن السبب الرئيسي في تحميل العبء الضريبي على عنصر العمل هو المنافسة على خفض الضرائب عن كاهل المشاريع الكبرى والثروات التي تتهرب من الدفع بطرق عديدة، وقد ساهم هذا الوضع في اقتراب الطبقة الوسطى من الانهيار، والوقوع في المأزق الذي تعيشه الطبقة العاملة، ففي كفاحهم من أجل البقاء في مراكز متقدمة في السلم الاجتماعي، يخسر الكثير من أصحاب المشاريع الصغيرة رهانهم، ويسقطون في الهاوية بلا رحمة أو هوادة، وتسير الأزمة لتنشر ظلالها حتى على الشرائح الواقفة في أعلى السلم بسبب تبدد أموالهم في الأزمات العاصفة، وكان تراجع دخول المستهلكين يؤدي إلى تراجع قدرتهم على الشراء والاستهلاك، مما يؤدي إلى تناقص عدد أصحاب الثروات والدخول العالية .
تكمن أسباب تقاعس الطلب السلعي في عدم توفر السيولة النقدية للشراء، فنمو الدخول الحقيقية التي يحصل عليها العمال توقف عن مسايرة الإنتاج القومي مع ازدياد في عدد العمال بشكل كبير ليشكلوا القاعدة الشرائية التي يتم تصريف البضائع إليها، والتي يمثل جزء واسع منها بطالة غير قادرة على الشراء البتة .
إن أساس المعضلة الحقيقية هو في السوق العالمية المتحررة، وانفتاح الاقتصاد عليها بلا قيود، وبالتالي فإن كافة الإجراءات السياسية والاقتصادية غير مجدية في حل الأزمة الناتجة عن ذلك،
فثمة إجراءات مقترحة يمكنها أن تؤدي إلى قيام مجتمع الرفاهية، وإلغاء الغبن عن الطبقات الدنيا كزيادة أجور العمال، وتخفيض عبء أقساط التأمين الصحي والاجتماعي عن العمال وتحميله أرباب العمل وتمويل صندوق التكافل الاجتماعي من خلال ضريبة المبيعات، والتقريب بين صافي دخول العاملين بأجر والدخول الإجمالية التي يحصلون عليها مع الجمع بين تأمين الحد الأدنى من المعاش التقاعدي وتكوين الثروة لضمان مستقبل كريم يليق بشيخوخة العمال، وخفض الدعم المالي وغير المالي المقدم للمشاريع الاقتصادية المختلفة، وإقرار حق كل مواطن في حيازة كل ما هو ضروري لتقرير المصير، وتنمية القدرات لدى الأفراد بتوفير فرص التعليم للجميع، وحرية حيازة الموارد الاقتصادية والسلع الأساسية .
إن القول بإمكانية رفاهية اقتصاديات العالم ونمو ثروات البلدان المنضوية في إطار منظمة التجارة العالمية وهم كبير يفضحه الواقع المعاش والحقائق الواضحة، فنتائج تحرير السوق العالمية لم تؤدِ إلى تحقيق الرفاهية المنتظرة وانخفضت الأموال الموجودة تحت تصرف الحكومات من أجل إعادة توزيعها ، وتوزعت المكاسب الناتجة عن خفض التعريفات الجمركية على فئة ضئيلة ، في حين ارتفعت تكاليف البنيات التحتية كالطرق والجسور ومنشآت التعليم والصحة. إن عدم جدوى التجارة العالمية يعود إلى أن خفض أجور العمال كإجراء من إجراءات هذا النظام وهو ما يؤدي بالتالي إلى نقض النمو الاقتصادي القائم على قاعدة العرض والطلب. وكان التنافس على زيادة التصدير قد أوقع الصادرات تحت ضغوط الشروط السائدة في السوق العالمية من تكاليف إنتاج ومدفوعات الرعاية الاجتماعية، وفي أثناء ذلك قوضت التجارة العالمية سوق العمل على مستوى العالم أجمع، فنمو الصادرات يؤدي إلى نقل الصناعات إلى الدول المتدنية الأجور واستخدام أقل الإمكانيات كلفة لينتج عن ذلك بطالة في دول التصدير وعمالة مؤقتة وزهيدة الأجر في الدول النامية وأعاقت الأزمات الدورية الناتجة عن حرية التجارة نمو الاقتصاديات الوطنية .
