أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - كاظم حبيب - قراءة في كتاب -عندما كنت وزيراً- للدكتور عبد الأمير العبود - الحلقة الاولى والثانية















المزيد.....



قراءة في كتاب -عندما كنت وزيراً- للدكتور عبد الأمير العبود - الحلقة الاولى والثانية


كاظم حبيب
(Kadhim Habib)


الحوار المتمدن-العدد: 1959 - 2007 / 6 / 27 - 12:19
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
    


قراءة نقدية متأنية في كتاب
"عندما كنت وزيراً" للأستاذ الدكتور عبد الأمير رحيمة العبود
الحلقة الأولى
صدر في العام 2007 عن "دار ورد الأردنية للنشر والطباعة" في عمان العاصمة كتاب جديد للأخ الأستاذ الدكتور عبد الأمير رحيمة العبود تحت عنوان " عندما كنت وزيراً ", علماً بأن عنوان الكتاب بمسودته الأصلية التي اطلعت عليها قبل نشره كان "من خزين الذكريات", وهو عنوان مناسب لمضمون الكتاب وللخبرة والمعرفة التي يقدمها لنا الكاتب والتي اختزنها طوال العقود السبعة من عمره.
يتضمن الكتاب مقدمة وثلاثة فصول, يحمل الفصل الأول عنوان الكتاب الأساسي "من خزين الذكريات", ويتضمن الفصل الثاني فترة "ما بعد الحرب" أي بعد العام 2003 وسقوط نظام الطاغية صدام حسين, في حين يحمل الفصل الثالث عنوان الكتاب المطبوع "عندما كنت وزيراً للزراعة.
شعرت وأنا اقرأ الكتاب أن فيه بعض الخصائص المهمة التي تميزه, منها مثلاً:
• العفوية في سرد الأحداث وبعيداً عن الحذلقة, ولكنه مباشر ودون رتوش.
• الصراحة والصدق في التعبير عن تلك الأحداث وفي الموقف منها حتى لو كانت تمسه شخصياً.
• بساطة الجمل التي يتضمنها الكتاب, ولكنها مليئة بالمعلومات والآراء والمواقف.
• الخزين الحي للذكريات ابتداءً من الطفولة ومروراً بفترة التلمذة والدراسة والحياة الأكاديمية والعيش في ظل النظام الدكتاتوري والحروب والحصار والخوف من الحاضر والمستقبل.
• الحب للوطن, للناس, وللأرض التي سار عليها وهو طفل صغير, والنهر الذي سبح فيه وهو صبي وشاب يافع, والوفاء لأصدقاء الطفولة والصبا والشباب والحياة العملية.
• ويتلمس القارئ أخيراً وليس آخراً التطور الفكري والسياسي الذي شهدته مراحل حياته والمواقف الصعبة التي واجهها والقضايا التي لا يزال يتحرى عن إجابة عنها ولم يستح أو يتردد عن ذكرها.
قرأت الكتاب وكان ما يزال مسودة وأبديت ملاحظاتي المتواضعة لصديقي الكاتب بكل صراحةٍ وودٍ واحترام. ولهذا سأحاول أن أكون بذات الصراحة في محاولتي الكتابة عن صيغته الجديدة. لقد أعطى الكاتب المسودة لأكثر من صديق وأبدى البعض ملاحظاته واستفاد منها دون أدنى ريب. وهي ظاهرة صحية في أن يسعى الإنسان إلى معرفة رأي الأصدقاء وملاحظاتهم النقدية لما يريد أن ينشره وفيها الكثير من التواضع المحمود. والكتاب يستحق القراءة لأنه شهادة حية, ومن زاوية رؤية الكاتب, لأحداث تمتد قرابة ستة عقود, وأهميتها أيضاً تبرز في معالجته لوضع العراق في فترة حرجة واستثنائية من ترايخ العراق, في أعقاب إسقاط النظام الدكتاتوري في حرب غير متكافئة طبعاً عبر القوات الأجنبية
وإعلان احتلالها العراق الذي رفضه الشعب كله وكل القوى السياسية العراقية, ومن ثم قيام سلطة الاحتلال بقيادة العراق بطريقة لا يمكن التعرف على أسوأ منها وكان بطلها السيئ المستبد بأمره بول بريمر!
حين تبدأ بمطالعة الكتاب تشعر برغبة المواصلة. فوصف حياة طفل وصبي في مدينة المجر الكبير التابعة للواء العمارة (ميسان) والركوب بزورق صغير صوب المجر الصغير أو بالمشحوف صوب الأهوار وحياة المدينة الريفية الصغيرة بحميرها وبعيرها باعتبارها وسائط النقل الأساسية, هي مسألة نادرة حقاً لا تتوفر باستمرار لقارئة العربية أو قارئ العربية. ففي الكتاب وصف جميل لهذه المدينة ونشاطها التجاري وعلاقتها بالبصرة والمدن المجاورة وحركة الناس وهمومهم وتطلعاتهم, فيه وصف للمجر الكبير لسوقها وأزقتها وشوارعها غير المبلطة وتلك التي بلطت حديثاً وبيوتها ونخيلها وبساتينها والنهر الذي كان يسبح فيه مع بقية أقرانه. حين تقرأ ذلك تشعر بدفء الحياة والناس ومشاعر الود التي تميز علاقات الناس ببعضهم وتجمع شملهم. يحدثك الكتاب بعفوية وصدق عن العلاقات الطبيعية والودية بين السنة والشيعة والصابئة المندائيين, إذ لم يشعر الفرد هناك بأي تمييز بين هذه الطوائف. ثم يتحدث بحس إنساني عن انعدام التمييز بين الناس على أساس الدين أو المذهب حين أشار إلى المواطن والطبيب المسيحي السيد عزت وزوجته المواطنة والطبيبة جوزفين, وكلاهما كان قد أقام علاقات طيبة مع الناس في المجر الكبير واحباهما الناس كثيراً لأنهما قدما خدمات طيبة للناس , علماً بأن السيدة جوزفين كانت وفي تلك الفترة تظهر سافرة في شوارع وسوق المدينة ولم يكن لأحد أن يخطر بباله الاعتراض عليها. ولكن لم يفت الكاتب أن يدلنا على واحدة من أكثر المشكلات التي يعاني منها الشرق الإسلامي المتخلف , وأعني به الموقف من المرأة. فهي ليست حبيسة العباءة السوداء القاتمة وحبيسة المطبخ والدار وتربية الأطفال حسب, بل هي لا تعرف الشارع والعمل أيضاً. كان هناك بعض النسوة اللواتي استطعن فرض أنفسهن على المجتمع لقوة شخصيتهن أو لحاجة ماسة فرضت نفسها على العائلة , ومن بينهن يبرز اسم "فهيمة" التي تتعامل بالسوق فتبيع وتشتري الحبوب والمنتجات الحيوانية, و"غنمة" التي كانت تبيع الأعشاب الطبية في باحة السوق.
ومن دون أن يقيم مقارنة مع الأيام الراهنة, يشعر القارئ بأن الكاتب يقول له بألم عميق: أين نحن الآن من تلك الأيام الخوالي حيث لم يكن هناك أي تعصب أو تطرف ديني أو مذهبي أو عنف عدواني لدى الناس, في حين يعيش المجتمع العراقي حالياً في ظل التمييز الديني والطائفي والصراع المحتدم بين الأحزاب الإسلامية السياسية القائمة على أساس المذهبية السياسية المقيتة والقتل بالجملة وعدم احترام الأديان والمذاهب من قبل جماعات كثيرة بمن فيها القوى الاستبدادية والظلامية.
