مؤرخ واستاذ اكاديمي عراقي / كندا
عراقيو التناقضات الصارخة
تهادى الى سمعي ما يتقّوله بعض من العراقيين والعراقيات عن مجتمعهم .. هذا الذي هم من ابعد الناس عن فهمه وعن ادراك معانيه واستيعاب جذوره وتواريخه وهم من اسوأ من ابتلي بهم العراق منذ عهد طويل .. لم يعرف هؤلاء الجهلاء قيمته ولا يقدرون مكانته التي شغلت الدنيا ولم يدركوا ابدا اسرار قوته ومكانته بوجه كل التحديات ! لم يحفل امثال هؤلاء بخصب مواريثه وعبقرية بيئاته وابداعات نخبوياته وحياته الامنة .. انهم زبد يكدرون صفوه او كالرماد الذي يبغي اطفاء وهجه .. انهم غثاء كسيل جارف لا يقدر عواقب ما يفعله ! انهم كالبهائم لا تدرك ما تفعله بالاخرين ! قالت سيدة عراقية من هذا النمط : الاكراد طارئون هم مجموعة فلول نزحت الى العراق ! وقال آخر من الاغبياء : انا سنّي طاهر وادعو الله ان لا يجمعني الا بامثالي ! وعقّب اخر : لابد ان يطرد النصارى من العراق فنحن لا نقبل ان يعيشوا على ارض الاسلام .. الخ ان من المؤلم حقا ان يخرج العراق من عهد حكم جائر وبضعة كتل بشرية تحتكر شعار " الوطن " زيفا وعدوانا وهي لا تعرف من الحياة العراقية الاصيلة شيئا حيث كان من ابرز تجلياتها ذلك التعايش والانسجام بابهى صوره وكان هناك التآخي باصدق حالاته .. وكانت هناك شراكات ثقافية واجتماعية واقتصادية بين جميع صنوف سكانه ! فما الذي جرى في الاربعين سنة الاخيرة وبالضبط بين 1963 – 2003 ؟
وبرغم كل التحديات التي مرت بالعراق ابان القرون المتأخرة ، فلقد شهدت المدن جملة من التطورات الثقافية والاجتماعية وان الثقافة العراقية بمجموع مفرداتها وتنوعها بقيت حية تقاوم الحرائق وعوامل الدمار والفوضى وكل التحديات الخارجية والداخلية ! وفي القرن العشرين ، ولدت دولة ومجتمع جديدين للوجود على ايدي الانكليز وانبعثت حركات واحزاب سياسية ليبرالية وراديكالية وافكار قومية ونزعات تجديدية وابداعات ثقافية ونخب من علماء وادباء ومثقفين وصحفيين .. ولكن تساوق كل ذلك مع تناقضات لا تعد ولا تحصى بين ازدواجيات وثنائيات خطيرة : الدولة والمجتمع ، المدينة والريف ، السلطة والمثقفين ، الحداثة والتقاليد ، الحرية والدكتاتورية ، الانفتاح والانغلاق ، الحكومات المدنية والانقلابات العسكرية ، القومية والوطنية ، ابناء اصلاء واولاد شوارع وسوقة رعاع .. الخ من التناقضات العراقية المفجعة التي عبرّت عن واقع ان لم يستطع العراقيون التخلص من موبقاته اليوم عند مفتتح القرن الواحد والعشرين فسوف تلازمهم جملة من المشكلات زمنا طويلا من السنوات .
تجارب القسوة والانغلاقات وعفونة الامس القريب
ومن غير المعقول ان لا يتعلم العراقيون من تجربة الامس القريب كيف يمكنهم جذب المثقفين العراقيين الجادين واشراكهم في ساحة الفعل المباشر والاداء الثقافي المؤثر بعيدا عن الاقصاء والتهميش والتعتيم والالغاء .. ان من اخطر ما يمكن التنبيه اليه : مركزية الثقافة العراقية وسيطرة مثقفو السلطة على المراكز الثقافية الحساسة وحصر حق التصرف في شؤون الثقافة ببضعة افراد يتبادلون المواقع فيما بينهم ، ويتحكمون بمصير الثقافة ومصائر المثقفين ويمنعون اي عراقي من حق النشر ويحرّمون كتبا ويصادرون مجلات ويواصلون مراقبة الكتاب والتجسس على المثقفين من دون ان يتاح لاحد ابداء او اجتهاد او مبادرة في الشأن الثقافي ! لقد انتج كل ذلك انغلاق شوفيني وثقافة دوغماتية رسمية ببغاوية شطرنجية مقننة بقوالب معدة سلفا حسب مواصفات احادية متخلفة لا تبتعد شبرا واحدا عن افكار مستعارة او متعفنة قررها مؤتمرون بدائيون رومانسيون منذ عشرات السنين او تحكمت فيها قرارات حاكم جائر مستبد لا يعرف من الثقافة العراقية شيئا ذا بال ابدا ولم يدرك تواريخها ورجالاتها ولم يقرأ ابداعاتها ولم يسمع اغنياتها .. فلبث المثقفون العراقيون الجادون مهمشين ومبعدين عن النظام الاجتماعي والفعل الثقافي المؤثر على مدى اربعين سنة بالضبط .
