رسالة السلوان لمواطن سعودي مجهول (من وحي رسالة الغفران لأبي العلاء المعري) 3


سامي الذيب
الحوار المتمدن - العدد: 8521 - 2025 / 11 / 9 - 20:50
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

كتاب رائع يستحق القراءة
------------------------
رسالة السلوان
لمواطن سعودي مجهول (من وحي رسالة الغفران لأبي العلاء المعري)
----------------------------
القسم الثالث من هذا الكتاب الذي يمكنكم تحميله مجانًا من هذا الرابط
https://www.academia.edu/144829115
-----------------------------
الأعراف
--------
أكملُ سيري مترنحاً وأنا غير مصدق نجاتي بعد عبور الصراط. أمشي بصعوبة في خطوات متعثرة، وركبتاي ترتجفان من هول ما رأيت، فيما بقايا الحروق تشتعل في باطن قدمي وجوانب ساقي، حيث ما زالت آثار اللهب محفورة كسواد متقرّح شاهدة على ما كان. أصل إلى نفق آخر، يشبه الأول لكنه أقصر منه، ومع ذلك تنتابني قشعريرة غامضة. تبدو هذه الأنفاق ساكنة، وديعة في ظاهرها، لكنني بتّ أعرف أن خلفَ هدوئها مفاجآتٍ تختبئ بانتظار العابرين. أصلُ إلى نهاية النفق لأجد نفسي خارجًا إلى مساحة شاسعة تذكرني بمواقف السيارات في حفلات البوليفارد، حين كنت أعمل سابقًا في تنظيم حركة السيارات أيام كنت موظفًا في هيئة الترفيه، بعد أن تركت عملي في هيئة الأمر بالمعروف التي تم حلها هي الأخرى. المكان مضاء بنور سماوي لا ظل له، على الرغم من أنني لا أرى شمسًا فوقي ولا مصابيح كهربائية حولي. الجو يكتنفه ضباب خفيف ورطب، جميل المنظر لكنه يحدّ من الرؤية، مما يجعلني أشعر وكأنني في مشهد غير مطمئن من أفلام الديستوبيا. تصل إلى مسامعي أصوات وهمهمات قادمة من بعيد. أتقدم نحو مصدر الصوت لأرى طابورًا طويلًا من الرجال والنساء يقفون بلا ملابس وكأنهم في شاطئ للعراة. أنضم إليهم في آخر الصف الذي لا أرى بدايته. يبدو أنني آخر الواصلين.
وجوه الواقفين من حولي تبدوا ضاحكة مستبشرة، لكن في الوقت نفسه تختفي خلف تلك الابتسامات مشاعر مختلطة من الاضطراب والخوف المشوب بالقلق. أفاجأ بأن قدميّ وساقيّ قد برئت تمامًا بمجرد خروجي من النفق، وكأن الألم لم يكن. أحاول الاقتراب من الشخص الذي يقف أمامي لأستفسر عن المكان الذي نحن فيه وإلى أين نحن ذاهبون، لكنّ الطابور يتحرك بسرعة ولا أتمكن من اللحاق به. نصل أخيرًا إلى ما يشبه نقطة تفتيش أو معبر حدودي، كتلك التي نراها عند السفر بين الدول، حيث يقف المسافرون في طوابير أمام موظفي الجوازات والجمارك بانتظار الإذن بالدخول. تتعالى الأصوات ويتدافع الناس كلما اقتربوا من محطة العبور، كل شخص يريد أن يكون الأول في الدخول. الازدحام يزداد والتدافع يشتد، وكأن الناس تخشى أن تُترك في الخارج دون أن يُسمح لها بالعبور إلى الداخل. لم أتبيّن بعد إلى أين هم عابرون، كما أنني نسيت أن أسأل من يقف أمامي إلى أين نحن ذاهبون.
بدأ الضباب يتلاشى تدريجيا كما لو أنّ ستاراً سماويا يُسدل برفق عن مشهد طال انتظاره. مع انقشاع الضباب تزداد الرؤية وضوحاً وكأن عينيّ تغتسلان بعد طول عتمة لأتبين المنظر المهيب أمامي. سورٌ شاهق عظيم مبني من حجارة متراصة ذات لونين متباينين يخطفان الأبصار. لم أتمكن من التعرف على نوع الحجارة حتى لاحظت فجوة في أحد جوانبه، وكأن أحدهم قد حاول المرور عبرها. هناك بعض العاملين من ذوي الأجنحة يحلقون بخفة وهم يرممون الفتحة ويعملون على إغلاقها دون حاجة الى سقالات تحملهم، مستخدمين لبنات من الذهب يتبعونها بأخرى من الفضة، واحدة تلو الأخرى، في حين بدا أن الملاط بينها يفوح برائحة المسك. حاولت الاقتراب أكثر لكنّ أحد الحراس أوقفني ومنعني من التقدم حتى يحين دوري.
يتحرك الطابور أمامي ببطء مقترباً من بوابة السور. أرى عن بعد بعض الواقفين في الطابور عند نقطة التفتيش يتسلّمون ملابس مزخرفة يغطون بها أجسادهم التي ظلت عارية طوال الرحلة، ثم يُؤذن لهم بالدخول عبر بوابة ضخمة ذات درفتين لا أرى نهايتهما حينما تنفرجان. يصلني صوت الحراس وهم يرحبون بالداخلين قائلين: «سلام عليكم، طبتم، ادخلوها خالدين». تذكرت في تلك اللحظة صوت والد زوجتي وأقاربه، وهم يرحبون بالضيوف في حفل زفافي الذي أقمناه في قريتنا قبل عامين، مستخدمين نفس العبارات، ولكن دون ذكر الخلود، فالضيوف حينها جاءوا لتناول العشاء والاحتفال المؤقت لفترة قصيرة قبل مغادرتهم. لم يبقَ في الطابور سواي وتلك المرأة الواقفة أمامي وبيننا مسافة من الترقب والتساؤل. ارتفع صوت المرأة وهي تتجادل مع الحارس الذي طلب منها الانتقال إلى مكان آخر خارج السور بعيدا عن نقطة العبور. صوتها يبدو مألوفا لي لكني لم أرَ وجهها، فغادرتْ وهي مستاءة نحو الوجهة التي أشار إليها الحارس، متوعدةً بتقديم شكوى احتجاجًا على ما حدث معها.
