أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - وديع العبيدي - (الفارزة بين القاعدة والاستثناء)















المزيد.....



(الفارزة بين القاعدة والاستثناء)


وديع العبيدي

الحوار المتمدن-العدد: 2120 - 2007 / 12 / 5 - 11:42
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


الصورة والفراغ

في علم المتضادّات، تنبع قيمة الشيء من أهمية وجود الندّ أو الضدّ. وهي أبسط درجات الاستعراف في تمييز الأشياء وتحديد السلوك والاتجاهات. قيمة النور مرتبطة بوجود الظلمة، ولولا الأخيرة ما أمكن تمييز الأولى. تحسّس الفرح والسعادة نابع من واقع الآلام والشقاء، وكذلك.. قيمة الجمال من القباحة، والحلاوة من المرارة،والتسهيل من وجود المصاعب، والانسانية من الوحشية، والعدل من الغبن، والنبل من الضعة، والارتفاع من الانحطاط، والاستقامة من الانحراف، والمحبّة من الكراهة، والعفو من الانتقام، والاحسان من الإساءة، والخير من الشرّ. ليس الموضوع هنا أيهما السابق أو اللاحق بالمفهوم الفلسفي الوجودي، وانما فائدة التوقف لإدراك جدلية الأشياء، طريقاً لتوليد فكرة جديدة أو طريقة مختلفة لفهم الحياة والعالم.
*
نسبية الأشياء
في ضوء الثقافة التقليدية الميكانيكية، يتم تصوير الأشياء على أنها ثوابت مطلقة، وبالتالي، ينبغي الاحتياط من بعضها والابتعاد عنها، واقتناء الثانية والترويج لها. وقد كان من أثر هذه التربية، توليد عجز بنيوي في عقلية الفرد ونفسه عن تعلّم المرونة في التعامل مع البيئة والحياة. هل ثمة شرّ مطلق، وخير مطلق؟.. هل هناك شخص شرير تماماً، وشخص بارّ نزيه تماماً؟.. هل هناك جيّد بكل المعاني، وسوء بكل معانيه؟.. إذا كان هذا الافتراض ممكناً، فكيف يمكن تصوّره ماديا وفيزياويا!.
*
تمرين في القياس
إذا كان العقل آفة البشرية، بسبب مسؤوليته عن اختلاف الأفهام، فأن آفة المعرفة هي عدم النضج العقلي، ومعضلة الأخير نقص التجربة وعدم امتحان الطروحات. في النص التاريخي تلصق صفة الشرّ بمدن وشعوب معينة، بينما يوصف الخلاص على يد أخرى. فقوم لوط فاسدون، وسدوم وعمورة مسكونة بالشرّ، وبابل توصف بالزانية المارقة، ولا زال أغلب الناس ينظرون إلى الفكرة أو النظرية أو الفلسفة أو الديانة أو الحضارة – الفلانية، على أنها خير وكمال وحقيقة بالمطلق، أو شرّ ونقيصة وانحراف بالكامل. الصحيح لا هذا ولا ذاك. لقد كان من مثالب المنطق الميكانيكي الجامد هذا، تنزيه الكثير من المفردات عن مستوى المناقشة والتجريب وإعادة التقييم في ضوء المستجدات المتغيرة، إزاء إشباع مفردات أخرى قدحا وذماً ورجماً. ان امتياز العلم على الفلسفة، هو في اعتماد التجربة، سواء المختبرية أو الاجتماعية التطبيقية ، ما حقق النقلة المدنية والحضارية لمجتمعات اليوم.
