سامي البدري
روائي وكاتب
(Sami Al-badri)
الحوار المتمدن-العدد: 1961 - 2007 / 6 / 29 - 11:39
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
توقع أغلب المثقفين العراقيين ان تكون مرحلة ما بعد ازاحة النظام الدكتاتوري السابق ـ رغم انها جاءت كنتيجة لعملية احتلال ـ فرصة للانماء السياسي وبلورة لحياة سياسية عراقية جديدة (مفاهيما وممارسة) ،تقوم على اسس ديمقراطية (تطويرية ـ تحديثية) ،سواء على صعيد البناء الديمقراطي لشكل النظام (نظام المؤسسات) او على صعيد الممارسة الفعلية للعملية السياسية ،وفق المعايير الديمقراطية التى تكفلها وتصون حقوقها القوانين ومؤسساتها الدستورية . ان من بين اهم شروط عملية الانماء السياسي هو تشكيل الاحزاب السياسية الوطنية التي تضع مصالح البلاد والمواطنين فوق أي اعتبار او مصلحة خاصة او فئوية ،وتجعل من صيانة العملية الديمقراطية ومؤسساتها الدستورية هدفا جوهريا ،على طريق انماء العملية السياسية وتكريسها في الحياة العامة كقواعد ومرتكزات لا يمكن تجاوزها او التغاضي عنها لاي سبب او تحت أي ظرف كان . ورغم ان الغالبية العظمى من المواطنين ليس لها من العملية السياسية وسيرورتها الانمائية غير العملية الانتخابية ، وممارستها من خلالها ،لدورها في حكم نفسها وعملية صناعة القرار ،فان الدور الاكبر لعملية الانماء السياسي والسيرورة الديمقراطية انما تقع مسؤوليته على كاهل الاحزاب السياسية ،وهي ،بالتالي ،صاحبة الدور الرئيس في انماء الحياة السياسية العامة ،من خلال فعلها التثقيفي والتطويري لمسيرة حياة المجتمع (على مستوى الممارسة السياسية ومفاعيلها الديمقراطية ) . وللاسف ،فقد اثبتت العملية الانتخابية في العراق المحتل ،وهي المظهر الوحيد الذي حرصت على اظهاره ادارة الاحتلال الامريكي واحزاب طبقتها السياسية ،ان العراق يفتقر فعلا للاحزاب السياسية ،بشكلها ودورها المتعارف عليه في دول العالم (كمؤسسات انماء سياسي واغناء وتحديث فكري ،وتكريس وتطوير ديمقراطي ) وان احزابنا ،القديم منها والذي استحدث خلال حقبة الاحتلال ـ باستثناء بعض الاحزاب اليسارية ـ هي مجرد هياكل دعائية ـ تزويقية ،لا تتوفر على شئ حقيقي من مفاعيل ووعي العملية الحزبية والسياسية ،فضلا عن ثقافة اللعبة الديمقراطية ،وان مفاتيح العملية السياسية مازالت فعلا بيد السلطات القائمة (سياسية واجتماعية) ،وان اثر الاحزاب على الناخبين ،وعموم الرأي العام وتوجهاته ،مازال يمر عبر بوابة متنفذي منظومة العملية الاجتماعية ( دينية وعشائرية) والسياسية (رجال السلطة المتنفذين في ادارة اللعبة السياسية من المقربين من رأس النظام او الذين يروجهم وضع سياسي قهري مثل وضع الاحتلال او الانقلابات العسكرية ) في تشكيل وعيه السياسي ،ووفق اعتبارات ومفاهيم اثنية (طائفية ،قبلية ،مناطقية) والتي غالبا ماتكون بعيدة ـ ان لم نقل على الضد ـ عن مصالحه الحياتية والمادية والمستقبلية ( الانمائية) . وهذا بالضبط ما عبر عنه رئيس الوز راء العراقي الاسبق ،نوري السعيد ،عندما تحدى اعضاء المجلس النيابي