خلفيات الاعلان العالمي لحقوق الإنسان والتفريط في حقوق الشعوب، مقاربة بيوبوليتيكية


زهير الخويلدي
الحوار المتمدن - العدد: 8551 - 2025 / 12 / 9 - 23:59
المحور: حقوق الانسان     

مقدمة
"الإنسان حر ومستقل. تصرّف كما لو أن مبادئ أفعالك ستُرسّخها إرادتك كقوانين طبيعية كونية" عمانويل كانط
الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي تم تبنيه من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة في 10 ديسمبر 1948، أحد أبرز الوثائق في تاريخ القانون الدولي والفكر الإنساني. يتكون الإعلان من 30 مادة تحدد الحقوق الأساسية والحريات الأساسية لجميع البشر، مثل الحق في الحياة، والحرية، والمساواة، والتعليم، والعمل. ومع ذلك، فإن هذا الإعلان لم يكن مجرد إعلان فلسفي، بل كان استجابة مباشرة لفظائع الحرب العالمية الثانية، بما في ذلك الهولوكوست والجرائم ضد الإنسانية.
في هذه الدراسة، سنستعرض خلفيات هذا الإعلان، ثم نناقش كيف يمكن أن يُفسر من منظور بيوبوليتيكي، مستندين إلى أفكار ميشيل فوكو وجيورجيو أغامبن، لنكشف عن جوانب التفريط في حقوق الشعوب التي قد تكون متضمنة في هيكله أو تطبيقه. المقاربة البيوبوليتيكية تركز على كيفية تحول السلطة السياسية إلى سلطة على الحياة البيولوجية للسكان، مما يجعل الحقوق أداة للسيطرة بدلاً من التحرر.
سنقسم الدراسة إلى أقسام رئيسية: خلفيات الإعلان، المفهوم البيوبوليتيكي، نقد الإعلان من هذا المنظور، والتفريط في حقوق الشعوب.
خلفيات الإعلان العالمي لحقوق الإنسان
نشأ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في سياق تاريخي مليء بالصراعات والأزمات. بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية في 1945، أسست الأمم المتحدة في عام 1945 لتعزيز السلام العالمي والتعاون الدولي. كان الإعلان جزءاً من ميثاق الأمم المتحدة، الذي يؤكد على احترام حقوق الإنسان كأساس للسلام.
رئيسة لجنة صياغة الإعلان كانت إليانور روزفلت، زوجة الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت، وشارك في صياغته ممثلون عن دول متنوعة مثل الصين، لبنان، والاتحاد السوفيتي، مما يعكس محاولة للتوازن الثقافي.
تاريخياً، يُعتبر الإعلان تطوراً لأفكار سابقة مثل ميثاق حقوق الإنسان الفرنسي (1789) ووثيقة الحقوق الأمريكية (1791)، لكنه كان الأول الذي يُعلن عن حقوق عالمية غير مرتبطة بسياق وطني محدد.
تم تبنيه في باريس خلال الجلسة 183 للجمعية العامة، ولم يكن ملزماً قانونياً في البداية، بل كان "مستوى مشترك" يُهدف إلى تحقيقه جميع الشعوب.
مع مرور الزمن، أثر الإعلان في صياغة معاهدات ملزمة مثل العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (1966) والعهد الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (1986). ومع ذلك، فإن خلفياته الغربية المهيمنة أثارت نقداً، حيث يُرى كانعكاس للقيم الليبرالية الغربية، مما يجعله عرضة لاتهامات بالاستعمار الثقافي.
المقاربة البيوبوليتيكية: مفاهيم أساسية
المقاربة البيوبوليتيكية، كما طورها ميشيل فوكو في أعماله مثل "تاريخ الجنسانية" و"الأمن، السكان، الإقليم"، تركز على تحول السلطة السياسية في العصر الحديث من سلطة سيادية (حق القتل) إلى سلطة بيوبوليتيكية (حق الإدارة والسيطرة على الحياة).
يرى فوكو أن الدولة الحديثة تتعامل مع السكان ككائنات بيولوجية، من خلال آليات مثل الإحصاءات، الصحة العامة، والتعليم، لضمان الإنتاجية والاستقرار. أما جيورجيو أغامبن، فيمضي أبعد في "هومو ساكر"، حيث يربط البيوبوليتيكس بالسيادة، معتبراً أن السلطة تخلق "مناطق عدم تمييز" حيث يُحرم الأفراد من حقوقهم، كما في المعسكرات النازية أو مخيمات اللاجئين الحديثة.
