|
السمكة الفضية
جمعة كنجي
الحوار المتمدن-العدد: 2075 - 2007 / 10 / 21 - 09:36
المحور:
الادب والفن
تجمع الأولاد في ساحة القرية . غدا ً يصادف الجمعة .. إنه يوم عطلة ، فأين يمضون عطلتهم ؟ وكيف ؟ . تناقشوا في الموضوع ، طرح كل طفل رأيه ، كانت آراءً صغيرة بلا معنى - من وجهة نظر الكبار - لكنها كانت في إعتقادهم آراء كبيرة وعظيمة الأهمية . قالت لمياء: - أحب أن نذهب غدا ً إلى الجبل لنجمع الورود البرية . وقال مخلص : - أنا افضل أن نرافق أمهاتنا وهنَّ يذهبن لحلب الغنم في البرية . وقال أميل : - لقد صنعت مصيدة جيدة. وأنتم أيضا ً تستطيعون أن تصنعوا مثلها . فلم َ لا نذهب لصيد العصافير ؟ إعترض خيري: - بابا يقول بأن صيد العصافير عادة سيئة .. فماذا فعلت هذه المخلوقات الجميلة لنقتلها ؟! . وأردف شامل : أرى أن نذهب إلى شاطيء النهر ، فنبني قرية لنا ، كما كنا نفعل في الماضي . إحتجَّ خليل : - هذه لعبة قديمة ! في النهاية حل ّ الظلام ، تفرق الأولاد ، دون أن يتفقوا على لعبة معينة .
.******. صباح اليوم التالي ، قبيل شروق الشمس ، إنطلق خليل وحيدا ً نحو شاطيء النهر . كان يحمل في مخلاته قليلا ً من الخبز والزبيب ، وشصا ً لصيد السمك . في الطريق فكر في ما كانت ترويه له أمه : " حوريات الماء كثيرا ً ما يستحمن في الليل على الشاطيء " . إذن من الأفضل له ، ألاّ يسرع حتى تشرق الشمس . تماهل في سيره وهو يراقب دائرة الشمس الأرجوانية خلف الجبال النائية .. ُذهِلَ لمنظر الشروق : "ما أجمل َ قرص الشمس الذهبي وهو يرتفع هكذا بأبهة وشموخ فوق قمم الجبال ! " أسرع في مشيه وسط الحقول الخضراء.. كان الجو دافئا ً ، والأزهار تغطي سفوح الروابي ، قال في سره : " هذه هي تباشير الربيع " .
عندما بلغ شاطيء النهر ، تذكر نصيحة والدته : " إذهب إلى النهر .. إذهب .. فأنت صبي ولم تعد طفلا ً صغيرا ً ، لكن إياك أن تسبح إذا كنت وحدك ! " . مضى ينقل خطاه فوق الرمال الناعمة ، باحثا ً عن مكان ملائم لصيد السمك .
إختار صخرة عالية ، ليجلس فوقها ...
كانت مياه النهر حمراء داكنة بلون الدم . هذا هو موسم الفيضان ، المياه مشبعة بالغرين . تساءل مع نفسه : " مِن أين يأتي النهر بكل هذا الغرين الكثير ؟ " .. هيأ الشص ، قذف به بعيدا ً ، إلى عرض النهر ، ثم جلس بهدوء يفكر في أمر الغرين .. أمه تقول : " في كل سنة ، وفي مطلع الربيع ، تنزل الحوريات إلى النهر ، في موكب كبير ، فتسبح مثيرة ً ضوضاء وصخبا ً عظيمين ، وهي بعملها هذا ، تعكر مياه النهر ، فتبدو خابطة حمراء بلون الدم " .
