هاربات ماركوز بين المقاربة الجذرية التحررية والفلسفة الاجتماعية النقدية
زهير الخويلدي
الحوار المتمدن
-
العدد: 8567 - 2025 / 12 / 25 - 09:11
المحور:
الثورات والانتفاضات الجماهيرية
مقدمة
هربرت ماركوز (1898-1979)، أحد أهم أعضاء مدرسة فرانكفورت للنظرية النقدية، يمثل صوتاً راديكالياً في الفلسفة الاجتماعية النقدية، حيث يجمع بين الماركسية، التحليل النفسي الفرويدي، والفينومينولوجيا لنقد الهيمنة في المجتمعات الصناعية المتقدمة. فلسفته تتركز على مواجهة "الفاشية الجديدة"، التي ليست مجرد إعادة للفاشية التاريخية (كالنازية)، بل شكل معاصر يتجلى في الإدارة الشمولية والقمع الخفي داخل الديمقراطيات الرأسمالية. في هذا السياق، يبرز التوتر بين "اغتراب الإنسان ذي البعد الواحد" في الحضارة الرأسمالية الاستهلاكية، كما في كتابه الشهير الإنسان ذو البعد الواحد (1964)، وبين "إيروسية البعد الجمالي" كوسيلة تحررية، مستمدة من الإيروس والحضارة (1955) ومقالة في التحرر (1969). هذه الدراسة تهدف إلى استكشاف هذا التوتر بشكل موسع، مستندة إلى النظرية النقدية لماركوز، مع التركيز على كيفية استخدام الجماليات والإيروس لمواجهة الاغتراب والفاشية. سنبدأ بالسياق الفلسفي، ثم ننتقل إلى تحليل الاغتراب، مروراً بمواجهة الفاشية، لنختم بدور البعد الجمالي والإيروس.
السياق الفلسفي: النظرية النقدية ومدرسة فرانكفورت
تنبع فلسفة ماركوز من مدرسة فرانكفورت، التي أسسها ماكس هوركهايمر وثيودور أدورنو، والتي تهدف إلى نقد الهيمنة الرأسمالية من خلال دمج الماركسية بالتحليل النفسي والفلسفة الهيغلية. فر ماركوز من ألمانيا النازية عام 1933، مما شكل تجربته الشخصية في مواجهة الفاشية، حيث عمل في مكتب الخدمات الاستراتيجية الأمريكي أثناء الحرب العالمية الثانية لتحليل النزعات الفاشية. في كتابه تكنولوجيا، حرب، وفاشية (1998، نشر بعد وفاته)، يرى ماركوز الفاشية كنتيجة للرأسمالية المتأخرة، حيث تتحول التكنولوجيا إلى أداة للقمع الشمولي. يعتمد ماركوز على مفهوم "التنوير كخدعة" من أدورنو وهوركهايمر، لكن يضيف بعدًا تحرريًا من خلال الإيروس، مستلهما فرويد، حيث يرى في الغرائز الإنسانية (الإيروس كغريزة الحياة مقابل الثاناتوس كغريزة الموت) إمكانية لمجتمع غير قمعي. هذا السياق يجعل فلسفته نقدية اجتماعية، تركز على "الرفض الكبير"ضد الواقع القمعي، خاصة في حركات الستينيات التي أثر فيها ماركوز كـ"أب اليسار الجديد". الفاشية الجديدة، حسب ماركوز، ليست عودة للنازية بل شكل معاصر يتجلى في "التسامح القمعي" ، حيث تسمح الديمقراطية بالقمع تحت ستار الحرية.
