رسالة السلوان لمواطن سعودي مجهول (من وحي رسالة الغفران لأبي العلاء المعري) 5


سامي الذيب
الحوار المتمدن - العدد: 8523 - 2025 / 11 / 11 - 20:52
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

كتاب رائع يستحق القراءة
------------------------
رسالة السلوان
لمواطن سعودي مجهول (من وحي رسالة الغفران لأبي العلاء المعري)
----------------------------
القسم الخامس من هذا الكتاب الذي يمكنكم تحميله مجانًا من هذا الرابط
https://www.academia.edu/144829115
-----------------------------
النار
--------
يخبرني أحد الحراس أنه قد حان الأوان لأرى النار عن قرب مثلما رأيتُ الجنة عن قرب. شعرتُ بقلبي يهوي بين ضلوعي وأوشكتُ أن أغير رأيي. أنا الذي كنت أشيح بناظري عن نشرات الأخبار كلما ظهرت مشاهد مؤلمة لضحايا الحروب والقتل والعنف، بل وحتى حين أنوي مشاهدة فيلم كنت أتحقق أولا من تصنيفه في دليل العنف الخاص به، فإذا علمت أن فيه شيئا مروّعا أو مناظر مخيفة توجسّت منه وتركته الى غيره فكيف بي الآن وأنا على وشك أن أرى، كما قيل لي، مشاهد حية لأجساد تحترق، وأنفس تُعذّب، وجلود تُشوى وسلاسلَ وأغلالاً تُجرّ، وسعيرًا يتلظى؟ لا أدري كيف طاوعتني نفسي لأقبل بالذهاب مع الحارس وكأن شيئا ما يدفعني دفعا لاستكشاف ما ينتظرني، مثل مراسلي الحروب الذين يخوضون غمار المعارك والأشلاء تتساقط حولهم دون أن يُثني ذلك من عزيمتهم.
يأخذني الحارس معه عبر ممرات ملتوية متعرجة كالمتاهة، وكأن من صمّمها أراد أن يضلّل كل من يحاول الوصول إلى نهايتها. يحمل الحارس في يده جهازًا يشبه الآيباد الذي يستخدمه رضوان، يتفحصه بين الحين والآخر ليدله على الطريق. اختلس نظرة سريعة دون ان ينتبه لأرى شعار «غوغل ماب» يلمع على شاشة جهازه. بدأت مظاهر البهرجة والزينة تتلاشى من حولنا في الممرات، الأشجار تضمحل والنباتات تبهت وتختفي، وأنهار العسل واللبن تغيب، وبريق الذهب والفضة ينطفئ، وحتى الطريق نفسه تغير وأصبح مرصوفا بحجارة عادية بدلا من الطين المعجون بالزعفران وماء الورد. خرجنا من تلك الممرات إلى ساحة واسعة تتوسطها لافتة كبيرة مكتوب عليها ممنوع الدخول، ذكرتني بمواقف البوليفارد. يأخذني الحارس معه حتى نقبل على بوابة تعلوها يافطة أخرى مكتوب عليها «منطقة الخدمات».
استأذن لي صاحبي من حارس البوابة لنسلك سويّا طريقاً وسط منطقة أشبه ما تكون بالورش الصناعية التي كنت أرتادها أحيانا في حي أم الحمام، أثناء عملي بالهيئة لإصلاح عطل بالسيارة او صيانة ماكينة أو تعبئة غاز الفريون للمكيفات. كل من أراهم هنا هم من الغلمان او الجواري او الحرس المجنحين أما النزلاء أصحاب النعيم من أهل الجنة فمحظور عليهم الدخول او حتى الاقتراب من هذه المنطقة، وبما أني لست من اهل الجنة بعد، فلا بد انهم حصلوا لي على استثناء للمرور عبر منطقة الصيانة هذه. يمر الغلمان والجواري بقربي دون تحية أو سلام أو حتى ابتسام كما كانوا يفعلون في الجنة. وجوههم جامدة، خالية من أي تعبير، باردة دون أي ملامح وكأنهم منومون مغناطيسيا أو كآلات تتحرك وفق برمجة مسبقة. أسترقّ النظر لأرى بعضهم يدخل في مبانٍ من دور واحد تعلوها لافتات كُتب عليها محطة الشحن التلقائي. نقف عند أحد الورش ليقترب الحارس مني متفحصا جسدي كما يفعل الخياط حين يأخذ مقاساتي ثم ينادي على أحدهم داخل الورشة ويعود ومعه شي يلمع. أنظر فاذا بدلة كاملة (اوفرول) تلتصق بها خوذة للرأس كتلك التي يرتديها العاملون في إطفاء حرائق البترول وهي تسطع من اللمعان. نأخذها معنا بعد أن جربت مقاسها ونكمل المسير. بالرغم من أني اعرف الى اين نحن ذاهبون، الا أن سكينة غامرة تغشاني. ربما لثقتي بمن منحني الإذن بزيارة هذا المكان ومعرفتي بأنه سيرعاني ويحفظني حتى عودتي.