حان دوري أخيرًا. تقدمتُ بخطى مترددة حتى وقفت أمام طاولة صغيرة، وخلفها يجلس مخلوق غريب الهيئة، قصير القامة، مستدير الوجه، بخدين ممتلئين وشعر معقود كذيل حصان. رغم مظهره الوديع المهذب إلا أن جسمه ذا العضلات المفتولة يوحي بالقوة، كأنه مدرب في أحد الأندية الرياضية الراقية، أو أحد مصارعي السومو اليابانيين، غير أنه يرتدي بدلة رسمية داكنة أنيقة مثل تلك التي يلبسها كبار الخدم في أفخم فنادق الخمس نجوم. يحيط به حراس من ذوي الأجنحة، مضفين عليه هالة من الهيبة والوقار. اقترب أكثر لأقرأ بطاقة التعريف المثبتة على صدره: «رضوان - رئيس خزنة الجنة».
«هل هذه هي؟» أشرتُ نحو السور قبل أن أكمل سؤالي. ليجيبني بهدوء: «نعم، هي بعينها. جنة الله التي وُعِد بها المتقون».
«أنت، إذن رضوان؟» سألته بتردد.
«نعم أنا هو. ومن تكونُ أنت حتى أتحقق أنك من نزلائنا المدعوين، أصحاب الحظ العظيم؟»
«أنا. أنا ابن السارح»، انطقُ اسمي متلعثما، كطالب يترقب إعلان نجاحه في امتحانات الثانوية العامة.
يطلب مني أن أبسطَ كفي ليمرر عليها جهازًا أشبه بماسح جيني ليتحقق من شخصي، وكأن هويتنا تتجاوز المادة إلى أعماق الأرواح. يُخرج من كُمّ يده جهاز آيباد سماويًا انعكس ضوؤه على غمازتي خديه، وأخذ يهمهم ببعض الكلمات وهو يمرّر إصبعه على الأسماء، باحثًا عن اسمي. ثم التفت إليّ بعينين تحملان الأسف وهو يقول:
«المعذرة. اسمك غير مُدوّن عندي في قائمة المدعوين الى دار المقامة».
اسودّ العالم في عيني، شعرت بدوار شديد وكدت أسقط مغشيًا عليّ، لولا أن أحد الخزنة أسرع نحوي ليسندني. خرجت كلماتي متعثرة، ترتجف من هول الصدمة:
- «ماذا؟ كيف؟ ولماذا؟»
- «اهدأ قليلاً يا ابن السارح، حتى نرى أين موقعك بالضبط» ردّ علي رضوان بنبرة هادئة.
تملكني الرعب، وأنا أتمتم بصوت مضطرب:
«يا إلهي. هل يمكن أن أكون من أهل النـ.» لكنه قاطعني قبل أن أكمل:
«اطمئن، أهلُ النار لهم طريق آخر. لا يمرّ من هنا، ولا تطأ أقدامهم هذا المكان. عبورك للصراط دليل أنك لست منهم. لكن ومع ذلك لا أستطيع السماح لك بالدخول، فاسمك ليس بين المدعوين».
غرقت في دوامة من التفكير والهواجس، ربما حدث خطأ ما. تذكرت تلك اللحظة الغريبة في المستشفى. حين داست القطة على مخدر المورفين قبل أن تُفصل أجهزة الإنعاش. ربما التبست الأمور على قابض الأرواح، وقد يفسر ذلك عدم مروري على قبري الأرضي وصعودي مباشرة إلى هنا دون أن أرى موضعي هناك.
تساءلت بقلق: «وماذا أفعل الآن؟ وإلى أين أذهب؟»
يفكر رضوان قليلاً قبل أن يجيبني: «لا أعرف مصيرك بعد، لكنه ليس هنا. سأرسلك إلى الأعراف مؤقتاً حتى يُبتّ في أمرك ويُفصل في شأنك».
«الأعراف؟ أليس هو المكان الذي بين بين؟» سألتُ وقد شاب صوتي شيء من التوتر،
«وكم سأبقى هناك؟»
ردّ عليّ مطمئنًا: «يوم أو يومين لا أكثر. لا تقلق، سننادي عليك حالما يصدر القرار بشأنك».
يرافقني أحد الحراس المجنحين إلى ساحة مرتفعة، يحيط بها سور شاهق. أستغرق في التفكير بحالي، مستدركًا أنني على الأقل لستُ من أهل النار. وأيّ مكان بعيد عن الجحيم هو مكان جيد، حتى لو كان الأعراف. ثم أن الأمرَ يوم أو يومان وأعود بعدها إلى الجنة، حيث سألقى نصيبي من الحور العين، أولئك اللواتي طالما شغلنَ مخيّلة العابدين. لأول مرة تخطر على بالي فكرة الحور متذكرًا رائحة وتضاريس جسد الجارية التي حملتني عبر الصراط، هل يا ترى كانت واحدة منهن؟ وهل يمكن أن أراها مرة أخرى أم أن كل حورية تجعلك تنسى الأخرى؟
أحاول أن أستفسر من مرافقي عن موعد معرفتي بمصيري، لكنه يرفض الإجابة، وكأن الأمر محظور عليه. نمرّ عبر بوابة تعلوها لافتة مكتوب عليها «أصحاب الأعراف»، وتحتها بخط أصغر لا يكاد يقرأ: «ما بين وبين» الأحرف مكتوبة بلغة عربية رديئة الخط وكأن من كتبها كان في عجلة من أمره. أدخل لأجدَ أمامي بشرًا عراة من أعراق مختلفة؛ عربًا، أمريكيين، روسًا، هنودًا وغيرهم. بعضهم يبكي، وبعضهم يضحك. هناك من يقف، وهناك من يجلس، وآخرون متعلقون بالسور يطلّون إلى خارجه.
أنظر حولي، لأجد المرأة التي غادرتْ وهي غاضبة ومتوعِّدة بتقديم شكوى. اقتربت منها بحذر، وإذا بها تجفل مني محاولة ستر جسدها العاري بيديها، وقد أمالت رأسها للأسفل في خجل. حدّقتُ في وجهها وأنا غير مصدق، إنها الممثلة التي قامت بدور لارا كرافت في فلم توم رايدر.
«أنتِ. «وقبل أن أكمل قاطعتني:
«أنجلينا جولي. ومن تكون أنت؟»
«أنا ابن السارح. المعذرة لم أقصد التطفّل هكذا ولكنني جديد هنا».
«وما الذي جاء بك إلى هنا؟» تسألني بنبرة فيها مزيج من الفضول والملل.