يقدم الكاتب لنا صورة حية وواقعية عن مراسيم الزواج والأعياد وعن طقوس عاشوراء واللطامة, والمواكب التي تتوجه سنوياً إلى كربلاء للتعبير عن حزنها لمأساة الحسين وعائلته وصحبه التي وقعت قبل قرون كثيرة, وتبنى لو تنتهي الطقوس الراهن لصالح التأبين الحضاري لهؤلاء الشهداء الأبرار. ثم يتحدث عن شهر رمضان ولياليه المقمرة والمنعشة المليئة بالحركة والزاهية بلياليها والمنعشة للأطفال, وعن الأعياد وفرحة الأطفال بها وبالعيدية والمراجيح والبدلة والحذاء الجديدين أو النظيفين والزيارات بين الأقارب والعائلات الصديقة وصنع الكليچة والأكلات الرمضانية الطيبة والاستثنائية والزلابية والبقلاوة وشعر البنات. ولا شك في أن لعبة المحيبس كانت تهيمن على مقاهي المدينة ورجالها فقط.
يقدم لنا الكاتب صورة عن التعليم والمعلم وعفوية الحياة في مثل هذه المدينة الصغيرة الخالية من كل ثقافة حديثة, وطيبة هؤلاء المعلمين وتأثيرهم الطيب والوطني على التلاميذ. ولكنه يدلك بصوت هادئ منغم وواضح عن البؤس والفاقة والحرمان والبطالة التي شاهدها في هذه المدينة, وعن الفجوة بين الأغنياء والفقراء, ولم يستح أن يقول بأن عائلته كانت واحدة من تلك العائلات الفقيرة التي اغتنت فيما بعد بعمل الوالد التجاري. لم يتردد عبد الأمير عن الحديث عن حبه الأول وولهه الصبياني الجميل بساجدة, هذه البنت الشابة التي تكبره كثيراً ليؤكد لنا بعفوية أن الحب هو رحيق الحياة منذ أن وجد الإنسان على هذه الأرض الطيبة وسيبقى كذلك. ولهذا كان الحب رفيقاً دائماً وطيلة حياة الكاتب, خاصة أثناء دراسته في ألمانيا , ولم ينج منه حتى عندما كان وزيراً! وفي خضم الأحداث المتلاحقة قي الكتاب , نسى الكاتب أن يسرنا بحقيقة بسيطة هي أن هذه المنطقة, التي عاش فيها طفولته وصباه, كانت هي الأخرى أحد مهود الحضارة السومرية والبابلية القديمة, والتي ساهمت أيضاً بتطوير وسائط النقل النهرية, ومنها المشحوف.
ويشعر القارئ بان الحياة كانت حينذاك تعجل في دفع الإنسان نحو الرجولة المبكرة. فما أن دخل عبد الأمير الصف السادس الابتدائي حتى أعطانا الانطباع بأنه أصبح يقرأ أشياء أخرى غير الكتاب المدرسي لجورجي زيدان ومصطفى المنفلوطي وجبران خليل جبران مثلاً , ويعي أشياء أخرى غير ألعاب الطفولة , وخاصة بعد أن تعرف على السياسي الشيوعي الراحل سامي أحمد العامري , وهو يكبره سناً, وعرف منه ماذا يعني الإقطاع واستغلال الفلاحين الفقراء والمعدمين وحياة البؤس التي يعيشها القسم الأعظم من سكان الريف. لقد بدأت السياسية تنفذ إلى رأس الصبي في وقت مبكر وتشغل باله, ثم تنمو صورة الواقع وتتكامل حين يدخل الثانوية في مدينة العمارة والكلية ببغداد العاصمة.
انتقل عبد الأمير الشاب المراهق إلى العمارة ليتسنى له دراسة المتوسطة والثانوية فيها لخلو المجر الكبير منهما, دع عنك خلوها من مدرسة متوسطة أو ثانوية للبنات في المجر الكبير حينذاك. وفي الثانوية توسعت مداركه وبدأ يشعر بوضوح وفي مدينة العمارة البائسة, رغم أنها كانت أكثر تطوراً من المجر الكبير أو الصغير, بؤس الناس وفاقة الفلاحين على نحو خاص وظلم الإقطاع. وكانت هذه الفترة أول تماس له مع الحزب الشيوعي العراقي دون أن يصبح عضواً فيه في أي من مراحل حياته, ولكنه لم يكن بعيداً عنه. لقد كان الحزب الشيوعي يملأ الساحة السياسية في العمارة وتجد أفكاره صدى لدى الناس, وخاصة في صفوف الطلبة, هكذا كان يرى عبد الأمير الحركة في الساحة السياسية في العمارة حينذاك, وهي نموذج لبقية أنحاء العراق. وحين هبَّت في بغداد انتفاضة 1952 شارك طلبة الثانوية في العمارة فيها ولم يتخلف عنها, بل كان ضمن المنتفضين على ظلم الحكم الملكي وجوره على الفلاحين وتغييبه لحرية الناس والديمقراطية. حين اصطدم الرجل السياسي عبد الأمير بظلم نظام صدام حسين وما جرى فيه من انتهاك لحقوق الإنسان وخاصة حقه في الحياة والتعبير والعمل ...الخ, وجد بعض الفضائل في النظام الملكي بالمقارنة مع ما حصل فيما بعد سقوطه, إذ يقول في هذا الصدد ما يلي: " وحينما أعود بالذاكرة إلى سنوات الأربعينيات والخمسينيات, وما تميز به الوضع الاجتماعي والاقتصادي والنفسي لأهالي المجر الكبير في ذلك الحين, تتكرر أمامي حالة القناعة والرضا والابتهاج والانشراح التي كان يتصف بها أولئك الناس , على الرغم مما كانوا يعانونه من حرمان مادي وعوز وشظف في متطلبات المعيشة...., لكن الإنسان في الوقت الحار يفتقد غالباً إلى السعادة والرضى والانشراح , بل تجده دائماً مهموماً مكلوماً قلقاً لا يستقر على حال . وما أكثر أسباب القلق والاكتئاب والخوف التي يتعرض لها الإنسان في عصرنا الراهن.". (عندما كنت وزيراً, ص 48/49).
وبقدر ما هي صحيحة من جانب, هي خاطئة بقدر أكبر من جانب آخر, وهي إحدى الإشكاليات التي يعاني منه العديد من الكتاب, إذ أن بعضهم ينسى بأن النظام الملكي الذي داس على الدستور العراقي الذي أقر في العام 1925 وأصدر قوانين مناهضة لمضمون وزور عن عمد الانتخابات وعمق الاستغلال في الريف وصادر الحريات, كان قد أسس قاعدة لثورة 14 تموز 1958 أولاً وأسس للعنف وعدم احترام القوانين والحياة الدستورية, فهو القاعدة السلبية التي شكلت شخصية العراقي في ظل الملكية وما بني عليها لم يكن أفضل منها, بل أسوأ بكثير. لا شك في أن الفارق بين العهد الملكي والعهد ألصدامي كبير جداً كبعد الأرض عن السماء, ولكن الأساس المادي واللبنة الأولى لما حصل فيما بعد ناشئ تاريخياً في العراق وقبل الملكية ولكنه استكمل في عهد الاحتلال البريطاني والملكية والإقطاع في العراق. هذا ما يفترض أن نعيه ونحن نكتب عن تلك الفترة. فأنا أعرف معاناة جيل الأربعينات والخمسينات ومعاناة الإنسان السياسي على نحو خاص, ولكن معاناة الفلاحين والعاطلين عن العمل والهاربين من ظلم الإقطاعي إلى المدن ومطاردة الشرطة لهم لإعادتهم إلى "سادتهم الإقطاعيين" ما تزال حية في الذاكرة. وما أزال أتذكر هوسة الفلاحين في أوائل الخمسينيات التي منها :
كريم ياكل عنبر وآنا بليه دنان اسمع يا مفوض
كريم يركب كاديلاك وآنا بليه نعال اسمع يا مفوض
وما تزال هوسة نوري السعيد من راديو بغداد , وأنا مع حشد من المبعدين في المنفى في مدينة بدرة على الحدود العراقية الإيرانية , ترن في أذني وهو يصرخ بهستيريا "دار السيد مأمونة" وكأن لم يكن واثقاً من استمرار دار السيد, ثم حديثه البائس عن سبل معالجة الإقطاع عبر الزمن من خلال توريث الأراضي لأبناء الإقطاعي بعد موته, إذ أن الأخير يتزوج كثيراً وينجب كثيراً, وبالتالي يحل مشكلة الأرض عن هذا الطريق ناسياً جموع الفلاحين الفقراء المعدمين والمحرومين من الأرض الزراعية. إن القناعة التي يتحدث عنها الدكتور العبود عند الناس حينذاك لا تعبر عن وعي بالواقع الذي كانت الغالبية العظمى من الناس تعيش فيه, بل تعبر عن تخلف في وعي الواقع القائم ومشكلاته والبؤس الذي كان يلف الجميع. ولم يكن المثقفون مخطئين حين كانوا يشيرون على أن العراق مبتلى اجتماعياً بثلاث علل, وهي: الجهل والفقر والمرض.
