الحياة 2003/08/24
أميركا تحرج كل من يقترب منها بالقول او العمل. ولا تترك مجالاً، خصوصاً في منطقتنا العربية ـ الاسلامية المسماة الشرق الاوسط لهارب من المواجهة او حتى الممانعة في ادنى مستوياتها. فمصر، على سبيل المثال، تسعى الى ان تكون علاقتها بها استراتيجية. وقد وقّعت مع الدولة العبرية معاهدة وأثّرت في الموقف العربي كله من هذه الزاوية، ومع ذلك الضغوط متلاحقة عليها، وتأزيم العلاقات يلاحقها، وقائمة الطلبات (الشارونية عملياً) لا تتوقف، وآخرها الازمة المندلعة الآن على رغم قمتي شرم الشيخ والعقبة.
والامر نفسه ينطبق، وان بتجليات مختلفة نسبياً، على علاقات اميركا بالسلطة الفلسطينية منذ اتفاق اوسلو، واليوم في ظل رئيس الوزراء محمود عباس حيث حلّت الازمة محل ما كان يظن اكتشافاً لطريق ارضائها، وتجنب غضبها، او كسب ودها. فقد تبين ان كل ذلك يمر عبر معادلة واحدة: اما القبول الكامل بإملاءات شارون واما الازمة مع اميركا، ومن يريد ان يهرب من الخيارين يجد وضعه اخذ يتأسن ويدور في الحلقة المفرغة.
هذا وتكرر الامر نفسه بالنسبة الى علاقات السعودية بأميركا، وما وصلت اليه الآن من تأزيم رغم كل محــاولات تجــنبها، ومن ثم يعود السؤال نفسه او الخيارات نفسها، وتمتد الحـالة اياها الى الســودان مثلاً صارخاً على اشكالية العلاقة بأميـركا بالنســبة الى من يبعدون من حسابهم مواجهتها بحثاً عن سبيل التفاهم معها. ودعك من محاولات سورية وايران لتجنب المواجهة من خلال البحث عن وسيلة معقولة للتفاهم حتى ولو بمنهجية "لا يموت الذئب ولا يفنى الغنم".
على ان هذه الظاهرة لا تقتصر على علاقات منطقتنا بأميركا، لا سيما تحت ادارة بوش، وانما هي عالمية، وفي احسن الحالات قد تجد لها استثناءات غير ذات دلالة. وما تأزم العلاقات بفرنسا والمانيا ودعك من الصين وروسيا الا من الادلة على ان الظاهرة المشار اليها ذات سمة عامة. لكن حدّتها الصارخة عندنا تعود الى خصوصية هذه المنطقة من اوجه عدة، في مقدمها وجود المشروع الصهيوني ودولته العبرية في قلبها، وما تتمتع به الصهيونية الاميركية من نفوذ في القرار الاميركي نفسه، من صوغ الاستراتيجية الى السياسات التفصيلية.
وباختصار، الكل في حالة ازمة مع هذه الادارة، بما في ذلك توني بلير نفسه الذي هرب الى الامام واذا به في ورطة مع شعبه بسبب اقترابه من سياسات لا يُقترب منها.
ولهذا من العبث البحث عن معارك جانبية حتى لو كان الهدف الذي يبتغيه ضد كل من ينبس بكلمة ممانعة، او مواجهة، حتى لو كان الهدف الذي يبتغيه وقف تدهور العلاقات وتجنب فتح مواجهات اوسع في نهاية المطاف. فهذا البعض لا يتصور خياراً خارج القبول بالاملاءات حتى لو كان ضدها، ويكاد يفقد اعصابه من كلمة ممانعة، حتى لو كانت في ادنى مستوياتها. واذا وصلت الاملاءات حداً لا يمكن ابتلاعه، كما هو حاصل اليوم، هرب من اعطاء جواب الراهن حول كيفية التصرف مع الضغوط الاميركية المتلاحقة، واشدها مع الاكثر اعتدالاً ممن استجابوا لبعضها ولم يستطيعوا ان يلبوا بالقبول املاءاتها كاملة. ثم تراه يطرح برنامجاً مستقبلياً يحتاج الى عشرين سنة في الاقل حتى يُحقق بعضه، لو افترضنا بأنه يؤدي الغرض، مثل الانكباب على اكتساب العلم وامتلاك المعرفة والتكنولوجيا لتحقيق القدرة التي تفرض على اميركا بعد عقدين او اكثر، بالضرورة بأن "تحترم" حقوقنا ومصالحنا. لكن المشكلة وبلا حاجة الى مناقشة جدية هذا البرنامج تظل ماذا يُجاد وكيف يُرد على قائمة الطلبات ـ الاملاءات الراهنة التي تطرق بيد قوية على بابنا من الفجر الى الفجر؟
