الحياة 2003/09/28
أصبح ما تعبر عنه إدارة جورج بوش من استراتيجية وسياسات مفضوحاً ومرفوضاً على نطاق واسع، حتى أخذ يتضاءل المدافعون عنها يوماً بعد يوم. فلم يعد ثمة من يستطيع الدفاع عن النظريات الفلسفية أو الايديولوجية التي وراء تلك الاستراتيجية والسياسات، وعلى التحديد ما يعكسه بول ولفوفيتز وريتشارد بيرل ووليم كريستول وبقية الشلة ضمن اتجاه المحافظين الجدد. فهؤلاء في منطقتنا ما فوق ليكوديين، وفي العالم كله يتكلمون بلغة التفوق العسكري، ولا يحترمون هيئة الأمم المتحدة ولا القوانين الدولية.
على أن هذا ليس كل ما في جعبة هذه الإدارة التي تستحق لقب الرهيبة عن جدارة، لأن هذا اللقب راح ينطبق على عدد من سياساتها داخل الولايات المتحدة نفسها كذلك. وهو ما لم يسبق له مثيل في بشاعته مقارنة بكل الإدارات السابقة، جمهورية وديموقراطية، التي طالما اتهمت بالاستعمارية في سياساتها العالمية ولم يوفرها النقد القاسي داخلياً. فمن أين يأتي مصدر تسمية إدارة بوش بالرهيبة، والأبشع داخل الولايات المتحدة بالذات وليس بالنسبة إلى الخارج فقط؟
ظن البعض ان القوانين التي صدرت لمكافحة الارهاب، وما اتخذ من اجراءات داخلية مست استقلال القضاء وأصول المحاكمات والمبادئ الأولية لحقوق الانسان، بل الدستور الأميركي بالذات، واتصفت بالعنصرية في التمييز ضد العرب والمسلمين من مواطنين ومقيمين وزائرين، جاءت مجرد رد فعل لأحداث 11 ايلول (سبتمبر) وليست نهجاً يراد تكريسه. تماماً كما ظنوا ان الحرب على افغانستان كانت للرد على العدوان والارهاب اللذين تعرضت لهما واشنطن ونيويورك، ومن ثم لا تعبر عن نهج ثابت في العلاقات الدولية وفي الاستراتيجية الاميركية الجديدة. ولهذا أخذت تتصاعد اصوات الجمعيات الحقوقية التي تدافع عن القضاء وحقوق الانسان والدستور الاميركي ضد تحول ما ظن انها قوانين استثنائية وموقتة ومحددة الهدف الى نهج عام سماه بول كروغمان "الاستغلال البشع للحادي عشر من ايلول" ("الهيرالد تريبيون" 13/9/2003). وقد وصل الأمر الى اتهام كل اميركي ينتقد الإدارة باللاوطنية. واعتبر جيمس غولدستون في العدد نفسه ان "منارة الحرية آخذة في التعتيم"، وعدد محاكم عسكرية بلا دفاع مستقل، واعتقالات غير محدودة ضحاياها سريون، وحرمانا واسعا من الحقوق الاساسية لقطاعات كاملة من الناس وتعطيل نشاطات الرقابة الداخلية. وهذا من دون ذكر التغطية على ترحيل المهاجرين، أو ما يجري في معتقل غوانتانامو.
موضوع غوانتانامو وحده يمثل نموذجاً خطيراً لعقلية ادارة بوش في التعاطي مع حقوق الانسان واتفاقات جنيف الخاصة بأسرى الحرب عامة، ومع القوانين والأعراف والدستور في اميركا نفسها. فنحن إزاء معتقل يمارس التعذيب فيه علناً بحق اكثر من 650 انساناً. وهو نمط من التعذيب ينتهي بأمراض عقلية ونفسية. وقد انكرت ادارة بوش استخدام التعذيب لأنها تحصره بالذي ينتهي بعاهات جسدية، كأن تدمير العقل والاعصاب أقل خطورة واجراماً.
على ان هذه الكارثة الداخلية على الشعب الاميركي لا تقتصر على موضوع القضاء والقوانين وحقوق الانسان والحريات التي يضمنها الدستور فحسب، وانما تمتد ايضاً، وبصورة اسوأ تأثيراً في المديين المتوسط والبعيد، الى التلوث والبيئة الطبيعية. وهذان البعدان دخلا في الوعي المعاصر واحتلا مستوى في مرتبة القتل الجماعي والإبادة البشرية. والفارق الوحيد كون هذا القتل وتلك الإبادة يأتيان بعد عقدين الى خمسة عقود اذا استمر الحال على المنوال الذي تمارسه ادارة بوش، وان كان المنوال الذي سبقه تقليدياً موضع إضرار عظيم، ونقد شديد بسبب النمط الرأسمالي الاستهلاكي الاميركي، والسعي الى جني أقصى الأرباح من دون اعتبار للانسان والبيئة والطبيعة وأساساً التلوث ونضوب الموارد.
