مقاربة بسيكوسوسيولوجية للكائن البشري عند ايريك فروم
زهير الخويلدي
الحوار المتمدن
-
العدد: 8558 - 2025 / 12 / 16 - 12:06
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
مقدمة
إريك فروم (1900-1980)، الفيلسوف وعالم النفس الألماني الأمريكي، هو أحد أبرز المفكرين في القرن العشرين الذين دمجوا بين التحليل النفسي والاجتماعي لفهم طبيعة الإنسان في سياق مجتمعه. تأثر فروم بفرويد وماركس، مما أدى إلى تطوير مقاربة نفسية اجتماعية تركز على كيفية تشكل الشخصية الفردية تحت تأثير الهياكل الاجتماعية والاقتصادية. في كتبه الرئيسية مثل "الخوف من الحرية" و"التملك أم الكينونة؟"، يناقش فروم علاقة الفرد بالمجتمع كتوتر دائم بين الاغتراب الناتج عن نمط التملك والتحرر الذي يتحقق عبر نمط الكينونة. يُعرف الاغتراب عند فروم كشعور بالانفصال عن الذات، الآخرين، والعالم، ناتج عن الرأسمالية الحديثة التي تعزز التملك الخاص كأساس للهوية. مقابل ذلك، يقترح نمط الكينونة كطريقة للكينونة المشتركة، حيث يتحقق الإنسان من خلال الروابط الإنتاجية والحب غير التملكي. تهدف هذه الدراسة إلى استكشاف هذه العلاقة بمقاربة نفسية اجتماعية، مستندة إلى تحليل أعمال فروم، مع التركيز على الانتقال من الاستلاب إلى التحرر. سنبدأ بمناقشة الأسس النظرية، ثم نستعرض استلاب التملك، وأخيراً تحرر الكينونة، مع الإشارة إلى التقاطعات والتطبيقات المعاصرة. فكيف كانت مقاربة ايريك فروم للكائن البشري؟
الأسس النظرية لعلاقة الفرد بالمجتمع عند فروم
تستند مقاربة فروم النفسية الاجتماعية إلى دمج التحليل النفسي مع النقد الاجتماعي الماركسي، حيث يرى أن الشخصية الفردية تتشكل من خلال التفاعل مع البيئة الاجتماعية. في "المجتمع السوي" ، ينتقد فروم المجتمع الحديث كمصدر للاغتراب، حيث يفقد الفرد روابطها الأولية مع الطبيعة والمجتمع، مما يؤدي إلى شعور بالعزلة والقلق الوجودي.
يعتمد فروم على مفهوم "التوجهات الشخصية"، التي تكون إما إنتاجية أو غير إنتاجية ، وتتحدد بناءً على كيفية استجابة الفرد للحاجات الإنسانية الأساسية مثل الجذورية، الوحدة ، والتجاوز.
من الناحية النفسية، يرى فروم أن الاغتراب ينشأ من "الخوف من الحرية"، حيث يهرب الفرد من حريته الفردية عبر آليات مثل السلطوية أو التوافق الآلي، مما يعزز التبعية للمجتمع بدلاً من الاندماج الحقيقي.
اجتماعياً، ينتقد فروم الرأسمالية لترسيخها نمط التملك، الذي يحول العلاقات الإنسانية إلى علاقات شيئية، حيث يصبح الفرد "ما يملك" بدلاً من "ما يكون".
هذه المقاربة تؤكد أن الصحة النفسية للفرد مرتبطة بصحة المجتمع، وأن التحرر يتطلب تغييراً جذرياً في الهياكل الاجتماعية.
في سياق التملك الخاص، يرى فروم أنه يعزز التوجهات غير الإنتاجية مثل الاستغلالي والتجميعي، حيث يصبح التملك مصدراً للأمان الزائف، مما يؤدي إلى الاغتراب عن الآخرين.
مقابل ذلك، يقترح نمط الكينونة كتوجه إنتاجي يعتمد على الحب والتضامن، مما يعيد بناء العلاقة بين الفرد والمجتمع على أساس مشترك.
استلاب التملك الخاص: الاغتراب النفسي الاجتماعي
في كتاب "التملك أم الكينونة؟"، يصف فروم نمط التملك كطريقة وجود تهيمن عليها الرغبة في الاقتناء والسيطرة، مما يؤدي إلى استلاب الفرد عن ذاته ومجتمعه. يعرف فروم هذا النمط بأنه "يحول كل شيء إلى أشياء، بما في ذلك الذات والآخرين"، حيث يصبح الإنسان "ما يملك وما يستهلك".
