لغة الضاد بين التكلم عن معاناة الشعوب المضطهدة والنطق باسم الوجود الإنساني المغترب


زهير الخويلدي
الحوار المتمدن - العدد: 8560 - 2025 / 12 / 18 - 00:21
المحور: الادب والفن     

مقدمة
في كل عام، يُحتفل في الثامن عشر من ديسمبر باليوم العالمي للغة العربية، وهو تاريخ يعكس ليس مجرد احتفاء بلغة، بل بتراث حضاري يمتد جذوره إلى آلاف السنين. العنوان "لسان الضاد: حال فكر الأمة" يلخص جوهر هذا اليوم، حيث يُشار إلى اللغة العربية بلقب "لسان الضاد" لتميزها بحرف الضاد الفريد، الذي لا يوجد مثيله في لغات أخرى، ويُرى فيها "حال فكر الأمة" أي حالة أو وضع الفكر العربي الإسلامي، الذي شكلته اللغة كأداة للتعبير عن العقيدة، العلم، والثقافة والفلسفة. هذا اليوم، الذي أقرته منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) رسمياً، يأتي ليذكر العالم بأهمية اللغة العربية كجسر بين الماضي والحاضر، وكعامل في تشكيل هوية الأمة العربية والإسلامية. في هذه الدراسة الأكاديمية، سنستعرض تاريخ هذا اليوم وأهميته، مع التركيز على كيفية انعكاس اللغة العربية لحال فكر الأمة، من خلال جوانب تاريخية، ثقافية، ومعاصرة، مستندين إلى التحديات والمبادرات التي تشكل مستقبلها حتى عام 2025. هذه المقاربة ليست مجرد سرد تاريخي، بل هي محاولة لفهم كيف تكون اللغة ليست أداة تواصل فحسب، بل حالة فكرية تعبر عن تطور الأمة وتحدياتها في عصر العولمة. فكيف تمثل اللغة العربية مرآة لفكر الأمة في اليوم العالمي؟
تاريخ اليوم العالمي للغة العربية: من قرار الأمم المتحدة إلى الاحتفاء العالمي
يعود اختيار تاريخ 18 ديسمبر للاحتفال باللغة العربية إلى حدث تاريخي هام في عام 1973، عندما أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارها رقم 3190، الذي أدخل اللغة العربية كلغة رسمية سادسة في المنظمة الدولية، إلى جانب الإنجليزية، الفرنسية، الإسبانية، الروسية، والصينية. كان هذا القرار نتيجة جهود دبلوماسية عربية مكثفة، تهدف إلى تعزيز حضور اللغة العربية في الساحة الدولية، خاصة في ظل الدور الثقافي والسياسي الذي لعبته الدول العربية في تلك الفترة. لم يكن هذا الإنجاز مجرد إجراء إداري، بل كان تأكيداً على قيمة اللغة العربية كوسيلة لنقل المعرفة والحوار بين الشعوب، وانعكاساً لحال فكر الأمة التي ساهمت في بناء الحضارة الإنسانية من خلال ترجماتها للعلوم اليونانية والفارسية إلى العربية في العصور الوسطى. مع مرور الزمن، تطور الاحتفال بهذا اليوم ليصبح مناسبة عالمية، حيث أقرت اليونسكو في عام 2010 الاحتفاء الرسمي به، مع التركيز على دور اللغة في تعزيز التنوع الثقافي والتعليم. في السنوات اللاحقة، أصبح اليوم منصة لمناقشة قضايا مثل الحفاظ على التراث اللغوي، ودمج اللغة العربية في التكنولوجيا، ومواجهة التحديات الناتجة عن سيطرة اللغات الأجنبية في التعليم والإعلام. على سبيل المثال، في عام 2012، ركز الاحتفال على "اللغة العربية والتنمية"، مما يعكس كيف أصبحت اللغة جزءاً من خطط التنمية المستدامة للأمم المتحدة. هذا التطور التاريخي يبرز "لسان الضاد" كحال فكر الأمة، إذ أن اللغة لم تكن ثابتة، بل تطورت مع تطور الفكر العربي من عصر الجاهلية، مروراً بالعصر الإسلامي الذي جعلها لغة القرآن الكريم، إلى العصر الحديث حيث أصبحت أداة للتواصل العالمي. اليوم العالمي يذكرنا بأن اللغة العربية، التي يتحدث بها أكثر من 400 مليون شخص كلغة أم، ومليار مسلم كلغة دينية، هي ليست مجرد رموز صوتية، بل هي مخزن للفكر الفلسفي، العلمي، والأدبي الذي شكل هوية الأمة وحضارة اقرا.