*
مسؤولية الفرد في بناء مواقفه الفكرية والسلوكية
لكل شخص ملايين كافية من خلايا المخ القابلة للتوظيف في اتجاه فهم العالم والحياة، ولديه القدرة الفيزياوية الذاتية والموضوعية لوضع مفردات الحياة موضع التجريب والمماحكة والامتحان، لفرز ما ينفع وما لا ينفع. هذا المبدأ هو المعوّل عليه قانوناً في لوائح الأحكام الجزائية. لكن الفرد المحكوم، وان كانت قدراته الجسدية ساهمت في اقتراف جناية، فأن الجوانب النظرية للجريمة لم تنتج من ذهنه المحض ولا بنات تفكيره. وهو في هاته الحال، يتساوى مع حالة العبد الذي يوجهه سيّده أو شاريه لتنفيذ عمل معين، دون إتاحة الحرية له للتمييز بين الجوانب السيئة أو الحسنة للعمل ودراسة صعوبات ومشاكل التنفيذ. فإذا مات العبد أثناء ذلك، لا يتأثر السيّد، وانما يشتري عبيدا جدداً. أما العبد نفسه، فليس له حقوق أو ذات، وقيمته استعمالية، مثل الراديو والسيارة والحمار. ان مفردات الحياة العصرية معقدة ومتشعبة للغاية، وهذا يتطلب من الفرد جهوداً متواصلة لتنمية قدراته العقلية والمعرفية لامتحان الأشياء، وتوظيفها بالشكل الأمثل لتحقيق الفائدة المرتجاة، أو تحديد علاقاته في قطاع أو قطاعات محددة، يجد نفسه أكثر مقدرة وخبرة في التحرك خلالها. أما قبول الأشياء، بنمط قطيعي وتقليد الآخرين، فهو اسهام فاعل في صناعة الخراب.
*
الحضارة والاستهلاك
التنوع والغنى الذي تقدمه الحضارة التكنولوجية والإلكترونية المعاصرة، أوقعت موجات متزايدة من البشر في حالة من هوس مرضي [mania] لحيازة كل شيء جديد وتداوله والالمام بجوانبه. فالهاندي اليوم لم يعد حاجة استعمالية عند كثيرين، وانما جزء من حركة الموضة التي تتكشف بين موسم وآخر عن جيل جديد وصرعة جديدة، سرعان ما تدفع هؤلاء النفر للتبارز والسباق لاقتنائه والتظاهر به بطرق صبيانية محزنة. فالعلاقة مع هذا الجهاز تجاوز البعد الاستعمالي إلى البعد النفسي أو الاجتماعي الترفي. مثل الهاندي اليوم مثل الحذاء النسائي الخاضع لأنواع المناسبات والثياب والفئة الاجتماعية ونوع العمل أو البرستيج. وكما حرص المنتج الاقتصادي على التلاعب بنفسيات المستهلكين لتخصيص انتاج يوافق رغبات جنسية وعمرية، أنثوية أو ذكورية، كالثياب والأحذية والسجائر والسيارات والأقلام، كذلك منتجو الهاندي يوجهون منتجاتهم لتوافق رغبات أنثوية شكلاً أو لوناً. وفي حقائب أو خزانات الكثيرين والكثيرات أعداد وأنواع مختلفة من أجهزة الهاندي، يجري استبدالها وتجديدها مثل الأحذية وما دون ذلك.
*
أهمية الفراغ في اللوحة
يؤكد علم النفس الجمالي على أهمية وجود الفراغ والمساحات البيضاء في مشهد اللوحة. واللوحة هنا، يمكن أن تكون، هي الحياة أو العقل أو المناسبة العامة أو المدينة أو البيت أو العلاقة مع أية فكرة أو ظاهرة. هذا الفراغ ضرورة نفسية، مثل الاستراحة بين الدروس، أو الحديقة المنزلية، أو البوفيه في مكان العمل، أو المزاح خلال المحادثة، أو نقطة العري خلال الثوب.
ان الانقلابات الكبيرة في المجتمع، تنتج من بيئات متزمتة، وبالشكل الذي دفع البعض إلى تأويل الواقع حسب جدلية التضادّ والنقائض، والتي تشكل الركن الأساس لتفسير ماركس للتاريخ. من الظواهر التي جذبت انتباهي مبكراً، سبب انتشار أفكار الشيوعية في جنوب العراق، وفي أكثر البيائات الدينية تشدداً مثل النجف. ومن بيوتات علماء دينها ظهر منظرون وقادة بارزون في الحزب الشيوعي العراقي. وفي ضوء التشدد الديني الذي يحكم العراق والمنطقة هذه الفترة، من المتوقع أن يحل ربيع شيوعي واسع النطاق في المنطقة، يحمل للناس وعوداً وآمالاً خضراء بعد شتاء ديني قارس. دوام الحال من المحال. ومهما اضطرم وقع السيوف وعنعنة الشعارات فمنطق التاريخ وجدلية التطور والضرورة الحياتية هي التي تحسم اختيارات الواقع. ان البيوتات السرية تحتفل بالموسيقى المحجوبة في وسائل الاعلام، وفي الحجرات الداخلية حلقات رقص شرقي وغربي، بعيداً عن حلقات الصلاة والمحاضرات الدينية وتعاليم الأخلاق المجوفة. أما البارات والمباغي الممنوعة في أعراف بعض البلدان، فقد وجدت لها مكاناً داخل البيوتات. والحقيقة.. أن ما لا تجده في العلن، يوجد في السرّ ووراء الستور.