أجبتها بشيء من الحيرة: «اسمي لم يكن في قائمة المدعوين. تصوّري! رضوان وعدني بأنه سينظر في أمري».
ابتسمت قليلاً وهي تشير إلى من حولها: «كل هؤلاء الذين تراهم هنا مثلك، ينتظرون الإذن بالدخول الى الجنة. إن كان في هذا أي عزاء لك، فلتعتدْ على الانتظار، فالأمرُ قد يطول. واليوم هنا بسنة».
سألتها متعجبًا: «ولكن ما هذا المكان بالضبط؟ وما المقصود ب (ما بين وبين)؟»
ردّت بنبرة جادة: «معظم من تراهم هنا، همْ من تساوت أعمالهم الحسنة مع السيئة، فصاروا معلّقين بين الجنة وبين النار. ينتظرون الفصل النهائي بشأنهم».
رفعت حاجبيَّ: «إذن، أنتِ أيضًا ما بين وبين».
ابتسمت بخفة وأجابت: «لا. ليس الجميع هنا متساوين. البعض، مثل حالتي، ثقلت موازينهم بالأعمال الصالحة واستحقوا الجنة، ولكن لديهم بعض الإشكالات «.
«إشكالات؟» سألتها باستغراب.
«يمكنك القول إنها أمور قانونية.» قالتها بنبرة غامضة جعلت الدهشة ترتسم على وجهي.
استغربت أكثر: «قانونية؟ ماذا تعنين بالضبط؟»
أجابتني بنبرة أكثر عمقًا: «أمورٌ تتعلق بإتمام العقد».
أصبحت في حيرة تامة: «عقد؟! أيّ عقد هذا الذي تتحدثين عنه؟»
أجابتني بهدوء: «الوعد الذي قطعه الله لعباده الصالحين بدخول جنته، والمساكن الطيبة. ذلك هو الفوز العظيم».
شعرت بفضول شديد وطلبت منها المزيد من التوضيح: «هل لكِ أن توضحي أكثر؟»
قالت وهي تستعد لشرح موقفها: «خذ حالتي مثلاً. حين جاء دوري، وقفتُ أمام البوابة ورفضتُ دخول الجنة إلا بشرط».
«شرط؟!» قاطعتها مندهشًا.
«أيعقلُ أن تشترطين قبل دخول الجنة؟ وهل أنت أصلاً في موقع من يشترط، ولماذا؟ أليس فيها كل ما تتمنين، أليست هي غاية الغايات ومنتهى الأمنيات؟»
ردت وهي تهز رأسها بهدوء: «تقريبًا. لكنْ ليسَ تمامًا كما تظن».
«كيف ذلك؟» سألتها وقد زاد فضولي.
أجابتني بشيء من الحزن: «أنا اشترطت أن أعرف مصير أمي. لم أرها معي في الطابور. قلبي يرتجف كلما فكرت أين يمكن أن تكون، وأخشى ما أخشاه أن يكون مصيرها في الجحيم. لن أدخلَ الجنة قبل أن أطمئن عليها وأتأكد أنها معي».
«ولكنكِ، أيتها المحظوظة، من أهل الجنة، فما الذي تريدينه أكثر من ذلك؟ ستقضين وقتك تتقلبين في أحضان من تشتهين، تستمتعين بألذّ اللحظات».
«أريد نعيماً تاماً لا شائبة فيه ولا نقصان. بالله عليك، أخبرني كيف لي أن أهنأ وأن أستمتع بقطرة من النعيم وأنا لا أعلمُ مصير أمي؟»
قالتها ووجهها يشتعل بألم دفين.
«كيفَ يمكن أن يطيب لي العيش هنا وأنا التي كنت أجد طعم الآيس كريم الذي أحبه غير مستساغٍ، في ذلك اليوم الذي تكون فيه أمي مريضة؟ هذا خرق للوعد الذي حصلت عليه في دنياي، الوعد بالمقام الطيب. كيف أستطيع تصور نفسي في أماكن طيبة وأسمح لنفسي بالخلود في الرضا بينما أمي -والعياذ بالله- قد تصطلي في أتون السعير، معاذ الله!»
قلت لها بتردد، محاولًا التخفيف من وطأة حزنها:
«ولكنك لا تعرفين يقيناً أين هي. لمَ لا تدخلين الجنة وترين؟ قد تجدينها في انتظارك. ربما سبقتك إلى هناك؟»
هزت رأسها بإصرار لا يقبل المساومة:
«لا. شرطي واضح. لن أخطو نحو النعيم حتى أعلم موضع أمي. إن لم تكن معي. فلن أكون».
تريّثت لحظة، ثم سألتها، بخجلٍ لا يخلو من الفضول:
«وماذا عن والدك؟ هل اشترطتِ معرفة مصيره أيضًا؟»
أجابت بصراحة مؤلمة:
«لم أفعل، لأني وبكل صدق لا أعرفه أصلًا. لم يكن له مكان في حياتي أو حضور. لم يعنِ لي شيئًا. أما أمي فهي كل شيء. عشت معها وأحبتني وأحببتها وهي أغلى عندي من كل شيء».
صمتّ قليلًا، ثم سألتها بسؤال لا يخلو من الحذر:
«حسنًا، واعذريني على سؤالي هذا، لكن ماذا لو أخبروك أن أمك في النار؟»
«حينها، سأفعل كما فعلت جارتنا التي تقف هناك» وأشارت بإصبعها إلى امرأة عيونها محمرة من طول البكاء، تقف داخل الأعراف ناحية السور، كانت قد تساوت حسناتها وسيئاتها، فمكثت زمنًا ثم صدر القرار بإدخالها الجنة، لكنها حين أطلّت من فوق السور، ورأت ابنها في الجحيم رفضت الدخول. حاولوا إقناعها بالدخول، لكنها رفضت بشدة. جرّوها نحو الجنة جرّاً وهي تصرخ وتبكي متشبثة بسور الأعراف، رافضة الدخول. تركوها هنا، بين بين، حتى يجدوا لها حلاً».
نظرتُ إلى أنجلينا، كأنّي وجدت فجأة حلاً سحريا لمأساة المسكينة:
«ولكن لمَ لا يُنسيها ربنا ابنها؟ يمحو صورته من ذاكرتها، لتهنأ وتستريح وتقبل بنصيبها في الجنة بلا وجع راس؟»
«أرجوك، لا تخبريني أن لدينا معضلة قانونية أخرى!»