المثاقفة الشوفينية البالية
لقد تبلورت على امتداد الاربعين سنة الاخيرة نزعات شوفينية مقيتة وهي لا تتراءى واضحة جلية الا في خصوصيات العراق المتنوع في ثقافاته واعراقه واطيافه وتنوعاته .. لقد وقفت على امثلة ونماذج من حالات سيئة جدا تعلن عن منطلقات انقسامية واحقاد عنصرية وكراهيات بليدة وشوفينيات مقيتة في عصر يتميز بالشفافية والتعدديات واقصى درجات الانفتاح .. والمؤلم ان تلك الحالات تصدر عن عراقيين وعراقيات يطغى الجهل على تفكيرهم ، فكأن الوطن ملكا عضوضا لفئة او اقلية او قومية او اكثرية معينة من دون الاخرين ! وكأن الصراع بين الطوائف والملل يريد ان يتفجّر ليلعب لعبته القذرة .. بعيدا عن روح المعايشة والشراكة والانسجام .. ان السياسات الساذجة والاعلاميات القومية المؤثرة قد ساهمتا الى حد كبير في اوضاع المجتمع العراقي على امتداد خمسين سنة .. فليس من المعقول ان يتم تغييب المجتمع المدني العراقي تحت ذرائع مثالية ورومانسية لا يمكنها ان تفيد العراق والعراقيين ابدا ! وليس من المعقول ان يعزف اليوم على اوتار قومية لأي طرف من الاطراف العراقية فالعراق وطن للجميع ونزعة المواطنة ينبغي ان تسبق كل المشاعر القومية ! ولا يمكن للاكثريات ان تمارس اي اضطهادات شوفينية بحق الاقليات لا في المدن والحواضر او الارياف والبوادي ، ذلك لأن مجرد ممارسات كهذه ستخلق حواجز ومساحات من الكراهية والاحقاد الخفية! ولا يمكن ان تمارس اي بيئة عراقية حق فرض سيطرتها على البيئات الاخرى تحت ذرائع المركزية والقوة بشتى اصنافها المتخلفة القبلية والعشائرية والمذهبية ..
لقد جرى تدجين لقطاعات واسعة من الجماهير وقدمت لهم وجبات هزيلة من الثقافة البالية والانشائيات الكاذبة والدعايات المفبركة والقصائد العنترية والاشعار الشعبية الملتهبة والمهرجانات المربدية والمؤتمرات الحزبية .. وكلها لخدمة اهداف الرئيس والحزب وامتلأت الدنيا باناشيد فوضوية وشعارات جاهزة واغنيات فجة ذات نزعة انتحارية دموية تستدرج وعي الناس من اجل تهلكتهم في محرقة النظام الذي احتل موقع " الوطن " وصار بديلاً عنه في الانتماء والولاء. وعليه ، لا يمكن ابداً قراءة ظهور التحولات امام الناس وبشكل عام ، إلا باستقراء التاريخية الحضارية في افق عريض من الزمان والمكان، ولا يمكن حصر المشكلة في العلاقة بين الدين والدنيا، او نمط التعامل بين الرجال والنساء او حتى ببروز ما اسموه بـ " الثورة العربية " ، واحتكارهم عنوة وبكل صلافة لافكار الحرية والتقدم والوحدة والاشتراكية والتحرر الوطني .. الخ وكلها كانت جاهزة من اجل توظيفها توظيفا ساذجا لمصالح أنوية وفئوية واحادية ولاغراض بعيدة كل البعد عن الواقع الاجتماعي في عملية مارقة كالتي يشتهر بها المسيح الدجال وقد وظفت لها مجموعات لا تحصى من المطبلين والمزمرين عرب وعراقيين ، من كتاب وشعراء ومثقفين مرتزقة واكاديميين بهلوانيين ومخابراتيين وصحفيين مارقين .. وتقديم كوميديا داخلية خاصة للضحك على الناس وبمنتهى القسوة والسادية من دون تحقيق اي منجز حقيقي حيوي يمكن ان يكون معلما تاريخيا للاجيال القادمة .