خرجنا من منطقة الورش لنصعد بخطى ثقيلة تلّة متدرجة الارتفاع نحو سور آخر يطل على ما سمّاه الحارس الهاوية أو الحُطمة وما أظنها سوى الجحيم - أعاذنا الله منها -. في الطريق، أرى اسطوانات غاز يدحرجها الحراس وهي خارجة من الورش ذاهبة الى حفرة النار كما ظننت. نظرت الى إحداها لأجد مكتوبا عليها «انتاج غاز الشمال». ألسنة اللهب المتصاعدة تلوح لي من بعيد فيما تلفح ساقي ووجهي موجات حرارة خانقة. رائحة شواء كريهة تملأ المكان وتثير الغثيان، وأصوات صراخ وعويل تصل مسامعي، وأنا ما زلت أحاول أن أبقى متماسكا رابط الجأش. نتوقف قليلا ليطلب مني الحارس لبس البزة ويخبرني بأنني لن أخطو خطوة واحدة داخل النار، ولن نصل بواباتها السبع، وإنما سأطل عليها من فوق السور بعد أن نصعد التلة، وهذي هي تعليماته التي تلقاها. نبدو مع رفيقي الحارس وكأننا فريق تلفزيوني قدمَ لعمل فلم وثائقي عن بركان ونحن نتقدم صوب فوهته، إلا أن هذا البركان لا يقذف حممًا من الحجارة بل أرواحًا وأجسادًا وسط صهارة الغضب الإلهي. يطمئنني الحارس بأن السور معزول بمادة تمنع انتقال الحرارة وأنه يمكنني أن اتكأ عليه بأمان لألقي نظرة. بدا لي وكأنه نوع من الصوف الصخري لمنع انتقال الحرارة وما أكّد ظني هو وجود علامة «روك وول» مثبتة على طرف السور. مع اقترابنا بدأت قواي تخور. أشعر بانقباض في بطني وغثيان ورغبة عارمة في التقيؤ، إلا أن الحارس سارع ليسندني، ثم مدّ يده بشي الى انفي لأشمه، فعادت إليّ أنفاسي، واستعادت قدماي شيئاً من ثباتهما.
نبلغ حافة السور لنطل على قعر سحيق لا يُرى له قرار، تتصاعد منه ألسنة لهب لا يُدرك منتهاها. أسمع صوت أناس يستغيثون تحت مراوش تديرها أذرع آلية تشبه تلك التي في خطوط إنتاج السيارات، لكنها هنا تسكب سائلا يغلي كالماء الحارق، وكأنهم في حمّام جماعي داخل سونا جهنمية. على الجانب الآخر، أناس خرجوا لتوّهم من ذلك «الحمام»، يلفّون أجسادهم بأرواب من سلاسل، ثم يُسحبون بها فوق شوك يخترق اللحم والعظم فيتعالى صراخهم مع كل خطوة. لم أطق مشاهدة المنظر فتقدمت بمحاذاة السور، لأرى ثلاثة أجساد يقفون متحلقين وسط صندوق دائري من حديد كأنه القدر، والنار تضطرم أسفل منه وهم يلعبون أوراقاً شبيهة بالكوتشينة. يبدو أن أحدهم قد غش الآخر فأمسك بعنق صاحبه وهوى عليه ليضربه ليهرع الثالث منهم ليصلح بينهما. يتقافزون من حر قاع القدر ومع ذلك لا ينفكون عن العراك. تبدو الوجوه مألوفة بالرغم من كآبة المنظر وسوء المنقلب. أدقق النظر فإذا بنتنياهو، هو الذي يحاول أن يصلح بين الإثنين وقد أمسكا بتلابيب بعضهما بعضاً وكأن ما بهم من أهوال لا تكفي. يحاول فك الاشتباك بينهما ليتلقى هو الآخر لكمات تطرحه معهم في قاع القدر ليقفز من حرارة ما يوجس، التفت للإثنين الآخرين فإذا بهما صدام حسين وحافظ الأسد.