«أترى ذلك المبنى عند بوابة الأعراف؟» قالت وهي تشير بيدها إلى بناء صغير تلمع قبته بلون اللؤلؤ.
«إنه مكتب خاص بالشكاوى، وُضع خصيصًا لأولئك الذين استحقوا الجنة لكنهم رفضوا دخولها حتى تُلبّى طلباتهم. يعمل فيه فريق من المحامين المختصين ذوي الأجنحة للنظر في الدعاوى المقدمة ممن هم على شاكلتي».
«أما عن حلك الذي اقترحته لمحو الذاكرة، فقد عرضوه عليها بالفعل لكنها رفضته لأنها حينئذ ستصبح إنسانا آخر حسب كلامها. قالت إنهم لو محوا ذكرى ابنها من عقلها، فلن تبقى هي ذاتها وستصبح انسانًا آخرَ، لا تشبه من كانت، تلك التي عاشت حياتها الدنيا وحملت ملامح حزنها ونكهة حبها، فهي لن تكونَ «هي» حسب تعبيرها. وإن لم تكن «هي» فما معنى أن تُمنح الجنة؟ كيف تفرح بجائزة لا تدرك على ماذا مُنحت؟ وتصبح مكافأتها حينئذ بنعيم الجنة لا معنى له لأنها لا تدري على ماذا تُكافأ. أليس هذا كما لو أن شخصًا اجتهد في دراسة امتحان، وأمضى لياليه في التحضير، ثم اجتازه بتفوق. وفي يوم التكريم وتسليم المكافأة يستيقظ وقد نسي ما مضى ولا يذكر شيئا عن الاختبار ولا عن تعبه في اجتيازه وجدّه وتحصيله، كيف يمكن لهذه المكافأة أن تحمل أي معنى إذا نُسيت التجربة التي سبقتها ومن أجلها منحت المكافأة؟»
تأملتُ حديثها، وقلت بدهشة لم أستطع إخفاءها:
«ونفس الشي يمكن قوله بالنسبة للعقاب. ولكن كيف عرفتِ كل هذا وأنت قد وصلتِ للتو؟»
ابتسمت بتنهيدة عميقة وقالت: «لعلك ظننت أنني حديثة عهد هنا لمجرد أن رأيتني في طابور الانتظار. أنا أقف على عتبة الأعراف منذ عامين كاملين، أزور مكتب رضوان بانتظام بحثًا عن جواب لمصير أمي، ولم أفلح حتى الآن».
تركتُ أنجلينا التي علّقت دخولها إلى الجنة بمعرفة مصير أمها، وانطلقت لأتجوّل في أرجاء الأعراف، المكان المعلق بين الوعد والانتظار. نصيحتها الأخيرة ترنّ في أذني: «إياك أن تصعد إلى السور.» كلمات تحذيرها تلك زرعت في قلبي توترًا غريبًا، وجعلتني أشعر بألم مفاجئ في بطني، خوفًا من أن أطلّ من هناك وأرى أحداً أعرفه من الأحباب في الهاوية.
تابعت طريقي على أرض طينية ناعمة تفوح منها رائحة عطرية قوية لم ترق لي. تابعت السير حتى وصلت إلى ضفة نهر يسمونه هنا بـ «الحياة»، وعلى جانبيه يقف رجال ونساء. شاهدت بعضهم ينزلون إلى النهر ليسبحوا فيه لحظات ثم يبادر الحراس المجنحون بالتقاطهم من الماء وحملهم وهم يهتفون: «تمنّوا ما شئتم!»
ألتفتُ الى الجالس بقربي لأسأله «الى أين يأخذونهم؟» فيجيبني بهدوء «إنهم ذاهبون بهم الى الجنة».
لم أستطع أن أقاوم فضولي، فبدأت حديثاً معه لأعرف قصته.
«من تكون، أيها الرجل؟»
«أنا علي البخيتي».
توقفتُ للحظة، أستحضر الاسم في ذاكرتي، ثم قلت: «الاسم ليس بغريب عليّ».
ابتسم، وقال: «ربما سمعتَ بي عبر مواقع التواصل الاجتماعي في الدنيا الفانية».
تأملتُه بعينٍ فاحصة، قبل أن أقول: «آه، أنت من أولئك الذين أنكروا تواصل الإله مع البشر. كيف ترى الأمر الآن، أليس ما كنتَ تقوله في الدنيا باطلا وخصومك على حق؟»
هزّ رأسه برفق، وقال بنبرة تأملية: «بالعكس تمامًا. لو كان زعمهم صحيحًا عن ما قالوه لنا، لكنتُ الآن في النار وفقًا لمعتقدهم الذي كنت كافرا به. لكني، كما ترى، هنا بين بين، في الأعراف. أليس هذا دليلاً على بطلان أقوالهم؟»
نظرتُ إليه بحيرة: «لكن ألم تكن تنكر وجود الله؟»
قال بثقة امتزجت بالحياد: «كنت أنكر إلههم الذي صنعوه وصوّروه لنا في أذهانهم وفقًا لعقائدهم البشرية. ذاك الذي يمارس العقاب والثواب حسب أهوائهم، لكني كنتُ دائمًا أميل إلى وجود قوى غيبية لا أدرك كنهها. ولنكن واقعيين، فحتى الآن ونحن هنا لا نعلم حقا من هي».
«ولكن، وكما أذكر، عملتَ في السياسة ومارستَ التغيّر في المواقف والمراوغة حسب الظروف».
ضحك بهدوء وقال:
«صحيح، ربما كنت براغماتياً لكني لم أكن منافقا كغيري عندما يصل الأمر الى الاعتقاد القلبي فلن أقبل أن أرثَ أفكار غيري دون مراجعة ولن أقبل بأي تصور غيبي يعرضه أحدهم دون أن أتفحص الدليل، وربما كافأني الإله لأني لم أداهنه. هم وضعوني في النار حسب مخيلتهم، لكن الإله وضعني حيثما شاء».
قلتُ، وكأنما أحاول تحدّي منطقه: «لكن تصورهم عن الدار الباقية، عن الجنة والنار، يبدو صحيحًا إلى حد كبير، كما ترى الآن».
رد بابتسامة غامضة: «ها أنت تستدرك على نفسك بقولك «إلى حد كبير». وكأنك لاحظتَ اشياء لم تتطابق تماما مع ما قيل لك وأولهم موضعي هنا. ومع ذلك فالأمر يا عزيزي في النهاية كله بيد الله، لا بأيدي الناس كما كانوا يظنون ويدّعون. موازين الله في مآلات الخلق هي غير موازين البشر».