وتتجه التجارة العالمية والأسواق المفتوحة بالعالم إلى تحكم قوى السوق في حياة ومصائر المجتمعات سياسياً واجتماعياً بتوجه سياسات الحكومات لما يناسب مصلحتها أي “قوى السوق” وقيادة الشعوب خلف مشيئة الشركات العابرة للقوميات والقضاء على الحرية والديمقراطية وهذا كله على عكس ما يتم زعمه من تحقيق الرفاهية وازدهار الحرية والديمقراطية.
إن انفتاح الأسواق العالمية أدى ويؤدي إلى تنميط العالم حسب قدرة الشركات على الوصول إلى الأسواق المحلية، فأفلام هوليود اليوم أكثر مشاهدة وربحية في أسواق السينما على مستوى العالم، ، وأصبحت والت ديزني والكوكا كولا والجينز هي الأشكال المهيمنة على ثقافات العالم المتعددة بكل خصوصياتها، ... اختفت المئات من أنواع المنتجات الزراعية والصناعية في مناطق شتى لصالح منتجات أقل تكلفة وأزهد سعراً تتواجد في كل الأسواق بفعل قدرتها على الوصول بيسر وسهولة، وأكثر من ذلك ساعد هذا الانفتاح على زيادة كبيرة في تلوث البيئة وتضرر الأراضي الزراعية بالمبيدات الحشرية الخطرة وانتشار النفايات وارتفاع نسبة الاحتباس الحراري للارض .
وفي هذه المشكلات العصيبة فإن قيام الدول النامية بحماية قطاعاتها قد يكون حلاً جذرياً سيؤدي إلى تقسيم الاقتصاد العالمي وتفككه إلى اقتصاديات إقليمية، ما سيدفع إلى نشوء تكتلات اقتصادية تلعب فيها الدول المتشابهة في ظروفها الاجتماعية والاقتصادية دوراً هاماً في الاقتصاد العالمي وتوجهه لخدمة مصالح شعوبها .
كما أن قيام أوربا بإنشاء قطب عالمي آخر مقابل القطبية الأمريكية لا يحد من الهيمنة الأمريكية على العالم فحسب بل ويعزز - نوعاً ما – من الديمقراطية العالمية ويصب في صالح الولايات المتحدة نفسها حسبما يؤكد هنري كيسنجر ذلك .
يمكن لشروط اجتماعية خاصة أن تحقق ضماناً لحقوق العاملين في العالم أجمع وذلك لخلق فعالية في الطلب السلعي بالرغم من أن حكومات الدول النامية تعارض مثل هذه الشروط متحججة بارتفاع مكنة الإنتاج، لكن الحقيقة هي أن هذه الشروط ستؤدي إلى إعادة توزيع الإيرادات لمصلحة العمال والمحرومين ، فهذه الحكومات تقوم بتوزيع الإيرادات توزيعاً يحابي الجهات والعشائر التي تنتمي إليها، ما سبب ويسبب الحروب والنزاعات الأهلية في البلدان النامية ولهذا لا بد أن تساهم كل الفئات المشاركة في الإنتاج والمستفيدة من إعادة التوزيع العادل في اقتراح الشروط الاجتماعية الخاصة بضمان توزيع الإيرادات والموافقة عليها لضمان حقوق الشرائح الأشد فقراً.
ضرورة هذه الإجراءات تتمثل في كونها تمثل صالح الفئات الأكثر بؤساً، وإمكانية خلق طلب سلعي جديد في البلدان النامية من خلالها وقيامها بالحيلولة دون تقليص شبكة التكافل الاجتماعي في الدول الصناعية، بيد أن خصوصية كل إقليم تقتضي أن تتناسب هذه الشروط والإجراءات المتخذة مع هذه الخصوصية وهو ما يعني تقسيم العالم اقتصادياً وفق معايير هذه التدابير المتخذة .
#وضاح_المقطري (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