العراقي لعام 1943 في فوز أي منهم بمقعد في المجلس من دون ان ترشحه الحكومة : (هل في الامكان ـ اناشدكم الله ـ ان يخرج احد نائب (كذا) ،مهما كانت منزلته في البلاد ومهما كانت خدماته في الدولة ،ما لم تأت الحكومة وترشحه ! فانا اراهن كل شخص يدعي بمركزه ووطنيته ،فليستقيل الان ويخرج ،ونعيد الانتخاب ،ولا ندخله في قائمة الحكومة ،ونرى هل هذا النائب الرفيع المنزلة ،بما وراءه من المؤيدين ،يستطيع ان يخرج نائبا )؟! محضر مجلس النواب العراقي لسنة 1943 . حدث هذا يوم كانت الدولة العراقية الحديثة في اول مراحل نشأتها وتكاد تنفرد ،كمؤسسة ، بادارة مفاعيل العملية السياسية وتوجيه الرأي العام . ومثلها كانت الاحزاب السياسية جديدة على حياة وثقافة العراقيين السياسية ، اذ كان تشكيلها يكاد يكون مقصورا على متنفذي الطبقة السياسية ؛ و الوطنية منها والقريبة من هموم الشعب كان مصيرها المحاربة والقمع والتهميش وتشويه السمعة بين صفوف الشعب .
ترى ما الذي تغير في هذا الوضع اليوم ؟
الحقيقة لم يتغير شي ،باستثناء تحويل مرجعية الحراك (سياسي حزبي) من الدولة الى المحتل الامريكي ،الذي صار الولاء لمشروعه الاستعماري في العراق ،هو معيار قبول او محاربة أي خزب سياسي ،وبالتالي قبر او انماء مشروعه السياسي ،على قدر وطنيته و مولاته او التقاءه مع مصالحه و مشروعه ،وهذا بالضبط ما لاقته اغلب الاحزاب الوطنية ، واليسارية منها ،على وجه الخصوص . وبديهي ان مثل هذه الاحزاب الظرفية / المصلحية لا يعنيها من امر عملية الانماء السياسي وسيرورة النمو الحضاري للمجتمع شئ ،بقدر ما تعنيها مصالحها الظرفية / الفئوية وضمان حصتها من مقاعد السلطة التي تؤمن لها تلك المصالح .
ما هو الانماء السياسي ؟
""""""""""""
يعرف الدكتور حسن صعب ،استاذ علم السياسة ،الانماء السياسي بانه : (ثورة . والثورة ـ كما نراها هنا ـ هي تغير نوعي في نظام العلاقات السائد في المجتمع يؤدي الى تغير في وعي الانسان وسلوكه ). بحثه عن الانماء السياسي في ندوة الدراسات الانمائية ،بيروت عام 1975 .وعلى خلاف هذه الثورة ،يكاد الدكتور صعب ان يقصر عملية الانماء السياسي على نزاهة العملية الانتخابية ومدى التزام الاحزاب السياسية بقواعد اللعبة الديمقراطية وادامتها ،بعيدا عن مصالحها او مطامحها الخاصة ،وهذا ما نختلف فيه مع الدكتور صعب ،لان الانماء السياسي ،وكما عرفه الدكتور صعب ،تغير نوعي في نظام العلاقات السائد في المجتمع يؤدي الى تغير في وعي الانسان وسلوكه ، وفي رأينا فان عملية التغيير (الانماء الحضاري / الثقافي) في وعي الانسان وسلوكه مرهون بعملية تحسين ظروفه الاقتصادية والمعاشية اولا ،وذلك لانها الخطوة الكفيلة بـ :
1 ـ انتشار التعليم ،الذي تتوقف عليه عملية التغيير والارتقاء بنظام القيم في المجتمع . فالتعليم ،وبالتالي الرقي الثقافي ،هما اهم العوامل في تهذيب سلوك افراد المجتمع وجعلهم اكثر عقلانية واعتدالا ،وبالتالي ،اكثر وعيا وتقبلا للافكار والسلوك المتحضر في الحياة العامة ،وللعملية الديمقراطية في الحياة السياسية .