شعرت بالحيرة أمام هذا الرجل كما لو أنه يعيد رسم الخرائط التي ظننتها ثابتة، ففضّلت العودة الى استفساري الأول، عن نهر الحياة مُشيراً الى الذين يسبحون.
«لمَ لا تنزل معهم إلى النهر، ليطير بك الحرس المجنحون إلى الجنة، بدلًا من جلوسك هنا على الشط؟» سألته مستغربًا.
أجابني بنبرة هادئة ولكن قاطعة: «لا أريد العودة إلى هناك».
دهشتُ وسألته: «وهل كنت هناك من قبل؟»
أومأ برأسه وقال: «نعم، أنا أحد الذين هربوا من الجنة عبر النقب الذي فتحناه في السور قبل يومين» وأشار بيده إلى مجموعة تجلس بعيدا على الشط بنظرات شاردة وملابس تلمع ببقايا من نور لا يزال عالقا بأكتافهم.
في تلك اللحظة، تذكرت الفتحة التي رأيتها في جدار الجنة عندما كنت أنتظر في الطابور قبل أن أحضر إلى هنا. أخيرًا وجدت شخصًا دخل الجنة، وجرّب نعيمها وذاق حلاوتها دون قيد أو شرط.
يكمل حديثه «شكّلنا عصبة من الثائرين. للهروب من الجنة».
توقفتُ قليلا، قبل أن أسأل بفضول لا يخلو من ريبة: «ومن هم أفراد هذه العصبة؟»
ابتسم وكأنما يستمتع بإثارة دهشتي، ثم قال: «عبد الله القصيمي، فرج فودة، طه حسين، وشريف جابر. ومع الوقت، التحق بنا آخرون. قسّمنا العمل بيننا بحذر ودقة؛ شريف تولى مراقبة الجدار واختيار نقطة الهروب، وطه حسين يلهي الحراس ببلاغته، ينسج لهم حديثا لا يُمل بصوته الشجي. أما القصيمي وفرج، فقد كانا الأكثر جرأة. هما من أزالا الطوب الذهبي بأيديهما».
«وماذا عنك؟ ما دورك في هذا المخطط الجريء؟»
ارتسمت على وجهه ابتسامة ماكرة، وقال بهدوء وكأنه يروي نكتة لا يحسنها سواه:
«أنا؟ أنا كنت أحضّر لهم الشراب».
لم أستطع كبح تساؤلاتي:
«ولكن لماذا هربتَ أصلا؟ أيعقل أن يهرب أحد من الجنة بعد أن دخلها؟ وهل هي سجن حتى تهرب منها؟»
تنهّد وأطلق زفرة طويلة من صدره وقال: «بالنسبة لي، هي أبشع السجون».
«يا رجل! ما هذا الكلام؟ قل غير هذا!» رددت بذهول.
هز كتفيه بلا اكتراث وأجاب: «ليس عندي غير ما قلت».
حاولت أن أذكّره بما سمعته طوال حياتي: «ألم تسمع عن أن أتعس إنسان في الدنيا يُغمس في الجنة غمسة واحدة، ثم يُسأل: هل رأيت بؤسًا قط؟ فيقول: لا».
ابتسم بحزن وقال: «بل قرأت وسمعت، وليس من سمع كمن رأى وجرّب وذاق».
ألححت عليه، وقلت: «كيف؟ بالله عليك أخبرني، لكن قبل ذلك، كم قضيت هناك؟»
«بقيت سنتين.» أجاب بهدوء.
«حسنًا، ثم ماذا؟ ما الذي وجدت؟ وما الذي دعاك للهرب؟» سألته بفضول مشوب بالدهشة.
قال: «وجدت كل ما وُعِدنا به حقًا. كلّ ما تشتهي الأنفس وتلذّ الأعين. موائد من الطعام لا تنتهي، أنهار من العسل واللبن والخمور والحور العين. والأخيرتان بالذات، الخمر والحور، لهما وقع خاص على نفسي، نعم، كل هذا وأكثر موجود ولا شك. متع حسّية بلا حدود. ولكن».
قاطعته بنفاد صبر: «ولكن ماذا؟»
تنهد وقال: «بعد شهور من الاستغراق في تلك المتع، من ممارسة الجنس المتواصل مع الحور العين بكل أشكاله، فرادى وجماعات، وتناول ما لذّ وطاب من الطعام ومعاقرة الخمر، شعرت وكأنني في خمّارة أو بيت دعارة، أو كأنني أعيش في حفلة صاخبة لا تنتهي، حفلة سُكر وعربدة في أحد المواخير المترفة الذي لا تنطفئ أنواره. لم أعد أرغبُ في صفّ من الحوريات مُستلقيات على الأرائك ينتظرن دورهن لأمارس الجنس مع كل واحدة منهن، بل اشتقتُ لشيء مختلف. اشتقت لقصة حب عفوية ورومانسية أعيشها مع امرأة واحدة، عادية الملامح، متوسطة الجمال، لا تخلو من العيوب والنقص. أريد تلك اللحظات التي تكون فيها العلاقة معقدة وغير مضمونة النتائج، حيث التمنع والمراوغة، تتمنّع وتتهرب مني وقد تفشل وقد تنجح. اشتقت لتطبيقات المواعدة والشات، ثم السلام والكلام والمحادثات التي تبدأ بخجل وتردّد ثم تتطور ببطء. اشتقت إلى لهفة اللقاء، وحتى لوعة الفراق والهجر. أريد قصة حب حقيقية، مع إنسانة حقيقية، وليس مجرد قضاء شهوة مع كائنات مثل الدمى الجنسية أبدّل واحدة بأخرى. لذة الحب تكمن في القليل. في الترقّب، في الشوق واللهفة، وفي القلوب التي قد تلتمّ وقد تنكسر».