ناديت عليهم من فوق السور:
«ما الذي ساقكم إلى هذا المصير؟»
رفع نتنياهو رأسه وصوته يتهدّج:
«الدماء. الدماء. كم من أرواح أُزهقت بسببنا، وكم من جراح خلفناها في صدور الأبرياء. كل واحد قد أثخن في الأرض قتلًا وقهرًا».
قلت لهم:
«لكنكم - وحسب ما أذكر عنكم - مؤمنون، بل وحتى أحدكم مات ولسانه يلهج بذكر الله، وإن اختلفت عقائدكم».
يرد صدام وعيناه تتوهجان من خلف اللهب:
«أتظن ان ترديد كلمة او اثنتين كفيل بالنجاة؟ لا ينجو من غضب الله الا من كفّ أذاه عن خلقه ولم تتلوث يداه بدماء آخرين. أما نحن، فملأنا السجون وخربنا البيوت وأزهقنا الأرواح بما جنت أيدينا».
سألتهم:
«وما الذي حملكم على ذلك؟»
أجاب حافظ بصوت متهالك:
«شهوة السلطة. حب الهيمنة والتحكم بمصائر الآخرين. فالسلطة حين تُطلق من عقالها تصبح مفسدة، وحين تكون مطلقة، مع غياب الضمير والقانون، تصير الفساد المطلق».
قلت: «لكن وعيكم بهذا لم يمنعكم من التوقف؟»
أجاب صدام:
«كنا نحسب أننا نُحسن صنعا. والبعض يظن أنه يبني أمة ذات رسالة خالدة».
قاطعته بتعجب:
«تحسنون صنعا وتبنون أمة بذبح أبنائها؟! هذا جنون».
أجاب نتنياهو بصوت واهن:
«هو كذلك».
لكن صدام استدرك قائلا:
«الأمر لم يكن كله منّا وحدنا، فقد كنا جزءاً من نظام أكبر، وقوى أوسع، ودول ومصالح تتجاوزنا».
قلت:
«وهل الله سيحاسب الدول والأنظمة والمصالح؟ أم سيحاسب الأنفس بما كسبت والأفراد بما عملوا؟»
يتدخل حافظ قائلا:
«بالرغم مما كنا نملك، إلا أننا لم نكن أحرارًا تماما كما يخيّل لك. فنحن لسنا مخيرين دوماً في إرادة قراراتنا، بل مدفوعين أحيانا بما لا نملك ونعي».
تركت الثلاثة يعودون لما كانوا عليه من عراك، وأنا ما زلت عاجزاً عن فهم هذه الجدلية بين حرية الإرادة وقسوة الحتمية التي أتى على ذكرها، مثلما كنت عاجزا من قبل عن فهم طلبات مكتب الشكاوى في الأعراف. تابعت السير بمحاذاة السور بخطوات متوجسة، خشية أن تزل قدمي، فإذا بي ألمح وجوهاً أعرفها من دنياي، رجالاً من المسلمين الموحدين، المحافظين على شعائرهم وبعضهم عمل معي في مركز الهيئة - لا، ليست هيئة الترفيه. بل هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. هالني أن أراهم هنا يتلظّون في الجحيم. كنت أعلم بسوء خلق بعضهم لكن لم يخطر ببالي يوماً، ولا في أشد كوابيسي قتامة، أن يكون مآلهم في سقر.
الوضع يوجع الروح ويمزق الفؤاد حين ترى من عرفتهم يومًا بأسمائهم ووجوههم، بل ربما من كان قريبًا منك أو زاملَك في العمل، يتلوّى في العذاب هنا. في تلك اللحظة تذكرت حديث أنجلينا جولي معي، يوم أصرّت على ألا تخطو إلى الجنة قبل أن تطمئن إلى مصير أمها. اقتربتُ منهم مذهولًا، وسألت أحدهم: «ما الذي سلككم في سقر؟» لكنه لم يسمعني، ولم يعرفني خلف هذه البدلة التي أرتديها. كل ما فعله أنه مدَّ يده يستجدي إراقة قطرة من ماء الجنة أُفيض بها عليهم، علَّها تبرّد أجسادهم المستعرة. التفتُّ إلى مرافقي أستأذنه أن أعود أدراجي إلى آخر كبينة مررنا بها عند منطقة الخدمات، لأسحب خرطوم الحريق وأرشّ عليهم شيئًا من الماء، لكنه أبى بشدة، وأجابني بصرامة لا تحتمل جدالًا.