أمّا معلمه فيقول : " إن سبب حمرة مياه النهر ،هو كثرة الغرين الذي تحمله المياه في موسم الربيع حين تذوب الثلوج " ، وهو يفكر في أمر الغرين ، إختلج الشص في يده، هتف: - لا بدَّ وان سمكة كبيرة علقت به . شدَّ على الخيط ، سحبه بهدوء . ظل يسحب ويسحب . عندما أتى على نهايته ، صاح بفرح : - هيا . تعالي أيتها السمكة الجميلة ! .. لماذا تبدين هكذا عنيدة يا عزيزتي ؟. قاومت السمكة بقوة ، وهي ما تزال في الماء . وكاد الخيط أن ينقطع ، قال لنفسه : " ماذا ؟. أبدا ً لم أصادف في حياتي سمكة عنيدة إلى هذا الحد لعلها كبيرة ، ربمّا تكون قوية ، لكنها على أي حال ، لن تفلت من قبضتي ". حين عاود السحب ظهرت فوق السطح سمكة فضية رشيقة . خبطت السمكة الماء بزعانفها بقوة ، دارت حول نفسها عدة دورات يائسة ، محاولة الخلاص من الشص دون جدوى . صاح خليل : - كفاك ِ عنادا ً ، أيتها السمكة الفضية الرشيقة ، فأنا لا أريد أن ألحق بكِ أذى . قالت السمكة وهي تقاوم بضراوة : - جميع الصيادين يقولون هذا .. ألا ترى كيف يمزق شصك فمي ؟ ! . جذبها خليل نحو الشاطيء بسرعة قائلا ً : - أنا لا أوذي السمك الجميل ، بل أرعاه في البيت داخل خوض الزينة .. ألا تصدقيني ؟ . نظرت السمكة بعينين حزينتين إلى وجهه المدور النحيل . قالت بلهجة توسل : - يبدو لي انك ولد عاقل ، لا تشبه بقية الصيادين .. لكن ألا تعتقد بأن الحوض سيكون كالسجن بالنسبة لي .. ؟ . لقد تعودتُ أن أجوب البحار الشاسعة ، فكيف أستطيع الصبر في حوض صغير داخل البيوت ؟ ! . عندما إنتزع خليل الشصَّ من فمها . هزت السمكة زعانفها من شدة الألم ، وقالت باكية : - أعدني إلى الماء ، أيها الصبي الطيّب ، الهواء يخنقني ..! الم تعاهدني أن أبقى حية ؟؟. - نعم وعدتك بذلك .. لكن من يقول إنك لن تهربي إذا أعدتك إلى الماء ؟ . - إعتبرني صديقتك لن أهرب . سأجيء بين حين وآخر لكي أراك . - ,إعتبريني صديقك . سأطلق سراحك .. كلما جئت ُ إلى الشاطيء ، سأبحثُ عنك ، أنت ِ حقا ً سمكة فضية جميلة . ألقى بها في الماء . شرعت تسبح برشاقة . لوح لها بيده مودعا ً ، قالت بأمتنان : - سأضع بيضا ً كثيرا ً ، قد أعود أنا وصغاري لرؤيتك ، أيها الصديق العزيز ، سأجلب لك هدية ثمينة . - أين تضعين البيض ؟ . - في البحار البعيدة ، قد لا تراني فترة طويلة ، لكن من المحتم أن أعود . اطرق خليل يفكر : كيف تكون الحياة لو إنقرضت الطيور والأسماك والحيوانات ؟ .. تلك السمكة الفضية هي أمْ ، وتستطيع أن تنجب سمكا ً كثيرا ً على شاكلتها ، الأم هي مصدر الحياة سواء أكانت هذه الأم إنسانا ً أو حيوانا ً أو سمكة . ينبغي أن نراعي حق الأمومة لكي تستمر الحياة .. وحسنا ً فعلتُ باطلاق سراح تلك السمكة الفضية ، سواء عادت أمْ لمْ تعد " . وغمره الفرح بينما كانت السمكة الفضية تغوص نحو الأعماق.
. ******.
في ذلك اليوم قرر خليل ألاّ يصطاد أي سمكة أخرى .. قفل راجعا ً إلى بيته ، وذهنه مشغول بشأن تلك السمكة الفضية العجيبة : " أي هدية ستجلب له ؟ من يقول أنها سترجع ثانية ؟ أليس من الجائز أن تكون سمكة ماكرة هزأت منه وغررت به وخدعته ؟ . ثم أليس من الجائزأن تقع في شبكة صياد آخر ؟ .. عندئذ ستكون لقمة سائغة . هذه الأفكار وأخرى كثيرة طافت في ذهنه ، لكنه قرر ألا يخبر أحدا ً بقصته .
. ******.
مرّت الأيام ..