*
أبناء مطيعون وآباء مخدوعون
أحد الأشخاص الذين عرفتهم ذات يوم، كان محطّ احترام وفخر المجتمع في مدينته. وقد امتدحه والدي لي مراراً، عسى أن أتخذه أسوة. أما الأكثر طرافة فهو فخر والده المنقطع النظير به. وبالملخص المفيد، كان مقام هذا الشخص، في تلك البيئة المحدودة، أقرب لمكانة نبي!. دالة المديح والفخر هي الاستقامة والرزانة، ودالة الاستقامة هي الطاعة، ودالة الطاعة الخجل من الوالدين والأكبر سنا. مع مرور الأيام، سرت دعاية أن الشخص هذا يدخن، ووصل الخبر لأسرته، لكن الأسرة في تحرياتها ومراقبتها لم تجد ما يؤكد الخبر. كبر الشخص وصار رجلا بين الرجال، وتخفف من كثير من مظاهر التردد والخجل في شخصيته. اكتشفت والدته أنه يدخن. وأقنعته والدته بالتدخين في البيت كي تدخن معه. أما الأب فلا يعرف شيئاً. وذات يوم، بينما الأبن جالس في البيت يدخن، إذا والده يعود ومعه بعض الضيوف. فما كان من الأبن إلا أن يدسّ السيجارة المشتعلة في راحة يده ووقف يكلم والده ويحيي الضيوف. نسي الشاب الوديع أن للسيجار رائحة مقرفة، سيما عند من لا يدخن، وقد احترقت يده فصار يلوي بها مختاراً دون أن يعتذر للذهاب إلى المطبخ أو أي مكان يتخلص فيه من السيجارة وآثارها. عندما انصرف الضيوف، وبخت الأم زوجها على قسوته مع أبنائه، وأخبرته أن قسوته جعلت الأبن يحرق يده ولا يجرؤ على الكلام أو المغادرة. تألم الأب لما حصل لأبنه، ولكنه صار أكثر سعادة وفخراً به. وأضيف للحكاية سطر جديد، أن الأبن رغم تدخينه وبلوغه مبلغ الرجال، فهو يخجل من التدخين أمام والده، ويمسك عن الكلام في حضرته. تزوج الأبن وانصرف إلى حياته وطلبت زوجته السكنى في بيت منفصل منذ البداية وانفصل عن ذويه ودخل الحياة الحزبية مع الداخلين وصار له شأو في ذلك، وانتهت تلك الاسطورة من الواقع. أما في ذاكرة الأب والقريبين منه، فاستمرت تتردد باحترام كأي قصة تاريخية من قصص الأولياء والصالحين.
*
أهمية التعدد والاختلاف في التربية
من إرث التربية التقليدية النهي عن بعض الممارسات المعتبرة مما يخل بالأخلاق أو البناء السليم للشخصية، كالمزاح، أو اللهو، أو ممارسة بعض الهوايات البريئة. ان أحادية التربية المتشددة، أنتجت أفراد ذوي شخصيات أحاديّة، لا تميل للمزاح، أو لا تجيد بعض التسالي أو السباحة ولعب الكرة وغيرها من الرياضات، جراء النظرة السلبية للرياضة والفنون فيما سبق. وغالبا ما يكون بين الجماعة شخص قليل الكلام، يجلس منزويا بينما زملاؤه يلعبون النرد والدومينو. مما يشكل مع تطور الشخصية وتراجع نشاطه الاجتماعي في المجاملات والمشاركات العامة عقدة انطواء وعزلة. بل أن أحد أسباب العزوبية الدائمة أو العنوسة هي التربية الاجتماعية غير السليمة، التي تورث الشخص أفكاراً مشوّهة أو عقدة نفسية أو خلقية تتضخم وتحجم صاحبها عن الموضوع. قد يكون من المستغرب في هذا المجال، أن تكون التربية الخلقية المتشددة سيما في جانب الجنس والأنثى، سبباً في نفور الشخص من هذا المجال للأبد. وحتى عندما يكبر الشخص ويكتشف خطل تعاليمه وتفاهة تلك الأفكار، تتشكل لديه عقدة مازوخية للانتقام من الذات لتصديقه تلك الأفكار أو النكاية بأهله عبر تعذيب نفسه، وحرمانهم من (الفرح) برؤية أطفاله وحياته الأسرية.