كانت الإدارة الاميركية السابقة أعدت مشروعاً لمعالجة النفايات السامة يشمل ألف موقع صناعي جمدته ادارة بوش منذ مجيئها. وكان هناك مشروع آخر يقضي بالتخلص من المصانع القديمة الشديدة التلوث، أو اقامة تجهيزات ضد التلويث فيها، فمددت الإدارة الحالية لها خمسة عشر عاماً زيادة عما مُدد لها من قبل. وقد حدث اسوأ من ذلك بالنسبة الى المصانع التي تعمل بالطاقة النووية. وكان من المفروض ان تغلق تدريجاً، وإذا بإدارة بوش تمنح رخصاً لتزيدها 50 في المئة. ثم لا تسل عن نشر مشاريع استخراج الغاز حتى من المناطق الخضراء التي تعتبر بمثابة محميات، كما حدث في منطقة مونتانا حيث حفر اكثر من 16 ألف بئر غاز الى جانب انشاء شبكة البنى التحتية. وقد تلوثت 7 مليارات ليتر ماء بسبب ذلك.
وأعلن ان وزير الدولة غيل نورتون (المحميات ضمن مسؤوليته) وعد ولاية يوتا ألا تقوم ادارة بوش بتحويل أي منطقة فيها الى محمية. وكانت هنالك محميات كثيرة في هذه الولاية الفريدة في صخورها وجبالها وطبيعتها ألغت ادارة بوش عدداً منها ووضعتها تحت الاستثمار. ويشير المحامون المدافعون عن البيئة والمحميات والمناطق الخضراء الى ان ادارة بوش لجأت الى اسلوب احتيالي لإلغاء الحماية عن مناطق بأسرها من خلال الاتفاق مع الولاية المعنية لرفع قضية ضد الحكومة الفيديرالية. فتأتي الأخيرة لتفاوض كما يسمح القانون قبل البت في القضية، ليصل الطرفان الى حل وسط. وبهذا تجري تسوية "تحرر" ملايين الهكتارات من الحماية. وتمتد اساليب الاحتيال لتلعب وراء ظهر الكونغرس وليس القضاء فقط. وذلك من خلال الاتفاق مع كبار موظفي الولاية ليطلبوا كف يد الدولة عن ملكية عامة من اجل مشروع محلي يخدم الولاية لتُجرى تسوية هنا ايضاً. ويقال ان فريق بوش يسعى الى خصخصة 60 في المئة من الأنهار والبحيرات وينابيع المياه التي تعتبر ملكاً للدولة الفيديرالية. وبالطبع الشركات الكبرى تقف وراء كل ذلك.
هذا وتحذر جمعيات الدفاع عن البيئة من ان استمرار هذه السياسات الى عام 2020 سينجم عنه انبعاث 42 مليون طن ملوثات اضافية في الجو. ويقدر ان مئة ألف سيموتون مبكراً بسبب ذلك، وستبلغ تكلفة العلاجات الطبية اكثر من 115 مليار دولار. ومن ثم، لا عجب حين تشكل ادارة بوش مجموعة لجنة الطاقة من 63 عضواً ليس بينهم غير عضو واحد لا علاقة له بصناعة الطاقة، أو عندما تخفض خُمس موظفي هيئة حماية البيئة، وتعين كبار مسؤوليها من موظفين سابقين في الشركات، أو اذا هبطت بملاحقات مخالفي البيئة الى الثلث. ثم كيف لا يتبرع قطاع الطاقة لبوش بثلاثة ملايين دولار (معلومة اخرى تقول ثمانية ملايين) لحملته الانتخابية المقبلة. ومثال آخر ذو دلالة يقول انه خلال عقد التسعينات أدرج تحت قانون الحماية 572 صنفاً ونوعاً من النبات والحيوان المعرض للاندثار فيما لم تقم ادارة بوش طوال عهدها بإدراج ولو صنف واحد فقط. وتلحظ جمعية المحامين المدافعين عن البيئة ان هذه الادارة تتعمد ضرب الديموقراطية من خلال تحويل التقارير الخاصة بالكائنات الحية أو البيئة عموماً الى سرية، حتى اصبحت السرية سمة مميزة لعمل عهد بوش.
وبكلمة، ان ادارة تفعل كل هذا داخل أرضها وإزاء شعبها ومستقبل أطفاله تستحق ان تحمل لقب الرهيبة الأبشع على المستوى الداخلي، كما على المستوى العالمي، حتى جاز القول ان سياسات ريغان التي اشتهرت باستهتارها بالبيئة والمحميات والمناطق الخضراء مجرد لعب أطفال اذا ما قورنت بسياسات فريق بوش الذي طبق عملياً ما قاله جيمس واط، وزير الدولة في ادارة ريغان: "لا حاجة الى حماية البيئة لأن المسيح قادم وسيحل كل المشاكل".