اغتراب الإنسان ذي البعد الواحد في الحضارة الرأسمالية الاستهلاكية
في الإنسان ذو البعد الواحد، يصف ماركوز كيف تحول الحضارة الرأسمالية الاستهلاكية الإنسان إلى كائن أحادي البعد، يفقد قدرته على التفكير النقدي والثوري. الاغتراب هنا مستمد من ماركس (في مخطوطات 1844)، حيث يصبح العمل أداة للاستلاب، لكن ماركوز يوسعه إلى الاستهلاك: "في ظل الرأسمالية المتقدمة، يصبح الإنسان يرغب في ما يُفترض أن يرغبه". هذا الاغتراب ينتج عن "القمع الفائض"، الذي يتجاوز القمع الضروري للحضارة، مما يجعل الإنسان يتطابق مع نظام يستغله. في المجتمع الاستهلاكي، تُسوى التناقضات الاجتماعية (مثل الغنى مقابل الفقر) عبر السلع، مما يولد "حرية غير حرة، سلسة، معقولة، ديمقراطية". الإنسان ذو البعد الواحد يفقد البعد الثاني (النقدي)، حيث تتحول الثقافة إلى صناعة تروج للاستهلاك، مما يعزز الاغتراب الاجتماعي والنفسي. هذا الاغتراب يمهد للفاشية الجديدة، حيث تصبح الإدارة الشمولية شكلاً من أشكال الهيمنة غير الشخصية: "مع عقلنة الجهاز الإنتاجي... يصبح كل هيمنة شكلاً من أشكال الإدارة". في هذا السياق، يرى ماركوز أن الرأسمالية الاستهلاكية تخلق "مجتمع مُدار بالكامل"، حيث يفقد الإنسان قدرته على التمرد، مما يشبه الفاشية في قمع الوعي النقدي.
مواجهة الفاشية الجديدة في فلسفة ماركوز
ترى فلسفة ماركوز الفاشية الجديدة كامتداد للرأسمالية، حيث تتحول التكنولوجيا والإعلام إلى أدوات للقمع الخفي. في تكنولوجيا، حرب، وفاشية، يحلل ماركوز كيف أعد النازية للفاشية من خلال الاقتصاد الآلي، لكن في العصر الحديث، تظهر الفاشية في "الديمقراطية غير الحرة"، حيث يُستغل الإحباط الشعبي لدعم أنظمة استبدادية (كما في صعود اليمين المتطرف في الولايات المتحدة أثناء عهد نيكسون). الفاشية الجديدة تستفيد من الاغتراب ذي البعد الواحد، حيث يصبح الإنسان عرضة للدعاية، كما في "التسامح القمعي" الذي يشرعن القمع تحت ستار التسامح. يدعو ماركوز إلى "الفكر السلبي" كأداة لكشف التناقضات، حيث يرى أن الفاشية تستغل الغرائز المكبوتة لتعزيز الولاء للنظام. في نحو نظرية نقدية للمجتمع (نحو نظرية نقدية للمجتمع ، 1969)، يحذر ماركوز من أن الرأسمالية تعد لفاشية جديدة من خلال الاقتصاد الآلي والإعلام، مما يجعل الثورة ضرورية لاستعادة الوعي النقدي. هذه المواجهة تتجاوز السياسي إلى النفسي، حيث يربط ماركوز بين القمع الاجتماعي والنفسي، معتبراً أن الفاشية تحول الغرائز إلى أدوات للهيمنة.
إيروسية البعد الجمالي كوسيلة للتحرر
مقابل الاغتراب، يقدم ماركوز "البعد الجمالي" و"الإيروس" كأدوات تحررية. في الإيروس والحضارة، يرى أن الإيروس (غريزة الحياة) يُقمع في الحضارة لصالح "مبدأ الأداء"، لكن يمكن تحريره لخلق مجتمع غير قمعي. "أيديولوجيا الندرة" تخفي الوفرة، مما يفرض عملاً غير ضروري. البعد الجمالي، في البعد الجمالي (1978)، يخلق "مساحات نقدية" حيث يعبر الفن عن حقائق ثورية: "الفن كفن يعبر عن حقيقة... ضرورية للثورة". ان الإيروسية هنا تعني دمج الرغبة بالعقل في "عقلانية الإشباع"، مما يواجه الفاشية بإعادة تشكيل الذاتية. في مقالة في التحرر، يدعو إلى "حساسية جديدة" مستلهمة من حركات الستينيات، حيث يصبح الفن أداة للرفض الكبير، محولاً التكنولوجيا نحو الإشباع الإنساني. هذا البعد يواجه الاغتراب بإعادة الاغتراب عن الواقع القمعي، مما يفتح أفقاً لمجتمع تحرري يجمع بين الإيروس واللوغوس.