ذات مرة فكر خليل في الذهاب إلى شاطيء النهر . ربما تكون صديقته السمكة الفضية قد عادت من رحلتها .. حين وصل الشاطيء ، جلس فوق ذات الصخرة ، التي إصطاد من فوقها السمكة . لقد مضى الربيع ، وإنتهى موسم الفيضان ، ها هي المياه تلوح له صافية رقراقة .. إذا ما مرّت صديقته السمكة الفضية ، لن يتعذر عليه رؤيتها .. ظل َّ ينتظر حتى الظهر ، وفي نفسه يدور ألف هاجس : " ذلك الطير الغطاس ، ذو المنقار الطويل ، أليس من المحتمل - مثلا ً - أن يكون قد إلتهم صديقته تلك ؟؟ " .
فجأة قفزت السمكة الفضية عاليا ً فوق سطح الماء . لوحت له بزعانفها ، ثم غاصت نحو الأعماق ! أثارت عند غوصها صخبا ً عظيما ً : " بق ! بق " . هتف خليل : " إنها هي . صديقتي نفسها . لقد عادت .. ولكن ، لماذا إختفت هكذا بسرعة ؟ " . تعلقت أنظاره بصفحة المياه . وهو يقول : " حتما ً ستعود ، كما وعدتني ! " . وبينما هو مغرق في افكاره، إنشقت صفحة المياه ،ظهرت السمكة ، وهي تسبح نحوه. صاح خليل بجذل : - مرحبا ً ايتها السمكة الفضية ! . يسعدني أن التقي بكِ ثانية بعد فراق طويل . - اهلا ً بك يا صديقي العزيز . لقد إنتظرتني كثيرا ً .. أليس كذلك ؟. - نعم . - الرحلة إلى البحار متعبة وخطرة . - حمدً لله على سلامتك ِ. - لقد جلبت لك هدية ثمينة . أتحزر ما هي؟؟. فكر خليل... قال وهو يبتسم : - لا ! . ثم وهو يضحك : - وماذا يوجد في البحر غير المياه ؟!. - البحر، يا عزيزي، عالم واسع وكبير وزاخر بالعجائب مثل اليابسة . والآن هل تعرف ماذا جلبت لك ؟ . - لا اعرف !! اقتربت السمكة الفضية منه ، وقالت : - إنظر .. لؤلؤة! قفز خليل من شدة الفرح ، وقال : - لؤلؤة ؟ . يا لها من هدية ثمينة ! شكرا ً لك يا صديقتي العزيزة . ثم صاح بجذل ٍ : - أنا يتيم . وأمي فقيرة . ستفرح حتما ً . صَمَت َ لحظة ثم استطرد يقول : - أمي تقول بأن الأغنياء وحدهم يمتلكون اللؤلؤ !!
قالت السمكة: " اللؤلؤ - يا صديقي - تصنعه بعذابها مخلوقات ضعيفة هي الأصداف ، ثم يستخرجه فقراء الناس من أعماق البحر ، لكنه يستقر أخيرا ً في جيوب ِ الأغنياء والموسرين . سألها خليل: - لما لا يحتفظ به الفقراء لأنفسهم ؟ أجابت السمكة الفضية : - لأنهم يقايضونه لقاء لقمة العيش عاد خليل يسألها بأستغراب : - متى يمتلك الفقراء اللؤلؤ؟؟. نظرت السمكة إليه مليا ً ، وأجابت بتريث: - سيمتلكونه ذات يوم . لكن ذلك اليوم ، سيكون معمدا ً بالدم . ولن يتحقق ،إلاّ إذا عرف الفقراء لماذا هم فقراء ..! فتح خليل فمه مستغربا ً إستطردت السمكة الفضية تنصحه وتحذره في وقت واحد : - هذه لؤلؤة ثمينة . قد يهاجم اللصوص قريتكم بسبها . لا تخف ! سأكون إلى جانبك . - شكرا ً لوفائك يا صديقتي العزيزة . ودعت السمكة الفضية صديقها وإنصرفت . راقبها خليل ، وهي تغوص نحو الأعماق .
.******.
حين عاد إلى البيت ، أستقبلته أمه . فتح يده وهو يقول بسرور : - أماه ... انظري!. أطلقت أمه صيحة ذعر ، وهتفت بأنفاس مبهورة : - هذه لؤلؤة كبيرة وثمينة . مِن أين حصلت عليها ؟ وكيف ؟؟.. يا إلهي . - أهدتني إياها صديقتي السمكة .. ما بكِ يا أمي ؟ بدلا ًمن أن تفرحي بها أراكِ خائفة ً ؟!. همست المرأة العجوز : - سينتزعها اللصوص منا . أنت ما تزال صغيرا ً ، وأنا إمرأة عجوز واهنة القوة . - اللصوص ؟ .. أنا لا أخافهم . إن صديقتي السمكة الفضية ستكون في عوننا إذا هاجمونا . قالت أمه بحسرة : - من الأفضل أن نخفي اللؤلؤة الثمينة ، و إلاّ فأنها ستجرُ علينا المتاعب . إقتنعَ خليل برأي أمه ، وعند حلول الظلام أخفيا اللؤلؤة في مكان أمين .