سكت لحظة ثم تابع:
«حتى الطعام لم يعد يغريني، لقد سئمت من أنهار العسل. تخيّل أن تسبح في نهرٍ من عسل ثقيل الحركة، بطيء الجريان، لزج يلتصق بجسدك، وأنت تحاول عبثًا التخلص منه. ما الفائدة من هذه الأنهار اللزجة بينما يكفيني «برطمانات» مصفوفة بشكل نظيف ومرتب على الأرفف؟ ثم ما المتعة في أن تنظر الى الطير فيسقط بين يديك مشويّاً أو تدنو منك الشجرة لتتدلى الفاكهة فوق رأسك وكل ما عليك فعله هو أن تمد يدك لتقطفها وأنت مستلقٍ على قفاك؟ أريد أن أتسلق شجرة، أن أمدّ يدي الى غصن مرتفع كما كنت أفعل في دنياي الفانية لأقطف الثمرة، محاذرًا من الأشواك، وربما أقع وأجرح قدمي. أريد أن أذوق الجوع لأستمتع بلذة الشبع، وأن أختبر العطش لأشعر بلذة الارتواء، أريد أن أكتوي بحرّ الشمس حتى أستطعم برودة الظل، وأن أتجمد قليلاً في البرد لأحس بلذة الدفء. أحتاج شيئاً من الألم، ولو يسيراً، كي أستعيد إحساسي بنعمة العافية. هذا هو ما أفتقده حقًا واشتاق اليه من حياتي الفانية».
يكمل حديثه وأنا مستمع باهتمام:
«أنظر إلى عبد الله القصيمي الجالس هناك بالقرب منا. لم ينخرطْ في الملذات كما فعلتُ أنا بل ظل على حاله. فكرة أن تكون المكافأة في الجنة هي بالانغماس في المتع الحسية حتى الثمالة كانت كافية لتصيبه بالقرف، ولا ألومه الآن. رغم أنني كنت أختلف معه عندما دخلت لأول مرة ووقعت عيناي على نساء الجنة وانبهرت بجمالهن بينما لم يُخفِ هو اشمئزازه. لم يستسغ صاحبنا أن يكافئنا ربنا بفتيات ويقدّمهن هدايا لنا، مثل الدمى أو الألعاب الجنسية؛ فتيات بأثداء ممتلئة، كواعب أترابا، وكأن رضوان هو سمسار يوزع البغايا. ثم إن الانغماس بشراهة في الملذات الحسية هو أمر تأنفه الطباع السليمة في دنيانا الفانية بل وتحرّم بعضه الشرائع، ويعيبه أولو العقل والنهى ويحذّر الأطباء من عواقبه. فكيف يصبح كل ذلك حلالًا زلالًا هنا؟ بل وقبل ذلك كله كيف يصبح مكافأة ومثوبة للفائزين؟ ثم ماذا عن المتع الروحية والفكرية التي تريح الذهن وتدعو للتأمل؟ وأين بقية الفنون الراقية كالموسيقى والمسرح والشعر والسينما؟ وماذا عن لذة التنافس وكرامة العطاء والبذل وخدمة الآخرين والشعور بالإنجاز؟ كيف يختزل النعيم في الطعام والجنس، وهما من أدنى الشهوات في الدنيا الفانية، لترقى هنا وتصبح العطاء اللامحدود؟»
سألته وأنا أشير إلى رجل يدور حول نفسه بلا توقف: «وماذا عن ذاك الرجل الذي لا يتوقف عن الدوران حول نفسه والرقص باستمرار؟»
أجابني بابتسامة خفيفة: «آه، ذاك شريف جابر. هرب معنا من الجنة بعد ان خنقته الرتابة وأفتقد ممارسة هواياته القديمة في نحت التماثيل وتصوير الفيديوهات وصنع الأفلام، أو سماع أغاني مايكل جاكسون، أو مشاهدة الأفلام في السينما، وحضور مباريات الدوري التي كان يتابعها بشغف. حتى طلبه لتأسيس مكتبة للقراءة، أو تصفح الإنترنت، أو مشاهدة نت فلكس، أو الوصول لقنواته المفضلة على اليوتيوب لم يلقَ استجابة فأخذ يرقص لأن لا شيء آخر يفعله».
«لكن الأعجب من بيننا جميعاً هو ذاك الرجل الجالس هناك وحيدًا، رأسه مطرق بين يديه، ولا يتحدث مع أحد. شاركَنا الهروب من الجنة، ولم نعرف من يكون اذ لم يكن يشاركنا الآراء ولا الاعتراضات وكأنه هارب بصمته لا بجسده، حتى اكتشفنا أنه أقدمنا إقامة هناك. قضى ألف سنة في الجنة أو يزيد، بينما أقدم واحد منا لم يتجاوز بضع سنوات».
«يا إلهي، ألف سنة! عمرٌ شاقٌ طويل! لكن لماذا هرب؟ وما مشكلته؟»
«مشكلته معقدة عويصة، ولا أظنّ أنّ لها حلًا. ألا تعرف من يكون؟»
«لا، ولكنك قد أثرت فضولي!»
«إنه أبو العلاء المعري، صاحب البيت الشهير: تعبٌ كلها الحياة فما أعجبُ إلا من راغبٍ في ازدياد».
«وما الذي أودى به الى هنا؟»
يكمل البخيتي حديثه وهو يرمق المعري بنظرة شفقة:
«أصابه الملل. ذاك العدو الصامت والأبشع من كل عذاب، وهل هناك أسوأ من الملل؟ عبّ من متع الجنة حتى ملّ وسئم منها. يقول إنه يشتهي الموت، أو على الأقل أن ينام وينطفئ وعيه ولو مؤقتًا، لا يريد لوعيه أن يبقى. يريده أن ينطفئ، يريد أن يموتَ لكي يكون إنسانا كما كان، لكنّ ذلك مستحيل. لقد رأى بعينيه ذبح ثور الموت ككبش أملح أمامه. فكرة الخلود الأبدي باتت تطارده، وتخيفه أكثر من العدم والفناء. كان يحدثنا أنه في حياته الفانية عاش قرابة ثمانين عامًا حاملاً رأسه فوق كتفيه، وقد تعبَ من الاستيقاظ كل يوم حتى أصابه الملل. وها هو الآن يعيش آلاف السنين، وأمامه ملايين، بل وربما مليارات من الأعوام، مستيقظًا وواعيًا في حالة من الإدراك الكامل طوال الوقت في جنة لا نهاية لها. يتشابك الزمن حتى تتلاشى حدوده، فلا ماضٍ ولا حاضر ولا مستقبل إن غابت النهاية. فالمعنى في نظره يسكن في النُّدرة لا في الوفرة، في القِصَر لا في الامتداد، في المؤقّت لا في الأبدي، في الطارئ لا في المستقر، في الزوال لا في الدوام».