2 ـ يهيئ الاقتصاد المستقر وحياة الوفرة فرص تذويب عناصر التمايز الطبقي ،وبالتالي الصراع الطبقي ،بين افراد المجتمع ،الامر الذي يساعدهم على اغناء افكارهم ووجهات نظرهم وتطلعاتهم بخصوص قوانين ومحددات الحياة العامة للمجتمع وسيرورة تنظيمه السياسي ،مما يجعله اكثر تقبلا للحياة الديمقراطية التي تتكفل باشراكه في عملية صنع الاستقرار السياسي عن طريق التداول السلمي للسلطة ،وعملية صناعة القرار ،عن طريق العملية الانتخابية المنتظمة التي تحميه من دكتاتورية واستبداد الفرد الحاكم او الحزب الواحد .
3 ـ الاستقرار الاقتصادي وارتفاع معدل الاجور يوسع قاعدة الاستقرار الاجتماعي ،عن طريق القضاء على الفقر ،والارتقاء بمستوى الطبقات الكادحة الى مستوى الطبقة المتوسطة (مادة المجتمع) التي تعمل على تأسيس الاحزاب المعتدلة التي تعمل على الحد من طغيان الطبقة الغنية ،التي غالبا ما تعمل على احتكار السلطة من خلال احزاب محافظة ويمينية التوجه .
4 ـ كما يهيئ النمو الاقتصادي الاجواء والفرص لانتقال البلد الى حياة المجتمع المدني ،من خلال توفير الفرص لقطاعات العمل ووجوه نشاطه لتشكيل التجمعات والنقابات والاتحادات المهنية ،
التي تعتبر الخطوات الاولى لتأسيس المجتمع المدني .
ومن هنا يتضح امامنا ان النمو الاقتصادي وتحقيق الرفاه ومجتمع الوفرة ،هي وحدها الكفيلة باحداث ثورة التغيير في وعي المواطنين وتهذيب سلوكياتهم وتلطيفها وجعلها اكثر هدوء ومسامحة في تقبل الافكار الجديدة والغريبة على ارثه الفكري والاجتماعي . لا ديمقراطية في مجتمع غير مدني وبلا مؤسسات مجتمع مدني فاعلة .. ولا انماء سياسي في مجتمع غير ديمقراطي ،او مجتمع مهلهل البنى والمرتكزات الحقيقية للديمقراطية ،بان لايكون له من الديمقراطية غير صناديق الاقتراع غير المحمية بمؤسسات مجتمع مدني فاعلة تؤدي الدور الرقابي على اجهزة الدولة وسلطة الحكومة قبل مراقبتها لصناديق الاقتراع ونزاهة العملية الانتخابية ككل ،كما هو حاصل في العراق اليوم . وكل ما سبق ذكره من هذه المهام هو من مهام واختصاص وواجب الاحزاب السياسية الوطنية التي تأخذ على عاتقها مهمة بناء القواعد الرصينة لتحقيق المجتمع المدني الذي يحصنه الاستقرار الاقتصادي ،قبل الاستقرار السياسي ،
ضد الفقر او امراض البطالة وعوز الحاجة التي تجعل من المواطن عرضة للكثير من اساليب التأثير ،واولها محدودية التفكير والوعي ،وثانيها ،اللهاث خلف لقمة العيش ،والتي تعتبر من بين اهم اسباب تشتيت الجهد الاجتماعي في فرض اشكال الانماء السياسي على ( طبقة الاحزاب السياسية ) ،اذ ان الاحزاب السياسية في مثل هذه الاوضاع ،تتحول الى طبقة سياسية مستقلة عن عموم ابناء المجتمع ،ومساندة لسلطة الحكومة ضد المواطن .
#سامي_البدري (هاشتاغ)
Sami_Al-badri#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