دور اللغة العربية في تشكيل فكر الأمة: من التراث إلى المعاصرة
تُعتبر اللغة العربية "حال فكر الأمة" لأنها لم تكن مجرد وسيلة تواصل، بل كانت أداة لصياغة الفكر الجماعي والفردي. تاريخياً، ساهمت اللغة العربية في نقل المعارف من حضارات أخرى إلى العالم الإسلامي، كما في عصر الدولة العباسية حيث ترجمت أعمال أرسطو وأفلاطون، مما أدى إلى ازدهار الفلسفة العربية عند ابن سينا وابن رشد. هذا الدور يجعل "لسان الضاد" مرآة لفكر الأمة، إذ أن اللغة حملت مفاهيم مثل "العدل"، "الإيمان"، والـ"علم"، التي شكلت الأخلاقيات والقوانين في المجتمعات العربية والإسلامية. في العصر الحديث، أصبحت اللغة أداة لليقظة الفكرية، كما في حركة الإصلاح عند محمد عبده وجمال الدين الأفغاني، الذين استخدموا العربية لنقد الاستعمار ودعوة للحداثة دون فقدان الهوية. معاصرًا، تظهر أهمية اللغة في فكر الأمة من خلال دورها في الثورات العربية، حيث استخدمت في الشعارات والأدب الثوري لتعبير عن الرغبة في التغيير. كما أنها لغة رسمية في 25 دولة، وتُستخدم في المنظمات الدولية، مما يعزز حضورها في الفكر السياسي العالمي. ومع ذلك، يعكس حال فكر الأمة تحديات مثل تراجع استخدام العربية في التعليم العلمي، حيث يفضل الكثيرون الإنجليزية، مما يؤدي إلى انفصال بين اللغة والفكر الحديث. هنا، يأتي اليوم العالمي ليذكر بأن الحفاظ على اللغة هو حفظ لفكر الأمة، كما في مبادرات مثل "اليوم العالمي للغة العربية" الذي يشجع على دمجها في الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا لضمان استمراريتها.
بين التكلم عن معاناة الشعوب المضطهدة والنطق باسم الوجود الإنساني المغترب
تُعرف اللغة العربية بلقب "لغة الضاد"، وهو تسمية تعود إلى تفردها بحرف الضاد (ض)، الذي يُعد من أكثر الحروف صعوبة في النطق لغير الناطقين بها، مما يجعلها لغة فريدة في بنيتها الصوتية والدلالية. يرجع هذا اللقب إلى حديث نبوي يُشير إلى فصاحة العرب في نطق هذا الحرف، كما أنها اللغة الوحيدة التي تحتوي عليه بشكل أصيل. هذه اللغة ليست مجرد أداة تواصل يومي، بل هي وعاء حضاري يحمل تاريخاً ثرياً من الأدب، الفلسفة، والتعبير عن الوجود الإنساني.
الضاد كصوت لمعاناة الشعوب المضطهدة
تاريخياً، لعبت اللغة العربية دوراً حاسماً في بناء الهوية الثقافية والحفاظ على التراث، خاصة في سياقات الاضطهاد والتهميش. تعتبر اللغة عنصراً أساسياً في تحديد هوية الشعوب، وتعكس تاريخها وثقافاتها، مما يجعلها حافظاً حياً للتراث الفكري.
في العصور الوسطى، كانت العربية لغة العلم والفلسفة، حيث نقلت معارف ابن سينا وابن رشد، وساهمت في التواصل بين الحضارات. ومع ذلك، في العصر الحديث، واجهت اللغة تحديات مثل الإقصاء باسم عدم ملاءمتها للعلم والتقنية، مما أدى إلى تهميشها في بعض المجتمعات العربية.