الرفض الراديكالي في مواجهة المجتمع الصناعي المتقدم
يشكل مفهوم "الرفض الكبير" محوراً أساسياً في فلسفة هربرت ماركوز (1898-1979)، أحد رواد النظرية النقدية في مدرسة فرانكفورت. يُعرف الرفض الكبير كفعل ثوري راديكالي يرفض الهيمنة الشمولية للمجتمع الصناعي المتقدم، الذي يُخفي قمعه تحت ستار الديمقراطية والاستهلاك. هذا المفهوم، الذي يظهر بشكل بارز في كتاب ماركوز الإنسان ذو البعد الواحد (1964)، ليس مجرد رفض سياسي بل هو نفي شامل للقيم والاحتياجات الكاذبة التي يفرضها النظام الرأسمالي، مما يفتح أفقاً لتحرير الغرائز الإنسانية وإعادة بناء مجتمع غير قمعي. تهدف هذه الدراسة إلى تحليل مفصل لهذا المفهوم، مستندة إلى سياقه الفلسفي، تعريفه، أبعاده النفسية والاجتماعية، تطبيقاته في الحركات الاجتماعية، والنقود الموجهة إليه. سنعتمد على أعمال ماركوز الرئيسية مثل الإيروس والحضارة ( 1955) ومقالة في التحرر ( 1969)، مع التركيز على كيفية تحول الرفض الكبير إلى أداة لمواجهة "الفاشية الجديدة" في العصر الحديث. كما يأتي مفهوم الرفض الكبير ضمن إطار النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت، التي أسسها ماكس هوركهايمر وثيودور أدورنو، والتي تهدف إلى نقد الهيمنة الرأسمالية من خلال دمج الماركسية بالتحليل النفسي الفرويدي والفينومينولوجيا الهيغلية. فر ماركوز من ألمانيا النازية عام 1933، مما شكل تجربته الشخصية في مواجهة الفاشية، حيث عمل في مكتب الخدمات الاستراتيجية الأمريكي أثناء الحرب العالمية الثانية لتحليل النزعات الفاشية. في كتابه التكنولوجيا، الحرب، والفاشية (1998)، يرى ماركوز الفاشية كنتيجة للرأسمالية المتأخرة، حيث تتحول التكنولوجيا إلى أداة للقمع الشمولي. يعتمد ماركوز على مفهوم "التنوير كخدعة" من أدورنو وهوركهايمر، لكنه يضيف بعداً تحررياً من خلال الإيروس، مستلهما فرويد، حيث يرى في الغرائز الإنسانية (الإيروس كغريزة الحياة مقابل الثاناتوس كغريزة الموت) إمكانية لمجتمع غير قمعي. نشأ الرفض الكبير من تجارب ماركوز في ألمانيا الويمارية، حيث أدى الانهيار الاقتصادي والأخلاقي بعد الحرب العالمية الأولى إلى صعود النازية، مما يعكس فشل اليسار في مواجهة الفاشية. في الإنسان ذو البعد الواحد، يتهم ماركوز الديمقراطيات الغربية بعد الحرب بإغلاق الخيارات الإنسانية الحقيقية من خلال إخفاء الهيمنة عبر الإيديولوجيا. تأثر ماركوز بـهيغل، ماركس، فرويد، وهايدغر، حيث يجمع بين الجدل الهيغلي (النفي الجدلي للواقع) والتحليل الماركسي للاغتراب، مع التأكيد على الجانب النفسي للقمع. هذا السياق يجعل الرفض الكبير رمزاً للسياسة في الستينيات، حيث أصبح ماركوز "أب اليسار الجديد"، مستلهماً حركات الاحتجاج ضد حرب فيتنام والرأسمالية. من الناحية الدلالية، يُعرف الرفض الكبير كرفض راديكالي للهيمنة في المجتمع الصناعي المتقدم، الذي يُوصف بأنه "أكثر أنظمة الهيمنة كفاءة"، بما في ذلك الديمقراطيات. إنه نفي للاحتياجات الكاذبة التي يفرضها النظام، مع الاعتراف بالفقر الروحي والسياسي حتى في أمريكا الغنية. يعتمد ماركوز على "التفكير السلبي" لتفكيك قبضة الهيمنة والاغتراب، مما يسمح باكتشاف الاحتياجات الحقيقية وتحرير "السلاسل الذهنية المزورة". يشمل الرفض الكبير مجموعات متنوعة مثل "المهمشين والمضطهدين، العاطلين عن العمل، شباب الطبقة الوسطى البيضاء في اليسار الجديد، والطبقة السوداء السفلى، وجبهة التحرير الوطني في فيتنام، والثوار الكوبيين". من