. ******.
ومرّت أيام أخرى .. كانت أمه تكتم عنه سرا ً خطيرا ً . وفي إحدى الليالي قررت أن تفاتحه في الموضوع : - خليل يا ولدي العزيز . - نعم يا أماه ! . - كنت صغيرا ً عندما مات أبوك .. - نعم يا أمي . - أنت الآن صبي على أعتاب الرجولة . - أعرف ! - أتعرف كيف مات أبوك؟ !. حملق في وجهها المتغصن بأستغراب : - لا يا أمي. صمتت لحظة . إستعادت في ذهنها ذكرى مؤلمة من الماضي ، ثم قالت بلهجة ملؤها المرارة : - أبوك قتل ! - ُقتِل ؟! - أجل . هناك ، على شاطيء النهر ، قرب شجرة السنديان . أسلم روحه ، ورأسه فوق ركبتي . احتدَّ خليل وصاح بأنفعال ٍ : - أخبريني .. من الذي قتله ؟ . لا بدَّ من أثأر له من قتلته. لست ُجبانا ً. قالت أمه : - لدغته أفعى سوداء . رددَ بذهول: - أفعى سوداء ؟ لو كان رجلا ً لأنتقمت منه . ولكن الأفعى السوداء ... قالت أمه بهدوء: - قد نجدها ذات يوم. عاد يسألها بألحاح : - وأين ؟ أين .. أجدها ؟؟. إعتدلت أمه في جلستها . أصلحت من وضع ملابسها كمن يتهيأ لحديث طويل . طلبت منه أن يصغي إليها ، قالت له : - إسمع يا خليل هذه الحكاية .
.*******.
أغمض البلبل العجوز عينيه مرة أخرى ، حاول أن ينام ، لكنه لم يستطع ، ظلت السنديانة تئن وتنوح طوال الليل . وقبيل الفجر ، جاءت الريح من بعيد ، وهي تسوق الغيوم أمامها ، وما إن سمعت السنديانة تبكي حتى توجهت إليها . وسألتها بحنان : - أراكِ تبكين يا عزيزتي ، هل أنت عطشى ؟ رفعت السنديانة عينيها الدامعتين إلى الريح ، وقالت : لا . ولكنني وحيدة . تململت الغيوم المثقلة بالأمطار ، وقالت : سوف نتأخر. قالت الريح للسنديانة: كان بودي أن أبقى معك ، ولكن .. تنهدت السنديانة ، وقالت بأسى: لقد هجرني جميع... تململت الغيوم ثانية ، فقالت ، الريح ، وهي تتأهب للسير: - سامحيني يا عزيزتي . لا استطيع أن أبقى . إن الحقول عطشى ، ويجب أن أسرع بالغيوم إليها . مضت الريح نحو الحقول البعيدة ، والغيوم تتدحرج أمامها . تمتمت السنديانة وهي تنوح : آه . لا يريد أحد أن يصغي إليَّ !. أطلّ البلبل العجوز من عشه ، وقال : لا تبكي يا عزيزتي . إنني أصغ... لكن السنديانة قاطعته بصوت متهدج: - ما الذي يبقيك هنا . هاجر ، هاجر أنت بدورك ، لم أعد أريد أحدا ً . - قال البلبل العجوز: لا .. لن أهاجر . قالت السنديانة وهي تنشج : - لو كنتَ قادرا ً على الهجرة لتركتني ، وهاجرت كالآخرين. إرتفع نشيج السنديانة ، وسمعتها نحلة كانت عائدة إلى خليتها، فتوجهت إليها ، وهمت أن تسألها عنا بها لكنها حين رأت الأعشاش خاوية ، قالت مدهوشة : - أين مضت البلابل ؟! وقبل أن تجيب السنديانة بشيء ، إرتفع فحيح رهيب من أسفل الشجرة ، فتمتمت النحلة : أفعى! قالت السنديانة وهي تنشج: - لقد هاجر الجميع خوفا ً منها . - وتركوك وحدك ؟ - نعم تركوني للأفعى . - نحن لا نهاجر ، ونترك خليتنا للأعداء حين يهاجموننا ، بل نقاتل صفا ً واحدا ً دفاعا ً عنها . إنتفض البلبل العجوز ، وإنطلق بأتجاه النهر ، فقالت السنديانة بمرارة: - هاهو البلبل العجوز ، يهاجر أيضا ً ! - عبر البلبل العجوز النهر ، وراح ينادي على البلابل ، لم تمضي إلا لحظات حتى كان الجميع حوله ، فقال لهم : - أبنائي إن السنديانة بحاجة إليكم ، يجب أن تعودوا . إحتجت البلابل ، وارتفع أكثر من صوت : - والأفعى ؟ - لقد هلك الكثير منا ! - نحن هنا في أمان . - لن نعود صاح البلبل ، وهو يهب من مكانه : - سأعود وحدي ، وأقاتل الأفعى السوداء ! ما دمتم ترفضون العودة . حلق البلبل عاليا ً ، انطلق وحيدا ً بأتجاه النهر .... سأل خليل أمه بلهفة : - ثم ماذا حدث ؟ ماذا حدث للبلبل ؟ ألا تخبرينني ؟ أجابت أمه بأصرار: - كلا . لن أخبرك . أعفني من هذا .. لكن تذكر أن مصير والدك لا يختلف عن مصير البلبل العجوز .
. *****. ومرت أيام أخرى .. ذات يوم مشرق من أيام الربيع ، قرر أولاد القرية الذهاب إلى شاطيء النهر لكي يلعبوا هناك . إعتذر لهم خليل لعدم إمكان مشاركتهم اللعب .كان في غاية الشوق لرؤية صديقته السمكة الفضية ... من يعرف أين هي الآن ؟.. أطلع أمه على رغبته ، طلب منها أن تخرج اللؤلؤة .. حين وصل َ الشاطيء ، جلس فوق ذات الصخرة العالية . كان الأولاد يلعبون في مكان غير بعيد عنه . في الجهة المقابلة لاحت له شجرة السنديان .. خيّل إليه أنها تنشج . وتعجب ! كيف لم يفطن إلى وجودها من قبل ..؟ لكنها شجرة كباقي الأشجار، فمن أين أن يعرف ، قصتها ، لو لم ترو ِ له أمه، تلك الحكاية .. ظلَّ ينتظر صديقته السمكة وينتظر دون جدوى . قال لنفسه : " سأنتظر . لعلها تعود .. سأنتظر وان كان نشيج السنديان يحز في نفسي " . حين سأم من الأنتظار ، خاطب النهر بصوت فيه الكثير من التوسل : - أيها النهر الصاخب ..! بالله أحلفك ، ألا تعرف أين صديقتي السمكة الفضية ؟ . تماوج النهر ، ثم قهقه مزمجرا ً بجنون ، وصرخ بصوت كأنه الرعد : - السمكة الفضية ؟ يا لك من ولد ساذج ! آلاف الأسماك تهلك في أعماقي يوميا ً . قال خليل بحزن : - أيها النهر .. لا تغضب .. لي سؤال آخر من فضلك : هل أن صديقتي قد هلكت أم إنها على قيد الحياة ؟؟ . أجاب النهر بصوت غاضب : - لا أدري . وهنا قال خليل : - سأنتظر جالسا ً ، أنتظر صديقتي ، فهل يغضبك هذا ؟ أجاب النهر ، ولم يكن في هذه الحالة غاضبا ً : - إنتظر ! .. الأنتظار يعلمك الصبر ، والصبر سر نجاح كل إنسان . وظل خليل جالسا ً في مكانه ينتظر . ظل ينتظر وينتظر دون جدوى ، السمكة الفضية لم تظهر .
.******.