يعود الكاتب إلى نفس الموضوع ليؤكد على الصفحة 69 من كتابه "عندما كنت وزيراً" بشأن أحداث الفترة الواقعة بين 1945-1958 وعن الحماس القومي لمقارعة النظام والاستعداد للتضحية والاندفاع نحو القضايا القومية ما يلي:
" اكتشفنا بعد فترة متأخرة , وبعد فوات الأوان , بأن الفترة بين عام 1945 وعام 1958 هي فترة جيدة في تاريخ العراق المعاصر , لو أخذنا تطبيق القانون واحترام النظام من قبل الدولة والشعب , ومدى تطبيق أسس النظام الديمقراطي والتقيد بها من قبل السلطة والشعب في دولة نامية كالعراق في ذلك الوقت و أساساً للقياس ومقارنة 1لك مع ما كان يحصل في الدول المجاورة والدول النامية.
وحتى لو أخذنا النظام السياسي والنظام الاقتصادي في تلك الفترة بنظر الاعتبار , فقد تمخضت تلك الفترة عن انتخاب البرلمان ووجود عدد من الأحزاب السياسية , ووجود عدد كبير من الصحف التي كانت تنتقد الدولة , وحتى السياسة الاقتصادية فبالرغم من شحة الموارد المالية آنذاك أقيمت قاعدة جيدة من البنى الارتكازية من الطرق والمواصلات والاتصالات والمداري والمستشفيات وغيرها من المشاريع التي نفذت من قبل مجلس الإعمار". (ص 69/70 من نفس الكتاب) وهو في نفس المقطع ينتقد الأحزاب السياسية التي اختارت العنف طريقاً للوصول إلى السلطة.
ومع أن كلمة لو التي وردت أكثر من مرة شكلية وسفسطائية إلى حد اللعنة, لأن الأمور جرت باتجاه آخر, فسأحاول هنا أن أحاور الصديق الفاضل بعدة نقاط, وأهمها:
لم يكن خيار العنف الذي وافقت عليه الأحزاب السياسية العراقية وتبنته في النضال ضد السلطة الملكية إلا نتيجة ممارسة السلطة للعنف في أعقاب الحرب العالمية الثانية وابتداء من مظاهرة حزيران من العام 1946 وسقوط عدد من الضحايا. ثم تكرر المشهد في إعدامات أقطاب حركة مايس 1941, ومن ثم إعدام الضباط الكُرد الأربعة الذين شاركوا في حركة الشعب الكردي بقيادة الملا مصطفى البارزاني في العام 1946 رغم الوعود التي أعطيت بعدم إعدام من يسلم نفسه, ثم تكرر العنف في وثبة كانون 1948 ومعركة جسر العتيگ (جسر الشهداء) المعروفة لنا جميعاً, وأعتقد إن قصيدة الجواهري ما تزال ترن في أذن كل عراقية وعراقي من ذلك الجيل حين غنى "أخي جعفر" الذي استشهد في هذه الوثبة. لنتذكر معاً محنة مواطنات ومواطني يهود العراق حين تآمر عليهم النظام العراقي وبريطانيا وإسرائيل سوية ً لتهجيرهم قسراً وعنوة عبر قانون إسقاط الجنسية العراقية وسرقة ونهب أموالهم المنقولة وغير المنقولة واستخدام الشرطة لإيصالهم على شركة الطيران التي كان لتوفيق السويدي حصة فيها, ثم لنتذكر العام 1949 حين جرى إعدام عدد من قياديي الحزب الشيوعي العراقي, ثم شهداء وسجناء انتفاضة 1952. ولن ننسى شهداء مجزرتي سجن الكوت وسجن بغداد في العام 1953 التي نظمت من قبل حكام بغداد, وبعدها كانت انتفاضة 1956 التي يشير إليها الدكتور العبود أيضاً, إضافة إلى زج المئات من المثقفين والطلبة في السجون وفي المعسكرات والنفي. حينها لم تجد القوى أسياسية العراقية طريقاً غير الطلب من الجيش لدعم قضية الشعب, الذي كان بدوره قد تحرك في الخمسينيات لينظم نفسه ويعمل للقيام بانتفاضة عسكرية تحققت في الرابع عشر من تموز 1958. كم كان بودي أن يعود الصديق إلى مراسيم حكومة نوري السعيد في العام 1954 بعد أن حل المجلس النيابي وأجرى انتخابات جديدة وزيف الانتخابات وأخرج قوى المعارضة من البرلمان وأصدر مجموعة من المراسيم التي صادرت الحريات الديمقراطية تماماً وأسقط الجنسية عن مجموعة من الوطنيين الديمقراطيين العراقيين.
لم يتعرض السياسيون ضد إقامة البنى الارتكازية في العراق, بل اعترضوا على المشاريع التي كان يراد إقامتها للأغراض العسكرية. وكانت المطالبة كبيرة بإقامة مشاريع البنية التحتية من كهرباء وماء وهواتف ونقل ومواصلات وشوارع ...الخ. ويبدو أن الدكتور عبد الأمير العبود, وهو اقتصادي لامع وعميد سابق لكلية الاقتصاد في البصرة أن يقول بأن السياسة الاقتصادية للحكومة كانت جيدة, في وقت كانت تمثل مصالح كبار الملاكين والإقطاعيين, وأن تنفيذ المشاريع الاقتصادية لم يصل في حينها لم يتجاوز الـ 25% مما كان مفروضاً إنجازه. ويمكنني أن أحيل الدكتور العبود على رسائل الدكتوراه التي وضعت في الستينيات أولاً وإلى كتابات الدكتور الراحل محمد سلمان حسن أو كتاباتي عن هذه الفترة أو رسالة الدكتوراه التي أنجزها العبود نفسه في مجال التجارة الخارجية والعلاقات الاقتصادية الدولية. التي أحتفظ بنسخة منها باللغة الألمانية.
وفي الوقت الذي يكتشف الزميل بعض الجوانب الإيجابية في فترة الملكية ويؤشر جوانب سلبية فيها أيضاً, ينسى الإرهاب والقمع وعمل التحقيقات الجنائية والجواسيس حينذاك. ولكنه يتذكرهم فجأة حين يجري الحديث عن توزيع البيانات, حيث يقول: وكان الحماس لمقارعة النظام يلهب الجميع. فترى مجموعات من الطلبة في نقاش محتدم خلال فترات استراحتهم حول مساوئ نظام الحكم وارتباطه بالاستعمار , والبعض منهم يحمل النشرات السياسية ودسها في جيوب زملائه خلسة, تفادياً لمتابعة رجال الأمن , ...". (نفس الكتاب ص 68). والأسئلة المنطقية التي تفرض نفسها هنا, هي : لماذا تجبر القوى السياسية على إصدار نشرات سرية, ولماذا لا يحق للناس إصدار نشراتهم بصورة علنية؟ ولماذا توزع هذه النشرات خلسة بعيداً عن أعين الرقباء؟ ولماذا كانت هناك شرطة سرية تتابع العمل السياسي من هذا النوع؟ ولماذا كانوا يحاكمون ويزج بهم في السجون حين العثور على بعض تلك النشرات؟ ألا يرى الزميل, وقد عاش هذه الفترة وساهم في العمل السياسي بشكل مستقل ولكن ليس بعيداً عن الحركة الديمقراطية العراقية والحزب الشيوعي العراقي , وأعتقد أنه يرى ذلك تماماً, بأن كل هذا كان مخالفاً للائحة حقوق الإنسان التي ساهم العراق بوضعها في العام 1948 وصادق عليها رسمياً؟ إن الإجابة عن هذه الأسئلة تمنحنا رؤية واضحة عن طبيعة النظام الحاكم في العراق حينذاك. ولكنه في الوقت الذي لم يكن أسوأ مما جاء من بعده في الستينيات والسبعينيات, لكنه كان اللبنة الأولى في صرح العراق الحديث والدولة الملكية الدستورية التي بني عليها ما جاء من بعدها.