في سياق معاناة الشعوب المضطهدة، أصبحت الضاد أداة للتعبير عن الظلم الاجتماعي والسياسي. على سبيل المثال، في الشعر الفلسطيني المعاصر، يستخدم شعراء مثل محمود درويش اللغة العربية لوصف الاحتلال والنكبة، حيث تتحول الكلمات إلى أسلحة مقاومة. درويش، في قصائده مثل "بطاقة هوية"، يعبر عن الاغتراب عن الأرض والوطن، لكنه يربط ذلك بمعاناة شعب مضطهد، مما يجعل اللغة جسراً بين الفردي والجماعي. كذلك، خلال الربيع العربي، استخدمت العربية في الشعارات والأغاني الثورية للتعبير عن رفض الاستبداد، كما في أشعار الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي، الذي ألهم الثورات بقصيدته "إرادة الحياة". بالإضافة إلى ذلك، تساهم اللغة في الحفاظ على التراث الديني والشعبي، خاصة في مواجهة العولمة المتوحشة. القرآن الكريم، كمرجع لغوي، يحافظ على الفصاحة ويعزز الهوية الإسلامية، التي غالباً ما تكون مرتبطة بمعاناة الشعوب تحت الاستعمار أو الديكتاتوريات.
في هذا السياق، تُعد القصص الشعبية مثل "ألف ليلة وليلة" تعبيراً عن معاناة الطبقات الفقيرة، حيث تكشف اللغة عن الظلم الاجتماعي من خلال الحكايات الساخرة والنقدية.
ومع ذلك، تواجه الضاد تحديات معاصرة، مثل التفكك السياسي والعولمة، التي تهدد بتهميشها. دراسة حديثة تشير إلى أن العربية تعاني من ظواهر سلبية في المجتمعات، مما ينتقص من وجودها اليومي.
هنا، تبرز اللغة كأداة للمقاومة، حيث يستخدمها الكتاب لتوثيق معاناة الشعوب، كما في أدب السجون العربية وادب المقاومة، الذي يصف التعذيب والقمع بلغة حية تعكس الواقع المر.
الضاد كنطق للوجود الإنساني المغترب
من جهة أخرى، يتجلى دور الضاد في النطق باسم الوجود الإنساني المغترب، خاصة في الأدب العربي المعاصر الذي تأثر بالفلسفة الوجودية. يعود أدب الاغتراب إلى أفكار جان بول سارتر، الذي طرح أسئلة حول الوجود الإنساني والعدم، مما أدى إلى شعور بالقلق والحيرة.
في الأدب العربي، يظهر الاغتراب كأزمة هوية، مرتبطة بالفقدان والانتماء، خاصة في أدب المهجر. شكل أدباء المهجر في بداية القرن العشرين، مثل جبران خليل جبران، حركة أدبية مهمة، حيث تحول الاغتراب إلى توطين ثقافي. جبران، في كتاباته مثل "النبي"، يتأمل الإنسان الباحث عن وطنه في الروح لا في الأرض، معبراً عن نزعة إنسانية عميقة. هذا الأدب لم يسلم من تجربة المنفى، حيث شعر الشعراء بالبعد عن الوطن، مما أدى إلى تعميق الاغتراب الوجودي.
في العصر الحديث، يستمر الاغتراب مع الهجرات الناتجة عن الزلازل السياسية، كما في أعمال كتاب عرب مقيمين في أوروبا والغرب. على سبيل المثال، يصف الشاعر محمد زادة الاغتراب كظاهرة متعددة الأبعاد، حيث يؤدي إلى اندماج في الأدب المحلي مع فقدان الصفة الاغترابية. كذلك، يشير نجم الدين سمان إلى حاجة اتحاد المبدعين لتجاوز السلبيات الموروثة من الوطن. هذا الاغتراب يتجلى في ثلاثة أبعاد: ميتافيزيقي (عن الكون)، اجتماعي (عن الجماعة)، وذاتي (عن النفس)، مما يعمق العزلة.
في الفلسفة العربية، تأثرت الضاد بأفكار الوجودية، كما في كتابات عبد الرحمن بدوي، الذي دمج الفلسفة الغربية مع التراث العربي، معبراً عن الاغتراب في ظل التقدم المادي والفقدان الروحي.