*
أخطاء تنتج أخطاء
بعد السبعينيات ازدادت، على نحو غريب، أهمية كرة القدم وبعض الأنشطة الرياضية، وصار لها نوادي واتحادات، تحول لاعبو المنتخبات إلى نوع من أبطال قوميين مثل المغنين وفناني السينما ورجال السياسة والدولة. وانجرفت قطاعات متزايدة من الناشئة للرياضة، على حساب الدراسة والتحصيل العلمي والتأهيل المهني، بحيث تتمنى بعض العوائل علنا أن يتميز أبناؤهم في الرياضة ويحترفوا لكسب الملايين مثل فلان وعلان. هنا تقدمت المادة والتجارة على الأخلاق والقيم الاجتماعية التي تراجعت كثيراً مع الانفتاح وغزو الثقافة الأمريكية. بالمقابل جاء ظهور الألعاب الألكترونية اليابانية في البدء والأمريكية من بعد عبر الأنترنت والتكنولوجيا الحديثة، لتوليد أجيال من الناشئة، لا يستغنون عن تلك الألعاب، وليس في أذهانهم وحياتهم غير قصص الألعاب وطرائق معالجة العدو واكتشاف الكنز التي لا تخلو من عنف وقسوة، مقترنة بالموسيقى العالية وأغاني البوب الخالية من النص.
*
في المجال التربوي
من البدهيات الاجتماعية اقتران ظروف الكوارث والنكبات والحروب بظهور نزعات دينية وميول للتدين والخشوع. وطالما كان عدم الاستقرار واستمرار نقاط التوتر والحروب المختلفة سمة من تاريخ الشرق الأوسط، وجدت الحركات الدينية لها بيئة خصبة لاحتلال عقول العامة وتوظيف قناعات حول اللعنة الالهية وابتعاد الانسان عن العبادات والتسبيح. متناسين أن الحروب والعنف الاهلي وعدم الاستقرار صفة لاصقة بالمناطق ذات المراكز الدينية، ناهيك عن دور الصراع الديني في تأجيج الخلافات بين الاهلين وتثوير العنف ودعمه ماديا وايديولوجيا. وفي أيام حرب الثمانينيات انتشرت طقوس الصلاة بين الناس بما فيهم الأطفال، حسب مبادئ التربية (الاسلامية). ذات يوم جاء الطفل (س) وقال أنه يتوقف عن الصلاة. فقيل له كيف .. ألا تخاف من عذاب جهنم؟.. لكن الطفل العراقي أجاب بهدوء: لقد صليت وأنا أريد أن أصلي، ولكني الآن في بداية عمر المراهقة، وأريد كذلك أن أتعلم بعض الأشياء وأمارس أعمال لا تنسجم مع الالتزام الديني، ولا أريد أن أعيش محروماً في هذه الحياة أصلي وأصوم بينما الحياة تجري من ورائي. سأترك الصلاة بعض السنوات.. وعندما أكبر وأشبع من الحياة سأصلي وألتزم. لأني لا أريد أن أكون منافقا، فأصلي أمام الناس، ومع نفي أمارس أشياء غير مقبولة. حالة هذا الطفل تلخص وضع آلاف الصبية المجبرين على أداء طقوس معينة بالقهر والتلقين، دون أن يتاح لهم فهم شيء من الحياة ومن طبيعة الديانات المفروضة عليهم. وإزاء تحكم نزعات البشر، يقع كثير منهم في طريق الرياء الاجتماعي والديني، جامعين بين الدين والرذيلة، والالتزام بالطقوس، وممارسة الأساليب المنحرفة في المعاملات اليومية.