قال خليل لنفسه : " لماذا لا أذهب ، أشارك الأولاد في اللعب ؟ ". تمشى على طول الشاطيء ، وفي كل لحظة كان يأمل أن تظهر له السمكة . خيل إليه أن نحيب السنديانة يمتزج مع خرير المياه المتدفقة عبر النهر . تذكر الحكاية التي روتها له أمه .. وتذكر حكاية الأفعى السوداء التي لدغت أباه . أمه في إحدى الليالي قالت: " إن الأفعى السوداء كبيرة بحجم الجاموس ، وشرسة كالذئب ، ونهمة بحيث تبتلع كل من يسوقه القدر إلى طريقها .. وهي في كل عام ، تلد آلاف الأفاعي السوداء التي لا تقل عنها غدرا ً .. ماذا يفعل لو هاجمته تلك الأفعى ؟". أحسَّ بالخوف ، لكن سرعان ما زال خوفه ، حين تذكر نصيحة السمكة الفضية : " لا تخف . سأكون إلى جانبك ". ومضى ينقل خطاه فوق الرمال ، حين إقترب من الأولاد صاحوا جميعا ًبصوت واحد : - هذا خليل .. هذا خليل .. وصاح شامل : - ألا تشاركنا يا خليل في اللعبة القديمة . ها نحن في سبيل أن نبني قرية . قال بصوت عال ٍ : - نعم . سأشارككم في اللعب . غير أن قصة الأفعى السوداء ، ونشيج شجرة السنديان ، لم يفارقا ذهنه . فقال في سره : " إنهم لم يسمعوا بهذه القصة المفزعة " .. وطافت في خياله صورة آلاف البلابل التي إبتلعتها الحية . وفكر : " وماذا لو جاءت الأفعى السوداء ؟ ألا تستطيع أن تبتلع جميع الأولاد ؟؟ وقرر مع نفسه أن يقاوم الحية . وإنتزع نفسه من هذه الخواطر المحزنة ، ثم أجابهم : - نعم . سأشارككم اللعب .
. ******.
إنصرف خليل إلى اللعب مع أصدقائه . إتفقوا على أن يبنوا قرية. وبناءُ قرية يحتاج إلى جهود كبيرة .. تطوع بعضهم ليقوموا بدور المعماريين ، وتطوع آخرون كعمال ، و غيرهم كنجارين .. إنهمكوا في العمل ، بنوا عددا ً من البيوت الصغيرة ، إستمروا يعملون ويعملون حتى أنجزوا بناء القرية . وقف الأولاد الصغار يتأملون بفخر وإعتزاز قريتهم الجديدة تلك . هنا هتف احدهم . ألا ترون بأن القرية تحتاج إلى مدرسة ؟ وقال آخر : - وتحتاج إلى مستوصف . وقال غيره: - وتحتاج إلى شارع يربطها بالمدينة . - وتحتاج إلى جمعية فلاحية . - وتحتاج إلى كهرباء . وقال طفل أسمر : - وتحتاج إلى حراس..ما فائدة كل ما بنيناه إذا هاجمنا اللصوص بغتة؟!. إنهمكوا في العمل من جديد . تشاوروا فيما بينهم ، عينوا خليل آمرا ً للحرس. قبيل الغروب صاح أحد الحراس محذرا ً : " إنني أرى أفعى سوداء ضخمة تحت شجرة السنديان !". وقال حارس آخر : " كنت منذ حين أسمع شجرة السنديان تئن . لعلها كانت خائفة من الحية ؟". وصاح خليل بصوت آمر: - تأهبوا.. يا صغار للدفاع عن القرية ، و إلاّ الأفعى السوداء ستدمر كل ما بيناه . وعبرَ المياه توجهت الأفعى السوداء نحو القرية وهي تقود خلفها عشرات الأفاعي الصغار . وكلما كانت الأفاعي تقترب من القرية ، كانت أشكالها تستحيل إلى أشكال بشرية . لا حظوا أن الأفعى السوداء الكبيرة إستحالت إلى عملاق هائل ، عملاق أبيض البشرة ، أزرق العينين ، يحمل فوق رأسه قبعة ، وفي يده حربة ، في حين إستحالت الأفاعي الصغار إلى جيش جرار لا أول له ولا آخر . فكر خليل بسرعة : " الآن عرفت كيف قتل هؤلاء المتوحشون والدي ! " تحسس جيبه . اللؤلؤة ما تزال فيه إلى جانب الشص . وقال لنفسه :" يجب أن نقاوم ! يجب أن نقاتل بشرف وبطولة ، و إلاّ فأن الأفاعي البشرية سوف تدمر القرية " . وصرخ بصوت حاد: - هيا يا أولاد . إتخذوا أماكنكم ! سنقاوم الأفاعي البشرية مهما كلفتنا من تضحيات . وإنطلق مهرولا ً وهو يصيح : - أما أنا فسأحرس مدخل القرية. قهقهت الأفعى البشرية العملاقة بجنون وهي تقول : - ماذا تفعلون هنا يا صغار ؟ أجابها خليل بشجاعة : - نبني قرية ! قالت الأفعى البشرية الكبيرة ساخرة : - هذه أرضنا.. أرض الأفاعي ! رد عليها خليل بسخرية أيضا ً: - أرضكم ؟ يا للنفاق .. هذه أرضنا نحن . عليها عاش آباؤنا و أجدادنا وما أنتم إلا أفاعي بصورة بشرية ، تريدون السيطرة على كل مكان فوق الأرض بدون حق ! فحّت الحية الكبيرة ، وزعقت : - إخرس ! سندمر القرية ! سنبتلعكم ! لا أحد يستطيع أن يقهرنا .. فجأة ، في ذات اللحظة ، دوت ضجّة عظيمة هزت القرية . نظر خليل نحو مصدر الضجّة : لقد إنشقت صفحة المياه ، ها هي سمكته الفضية تتجه نحو القرية ، ومن خلفها مئات الأسماك الفضية الصغيرة . لم يصدق خليل عينيه .. بدأت الأسماك تقترب وتقترب ، وهي تكبر وتكبر ... أخيرا ً إستحالت كل سمكة إلى دبابة .. مئات الدبابات تحيط بالقرية ، كيف حدث هذا ؟ يا للصديقة الوفية ! هاهي إلى جانبي في ساعة الخطر . قالت السمكة الفضية ، بعد أن استحالت إلى دبابة : " هيا يا صديقي .إمتطي ظهري !" إختلجت اللؤلؤة في جيب خليل ، تحسسها إذا بها تستحيل إلى قنبلة . وإستحال الشص إلى مدفع .. تحركت عشرات الدبابات . إنطلقت عشرات المدافع . قاتل الصغار ببطولة .. ذعرت الأفاعي البشرية . تقهقهت . إستحالت مرة أخرى إلى أفاع ٍ حقيقية . حاولت الفرار .. إلى أين ؟ ظلّت الدبابات تلاحقها .. من بعيد قهقهت السنديانة الكبيرة وهي ترى بعينيها مصير الأفاعي . حاولت بعض الأفاعي أن تنجو بنفسها ، لكن شجرة السنديان سدت عليها الطريق بأغصانها الكبيرة . .******. خرج الآباء والأمهات من بيوتهم . نظروا بعيدا ً، نظروا باتجاه شاطيء النهر، ثم قالوا بصوت واحد: - إنها الحرب ُ تطرق أبوابنا
#جمعة_كنجي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الثيران لا تستحق الرحمة !
-
الطوفان
-
الشمس والثلج والجبل
-
الينبوع الحزين
-
الديك في مملكة الثعالب
-
لماذا هرب الحصان ؟
-
البيضة
المزيد.....
-
وفاة الفنان صلاح السعدني عن عمر يناهز الـ 81 عام ….تعرف على
...
-
البروفيسور منير السعيداني: واجبنا بناء علوم اجتماعية جديدة ل
...
-
الإعلان عن وفاة الفنان المصري صلاح السعدني بعد غياب طويل بسب
...
-
كأنها من قصة خيالية.. فنانة تغادر أمريكا للعيش في قرية فرنسي
...
-
وفاة الفنان المصري الكبير صلاح السعدني
-
-نظرة إلى المستقبل-.. مشاركة روسية لافتة في مهرجان -بكين- ال
...
-
فادي جودة شاعر فلسطيني أمريكي يفوز بجائزة جاكسون الشعرية لهذ
...
-
انتهى قبل أن يبدأ.. كوينتن تارانتينو يتخلى عن فيلم -الناقد ا
...
-
صورة فلسطينية تحتضن جثمان قريبتها في غزة تفوز بجائزة -مؤسسة
...
-
الجزيرة للدراسات يخصص تقريره السنوي لرصد وتحليل تداعيات -طوف
...
المزيد.....
-
صغار لكن..
/ سليمان جبران
-
لا ميّةُ العراق
/ نزار ماضي
-
تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي
/ لمى محمد
-
علي السوري -الحب بالأزرق-
/ لمى محمد
-
صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ
...
/ عبد الحسين شعبان
-
غابة ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
اسبوع الآلام "عشر روايات قصار
/ محمود شاهين
-
أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي
/ بدري حسون فريد
-
أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية
/ علي ماجد شبو
المزيد.....
|