في سياق حقوق الإنسان، يُفسر أغامبن الحقوق كأداة بيوبوليتيكية تمنح السلطة القدرة على استثناء بعض السكان من الحماية، مما يؤدي إلى "الحياة العارية" التي تكون عرضة للعنف دون عقاب.
هذه المقاربة تكشف كيف يمكن أن تكون الحقوق جزءاً من نظام سيطرة، لا تحرراً كاملاً.
نقد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان من منظور بيوبوليتيكي
من منظور بيوبوليتيكي، يُنقد الإعلان لأنه يركز على الفرد ككائن بيولوجي-سياسي، مما يتجاهل السياقات الجماعية للشعوب. فوكو يرى أن حقوق الإنسان جزء من "البيوباور" الذي يدير الحياة لصالح الرأسمالية والدولة، حيث تُستخدم لتبرير التدخلات في الحياة اليومية.
أما أغامبن، فيؤكد أن الإعلان يخلق تمييزاً بين "المواطن" الذي يتمتع بحقوق سياسية وبين "الإنسان العاري" الذي يُحرم منها، كما في حالات اللاجئين أو الشعوب المستعمَرة.
هذا النقد يبرز فشل الإعلان في منع الانتهاكات، كما في الحروب الحديثة أو السياسات الاستعمارية، حيث يُستخدم كغطاء للسيطرة البيوبوليتيكية.
على سبيل المثال، يُتهم الإعلان بعدم تعريف "الإنسان" بوضوح، مما يسمح باستثناءات مثل تلك في فترات النازية أو الاستعمار.
كما أنه يُرى كأداة غربية تفرض قيماً كونية، مما يؤدي إلى صراعات ثقافية وتفريط في الخصوصيات المحلية.
التفريط في حقوق الشعوب: الربط البيوبوليتيكي
التفريط في حقوق الشعوب يظهر بوضوح عندما يُستخدم الإعلان لتبرير التدخلات الدولية التي تخدم مصالح القوى الكبرى، مما يحول الحقوق إلى أداة بيوبوليتيكية للسيطرة على السكان. في السياق العربي والإسلامي، يُنقد الإعلان كأداة استعمارية تتعارض مع الخصوصيات الثقافية، حيث يُفرض كقيم غربية دون مراعاة للتنوع.
على سبيل المثال، في قضايا الشعوب الأصلية، يُكمل الإعلان العالمي بإعلان حقوق الشعوب الأصلية (2007)، لكنه يفشل في منع التفريط في أراضيها وحياتها تحت غطاء التنمية.
بيوبوليتيكياً، يؤدي ذلك إلى "مناطق الاستثناء" حيث تُدار الشعوب ككائنات بيولوجية قابلة للاستغلال، كما في النزاعات في فلسطين أو العراق، حيث يُتجاهل الإعلان لصالح السياسات الأمنية.
النقد يشمل أيضاً عدم فعالية الإعلان في مواجهة الانتهاكات، حيث يبقى وثيقة غير ملزمة، مما يسمح بانهيار النظام الدولي لحقوق الإنسان. هذا التفريط يعزز اللامساواة، حيث تُحمى حقوق الأفراد في الدول الغنية بينما تُهمل الشعوب في الجنوب العالمي.
خاتمة
" الكارثة؟ ستكون لو استمر عالمٌ يتمتع فيه الإنسان بحقوقٍ على أخيه الإنسان."
في الختام، يظل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان إنجازاً تاريخياً، لكنه من منظور بيوبوليتيكي، يحمل بذور التفريط في حقوق الشعوب من خلال تحويله إلى أداة سيطرة. لتجاوز ذلك، يجب إعادة صياغة الحقوق لتشمل الجماعات والخصوصيات الثقافية، مع تعزيز الآليات الملزمة. هذه المقاربة تدعو إلى سياسة تحررية حقيقية، بعيداً عن الاستثناءات البيوبوليتيكية، لضمان حقوق جميع الشعوب دون تفريط.
فكيف نضمن للأفراد والشعوب حقوقا كاملة دون انقاص أو تفريط؟ ومتى تعم هذه القيم في مجتمعاتنا؟
كاتب فلسفي