*
العقلانية والاعتدال والتنوع
ديكور المنزل واللوحات المعلقة فيه وأنواع البث الملتقطة بالتلفاز والأغاني المبثوثة في جهاز التسجيل وطبيعة الأحاديث الدائرة في جلسات العائلة، حتى طرائق اختيار الثياب والعلاقات الاجتماعية، تلعب دوراً مهما في توجيه ذوق الطفل وتوجيه سلوكه الشخصي والعام. فالحياة المتزمتة في الثياب والعلاقات الجامدة والعزل بين الجنسين أو عدم الاختلاط مع بعض الناس بسبب اللون أو القومية أو الدين أو المذهب، بذور خصبة لتنمية آفات اجتماعية وشخصيات منحرفة مشوّهة، تستمر آثارها في المستقبل، وتلقي بتبعاتها وآلامها على الأشخاص أنفسهم وذويهم ومجتمعاتهم.
فالأحرى بالناشئة الانتباه لأنفسهم، وبالعائلة الاهتمام بمناهج تربية منفتحة بعيدة عن الانغلاق والجمود والشوفونية، تشجع التنوع ولا تخشى الاختلاف، وتؤهل الطفل لمواجهة المواقف والحالات المختلفة، بشكل ايجابي مع نفسه ومع المجتمع. بل أن دور العائلة أكثر أهمية اليوم، في ضوء الرداءة التي تعمّ وسائل الاتصال وتروج لها السياسات العامة، مما يتطلب حصانة مضاعَفة من الشخص، لمواجهة الانحراف، وعدم السقوط في الخطأ.
*
ميزة الربيع بين الفصول
ما الذي جعل للربيع هذه المكانة المغرية في ثقافات الشعوب المختلفة؟. هل الدفء وحده ما يغريهم فيه؟.. أم الاعتدال؟.. أم التنوع والتعددية؟.. يتسم الشتاء بالبرد والثلج والمطر على طول الخط، ويتسم الصيف بالقيظ وسكونية الهواء، بينما ترتسم ملامح الذبول والجفاف على وجه الخريف. الربيع وحده يتفنن في صوره وخصائصه، في اعتدال الحرارة والبرودة وتنوع ألوان الاشجار والطبيعة، واختلاف حركة الرياح. وليس مصادفة اختيار فصل الربيع مبتدأ للتقاويم لدى المجتمعات المختلفة، فماذا نتعلم من الربيع. لقد قلّد الانسان الأول الشتاء في بردوته وجموده، والخريف في عواصفه وخشونته، والصيف في التهاباته وحرائقه، فكان التطرف والمبالغة سمة للانسان الأول والمجتمعات البدائية، فما أحرى الانسان المعاصر التعلم من الربيع وخصائصه في الجمال والاعتدال والتنوع والرقة، لابتداء تقويم جديد في تاريخ البشرية.
*
المبالغة والانحلال
كانت التربية التقليدية تقوم على المبالغة في التزام القيم وتلقين المثل البطولية في تنشئة الأسرة. فيتعلّم الفرد نصف الحياة ويعيش نصف المجتمع، حتى إذا خرج من إطار العائلة وتجاوز حدود قريته ومدينته، انكشف في داخله فضول رهيب وجوع فظيع للنصف المحجوب عنه، والذي يزداد ادراكا به ووعيا له كلما كبر في السنّ ونما في التجربة، فيكشف عن ضعف الشخصية وجوعه الأبدي، لممارسة الممنوعات، إذا لم يتضخم الأمر ويتحول إلى حالة مرضية، يسرف فيها في الجنس والخمر والتحلل حتى يدمن الخراب وينتقم من نفسه ومجتمعه وحياته. أما اليوم، ومع إعادة اكتشاف بعض الناس للدين، صار تعويل التربية الراهنة على تلقين العادات والتعاليم والطقوس الدينية، باعتبارها الطلاسم والتعاويذ التي ترفع أطفالهم إلى مراتب الصالحين والتقاة وتنقذهم من تحلل المجتمع وعذاب الجحيم، متناسين ما تورثه هذه المبالغة والتطرف من كبوتات نفسية وذهنية تترجم نفسها في العقل الباطن للشخصية، وتتبلور إلى أفكار عصابية وسلوكات مناقضة متعاكسة، وتفرز شخصيات تعاني من الازدواجية والنفاق. وتشتهر المراكز الدينية بمظاهر التدين الزائف والتحلل الباطن، والدعارة المحجبة، فتنعدم الثقة خلال المجتمع وتتزداد نزعة التمرد والانقلاب الخلقي والذهني وحالات الهلوسة والجنون والعقائد المنحرفة. ان الجدية الزائدة عن حدودها لا تختلف في مساوئها عن المزاح الزائد عن حدّه. ومثل ذلك كل شيء. فالاعتدال والحرية والانسجام هي المبادئ الحقيقية للحياة والنشأة الصالحة. ولا بدّ من احترام الفراغ داخل الشخصية . ان الخوف يقود إلى المخوف. والحرص الشديد يقود إلى الكارثة. فما أحرى المجتمع والمؤسسة الاجتماعية والدينية والدولة والعائلة، أن تترك مجالاً للفرد في لوحة التربية والتعليم والرعاية، للاعتماد على نفسه وتجربته الشخصية وتنمية ذائقته الشخصية وأفكاره الخاصة بدل توريثه كل شي من الوالدين والمؤسسة الاجتماعية، فيضطر للتمرد عليها والميل للنقائض، أو التمرغ في الضياع. لنترك الطفل والطفلة تسلك طريقها بنفسها ونقدم لها الرعاية والحماية والمحبة عن بعد، فتزداد العائلة والمجتمع تماسكا وقوة في بناء الأفراد، بدل الهشاشة والتردد والضعف الذي يميز مجتمعنا المعاصر.