لم تكن الفترة الواقعة بين 1945- 1958 مرحلة واحدة متماثلة, بل كانت تتضمن أربع مراحل متباينة نسبياً
1945-1947 حيث نشأت بعض الحريات الديمقراطية وتم تأسيس بعض الأحزاب السياسية ومنع بعضها الآخر.
1948-19153 حيث سادت القوة والعنف في مواجهة الشعب وضرب الوثبة والانتفاضة ولإعدامات وسجون وعدد كبير من السجناء السياسيين.
1953-1954 حيث جرت محاول لكسر الإرهاب وإعطاء بعض الحريات الديمقراطية وبعض الصحف مثل البلاد والأهالي وجريدة الوادي والرأي العام , إضافة إلى الصحف الحكومية الرسمية وغير الرسمية.
1954 1958 عاد الإرهاب إلى بقوة في ممارسات السلطة السياسية تمهيداً لإقرار الدخول في حلف بغداد ومواجهة الوضع المتطور في الساحة السياسية العراقية.
لم تكن الحركة الوطنية متطرفة في طروحاتها, بل كانت سياسة الدولة خارج إطار الدستور والقوانين والشرعية, ولم تكن المجالس النيابية سوى برلمانات مزيفة, هكذا تحدث عنها نوري السعيد نفسه حين تحدى من يستطيع الوصول إلى البرلمان دون دعم الحكومة مباشرة.
السياسة التي مارستها الحكومات المتعاقبة في العهد الملكي لم تكن ديمقراطية, وأجبر الشعب على النضال من اجل حقوقه. ولو لا ذلك النضال لما وافقت بريطانيا على مناصفة عوائد النفط الخام في العام 1952 واعتبار القرار رجعياً من عام 1951, بعد أن كان يدفع للعراق 4 شلنات ذهب عن كل برميل يصدر من العراق لصالح الشركات الدولية. وكان لنضال الشعب الإيراني وتأميم الدكتور مصدق لمصالح شركات النفط حينذاك, رغم الضربة الموجعة التي تعرض لها الشعب هناك بانقلاب زاهد بدعم من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وشركات النفط الاحتكارية, دور على خشية الشركات الاحتكارية أن يحصل لها ما حصل في إيران.
لم يكن الحزب الوطني الديمقراطي وحزب الاستقلال والحزب الشيوعي يطالبون بإسقاط النظام الملكي, ولكن النظام الملكي كان يريد تصفية هذه الأحزاب, وبالتالي كان عليها أن تناضل ضد هذه النظام.
النظام الملكي مسئول عن الإساءة للدستور العراقي وإرادة الشعب وتزوير الانتخابات وإصدار مراسيم مخلة بالدستور ومصالح الشعب. وانتفاضة الجيش العسكرية في العام 1958 سببها سياسة الحكم حينذاك, وسببها الظلم الذي تعرض له الشعب, ولهذا لم تكن الفرحة بانتصار 14 تموز, التي شارك في الفرحة عفوياً الطالب في كلية الحقوق عبد الأمير العبود, عبثية ودون مبررات. لقد كانت الغالبية العظمى من الناس تعاني من الفقر والفاقة وظلم الإقطاعيين وإرهاب التحقيقات الجنائية, بالرغم من غنى البلاد بنفطها وبشرها وإمكانياتها الزراعية, وبالرغم من وجود نظام ملكي دستوري وقوانين ومجلس نيابي. إلا أن الشاعر الكبير معروف الرصافي كان يعبر بصدق عن معاناة الناس حين قال :
علم ودستور ومجلس أمة كل عن المعنى الصحيح محرف
أو كما عبر عن ذلك بأبيات أخرى حين قال:
يا قوم لا تتكلموا أن الكلام محرم
ناموا ولا تستيقظوا ما فاز إلا النوم
وما تزال أبيات شعر محمد مهدي الجواهري الكبير تذكرنا بأوضاع الفترة الملكية بالنسبة للمستوى المعيشي للناس حين قال:
نامي جياع الشعب نامي حرستك آلهة الطعام
نامي وأن لم تشبعي من يقظة فمن المنام
نامي على زبد الوعود يداف في عسل الكلام
نامي تزرك عرائس الأحلام في جنح الظلام
وأذكر القارئات والقراء هنا بالشاعر جميل صدقي الزهاوي حين قال:
يا مليكاً في ملكه ظل مسرفاً فلا الأمن موفور ولا هو يعدل
تمهل قليلاً لا تغظ أمة إذا تحرك فيها الغيظ لا تتمهل
وأيديك إن طالت فلا تغترر بها فأن يد الأيام منهن أطول
وفي بالي أيضاً شعر محمد صالح بحر العلوم حين قال:
وفتاة ما لها غير غبار الريح سترا
تخدم الحي ولا تملك من ديناها شبرا
وتود الموت كي تملك بعد الموت قبرا
وإذا الحفار فوق القبر يدعو
أين حقي
أدرك تماماً إن الوضع المأساوي الراهن الذي يمر به الشعب حالياً هي التي تجعل الحنين للماضي من جهة, والمقارنة مع الماضي من جهة أخرى, قضية إنسانية مشروعة, ولكنها من الناحية التاريخية غير دقيقة بأي حال, وأن الصديق الأستاذ العبود يشاطرني الرأي, أرجو ذلك على الأقل.
16/6/2007 كاظم حبيب
انتهت الحلقة الأولى وتليها الحلقة الثانية

****************************


كاظم حبيب
قراءة نقدية متأنية في كتاب
"عندما كنت وزيراً" للأستاذ الدكتور عبد الأمير رحيمة العبود
الحلقة الثانية
كان طالب الحقوق عبد الأمير قد نجح من الصف الثالث حين انتفضت وحدات من القوات المسلحة العراقية بقيادة حركة الضباط الأحرار التي كان يقودها الزعيم الركن عبد الكريم قاسم. وقد تفجر الفرح من أعماقه عفوياً كباقي العراقيات والعراقيين, ونشأ التصور بأن عهداً جديداً قد بدأ يشق طريقه في حياة الناس, وخاصة الفقراء والكادحين والفلاحين والعمال والمثقفين.
حاولت بعض الأحزاب السياسية قيادة الجماهير من أجل تحويل تلك الانتفاضة الشعبية إلى ثورة شعبية تكون قادرة على إنجاز تغيير ثوري وجذري في أوضاع العراق السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ولكنها اصطدمت ببرامجها ورؤيتها المخ0تلفة لمصالح الشعب والوطن. كما اصطدمت برغبة العسكر في أن يواصلوا البقاء في الحكم رغم الاتفاق المبدئي في تسليم السلطة إلى المدنيين بعد فترة انتقال قصيرة. أوجد هذا الواقع فوضى وحالة عبثية بدأت بوقت مبكر بعد انتصار الثورة.