غيبوبة الحقيقة وقتل الحريات
ان المشكلة اكثر تعقيداً من المشهد المألوف ، وهي تزداد حدة وتفاقما يوما بعد آخر نظرا لأن خمسا وثلاثين من السنين العراقية كانت مرتهنة بأيدي الجلادين والجهلة والاغبياء وشذاذ الافاق .. وأحرى بنا ان نقول ايضاً ان الاختلاف في نمط الحياة العراقية يدخل كثيراً في المعادلة التاريخية لدولة انتحرت فجأة واختفت من الوجود في ساعات ليل بهيم ، ولكن المجتمع كان ولم يزل يمتلك ثروة من التقاليد الثقافية التي هشم قسم كبير منها ليس بفعل النمو الزراعي والتنظيم الإداري والنمو التجاري والتنمية الصناعية وتحديث الخدمات الهائل كما يحدث في غربي اوروبا وامريكا الشمالية ، ولكن بفعل سياسات النظام السابقة بنحر اي دينامية تاريخية ثقافية والتقليل من شأن المجتمع ووصمه بابشع الصفات .. فلا يمكن ان يتخيل العالم رئيس دولة يتهم شعبه زورا وبهتانا بالعري والجوع وانهم حفاة الاقدام قبل ان تشبعهم الثورة وتطل عليهم مكرماته الكريهة، ومثلما كانت حقائق الاقتصاديات العراقية مغيبة احصائيا وماليا عن العالم ، فلقد غيّبت الحقائق عن واقع الثقافة والمثقفين العراقيين وندرت المعلومات الدقيقة والصحيحة طالما ان إشكالا متنوعة من الدعايات الكاذبة المحلية والعربية قد اوهمت الملايين من الناس بأن العراق كان بلدا مصنعا وكان يعيش متقدما على غيره من جيرانه ، ونجحت الاضاليل والدعايات الكاذبة في خلق متاهات كبيرة استبعد فيها التشخيص الدقيق لامراض العراق الحقيقية ومعاناة العراقيين وبالتالي الوعي الصحيح بالذات وبالعالم ! ونحن نسأل بدورنا : هل يقاس التقدم بزرع العراق اسلحة جرثومية وكيمياوية وقتل العراقيين بها والبلاد محطمة في مشروعاتها وصناعاتها وخدماتها وبلدياتها ومدارسها وجامعاتها وكل مرافقها البنيوية ؟ هل يمكن لبلاد الثقافات ان تهّرب آثارها النادرة الى الخارج من قبل اعوان السلطة العليا من دون اي روادع ولا اي عقاب ؟ ومما زاد من المأساة سكوت العراقيين سكوتا ابديا وصمتهم نهائيا في التعبير عن كل المأساة بل كان العكس صحيحا ، فالكل مجبرون للتصفيق والهتافات الناعقة والاغاني السمجة والاحتفاليات البليدة والاهزوجات القميئة ، باستثناء نفر قليل من المهاجرين والاحرار الشجعان بكل اطيافهم الذين وضعوا دماءهم فوق اكفهم واعلنوا عن حقيقة الاوضاع من دون ان يتعاطف معهم احد باستثناء قوى انسانية قليلة في هذا العالم المتوحش ! وان اغلب الحكومات والشعوب العربية كانت تناصر وتتضامن مع سلطات العهد السابق بالرغم من معرفتها واطلاع اجهزتها المخابراتية والاعلامية والدبلوماسية على ما كان يجري بحق العراق والعراقيين ، فهي لم تعلن عن ادانة واحدة او بيان توضح قلقها وانشغالها على مصائر نخب معينة او مثقفين ومفكرين مغيبين او اعدام اكاديميين متخصصين واطباء وتجار ورجال اعمال ومهندسين وغيرهم .
وأخيرا : نداء من اجل السلم والتفاهم
فان العراقيين اليوم قد استعادوا اهم قيمة يمتلكونها بين الشعوب وهي خروجهم من نفق مظلم طويل وهم بحاجة الى استكمال حرياتهم وكذلك ترسيخهم للوعي المقام على معرفة تامة بالتحولات الخطيرة بما يحصل في العالم وهذا سيمنحهم قاعدة للتفكير في بناء مستقبلهم وسط احداث صعبة وبيئة اقليمية اصعب ! ان مثل هذه " الاستعادة " تمر باحرج مرحلة تاريخية صعبة ، فان استطاعت ان تجتاز هذا التحدي الصعب فقد فازت ، او انها ستدخل في دوامة ساخنة من العنفوان والتمزق كما يريدهما الاخرون خصوصا اذا سمح بصراع التناقضات العراقية وعند ذاك ستعدم كل الطموحات والامال وتحترق كل الامنيات لا سمح الله !