الناحية الإجرائية، يتجاوز الرفض الكبير الرفض السلبي إلى نفي جدلي ينفي "الواقع" (الظاهر) لتأكيد "الواجب" (الجوهر)، مطالبًا بتدمير الظروف الملموسة التي تحول دون الحرية. يعتمد على "القمع الفائض"، الذي يتجاوز القمع الأساسي الضروري للحضارة، مما يجعل الإنسان يرغب فيما يُفرض عليه. في المجتمع الاستهلاكي، تُحل التناقضات الاجتماعية عبر السلع، مما يولد "حرية غير حرة، سلسة، معقولة، ديمقراطية". يفقد الإنسان البعد الثاني (النقدي)، حيث تتحول الثقافة إلى صناعة تروج للاستهلاك، مما يعزز الاغتراب الاجتماعي والنفسي. فلسفياً، يعتمد على هايدغر (السقوط في "الآخرين" اللامجهول)، هيغل (النفي الجدلي)، ماركس (الاغتراب عن العمل)، وفرويد (الإيروس مقابل الثاناتوس). يدعو إلى "حساسية جديدة" تعتمد على الجماليات والفن لكسر الاحتياجات الكاذبة، مما يجعل الرفض الكبير عملية تغيير وعي قبل الفعل الجماعي. لقد وجد الرفض الكبير تطبيقاته في حركات الستينيات، مثل الاحتجاجات ضد حرب فيتنام والرأسمالية، حيث أثر ماركوز في اليسار الجديد. في مقالة في التحرر، يدعو إلى "مسيرة طويلة" عبر الصراع الممتد، معتمداً على التحالفات بين المثقفين والطبقات المستغلة والمهمشين. الفن يلعب دوراً رئيسياً، حيث يُعد "الأكثر فعالية في إظهار التفكير السلبي"، كما في رفض الاستهلاك والتكنوقراطية.
معاصرًا، يُطبق المفهوم في حركات مثل "أوكيوباي وال ستريت" أو "بلاك لايفز ماتر"، حيث يُرى كرفض للرأسمالية الجديدة والعنصرية. في كتاب الرفض الكبير: هربرت ماركوز والحركات الاجتماعية المعاصرة (2017)، يُحلل كيف يساعد الرفض الكبير في فهم الاحتجاجات العالمية ضد النيوليبرالية، مع التركيز على "الجديد اليسار" في أوروبا وأمريكا. كما يرتبط بالنضال البيئي، حيث يرفض استغلال الطبيعة كامتداد للقمع الرأسمالي. ومع ذلك، يُنتقد ماركوز لعدم توقعه رد الفعل اليميني، مثل صعود رونالد ريغان أو اليمين المتطرف في أوروبا. رغم أهميته، واجه الرفض الكبير نقوداً، مثل عدم تفاعل ماركوز مع الاعتراضات أو عدم تقديره لمرونة الرأسمالية، التي لم تنهار كما توقع. يُنتقد افتراضه بأن الرأسمالية أنهت الندرة، مع تجاهل الفجوات المتزايدة في الثروة. كما يُرى تناقض بين الإيروس والحضارة (التكنولوجيا كمحررة) والإنسان ذو البعد الواحد (التكنولوجيا كقمعية). معاصرًا، يُعتبر إرث ماركوز محدوداً، حيث تركز اليسار على تعزيز الديمقراطية بدلاً من رفضها، لكن مفهومه يظل ذا صلة في مواجهة الأزمات مثل التفاوت الاقتصادي والتغير المناخي.
الخاتمة
في الختام، تمثل فلسفة ماركوز النقدية الاجتماعية مواجهة جذرية للفاشية الجديدة، من خلال نقد اغتراب الإنسان ذي البعد الواحد في الرأسمالية الاستهلاكية، مقابل تحرير الإيروس والبعد الجمالي. هذا التوتر يعكس أملاً في الثورة، لكن يحذر من مخاطر الاندماج. الدراسات المستقبلية قد تستكشف تطبيقاته في العصر الرقمي، حيث تتجدد الفاشية عبر الإعلام الاجتماعي. يمثل الرفض الكبير عند ماركوز تحولاً في النظرية النقدية، من نقد الاغتراب إلى فعل ثوري يعتمد على الإيروس والجماليات لتحرير الإنسان من البعد الواحد. رغم النقود، يظل المفهوم أداة لفهم الحركات المعاصرة، مع الحاجة إلى تكييفه مع التحديات الرقمية والعولمية. الدراسات المستقبلية قد تستكشف دوره في الذكاء الاصطناعي والفاشية الرقمية. فمتى يتم تفعيل مسيرة الرفض العربي الكبير للاجتياح الصهيوامبريالي للعمق الاستراتيجي لحضارة أقرأ؟
كاتب فلسفي