انخرط عبد الأمير, كغيره من شباب العراق والكثير من الشابات, في الحركة السياسية وساهم في العطلة الصيفية في لجان حماية الجمهورية. وعاش في هذه الفترة بعض المفارقات التي تدلل من حيث المبدأ على بساط الناس وتخلف الوعي الاجتماعي, كما حصل مع عمه والإنجليزي الغريب المتوقع وصوله, وهي حكاية طريفة. كما يمر على بعض الأحداث التي عاشها والتي برزت في أعقاب الثورة مشيراً بصواب إلى عدد من الملاحظات المهمة التي ميزت تلك الفترة, ومنها:
• الانطلاقة الشعبية التي لا يمكن أن تحصل إلا في أعقاب أحداث كبيرة والتي اقترنت ببروز الفوضى والصبينة السياسية أو عدم نضوج التي سادت البلاد؛
• غياب الوعي السياسي والاجتماعي لدى الأحزاب السياسية, دع عنك الأوساط الشعبية الكادحة؛
• الصراع القومي - الشيوعي حول شعار الوحدة والاتحاد وانقسام المجتمع إلى معسكرين, كانت الأغلبية لصالح التيار الوطني الديمقراطي والشيوعي؛
• فردية قاسم وعجزه عن وعي المشكلات التي أخذت بالتفاقم وابتعاده عن التفكير بالحلول العملية؛
• المؤامرات التي تفاقمت ضد الحكم والتدخل الفظ من قبل دول الجوار العربية وغير العربية بالشأن العراقي؛
• تفاقم الصراعات الحزبية الضيقة وما جره كل ذلك من خراب على البلاد والذي اقترن بانقلاب 1963 البعثي- القومي أو السوري – الناصري.
ويشير الدكتور عبود في مكان آخر إلى أنه شاهد "في احد الأيام شرطة العاصمة وهم يقومون بمظاهرة في شارع الرشيد وهي تهتف: إعدم إعدم جيش وشعب يحميك من كل ظالم", (الكتاب, ص 77), كما يتحدث عن "هجوم جماعات من الطلبة الشيوعيين على الطلبة القوميين والبعثيين وينهالوا عليهم ضرباً وتوبيخاً". ويقول "كنت اشجب تلك الأعمال حينما ألتقي مع بعض الأصدقاء ويخاصة زميلي نصير الجادرجي الذي كان يشاطرني الرأي في شجب تلك المظاهر". (الكتاب ص 77).
ثم يوجز الدكتور العبود موقف بما يلي: "الآن وبعد مرور خمسة عقود على تلك الأعمال والمظاهرات لم تتحقق الوحدة, ولم يتحقق الاتحاد الفيدرالي, لكن الذي حصل هو توسع عناصر الفرقة والخلاف بين الدول العربية ... , وهو ما يؤكد حقيقة أن الاندفاع السياسي الذي كان يحصل من قبل الأحزاب والمنظمات السياسية لم ينطلق من أسس علمية وعملية وديمقراطية سليمة, بل كانت النشاطات السياسية, إلى حد بعيد غير منضبطة وغير مدروسة ... وكانت تنطلق في كثير من الأحيان من المصالح السياسية الضيقة والشخصية بعيداً عن المصالح العليا للوطن, واعتماد العنف واختراق القانون والنظام نهجاً لتحقيق الأهداف". ويخلص الدكتور عبود إلى استنتاج مفاده: " ولهذا لم يحالفها (المقصود الأحزاب والمنظمات السياسية, ك. حبيب) النجاح في تحقيق أهدافها المعلنة من قبلها سواءً الوطنية أو القومية منها". ( الكتاب, ص 78). طبعاً للأخ العبود العذر في عدم تعرضه للقوى القومية والبعثية التي صالت وجالت في العراق حتى في فترة قاسم وقتلت الكثير من البشر عبر المؤامرات والاغتيالات وإشاعة الفوضى. وقتل الكثير من المناضلين الوطنيين, وبينهم جمهرة من الشيوعيين واليساريين الديمقراطيين, إذ كان السيد العبود قد غادر العراق بعد مرور سنة واحدة ويوم واحد على ثورة تموز 1958, وكان أثناء انقلاب شباط/فبراير 1963 طالباً في برلين بألمانيا الديمقراطية يدرس الماجستير والدكتوراه.
لا بد هنا من الإشارة إلى أن موضوع ثورة تموز وتعقيداتها لم تأخذ الحيز المناسب لها, وللأخ عبود عذره في ذلك, إذ أنه يكتب من خزين ذكرياته وليس اعتماداً على قراءاته. صحيح أن ثورة تموز والقوى السياسية الديمقراطية لم تحقق الأهداف التي كان يفترض أن تحققها تلك الانتفاضة العسكرية على النظام الملكي. ولا شك في أن السبب يرتبط عضوياً بالقوى التي نفذت تلك الانتفاضة, أي العسكر وعدم رغبتهم في تسليمها إلى الأحزاب والقوى الديمقراطية من خلال تشكيل حكومة مدنية مؤقتة تشرع دستوراً دائماً للبلاد وتجري انتخابات حرة وديمقراطية نزيهة وترسي دعائم البلاد على أسس مؤسساتية. وهذه المسألة ترتبط عضوياً بالمستوى المتخلف لتطور المجتمع اقتصادياً واجتماعياً وسياسيا وتجليات ذلك في الوعي العام للمجتمع. ومع ذلك فقد صدر قانون برجوازي ديمقراطي للإصلاح الزراعي يساعد على نمو الرأسمالية في الريف , وقانون الأحوال المدنية الذي يمنح المرأة بعض حقوقها المغتصبة ويمنع تعدد الزوجات إلا بحدود القانون , وقانون تقدمي للعمل والعمال, والتوجه صوب التصنيع باتفاقيات مهمة مع الاتحاد السوفييتي وبلدان اشتراكية أخرى , وإلغاء معاهدة 1930 العسكرية والخروج من حلف بغداد ومن منطقة الإسترليني والبدء بمفاوضات نفطية وصدور القانون رقم 80 لسنة 1961 الذي استعاد الراضي العراقية التي كانت تحت تصرف شركات النفط إلى الحكومة العراقية لتستثمرها مباشرة, والتفكير بتشكيل شركة وطنية للنفط لتمارس التنقيب عن النفط في تلك الأراضي, وإعادة النظر بالعلاقات الاقتصادية والسياسية الدولية للعراق. كانت هذه الإجراءات كلها على الطريق الصحيح, إلا أن الصراع الداخلي من جهة والصراع الإقليمي والتدخل في الشأن العراقي من جهة ثانية, والتدخل الدولي وتدخل شركات النفط الاحتكارية من جهة ثالثة, وسياسات قاسم الفردية وغير الديمقراطية وحربه ضد الحزب الديمقراطي الكردستاني والشعب الكردي, ومطالبته غير المشروعة بالكويت ..الخ, كلها أججت ضده قوى محلية وعربية وإقليمية ودولية جديدة وواسعة وبلورت عوامل ساعدت على الإطاحة به بتحالف رجعي واسع.
إذن غادر الطالب عبد الأمير العراق إلى جمهورية ألمانيا الاتحادية للدراسة فيها بعد مرور عام على ثورة تموز. وعلى القارئ أو القارئة أن يتصورا حالة طالب عراقي لم يزر بلداً عربياً أو أجنبياً قبل ذاك, وهو قادم من منطقة المجر الكبير بأزقتها التربة الضيقة وشوارعها غير المبلطة والحزينة وسوقها الشعبي الوحيد المنهك والمليء بالأوساخ وعدم وجود مجاري لتصريف المياه, وبيوتها الهرمة وسكانها الذين يعانون من الفقر والفاقة وشتى الأمراض, والنساء اللواتي لا يظهرن بالشارع أو حين يظهرن في الشارع يكن برفقة رجل ما من الأقارب والعباءة السوداء تغطي المرأة من قمة الرأس إلى أخمص القدمين, هذا الشاب يدخل من ذلك الجو الكئيب إلى مدينة ميونيخ الجميلة بشوارعها العريضة والمبلطة وبيوتها الشامخة والشرفات المليئة بالنباتات وحدائقها الغناء وطبيعتها الرائعة وحركة السيارات الكثيفة والترامواي الذي يقطع بعض شوارع المدينة ومحطة القطار الجميلة والواسعة, ثم مخازنها العصرية الكبيرة والنسوة الجميلات الباسمات المعطرات يزهون في الشوارع وكأن أحداهن تنادي خذني يا عبود. ورغم كثرة الناس والسيارات فالنظام يسود المدينة. قال لينين عن الألمان مرة أنهم إذا قاموا بثورة وأرادوا احتلال محطة قطار ميونيخ فأنهم سيقطعون بطاقة دخول إلى المحطة, هكذا هو النظام وهكذا هو القانون إلي يحترمه الألمان وكل الأوروبيين عموماً, وهي الظاهرة التي شخصها الدكتور عبود والتي تتناقض مع الوضع في بلداننا لأن حكامنا الذين وضعوا تلك القوانين لم يحترمونها.