سكت قليلاً، ثم أردف بصوت متهدّج:
«بات يؤمن بوجود حياة ثالثة أخرى غير ما نحن فيه. قلنا له إن اعتقادك هذا محض خرافة ليجيبنا بأنه لولا الخرافة لأصيب العقل بالجنون من فرط هول الواقع المستدام. تخيّل أن تعيش ألف سنة مستيقظًا، بلا نوم ولا غياب ذهن، ولا لحظة نسيان ولا حتى سكر وذهاب عقل. استبدّ به الملل والضجر والسأم، حتى بات يتمنّى الجنون وفقدان عقله اذ لا يستطيع أن ينهي حياته، فالخلود عنده لعنة وليس هبة. يرى أننا واهمون ولم نعد أناساً إذ أن وعينا بفنائنا هو الذي يجعل منا بشرًا. كان في دنياه الفانية رهين المحبسين أو الثلاثة كما قال، فقدُ نظره ولزومُ بيته واحتباسه داخل جسده، وكلها هيّنة امام سجنٍ أعظم هنا وهو سجن الخلود الأزلي الدائم والوعي المستمر القائم. طلبَ من خزنة الجنة أن ينقلوه إلى النار ليجرّبها، لعل لهيب النيران وتغيير الحال يعيد إليه توازنه، لكنهم رفضوا. فهو من أهل الجنة، وهرب معنا بحثًا عن طريق إلى النار، لكن انتهى به المطاف هنا في الأعراف.
أصبح عنده النعيم والعذاب سواء، مثلما يصير طعم الآيس كريم اللذيذ وألم الأسنان متساويين إن طالت المدة. الفارق بينهما واضح في الدقيقة الأولى والساعة الأولى، وفي اليوم الأول، والسنة الأولى، ولكن بعد عشرين سنة أو خمسين أو ألف سنة، يصبح الألم مثل اللذة كدالتين رياضيتين يقتربان بعضهما من بعض عندما يطول متغير الزمن. في الخلود، يتساوى المدلّلّ مع المحروم، ومن في النعيم مع من في الجحيم».
أفارق صاحبي وأنا متعجب من حديثه، وقد علقَ صدى كلماته في رأسي، وأمضي في أرض الأعراف متجهًا نحو «مكتب الشكاوى»، حيث تمتد أمامي طوابير طويلة، وكل طابور ينتمي إلى فئة معينة من الشكاوى. لفت نظري طابور أطول من البقية، فاقتربت منه بدافع الفضول وسألت أحد الواقفين فيه عن فئته ليجيبني بأن هذا هو طابور «العدالة». أخبرني بأن معظم الذين يقفون هنا يشكون من أن العدالة، ولو أنها تحققت في النهاية، إلا أنها جاءت متأخرة كثيرا بالنسبة لهم والعدالة المؤجلة، في نظرهم، هي عدالة منقوصة بينما الله أكمل وأعدل من ذلك. هم لا يشككون في تحقّق العدالة بذاتها بل في توقيت تحققها.
قالها بمرارة:
«تحققت، نعم. لكن بعد ماذا؟ بعد أن انتهى كل شيء. تأخّرَتْ كثيرًا. والعدالة المتأخرة، في نظرنا نحن المتظلمين هنا، ليست عدالة كاملة. نحن لا نشك في عدل الله، بل نُناشد كماله، ونقارن بين وعده، وبين ما عشناه من صبر وقهر وانتظار».
أشار إلى قصته قائلاً: «لقد سُجنت ظلمًا بسبب وشاية كاذبة وضاع شبابي خلف القضبان، ولم أجد عزاءً إلا في احتساب أجري في الحياة الآخرة. كنت أشعر بالقهر كمظلوم وأبتلع الألم على أمل أن يُردّ إليّ حقي في الآخرة، لكن صدّقني. كان يؤلمني أن أرى من ظلمني يتنعم بالحرية، يضحك في الأسواق، بينما أنا أتآكل من الداخل. أيعقل أن تكون بعض محاكمنا الأرضية أسرع في تحقيق العدالة من ميزان السماء؟»
ثم أومأ برأسه إلى فتاة واقفة أمامه:
«أنظر إلى هذه الفتاة المسكينة، تعرضت للاغتصاب في صغرها، وعاشت بقية حياتها محطمة ومحملة بالخزي والعار، بينما ظل مغتصبها يتجول بحرية في الأسواق. هناك من اقتصّت لهن المحاكم في الحياة الدنيا بسرعة، بينما ظلت هي تعاني. كثيرون هنا عاشوا وماتوا وهم يرون الظلم يتكرر أمامهم دون أن يُقتصّ لهم، ولا يجدون عزاء سوى وعدٍ مُؤجلٍ بالعدالة في الآخرة».
قلت محاولًا التخفيف عنه، وإن لم أكن واثقًا من كلامي:
«لكن. ألن تكون مكافأتهم هنا أعظم؟ أجورهم مضاعفة لتعوّضهم عن الظلم الذي لحق بهم، بخلاف من لم يمرّ بما مرّوا به من معاناة وظلم».
رفع حاجبيه ساخرًا وهو يقول:
«مضاعفة. مضاعفة بماذا؟ لعلك تقصد زيادة في عدد الحور، أم ربما أنواعاً فاخرة من كؤوس الخمر، أو زيادة في مساحة العقار، أو لعلها نهراً إضافيًا من العسل واللبن!؟»
لم أجد رداً، إذ يكفي طول الطوابير الواقفة، فانسحبت بهدوء وأنا أحدث نفسي: «عجباً لهؤلاء الهاربين من الجنة، فكأن «لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» لم يكن كافيًا لهم. البعض منهم يضع شروطًا قبل أن يدخل الجنة، وآخرون يريدون العودة إلى حياتهم العادية ولو خالطتها بعض الآلام لكنها واقعية، بعدما سئموا من حياة الفانتازيا الخيالية التي تحيط بهم، وكأنهم يعيشون في فيلم رسوم متحركة، حيث لا يصاب الشخص ولو سقط من أعلى جبل. وهناك من أصابه الملل والضجر والرعب من فكرة الخلود في النعيم، من أن تدوم اللذة حتى تفقد معناها، فيطلبون الانتقال الى النار، لا فرارًا الى العذاب، بل هربًا من الرتابة أو يطلبون الموت، الموت فقط وبسلام، وكأنّ الفناء صار هو النعمة المنتظرة. والبعض الآخر لم يعجبه بطء العدالة في أخذ مجراها، وفي النهاية، لم يجد كل هؤلاء ملجأ لهم سوى الأعراف، ذلك المكان الذي يبقى فيه من لا ملاذ له، لا يُطمئن ولا يُدين، لا يُنجي ولا يُهلك. دون مصير واضح حتى يحكم الله بأمره».