واصلت السير لأرى رجلين ظهرا لي وكأنهما يرقصان سويةً. أحدهما يلطم كتفيه بسلاسل من حديد وكأنه ينزع جلده ليحل محله آخر، والثاني يمد يده وكأنه يحيّى صاحبه بذراعه الممدودة، دققت النظر فإذا بالأول هو الخميني، والآخر أدولف هتلر. لم تكن رقصتهما إلا قفزات يائسة في محاولة لدرء اللهيب المشتعل من حولهما.
لم أستطع أن أخاطب الأول فوجهت حديثي للآخر:
«لو تدري ما سجله التاريخ عنك وما قيل فيك!»
رد متسائلاً: «وماذا قالوا؟»
قلت: «أنت من أكثر الشخصيات دموية في التاريخ. قُتل الملايين من الأبرياء حول العالم بسببك».
ابتسم بمرارة وأجاب: «خصمي الأمريكي قتل أكثر مني».
قلت: «ولكنك ارتكبت الفظائع، أنت من شوى البشر في المحارق».
ردّ بحدة: «وكذلك خصمي حين شوى اليابانيين بقنابله النووية. لكن التاريخ يكتبه المنتصرون».
قلت: «كلاكما حمّل العالم بحوراً من الدم وأبشع فظائعكم هو أنكم حرّقتم البشر وشويتموهم أحياء».
يجيب بابتسامة ساخرة: «ها نحن الآن، والله ذاته يشوينا في حفلة أعظم من حفلاتي وحفلات خصمي. ما فعلناه نحن، لا شيء أمام ما يفعله بنا الآن».
يميل برأسه مكملاً بجرأة ممزوجة بالجنون:
«أتدري؟ نحن أرحم منه!» وما إن نطقها حتى انقضّ عليه شواظ من نار فأحرقه.
أضاف وهو يتلوى:
«على الأقل، ضحايانا ماتوا مرة واحدة فاستراحوا، أما ضحاياه فيذوقون العذاب مرارًا ولا يموتون».
تعوذت بالله مما سمعت، وأكملت طريقي بخطوات متثاقلة تحت تأثير وزن البدلة التي أرتدي فيما صوت الخميني يلاحقني وهو يصرخ «يا رحمان. يا رحيم». شدّ رفيقي حبلا بيني وبينه خشية أن أزلّ أو أعثر فأتردّى مع أهل الجحيم. مجرد التفكير في ذلك يصيبني بالغثيان. لمحتُ قفصًا من حديد تتصاعد النار من أطرافه، وفي داخله رجل يختنق بالدخان والحرارة، ناديت عليه بصوت مرتجف:
«من تكون ايها المسجون؟»
أجاب من بين القضبان: «أنا أبو بكر البغدادي».
تراجعت في مكاني مذهولا وسألته:
«ما الذي جنيت لينتهي بك الحال هنا؟»
قال ببرود: «ما صنعت إلا ما أمرني به ربي».
قلت: «وكيف ذلك؟»
قال: «جاهدت في سبيله».
اعترضت: «ولكنك قتلت الرجال، وسبيت النساء، وأسرْت الأطفال».
ابتسم ابتسامة متكسرة وهو يقول: «لم أفعل سوى ما فعله أهل القرون الأولى المفضلة، لم أزدْ على أفعالهم شيئا».
صرخت: «ولكنك قطعت الأيدي ورجمت النساء وجلدت الشباب. وحتى معاصروك من أهل زمنك لم يقرّوك على صنيعك».
أجاب: «هم لم يُقرّوا شرعيّتي، لكنهم مُتفقون على شرعتي».
ترددت للحظات ثم سألته: «ماذا تعني؟»
أجاب: «هذا ما أمرني به ربي تطبيقه في دولة الخلافة. إنما اقتفيت أثر السلف الصالح، واحتذيت بهم، وتتبعت آثارهم وتعلمت من كتبهم، ولم أخرج عما فعلوه».
قلت بمرارة: «يداك ملطّختان بالدماء».
ابتسم في كبرياء: «لعلّك لا تعرف معنى الجهاد. أنا بقية السلف الصالح، لكن قلْ لي. أين هم الآن؟ ولا تقل أنّهم يتنعّمون في الفردوس، بينما أنا الذي عملتُ بما دوّنوه، واتبعت ما سطّروه أقبع هنا في الجحيم!»
ترددت لحظة ثم قلت: «لست أدري».