النسوة في ألمانيا يتمعتن بالحرية والمساواة من حيث القانون ومن الناحية العملية إلى حدود غير قليلة, ولكنها ليست تماماً, إذ أن الرجل ما زال يقاوم المساواة التامة للمرأة معه. لقد أنعشت هذه الأجواء المشبعة بالحرية والود الدافئ شهية الشاب عبد الأمير ودفعت ببطلنا المغوار ليتحدث بشوق كبير وحنين إلى بعضهن من عائلة شتارك أو غيرهن كثيرات!
كان عبد الأمير صادقاً حين أشار إلى انه كان مثابراً على الدراسة جاداً في تعلم اللغة, تماماً كما كان جاداً في معاشرة البنات الشابات الجميلات اللواتي كن يتطلعن إلى شبابه الطافح وشعره الأسود الفاحم وعينية السوداوتين بين رجال كلهم شقر وعيون زرقاء أو خضراء أو بينهما وغير جائعين للجنس كالقادم الملهوف من المجر الكبير.
يقدم لنا العبود في كتابه مقارنة بين الدراسة الجامعية في ألمانيا الاتحادية, سواء أكانت في ميونيخ أم في برلين الغربية, وبين نظام التعليم في العراق من خلال تقديم جملة من الأسس التي يعتمدها التعليم المتقدم والمجرب والناجح في ألمانيا الذي كان يُخّرج حملة شهادات في جميع الاختصاصات العلمية والإنسانية الصرفة والتطبيقية التي يشار إليهم بالبنان بشكل عام, إضافة إلى إشارته الجيدة إلى الأهمية التي كانت وما تزال ألمانيا تمنحها للدراسات المهنية والفنية, التي ترتبط بقضايا الإنتاج والخدمات مباشرة, واهتمامها الفائق بالبحث العلمي.
انتقل عبد الأمير إلى الدراسة في كلية الاقتصاد ببرلين الشرقية, وكانت عاصمة ألمانيا الديمقراطية بعد أن تعذر عليه مواصلة الدراسة في برلين الغربية بسبب وفاة أستاذه ورفض الأساتذة الآخرين الاعتراف بشهادة البكالوريوس العراقية. وكانت هذه واحدة من المشكلات التي كان العراقيات والعراقيون من حملة شهادة البكالوريوس وما زالوا يعانون منها في كل ألمانيا أو في كل أوروبا.
يقدم لنا عبود في القسم الخاص بوجوده في ألمانيا الديمقراطية تلخيصاً قيماً عن التعليم في ألمانيا الديمقراطية, وهي تجربة غنية ومفيدة كانت ذات فائدة خاصة للطلبة العراقيين لأنها كانت فيها رقابة جيدة على مشاركة الطلبة في حضور المحاضرات أو المشاركة في السيمنارات وتتبع الطلبة في الدراسة ومساعدتهم للنهوض بمستواهم وبلوغ مستوى الألمان. ويبقى المعيار الأساسي في مدى فائدة الطالب من أي نظام تعليمي يكمن في مدى رغبة وجدية الطالب في اكتساب المعرفة والعلم والتخرج بمستوى لائق. ومعرفتي الشخصية بالزميل عبود أثناء الدراسة, إذ كنا في كلية واحدة, كانت تؤكد سعيه الجاد والحثيث للدراسة والتزود بالمعارف والخبر والاستفادة الواعية من الحياة الحضارية الثقافية في ألمانيا.
ومن الغريب في خزين ذكريات الدكتور عبود أن القارئ لا يجد في كتابه أي ذكر للطالبات والطلاب العراقيين والعرب الذين كانوا معه في الدراسة ولم يتحدث عن خبرته معهم أو ملاحظاته عنهم أو عن نشاطه الاجتماعي معهم, خاصة وانه كان من بين النشطين في مؤتمرات الطلبة ونقاشاتهم المختلفة, وقد جاء على ذكر أحد احتفالات الطلبة في ذكرى ثورة 14 تموز لأنه عاش مفاجأة فيها حين ألقى صديقاً ألمانيا له قصيدة بحقه في تلك الحفلة التي أقيمت في برلين. لقد كانت حياة الطلبة العراقيين في برلين أو في ألمانيا الديمقراطية وعموم ألمانيا غنية وحركة وفعالة وشيقة ومتنوعة في آن واحد, إذ كانت هناك نشاطات سياسية واجتماعية وثقافية كثيرة ومؤتمرات تعقد ونقاشات تدور وندوات تنظم . ولا يمكن أن يكون الدكتور عبود قد نسى حضور الشاعر الكبير والراحل محمد مهدي الجواهري إلى برلين بمعية الأستاذ الراحل عبد الفتاح إبراهيم عن "رئاسة لجنة الدفاع عن الشعب العراقي" التي شكلت في أعقاب انقلاب شباط 1963 وإلقاء الكلمات والقصائد في هذه الندوة التي حضرها عراقيات وعراقيون من سائر أنحاء ألمانيا الشرقية والغربية. وكان الجواهري, كعادته بطل تلك الحفلة, اعتقد أن الأخ عبود لم ينس, وأن لم يذكر ذلك, بأن الجواهري نظم أبيات شعر جميلة في إحدى حفلاتنا بذكرى ثورة تموز في العام 1962 في مقابل تقبيله لشابة شقراء جميلة وناعمة كانت بمعية المصور العراقي المعروف جلال البيتوشي. وقد وضع عدة أبيات ولكل بيت شعر قبلة منعشة وضعها جلال البيتوشي في جيبه وكتبت على علبة سجاير. لا شك أن البيتوشي ما يزال يحتفظ لوحده بتلك الأبيات الجملة التي ارتجلها الجواهري. يبدو لي أن ذكرياته مع العراقيين في برلين لم تكن حميمية بما فيه الكفاية, مما جعلته يبتعد عن ذكرها, وإذا كنا قد تعارفنا لأول مرة في ميونخ, ولكن صداقتنا بدأت فعلياً في برلين وفي كلية الاقتصاد وفي جمعية الطلبة العراقيين.