*
(Die Natur rächt sich)
رغم بعض التفاسير التي قدمتها علوم الفيزياء والكيمياء والطب لحالات الاضطراب أوالتغيرات المفاجئة التي تطرأ على الطبيعة والكائن الحيّ، فأن هذه التفاسير لا تتمتع بقوة الاقناع العقلي دائماً، كما أن ثمة كثير من الظواهر العيانية وغير العيانية التي لما تزل خارج التفاسير، وعصية على اللاستيعاب، ليس في الطبيعة الفيزياوية والوجود الكوني، ولكن كذلك في الطبيعة البشرية والحيوانية وانفعالاتها وانقلاباتها الفسلجية والنفسية والفكرية، مما يضع الانسان المعاصر، اليوم وغداً، في نفس موقف الغموض والعجز الذي واجه الانسان الأول أمام العالم والكون. بالامكان استذكار الانفعالات البسيطة أو زعل صديق بدون سبب واضح أو تصرف غير متوقع من أحد أفراد العائلة، أثر سوء فهم أو تصرف غير أو كلمة غير مقصود حسب المتداول اليومي، لكن بالامكان تذكر او تصوّر حيوان أليف (Pet) منزلي على حين غرة، رغم ما يعرف به من وداعة، نفس الأمر ينطبق على الطبيعة في انهمار مطرة شديدة في موسم الصيف أو بردة قاسية خلال القيظ و موجة حر داخل الشتاء، أو ظاهرة الاعاصير (Hurricane, Orkan)، والفيضانات (Flood, Flut)، والبراكين (Volcano). ان بعض التغيرات الطبيعية لا تسفر عن آثار ضارة، فيما يترك بعضها آثار مدمرة محدودة أو عامة، ومنها ما يكون آنياً سريعاً أو يستمرّ أياما وأسابيع كالأعاصير الأميركية أو بعض البراكين. ولا زالت في الاذهان آثار تسونامي الكبيرة. أما مضيق برمودا داخل الفضاء الأرضي فلما يزل ظاهرة غريبة وعصية على التفسير والتعليل، رغم وصفها العلمي بمنطقة (تعطل الجاذبية) مما يؤدي إلى اختفاء المواد التي تقترب منها. بعبارة موجزة، أن الانسان، مهما تعلّم وتعمق في العلوم والمعارف، العقلية والروحية، فهو بعيد عن الكمال والمطلق، بل أنه يجتهد ويراوح في الصفوف الابتدائية الأولى في مدرسة الكون، رغم كل ما يعتريه من ضَعَفات توهمه ببلوغ المطلق أو الفهم الكامل، كالفكر الهيجلي عندما اعتقد أنه وجد تفسيراً لكل شيء، جاعلاً نفسه هدفاً لانتقادات عنيفة من مهاجميه أمثال شوبنهاور وترندلبرج وماركيوز وكيركجورد، ما مهّد لانعطافة الفلسفة للاهتمام بـ(الوجود المادي العيني للانسان)، ممثلة بالفكر (الفلسفة الوجودية)، أو (أن الفلسفة قد وصلت إلى نهايتها) حسب تعبير البعض. وهذا لا يعني بحال، تفوقاً للعلم، أو امتيازاً للدين. استمرار الغموض وحالة اللغزية نقل البحث العقلي إلى الميدان الاجتماعي والوجودية الانسانية.