نفسياً، ينشأ هذا الاستلاب من الخوف من الفقدان، مما يدفع الفرد إلى تجميع الممتلكات كدفاع ضد القلق الوجودي، لكنه يؤدي إلى الشعور بالفراغ والعزلة.
اجتماعياً، يرتبط التملك الخاص بالرأسمالية، التي تحول العلاقات الإنسانية إلى علاقات سوقية، حيث يصبح الآخرون أدوات للاستغلال أو المنافسة.
ينتقد فروم هذا النمط لأنه يعزز التوجه التسويقي، حيث يبيع الفرد نفسه كسلعة في سوق العمل، مما يفقده هويته الأصيلة ويحوله إلى كائن آلي يتوافق مع معايير المجتمع دون تفكير نقدي.
هذا الاغتراب يتجلى في ظواهر مثل الاستهلاكية، حيث يسعى الفرد إلى ملء الفراغ الداخلي بالممتلكات، لكنه يزيد من الاغتراب عن الطبيعة والآخرين، مما يؤدي إلى تدمير البيئة والعلاقات الاجتماعية.
من منظور نفس اجتماعي، يرى فروم أن هذا الاستلاب ينشأ من فقدان الروابط الأولية في المجتمع الحديث، حيث يحل التملك محل الحب غير الشرطي، كما في الانتقال من المجتمعات الأمومية إلى الأبوية.
نتيجة لذلك، يعاني الفرد من الاكتئاب والعدوانية، حيث يصبح التملك مصدراً للصراع الاجتماعي، كما في الشوفينية والحروب.
تحرر الكينونة المشتركة: الطريق إلى الوجود الإنتاجي
مقابل نمط التملك، يقترح فروم نمط الكينونة كطريقة تحررية للوجود، حيث يركز الفرد على النشاط الإنتاجي والتفاعل الحي مع الآخرين. يعرف فروم هذا النمط بأنه "عملية حية وإنتاجية بين الذات والعالم"، حيث لا يخشى الفرد الفقدان لأنه "ما هو لا ما يملك".
نفسياً، يتحقق التحرر من خلال تنمية التوجه الإنتاجي، الذي يعتمد على الحب، العقل، والتضامن ، مما يساعد الفرد على تجاوز الاغتراب وتحقيق الوحدة مع الذات والآخرين.
اجتماعياً، تتطلب الكينونة المشتركة بناء مجتمع جديد يركز على الاحتياجات الإنسانية بدلاً من الربح، مثل ضمان الدخل الأساسي وتشجيع التعاون.
لذلك يرى فروم أن هذا التحرر يتجاوز كلاً من الرأسمالية والشيوعية السوفييتية، مقترحاً اشتراكية إنسانية تعزز الحرية والكرامة. في هذا النمط، تتحول العلاقات إلى روابط غير تملكية، حيث يصبح الحب "إعطاء" لا "اقتناء"، مما يعيد بناء المجتمع على أساس الثقة والمشاركة.
من منظور نفس اجتماعي، يساعد نمط الكينونة في حل التناقض الوجودي بين الحاجة إلى الوحدة والحفاظ على الفرادة، من خلال النشاط الإبداعي والتفاعل الاجتماعي. هذا التحرر يتطلب تغييراً في الشخصية، مثل تطوير الوعي النقدي والاستقلالية، ليصبح الفرد جزءاً من كينونة مشتركة دون فقدان ذاته.
التقاطعات والتطبيقات المعاصرة
يتداخل الاستلاب والتحرر في أفكار فروم كعملية ديناميكية، حيث يمكن للفرد الانتقال من التملك إلى الكينونة من خلال الوعي والتغيير الاجتماعي. في العصر الحديث، تظهر أهمية هذه المقاربة في مواجهة الاستهلاكية والعزلة الرقمية، حيث يمكن تطبيق أفكار فروم في التعليم والعلاج النفسي لتعزيز التوجهات الإنتاجية. كذلك، يساهم في نقد السلطوية المعاصرة، كما في ظهور الشعبوية، التي تعكس الهروب من الحرية.
خاتمة
في الختام، تُبرز علاقة الفرد بالمجتمع عند إريك فروم التوتر بين استلاب التملك الخاص، الذي يعزز الاغتراب النفسي الاجتماعي، وتحرر الكينونة المشتركة، التي تعيد بناء الروابط الإنسانية. من خلال مقاربته النفسية الاجتماعية، يدعو فروم إلى مجتمع إنساني يركز على الكينونة بدلاً من التملك، مما يوفر طريقاً للصحة النفسية والاجتماعية. يظل فكره ذا أهمية معاصرة، محفزاً على التغيير نحو عالم أكثر تضامناً وإنسانية.
كاتب فلسفي