يقدم الأستاذ عبود لوحة معبرة وصادقة عن الحياة في ألمانيا الديمقراطية. يمكن أن أتعرف على صدقها بسبب معايشتي لها والتي تشكلت لدينا ذات الرؤية بشأن الواقع حينذاك. كتب مشخصاً بعض الجوانب المهمة في تجربة ألمانيا الديمقراطية كما يلي:
"الدولة الاشتراكية في ألمانيا الديمقراطية كانت تمتلك كل وسائل الإنتاج, وتطبق نهج التخطيط الاقتصادي والاجتماعي الشامل, وهي تضمن للفرد كل احتياجاته الأساسية الضرورية, فالعمل مضمون والتعليم بكامل مراحله مجاني, والصحة بكافة مستوياتها مضمونة والنقل أشبه بالمجاني لرخص أسعاره, ووسائل الثقافة والمعرفة متاحة للجميع بأسعار زهيدة, ولكن الاقتصاد الوطني لم ينم نمواً سريعاً والإنتاجية بقيت منخفضة, ولم يحصل الازدهار الاقتصادي والاجتماعي, ويعود ذلك على عجز السياسة الاقتصادية عن النهوض بالاقتصاد الوطني والتقيد بالقوالب الصارمة للتخطيط الاقتصادي الشامل, وتجهل تأثير العوامل النفسية على سلوك الأفراد, وغياب عنصر المنافسة وإهمال العوامل المؤثرة في اقتصاد السوق, فالفرد ينظر إليه ضمن هذا النظام كرقم واحد ضمن حركة المجتمع التي تحكمها ضوابط التخطيط الصارمة دون النظر إلى نوازعه النفسية". (الكتاب, ص 120/121) ثم يشير إلى جانب آخر من المشكلة فيقول:" كانت نتيجة ذلك الإخفاق في تحقيق النمو السريع في الإنتاج والإنتاجية هي العجز في ملاحقة التطورات في حقول العلم والتكنولوجيا, وكان البديل الذي اعتمدت عليه الأنظمة الاشتراكية هو اختيار النهج الدكتاتوري لقيادة المجتمع بدلاً من النهج الديمقراطي الحر, ولهذا أصبح لرجال الأمن والحزب الحاكم الدور الرئيسي في توجيه النظام والحظوة بمزاياه". (الكتاب, ص 121)
أشاطر الزميل عبود الرأي بما أشار إليه حول النهج السياسي للاشتراكية في كونها تدعو إلى توفير ظروف عمل وحياة أفضل للناس من حيث المبدأ. ولكن الاشتراكية, لكي تعيش وتنجح وتتطور, تستوجب ليس فقط توفير المأكل والمشرب الملبس والسينما والمسرح للفرد, بل تستوجب تأمين تمتع الفرد بالحرية وممارسته حقوقه المدنية وحقوق الإنسان وسيادة الديمقراطية في حياة البلاد, تستوجب التعددية السياسية والحياة البرلمانية الحرة والنزيهة والمشاركة الحرة والوجدانية فيها وليس الإلزام والخشية, وتستوجب المنافسة في خدمة المجتمع ووجود معارضة تنتقد وتطرح البديل. الاشتراكية لا يمكن أن تنمو وتتطور في ظل عدم الثقة في المجتمع والخشية منه وتسليط أجهزة الأمن عليه وسجن من يعترض أو يعارض سياسة الحكومة والحزب الوحيد الحاكم, دع عنك مسرحية الجبهة الوطنية ذات الأحزاب التابعة للحزب الحاكم. لم تكن السياسة الاقتصادية والاجتماعية التي مارستها الحكومة عقلانية, كما لم تكن واقعية ولم تكن في كل الأحوال اشتراكية, فالمكاسب التي كان يراد توفيرها للناس لم تكن تستند إلى أرضية اقتصادية صلبة, بل كانت هشة جداً تبرز بوضوح بسياسة الأسعار للسلع والخدمات وفي سياسة الأجور ومستوى إيجارات الشقق السكنية الواطئة والنقل الرخيص الأشبه بالمجاني ...الخ. لم يكن هناك أي احترام للقوانين الاقتصادية الموضوعية, بل كانت الإرادة الذاتية للحزب الحاكم أو للسكرتير العام للحزب ومكتبه السياسي هو الموجه والمحدد للسياسة والاقتصاد. إن التصادم قد نشأ فعلاً بين القوانين الاقتصادية الموضوعية التي تعمل عفوياً وبمعزل عن إرادة الفرد من جهة, والسياسة الاقتصادية الذاتية المناقضة لتلك القوانين من جهة أخرى. لا يمكن للاشتراكية أن تنفصل عن الحرية والديمقراطية فهما وجهان لعملة واحدة, وغياب أحد الوجهين ينفي وجود الثاني.
الفقرة التي أوردها الدكتور عبود التي تتحدث عن العجز عن اللحاق بالتطور العلمي والتكنولوجي صحيحة, ولكن ليست لها علاقة بما ورد بعدها بأي حال. إذ لا أجد أي ارتباط بينها وبين القول بأن البديل كان سياسة الدكتاتورية. الدكتاتورية لم تكن بديلاً للتكنولوجيا والعلم, بل كانت بديلاً للحرية والديمقراطية. لقد كان هناك تطور علمي وتكنولوجي في الاتحاد السوفييتي وفي ألمانيا الديمقراطية, إلا أن هذا التقدم العلمي والتقني كان قد وجه صوب الجوانب العسكرية والإنتاج العسكري وليس نحو الإنتاج المدني. هنا تبرز واحدة من أكثر إشكاليات الحرب الباردة في حينها والتي أجهزت على النظم الاشتراكية القائمة حينذاك والتي لم تكن اشتراكية طبعاً. أما مسألة الدكتاتورية فكانت البديل الفعلي المعاكس لما كان يفترض أن يسود, أي الثقة بالشعب والحرية للأفراد والجماعات والديمقراطية والتعددية وممارسة النقد ...الخ. لقد سادت في هذه البلدان ما سميت بدكتاتورية البروليتاريا, ولكنها لم تكن سوى دكتاتورية الأجهزة البيروقراطية في الحزب والدولة, في حين لم يتمتع الشعب بالديمقراطية ولا بحق النقد وممارسة بقية الحقوق بما فيها السفر إلى الدول المختلفة وحصرها بالدول الاشتراكية. لم تكن السياسة الاقتصادية والاجتماعية والبيئية عقلانية وإنسانية. لقد تخلت الكثير من الأحزاب الشيوعية عن دكتاتورية البروليتاريا, ويبدو أن البعض منها في بلداننا في منطقة الشرق الأوسط ما يزال يحن لها ويدور حولها يطرحها بصيغة غير مباشرة, وهو حنين بائس للستالينية لا غير.
في هذا الجزء من الكتاب يقدم الأستاذ عبود جزءاً من الأجواء النشطة في مجال الحياة الثقافية ونشاط الأدباء والفنانين الألمان ومشاركته في البعض منها. الشعب الألماني محب للثقافة ويمتلك طاقة كبيرة من حب المعرفة والإطلاع وله إنجازات كبيرة في مجال العلم والأدب والفن والموسيقى والمسرح, وعلى مدى القرون الثلاثة المنصرمة على الأقل قدم الألمان نخبة رائعة من المفكرين والفلاسفة والفنانين والأدباء الشعراء وكتاب الروايات والقصة والمسرحيات, إضافة إلى فن الرسم النحت وفن الغناء والموسيقى. ولهذا فأن ارتباط عراقي بأي امرأة ألمانية ستجره لا محالة إلى التمتع ببعض هذه المجالات وتشده إليها.
المسألة التي كان بودي أن يتطرق إليها الزميل عبود والتي لم أعثر عليها تمس عملية التنوير التي شهدتها ألمانيا والتي تتجلى اليوم وبعد عدة قرون من بدئها في حياتها السياسية والاجتماعية والعلاقة بين الدين والدولة. أي الأخذ بمبدأ المجتمع المدني العلماني الذي يفصل بين الدين والدولة, إذ لكل منهما مجال اختصاصه ولا يتدخل في شئون الآخر, وهو الذي قاد إلى الكثير من الاستقرار والابتعاد عن الخلافات المذهبية في الديانة المسيحية. الاحترام الكامل لكل الأديان والمذاهب وحرية الإنسان في ممارستها, ولا دخل للدولة فيها, كما لا تتدخل الكنيسة في شئون الدولة.
يطرح الأستاذ الدكتور العبود ملاحظة يكتشفها كل عراقي أو أي مواطن من الدول النامية في المجتمعات الأوروبية المتقدمة, ومنها المجتمع الألماني, وهي التي يقول عنها العبود "ظاهرة غياب التماسك العائلي والوفاء والالتزام بين أفراد العائلة. فالفرد الألماني يعتمد على عمله وعلى الدولة في تهيئة متطلبات معيشته الضرورية, والأبوان يلتزمان بتوفير متطلبات معيشة أولادهم حسب القوانين ولحين بلوغ سن الرشد, وبعد ذلك ينبغي أن يعتمد الأولاد على أنفسهم, ...". (ص 114/115).