زمجر بصوت مثقل بالاحتجاج:
«لن يكون عدلاً أن أُلقى هنا، بينما من اقتفيت آثارهم يتقلّبون في أحضان الحور العين».
غادرت المكان متثاقلاً، وقد تسللت إلى لساني سخرية مرة، فقلت لمرافقي:
«أما في هذا الدرك مكتبٌ للشكاوى كما رأيت في الأعراف؟»
فأجابني بنبرة جازمة لا تحتمل جدالًا:
«كلا. هنا لا شكاوى ولا اعتراضات. من بلغَ هذا الدرك، فقد حُسم أمره، ومصيره محتوم».
ثم استوقفني أمرٌ غريب آخر: لم أرَ امرأة واحدة في هذا الجحيم. سألت مرافقي:
«أما رأيت نسوة هنا؟»
ليجيب بالنفي.
فقلت في نفسي: لعلّ ما ذقنه في دنياهن من نصبٍ وتحيّزٍ واستغلالٍ كافٍ ليُعفيهن من عذابٍ آخر، أو لأنهن أقل دموية وبطشًا من الرجال، إذ أنّ أكثر من رأيت هنا إنما هم ممّن لوّثوا أيديهم بالقتل أو الظلم والإيذاء. بدا لي أن من انغمس في شهوات جسده وحدها، دون أن يظلم غيره أو يعتدي عليه، وجد طريقه إلى الجنة. وهي، ويا للمفارقة، لم تُخلق إلا لإشباع شهوات الجسد. أما الشهوات التي تتعدى حدود الذات والمقرونة بالتسلط على الآخرين والإضرار بهم، فهي وحدها التي تهوي بأصحابها في النار. هنا بدا لي الفارق جليّاً. من أفاد الناس ونفعهم أو كفّ أذاه عنهم فهو من أهل النعيم ومن أساء إليهم وأوقع بهم الأذى فهو في الجحيم. وكأنّ الجنة والنار لا تُقاسان بكثرة الطقوس ولا بما حُفظ من النصوص، والمصير لا يكتبه اعتقاد ولا يسطّره لسان، بل بما تركه الإنسان في قلوب الآخرين من رحمةٍ أو جراح، فالخلود في النهاية ليس جزاء الإيمان ولا الكفر، بل هو حصاد الأثر الذي يخلّفه المرء في حياة الآخرين، الخلود حصاد الأثر.
لكن ما أذهلني حقًا أنّ المعذّبين في النار، على شدّة ما يعانون من تعذيب وحرقٍ وشويٍ وتقطيع للوجوه والأمعاء، يظلون أحياءً: يأكلون ويشربون، تُستبدل جلودهم بأخرى، يتحدثون ويتخاصمون بل ويتصارعون، كأنّ الموت قد هجرهم إلى الأبد. هنالك خطرت لي فكرة مرعبة: إن الزمن حين يطول ويتمدد، يسلب الأشياء حدّتها، ويبتلع الفوارق بين اللذة والألم. الدقيقة الأولى هي الجحيم كله، والساعة الأولى هي ذروة العذاب، واليوم الأول هو الحارق الماحق. لكن مع مرور الأسابيع والسنين والقرون، يتحول كل شيء إلى عادة، حتى العذاب يصير مألوفًا، وحتى النعيم يغدو تكراراً، لا يثير دهشة ولا يمنح ارتعاشًا.
قلت في نفسي: ما الفرق إذن بين من يُشوَى هنا ومن يتنعّم هناك؟ ربما الفارق ليس إلا في الوهلة الأولى، لحظة الاصطدام بالحدث. بعدها يعتاد الجسد، ويتبلّد الإحساس، وتخمد الرهبة وتتساوى الحالان، ويصبح الألم عادةً مثلما أن اللذة عادة، وما من فارق بينهما سوى خيط واهٍ. وكأنّ الجنة والنار وجهان لعملة واحدة؛ كلاهما دوام بلا انقطاع، لكنّ أحدهما اكتسى بطبقة من السكر والآخر دُهن بطبقة من العلقم. وما هما في جوهرهما إلا نهرٌ أزلي واحد، يسير فيه البشر إلى ما لا نهاية، فلا يجدون في آخر المطاف إلا أنفسهم وقد ألفوا ما يكرهون وما يحبون سواءً.