لقد دأب العقل البشري منذ بداياته الفطرية والتأسيس الاغريقي للمعارف على ترسم قوالب ومناهج لتعريف ودراسة الظاواهر المختلفة، ولكننا نجد هذه القوالب والمساطر اليوم، عاجزة عن تقديم أجوبة عصرية لمسائل الحياة والكون، مما يضعنا أمام ضرورة جديدة تمنح الاستثناء مفهوما أكثر فاعلية ومساحة مما ذهب إليه الفكر الانساني حتى الآن. وهو مغزى هذه المداخلة، في بعديها الوجودي والانساني، أو الكوني الأصغر والأكبر. هذه الضرور والأهمية لا تقتصر على تقنية الفهم، وانما أكثر ذلك في بعدها التربوي وثقافة البيئة الاجتماعية، لاستيعاب الاستثناء في الفكر والسلوك كظاهرة (ضرورة) مطلوبة لتقليل حجم الأضرار التي يدفع تراكمها في العقل الباطن إلى سلسلة مآسي اجتماعية ومادية. من الأمثلة القريبة والملحة هنا، ظاهرة الاعتداءات (والجرائم) الجنسية على صغار السن وكباره خارج الوازع الاجتماعي الخلقي والقانوني، أو ظاهرة التحلل الأسري والاجتماعي المستشرية في مجتمعات كثيرة متهمة بالمحافظة والنظام الخارجي. والنتيجة التي لا يريد أحد تصورها هو انهيار مجتمعات وثقافات محلية واقليمية بحالها، في فترة قريبة، جراء عجزها عن استيعاب الاشكالات الاجتماعية والاسئلة الفكرية المعاصرة والمتزايدة في إذهان الناشئة الجدد، ووضع المعالجات المناسبة لها. لا العلم ولا الفلسفة والدين ولا السياسة، قادرة على تحدد الوجود الكوني أو الانساني في قوالب لغوية وعقائد محدودة، وهو ما تتكشف عنه الحكمة الألمانية ((Die Natur rächt sich))، أي أن الطبيعة تثأر لنفسها، في حال الظواهر الاستثنائية الخارجة على العادة في سلوك الطبيعة الحية. وهذا يستدعي التخلي عن التزمت والعصبيات والغرور والعنجهية والأنانية وما على شاكلها في إطار السلوك النفسي والاجتماعي، سعيا إلى مرونة فكرية ، وتسامح اجتماعي سلوكي، ومزيد من الفهم المشترك والتحمل (patience). جوهر السؤال هنا، ليس في مدى الجدوى الحقيقية لكثير من المبادئ والقيم والأعراف الاجتماعية التي تصل إلى درجة التقديس أحياناً، ولكن، فيما كان يمكن احتمال (التزام) تلك الأعراف والمباديء على خط مستقيم بدون (استراحات) وهدنات واجبة. الحرب تتخللها هدنة، والعمل يتخلله (استراحة)، والكلام يتخلله (صمت)، واليقظة يتخللها (نوم)، والفرح يتخلله (حزن)، والحزن يتخلله (فرح). الانسجام يتخله (اختلاف)، والكراهة يتخللها (حب)، وكم من قصص الحبّ ابتدأت بخلاف، والعكس بالعكس. التغير والتفاوت والتبدل والتلون من صفات الطبيعة كيميائها وفيزيائها، فما أحرى الانسان أن يتخذ من هذا قاعدة ودرساً بدل الاستغراق والمبالغة في مثالية جوفاء وقيم مجردة لا تناسب الجسد والنفس والطبيعة الكائنة بذاتها والسائرة بإقنومها، فإذا تعرضت للاضطهاد والكبت، تمردت وثأرت لنفسها.