إن وجود هذه الظاهرة يرتبط عضوياً بواقع التحولات التي بدأت في ألمانيا مع المرحلة الأولى من التصنيع في المانيا, وها نحن اليوم في المرحلة الثالثة, أي مع بدء التصنيع ونمو العلاقات الإنتاجية الرأسمالية والبرجوازية الألمانية والقضاء على الإقطاع والعلاقات الإقطاعية, أي مع بروز ظاهرة العمل الأجير وبيع قوة العمل وتطور العلاقات الرأسمالية التي فرضت علاقات جديدة على الفرد والعائلة والعشيرة والمجتمع. لقد كانت العلاقات العائلية والعشائرية الألمانية في فترة العلاقات الإقطاعية لا تختلف عن العلاقات العائلية والعشائرية في العراق أو في أي بلد آخر من الدول النامية. ولكن مع تطور الرأسمالية والتصنيع ومستلزمات الحياة الجديدة وقوانينها الموضوعية والقوانين الوضعية برزت ظواهر جديدة تحددت عبر طبيعة العلاقات الجديدة, إذ تتكون العائلة الواحدة من الأب والأم والأبناء, من نبات وأولاد, وبالجدتين والجدين من الطرفين. وهنا تنتهي سلسلة العائلة الواحدة, ولكن هذا لا يعني أن ليست هناك علاقات مع أبناء وبنات العمة والعم أو الخالة والخال, ولكنها ليست كثيفة ولا حميمية ومتروكة للصدف. وحين يترك الولد أو البنت بيت الأبوين يكون قد وجد له عملاً أو دراسة, وهو لا يحتاج بالضرورة إلى مساعدة الأبوين. وكانت هذه العلاقة في ريف ألمانيا الشرقية مثلاً تختلف إلى حد ما عن ريف ألمانيا الغربية بسبب التقدم التقني وشروط العمل التي كانت قد تطورت في ألمانيا الاتحادية أكثر منها في ألمانيا الغربية, إلا أن الاختلاف لم يكن كبيراً. وليس في العلاقات الألمانية ما يفترض أن نسميه عدم الوفاء وغياب التماسك العائلي على الطريقة الشرقية المرهقة للجميع, بل هناك وفاء والتزام بالحدود المطلوبة والمعقولة والمقبولة من الجميع. ولا شك في أن هذه الأحكام تبقى شرقية ومعبرة عن شعورنا نحوها ولا تقر وغير مفهومة أحياناً غير قليلة من جانب الألمان. وأعتقد أن حب الأشياء الخاصة حالة طبيعية لدى الأفراد في كل المجتمعات, فالألماني لا يعرف مثلاً كلمة "أگبل" عندما تجد لدى شخص معين حلة جميلة أو مسبحة رشيقة غالية الثمن أو قلماً ممتازاً (باركر 51 مثلاً) أو حتى رباط عنق بديع, فتقول له هذا جميل مثلاً, فيكون جوابه لك عراقياً وبشكل مباشر "بالعرضة" أو "أگبل" أي "إقبله هدية مني". فهذا الشيء غير معهود لديهم وغريب ايضاً, وهو ليس بالضرورة يعبر عن حالة إيجابية أو كرم خاص بالضرورة.
يقدم الكاتب عبود وصفاً جميلاً وشيقاً عن الأعياد وحفلات الزفاف أو الطلاق لأي سبب كان أو العشرة المشتركة دون زواج, والمتعارف عليه في بلداننا بـ "الخليلة". كما يمنحنا صورة واقعية عن المهارات التي يتمتع بها الإنسان الألماني أياً كان مركزه العلمي وشهادته العالية أو منصبه الوزاري, فهو قادر ومستعد ويمارس تصليح سيارته أو أي عطل في حنفية بيته أو كهربائيات الدار أو الشقة. ونجد في القسم الشرقي من ألمانيا حتى اليوم أن جميع أساتذتهم في الجامعات وفي مراكز البحث العلمي يحملون مع تلك الشهادات العالية حرفة أو مهنة معينة فيقال أنه حداد أو نجار أو بناء أو ميكانيكي أو كهربائي أو باني أسقف السطوح ...الخ.
في هذا القسم من الكتاب متعة خاصة حيث يصف الدكتور عبود الكثير من العادات والعلاقات الاجتماعية وموقفه منها كقادم من شرق متخلف ومهموم ومحروم, كما يوضح تطور علاقاته بعدد كبير من الناس الألمان من أوساط المثقفين, وخاصة علاقاته الحميمة والدافئة بالنسوة. لقد كان عبد الأمير رحيمة العبود فارساً مغواراً وكازانوفاً جائعاً قادماً من المجر الكبير إلى ألمانيا. وكان وما يزال يتندر على زميله كاظم حبيب الذي تزوج مبكراً ولم يذق في حياته غير طعم الباذنجان, في حين أن المفروض في الرجل كما يرى العبود, وخاصة الشرقي, أن يذوق طعم ويشم رائحة كل الأكلات الشهية!

20/6/2007 كاظم حبيب
انتهت الحلقة الثانية وتليها الحلقة الثالثة




#كاظم_حبيب (هاشتاغ)       Kadhim_Habib#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هل من حلول عملية لوقف الكارثة المحدقة بالعراق والشرق الأوسط ...
- هل من سبيل لإطفاء حرائق القاعدة وإيران في الشرق الأوسط ؟
- لماذا تشكل ديالى أحد أبرز معاقل الإرهابيين في العراق ؟
- وماذا بعد انقلاب حماس الدموي في غزة ؟
- هل فلسطين على شفا حرب أهلية؟
- هل من علاقة بين النهج البعثي في سوريا ومصادرة الديمقراطية؟
- رسالة مفتوحة إلى فخامة السيد رئيس إقليم كُردستان
- السيد راضي الراضي والبرلمان العراقي!
- هل هذا صحيح يا دولة رئيس مجلس الوزراء؟
- هل من حراك جديد في العملية السياسية العراقية؟
- أسبوع المدى الثقافي وحوارات الأجواء الديمقراطية
- لننحني خاشعين أمام ضحايا حلبجة !
- -عراقيون أولاً- وتأسيس مجلس الثقافة العراقي !
- رسالة مفتوحة إلى السيد رئيس مجلس الوزراء العراقي
- جرائم بشعة يتركبها المجرمون التكفيريون العرب بحق الأيزيديين! ...
- السلطة والمثقف في مسرحية -عاشق الظلام-
- ماذا ينوي مقتدى الصدر فعله في العراق بعد عودته ثانية؟
- هل هناك نقد لموقفي في المؤتمر أم محاولة للإساءة والتشويه ؟
- هل ظلال صدام حسين تهيمن على سياسة وزارة الداخلية العراقية ؟
- ينما تمتد الأصابع الأمريكية يرتفع الدخان وتقام الجدران العاز ...


المزيد.....




- -ضربه بالشاكوش حتى الموت في العراق-.. مقطع فيديو لجريمة مروع ...
- آلاف الأردنيين يواصلون احتجاجاتهم قرب سفارة إسرائيل في عمان ...
- نتانياهو يوافق على إرسال وفدين إلى مصر وقطر لإجراء محادثات ح ...
- الإسباني تشابي ألونسو يعلن استمراره في تدريب نادي ليفركوزن
- لأول مرة.. غضب كبير في مصر لعدم بث قرآن يوم الجمعة
- القيادة المركزية الأمريكية تعلن تدمير 4 مسيّرات للحوثيين فوق ...
- صاحب شركة روسية مصنعة لنظام التشغيل Astra Linux OS يدخل قائم ...
- رئيسا الموساد والشاباك يتوجهان إلى الدوحة والقاهرة لاستكمال ...
- مصر.. فتاة تنتحر بعد مقتل خطيبها بطريقة مروعة
- علاء مبارك يسخر من مجلس الأمن


المزيد.....

- الكونية والعدالة وسياسة الهوية / زهير الخويلدي
- فصل من كتاب حرية التعبير... / عبدالرزاق دحنون
- الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية ... / محمود الصباغ
- تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد / غازي الصوراني
- قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل / كاظم حبيب
- قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن / محمد الأزرقي
- آليات توجيه الرأي العام / زهير الخويلدي
- قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج ... / محمد الأزرقي
- فريديريك لوردون مع ثوماس بيكيتي وكتابه -رأس المال والآيديولو ... / طلال الربيعي
- دستور العراق / محمد سلمان حسن


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - كاظم حبيب - قراءة في كتاب -عندما كنت وزيراً- للدكتور عبد الأمير العبود - الحلقة الاولى والثانية