سرت صامتًا لحظات، وظلال الأنفس التي تتعذب من حولي تتراقص على سور النار. التفتُّ إلى مرافقي وسألته بصوتٍ مبحوح:
«أخبرني. ما الجدوى من الخلود؟»
نظر إليّ مستغربًا:
«ماذا تعني؟»
قلت:
«أليس النعيم إذا طال يغدو عادة، والجحيم إذا امتدّ يصبح ألفة؟ إن اللذة في أول لحظة هي ذروة النعيم، كما أن الألم في أول ومضة هو قمة العذاب. لكن مع امتداد الزمن يتشابه الحالان، فكلاهما أسيرا دوامٍ لا يتبدل، وكلاهما يذوبان في رتابةٍ أزلية تُهلك الروح أكثر مما تُبهج أو تُؤلم. الامتداد الأبدي وحده كافٍ لمحو المعنى وابتلاع الدهشة التي سرعان ما تذوب مع مرور الأزمنة».
ابتسم مرافقي ابتسامة غامضة وقال:
«ربما العدل ليس في دوام النعيم أو العذاب، بل في الخاتمة نفسها. في أن يكون هناك حدٌّ يقف عنده الزمن. أما الخلود فهو سؤال معلّق وصرخة لا يُسمع صداها. هو العقوبة الكبرى والنعمة العظمى في آن واحد».
رفعت بصري إلى الأعلى، فإذا بالدخان يتصاعد ملتوياً كأنه سطور سوداء تُمحى لتُكتب من جديد. وجوه المعذّبين تتداخل مع ملامح أعرفها: وجوه أصدقاء عبروا في حياتي، أعداء تركوا ندوباً في قلبي، وأقارب في غياهب الذكرى. خطواتي صارت أثقل، لا بسبب النار التي تحيط بنا، بل بسبب الثِقل الذي استقر في قلبي: ثِقل المعرفة حين تأتي بلا رجعة. توقفت وطلبت من مرافقي أن يعيدني فقد اكتفيت بما رأيت. يخبرني بأننا للتوّ بدأنا وان هناك الكثير لنرى من الأهوال لكني أصريّت على العودة ما دام هناك متسع لذلك، قبل أن أفقد عقلي. عدنا أدراجنا، نزولاً من أعلى السور ثم عبورا بمنطقة الخدمات، حيث خلعت البزة ثم اجتزنا المتاهة واخيرا بلغنا سور الجنة ويا لها من لحظة مفارقة، فبمجرد أن لامست رئتاي هواءها البارد المنعش حتى نسيت كل ما مررت به من أهوال أهل النار، وتلاشت من نفسي كل صور العذاب. ما كادت قدماي أن تطأ ارضها اللينة حتى سمعت مواء قطة تقفز فوق وجهي فأحاول أن أدفعها عني بلمحة بصر ليتغيرَ الزمان والمكان حولي وأجدَ نفسي مستيقظا على سرير ابيض تحيط به الأجهزة. اسمع صوت الممرضة وهي تبعد القطة ثم تلاحظ حركتي، فتهرع لتنادي على الفريق الطبي.
بعد أيام كنت في غرفة نومي إلى جوار زوجتي التي غمرها الفرح بسلامتي وعودتي لبيتي، نتناول الفشار مستمتعين بمشاهدة أحد الأفلام، وكنت قد رويتُ لها سابقاً ما مررت به. تعلّق على الضحية المسكين الذي مات في الفلم. تمتمت بكلمات بيني وبين نفسي: «هل نحن حقاً ضحايا حين نموت؟ أظن اننا ضحايا حين نعيش وليس حين نموت، بل نحن ناقصون غير كاملين حتى نموت. بقدر ما انّ أنفاسنا وتجاربنا وأحاسيسنا كلها ستتوقف يوما حين يُعلن موتنا ونحن موقنون بذلك ومتأكدون منه، إلا انّ هذا التوقف عن العيش يبدو لنا الآن كإشاعة او كسوالف عجائز، يتناقلونها عقب استراحة شاي بعد العصر، وليس حقيقة صلبة راسخة. لا نستطيع أن نقارن حالنا بعد مماتنا بحالنا ونحن نعيش، إلا بقدر ما نستطيع أن نقارن حالنا ونحن نعيش بما كنا عليه قبل ان نولد. وجدنا أنفسنا في هذه الدنيا ولا نملك أن نتحدث عن ما كنا فيه قبل ان نولد، بقدر ما لا نملك أن نتحدث عن ما نحن صائرون إليه بعد ان نموت».
تلتفت نحوي لتسألني ان كنت قلت شيئا لأجيبها: «إن لم تجدوني في الجنة بينكم، فاسألوا عني في مقهى درب الزلق».