فبدلاً من مواجهة المعادلة الراهنة يجب تحويل المعركة ضد كل من ينبس بكلمة او يتناول بديلاً غير بديل اسقاط كل ممانعة، ناهيك عن اي مستوى من مستويات المواجهة، مع اللجوء الى تحقيق برنامج العلم والمعرفة والتكنولوجيا، ولاحقاً القدرة العسكرية، من دون ان يقال كيف ستمرر اميركا والدول العبرية ذلك. فهذا البديل هو البديل الوحيد اما غيره من البدائل فيجب ان يوضع تعسفاً، ومن خلال عمى الوان مذهل، في سلّة بديل تنظيم "القاعدة" وسياسات نظام صدام حسين. فاذا كان من الصعب وضع البدائل جميعاً ذات العلاقة بمواجهة او ممانعة (ناعمة جداً) في تلك السلّة فسيقال انها من حيث الجوهر في السلّة نفسها لأن هناك منهجين عربيين فقط في التعامل والسياسات الاميركية: منهج "القاعدة" وصدام حسين، ومنهج اسقاط المواجهة من حيث اتى والسعي الى امتلاك القدرة عبر برنامج العشرين او الاربعين سنة ومن دون ان يجيب عن اسئلة واملاءات تتقدم بها ادارة بوش وقبضتها تضرب على الطاولة: هل نقبلها كلها، واذا قبلناها كلها فهل يمكن المضي بالبرنامج التعليمي والوصول الى القدرة، واذا قبلنا بعضها او حتى الكثير منها فهل ترضى اميركا ام تعود الازمة لتنفجر من جديد. فيا للمنهج الذي يسقط من حسابه كل ممانعة ومواجهة وحشد للقدرة المتاحة في مواجهة تحديات الراهن، ومن دون ان يتعارض ذلك مع طرح برنامج مستبقلي يحتاج الى عشرات السنين.
المشكلة في جوهرها ان ثمة اخفاقاً في تحليل اسباب ازمة العلاقات بأميركا، وقبلها الاسباب الحقيقية وراء ما يسمى هزائمنا. وذلك بالقاء كل المسؤولية على انفسنا واعفاء اميركا من مسؤولية استراتيجية الهيمنة والتحكم بمصائرنا وحمل المشروع الصهيوني الى داخل بيوتنا، وليس الى عقر دارنا فقط.
وبمعنى آخر ذلك البعض لا يمكنه تصور بديل ثالث، بل بدائل وخيارات متعددة، عدا بديله وبديل تنظيم "القاعدة" ومن يدخله في سلتها. والأغرب انه يرفض "نظرية الفسطاطين" وما فعله، عملياً، هو الارتفاع بها الى مستوى اعلى من التنظير: منهجان عربيان فقط.
ويبقى السؤال امام البديل الاوحد: هل يمكن امتلاك القدرة من خلال التوسع في العلم واكتساب المعرفة وامتلاك التكنولوجيا ثم القدرة العسكرية من دون ممانعة ان لم يكن مواجهة الضغوط الاميركية ـ الاسرائيلية التي لا تقف متفرجة منتظرة في كل الحالات.
فمن دون مغالبة وتحد وتحمّل للضغوط وعدم الاستسلام لا يمكن ان نشق طريقاً لنهضة او امتلاكاً لقدرة. فما من نهضة شقت طريقها باسقاط كل ممانعة ومواجهة ابتداء من تجربة الولايات المتحدة التي ما كانت لتتقدم لو لم تحرر ارادتها من الاحتلال البريطاني وتوحد ولاياتها لا سيما الشمالية والجنوبية. ولنخصّ الصين معها اذ اصبحت في هذه الايام مثلاً في التعاطي واميركا مع تجاهل ان ما وصلت اليه من قدرة تم من خلال الاصرار على تحرير ارضها وتوحيدها (لاحظ بالنسبة الى التجارب الكبرى: التحرير والوحدة). وهنا لا يجدي التعلق بالتجربة اليابانية والالمانية او بتجربة النمور الآسيوية بعيداً من ظروف الحرب الباردة ومساعدة اميركا لها بسبب تلك الحرب، فيما الاستراتيجية الاميركية والمشروع الصهيوني يتناقضان بل يقاومان نهوض قطر عربي او اسلامي واوحد في منطقتنا، فكيف بنهوض اكبر واشمال.