*
الكرنفال.. الخروج من المدينة والنمطية
منذ مراحل مبكرة في تاريخ المجتمعات، ابتدع كل جماعة لأنفسهم وقتاً، يتعطل فيه نظام العمل والطقوس اليومية المعتادة، وتترك فيه كل نفس على سجيتها. في الكرنفال يتحلل الناس من القيود والعادات الاجتماعية ومن مشاعر الخجل والتنافس والتفاخر، الثياب العارية والتشبه بالحيوانات أو طقوس قديمة أو غريبة، والاستغراق في الرقص والموسيقى والغناء والاختلاط المفتوح. في بعضها يخرج الناس من المدينة إلى خارجها أو يدورون في أصقاع معينة ومن أشهرها في الغرب، الفاشنغ والهللويين وعيد الحبّ. وهي متعارفة في أوربا وأميركا اللاتينية وأفريقيا وتفتقدها الثقافات الأسيوية عموماً، مما وسم تلك الشخصية بالخجل والكبت والرياء. السفر، واجب من والواجبات التي على المرء اعتيادها مرة أو مرات محددة في العام، لزيادة بلاد أخرى، يتحلل بها من أعباء العمل والمجتمع وتبعاته الشخصية. فمغزى السفر هو التحلل والارتياح (relaxation) ، ومنح مساحة أكثر للغريزة والعاطفة والبديهة في الحياة والسلوك، مما يمنح الفرد جرعة تنشيطية تعيده طازجا ممتلئ البطارية لمواصلة الحياة العادية والعمل الاقتصادي، في انتظار موعد التنشيط اللاحق. وبالمقارنة، تم الاستعاضة عن الكرنفال بظاهرة (الأعياد الدينية) المحملة بالطقوس الثقيلة التي أثبتت بلادتها ورياءها مع مرور الزمن، وعجزها عن ترويح أهلها أو تشجيعهم في معاودة الحياة العامة. المناسبات والأعياد الدينية طقوس جامدة مكرورة تزيد من رتابة الحياة وطابع السأم واليأس من التحرر والتغيير، مما جعل الناشئة ينفرون منها ويسخرون. بل أن كثيرا من أمثال تلك المناسبات افتقدت مضمونها الفكري والروحي والاجتماعي واستحالات إلى طقوس جامدة وأعباء ثقيلة يمارسها البعض بحكم العادة (الموضة) أو الخوف والرياء الاجتماعي. وقفة للمراجعة والعقلانية والنظر للحياة والطبيعة بنقاء وحرية لاكتشاف الجمال الكامن في كل شيء والمحبة كلغة للوجود.
*



#وديع_العبيدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الوجودية والعولمة
- ظاهرة الاغتراب في نصوص مؤيد سامي
- بقية العمر
- ليلة ايزابيلا الأخيرة
- مستقبل المرأة الرافدينية وقراءة الواقع
- قاع النهر قصة: الفريد بيكر
- أبي / هيلكا شوبرت
- توازن القطاعي في النظام المعرفي العراقي..!!
- صورة جانبية لأدورد سعيد
- من الشعر النمساوي المعاصر- كلاوديا بتتر
- أوهام الضربة الأميركية لايران
- النوستالجيا.. الطمأنينة والاستقرار
- الفرد والنظام الاجتماعي
- الاغتراب في ظل الإسلام
- من الشعر النمساوي المعاصر- بيرنهارد فيدر
- أحلام مكيسة
- Shadowsظلال
- محمد علي الباني رائد تحرر المرأة العربية
- نكايات
- الجنس والجسد والزواج


المزيد.....




- صياد بيدين عاريتين يواجه تمساحا طليقا.. شاهد لمن كانت الغلبة ...
- مقتل صحفيين فلسطينيين خلال تغطيتهما المواجهات في خان يونس
- إسرائيل تعتبر محادثات صفقة الرهائن -الفرصة الأخيرة- قبل الغز ...
- مقتل نجمة التيك توك العراقية -أم فهد- بالرصاص في بغداد
- قصف روسي أوكراني متبادل على مواقع للطاقة يوقع إصابات مؤثرة
- الشرطة الألمانية تفض بالقوة اعتصاما لمتضامنين مع سكان غزة
- ما الاستثمارات التي يريد طلاب أميركا من جامعاتهم سحبها؟
- بعثة أممية تدين الهجوم الدموي على حقل غاز بكردستان العراق
- أنباء عن نية بلجيكا تزويد أوكرانيا بـ4 مقاتلات -إف-16-
- فريق روسي يحقق -إنجازات ذهبية- في أولمبياد -منديلييف- للكيمي ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - وديع العبيدي - (الفارزة بين القاعدة والاستثناء)