التقاطعات بين المعاناة والاغتراب
يتقاطع البعدان في الضاد كلغة تعبر عن الجماعي والفردي معاً. في أدب المهجر، مثلما عند المتنبي أو جبران، يتحول الاغتراب إلى تعبير عن معاناة شعوب مضطهدة، حيث يصبح المنفى رمزاً للقمع السياسي. كذلك، في الشعر المعاصر، يربط الاغتراب بالهزائم العربية، مما يجعل اللغة أداة للثورة والعزلة معاً. هذا التوازن يعزز دور الضاد في التواصل الحضاري، حيث تساهم في الاندماج بين الثقافات دون فقدان الهوية.
التحديات المعاصرة والمبادرات لتعزيز اللغة العربية
تواجه اللغة العربية في الحقبة المعاصرة تحديات تعكس حال فكر الأمة، مثل تأثير العولمة الذي يدفع نحو سيطرة اللغات الأجنبية في الإعلام والتجارة، مما يؤدي إلى تراجع استخدام العربية بين الشباب. كما أن التنوع اللهجي يشكل تحدياً في توحيد اللغة الفصحى، بالإضافة إلى نقص المحتوى الرقمي بالعربية مقارنة بالإنجليزية. هذه التحديات تجعل "لسان الضاد" حالاً لفكر الأمة الذي يعاني من التوتر بين التراث والحداثة. ومع ذلك، شهدت السنوات الأخيرة مبادرات هامة، مثل تلك التي تنظمها اليونسكو، التي تركز على دمج اللغة في التعليم والتكنولوجيا. على سبيل المثال، في عام 2023، ركز الاحتفال على "اللغة العربية والتعليم"، مع أنشطة تعليمية في المدارس لتعزيز الوعي بالتراث اللغوي. في عام 2025، يأتي الاحتفال تحت شعار "آفاق مبتكرة للغة العربية: سياسات وممارسات ترسم مستقبلاً لغوياً مستداماً"، مع فعاليات في مقر اليونسكو بباريس تركز على دور التكنولوجيا، الإعلام، والذكاء الاصطناعي في تعزيز اللغة. هذه المبادرات تشمل ورش عمل حول تطوير تطبيقات رقمية بالعربية، ومناقشات حول سياسات التعليم اللغوي، مما يعكس جهوداً لجعل اللغة أداة للابتكار. كذلك، في الدول العربية، تنظم فعاليات مثل معارض الكتب والمسابقات الشعرية، لتعزيز الوعي باللغة كعنصر أساسي في فكر الأمة. هذه الجهود تؤكد أن اليوم العالمي ليس احتفالاً شكلياً، بل فرصة لإعادة صياغة حال فكر الأمة نحو مستقبل أكثر تماسكاً ثقافياً.
خاتمة
في النهاية، تظل الضاد لغة حية تجسد التوتر بين معاناة الشعوب المضطهدة والاغتراب الإنساني. من خلال أدبها وفلسفتها، تحافظ على التراث وتواجه التحديات، مما يجعلها أداة لليقظة. يتطلب الحفاظ عليها تعزيز تعليمها واستخدامها في التعبير عن الوجود المعاصر، لتبقى صوتاً للإنسانية في عالم متغير. في الختام، يمثل اليوم العالمي للغة العربية في 18 ديسمبر مناسبة للتأمل في "لسان الضاد" كحال فكر الأمة، حيث تعكس اللغة تطورها التاريخي، تحدياتها المعاصرة، وإمكانياتها المستقبلية. من قرار الأمم المتحدة عام 1973 إلى الاحتفالات في 2025، أصبح هذا اليوم رمزاً للحفاظ على الهوية في وجه العولمة. اللغة العربية، بغناها الدلالي والصوتي، ليست مجرد أداة، بل هي جوهر فكر الأمة الذي يحتاج إلى جهود مستمرة ليظل نابضاً. في عصرنا، مع تطور التكنولوجيا، يجب أن تكون اللغة جسراً للابتكار، مذكرة بأن مستقبل الأمة يعتمد على قدرتها على الحفاظ على لسانها كحال فكري حي. فكيف ترد اللغة العربية على التحديات وترسم ملامح الاستراتيجيات المشتركة وتستشرف المستقبل لفكر الأمة؟
كاتب فلسفي