تنحّيت عن الزحام جانبًا لينتهي بي المطاف في طابور آخر، وإذ بي أرى رجلاً واقفا وحوله آخرين ملتمّين عليه، يتحدث إليهم ببلاغة وثقة كأنما يخطب فيهم، وتنساب من وجهه ابتسامة هادئة، تبعث في النفس سحرًا دافئًا، تأسر القلوب. تملكني إحساس غريب بأني أعرف هذا الصوت، لكنني لم أتبيّن وجهه من بين الحشود. وما إن انتهى من حديثه وانصرف من حوله الناس، دفعني الفضول إلى الاقتراب منه وتحيته.
«وجهك يبدو مألوفًا، من تكون؟»
ابتسم بهدوء وقال: «أنا مانديلا».
بدهشة، سألته: «مانديلا؟ نيلسون مانديلا. الناشط المناهض للفصل العنصري ورئيس جنوب أفريقيا؟»
ضحك ضحكة خفيفة قائلاً: «نعم، هو أنا».
أخذتني الدهشة مجددًا، وقلت: «عذرًا، لكن الصور التي عهدناك بها كانت لرجل مسن، لم أتخيلك شابًا بهذه النضارة!»
ابتسم وقال بخفة روح: «لا بأس، العودة شاباً نعمة لا يشكو منها أحد».
أمعنت النظر في وجهه وفي ابتسامته وقلت: «عرفتك من نبرة صوتك الهادئ وأسلوبك المميز في الحديث، بل ومن ابتسامتك الوديعة وعيونك الثاقبة التي تحمل تاريخًا من الصبر والنضال».
أومأ برأسه وقال: «بعض الأشياء لا تغيرها السنين ولا يُبهتها الخلود».
«لكن ماذا تفعل هنا في الأعراف؟»
أجاب مبتسمًا: «لقد أكرمني الله بالعبور إلى الجنة، لكنني كغيري من الواقفين هنا، وضعت شرطًا لدخولها».
ضحكت وقلت بصوت متردد:
«حتى أنت؟ يبدو أن وضع الشروط قبل دخول الجنة صار موضة هنا! وما كان شرطك يا سيد مانديلا؟»
نظر إليّ بنظرة متأنية، ثم قال بصوت هادئ:
«قلت إنك عرفتني من صوتي، ومن ابتسامتي، ومن عينيّ. لكن هناك شيئًا لم تلاحظه».
سألته مستغربًا: «ماذا تقصد؟»
أجاب: «لون بشرتي. ألم تلاحظ شيئًا؟»
نظرت إليه بتمعن، ثم اتسعت عيناي دهشة: «آه، تقصد أنها أصبحت بيضاء؟!»
«نعم. اشترطت أن أدخل الجنة أسودَ كما كنت ورفضتُ أن أدخل الجنة بهذا اللون. عشتُ طيلة حياتي مناضلا من أجل الحصول على حقوقنا كذوي بشرة سوداء في نظام عنصري بغيض، يرفع من قيمة اصحاب البشرة البيضاء فقط للون بشرتهم. وأنا الآن أجد نفسي في مجتمع كله من ذوي البشرة البيضاء! تصوّر أن السجّان الذي أمضيت ربع قرن من حياتي في زنزانته، وقاومت نظامه، كان يقف معي في الطابور لدخول الجنة، وحين شاهدني وأنا بنفس لون بشرته البيضاء ضحك علي ساخراً وكأنه يقول إن نضالك كله كان بلا معنى في النهاية».
سكتَ لحظة، ثم أضاف بنبرة حزينة:
«أريد أن أدخل الجنة بلون بشرتي السوداء التي ولدت بها وناضلت من أجل عدم تفضيل لون على آخر. لا ببياض فُرض عليّ مع الخلود. فكرامتي، كما كانت في الدنيا، لا تُشترى. حتى بالنعيم الأبدي، والا سأبقى حبيسا هنا في الأعراف كما كنت حبيسا في الدنيا الفانية».
ودّعته وأنا أرثي لحاله، مستشعرًا أن نضاله لم ينتهِ بعد، بل امتدّ من دنيا الفناء إلى دار البقاء، حيث يمضي إلى مكتب الشكاوى بتظلمه، عسى أن ينجح في مسعاه. وفيما كنت أحاول الخروج من تلك الطوابير الطويلة، لفتَ انتباهي صبيّ صغير بدا لي فتيّ العمر، فاقتربت منه لأسأله:
«أأنت هنا أيضًا من أجل العدالة المؤجلة؟»
أجابني: «ليس تمامًا».
«إذن، ما شكواك؟»
قال: «أبي في الجنة، لكني اكتشفتُ أن أخي في النار بعدما أطلت النظر من فوق سور الأعراف».
«لعلك تشترط دخول أخيك الجنة إذن؟»
«أتمنى ذلك، لكن ليس هذا سبب وقوفي هنا».
«وما هي شكواك إذن؟»
أخذ نفسًا عميقًا وقال: «أبي رجل صالح، أنجب طفلين توأمين. قدّر الله لي أن أموت صبيًا، بينما عاش أخي وكبر. دخلت الجنة مع الداخلين، لكني وجدت أن منزلة أبي أعلى من منزلتي بكثير».
قلت: «آه، لعلك تتساءل لماذا نزلت مرتبتك عن مرتبة أبيك وترغب في أن ترتقي لتكون معه؟»
«نعم، لكن ليس هذا لبّ الموضوع. حين قدّمت شكواي في البداية، أخبروني أن مرتبتي أقل من أبي لأنّه سبقني بالطاعات. فسألتهم: لماذا قبضتم روحي مبكرًا ولم تتركوني أكبر وأجتهد في الطاعات لأصل إلى مرتبة أبي؟ أجابوني بأنهم يعرفون أني لو عشت بعد البلوغ، لكنت سأعصي الله، فقبضوا روحي رحمةً بي، على حد زعمهم، وأدخلوني هذه المنزلة الوسطى. على الأقل أنا في الجنة، حسب قولهم، ولست مثل أخي في النار».
قلت له: «منطق معقول».
فردّ بمرارة: «لكن لماذا لم يطبّقوا نفس هذا المنطق على أخي التوأم؟ هو كبر وعصى الله وصار في النار. لماذا لم يقبضوا روحه مثلي قبل أن يبلغ ما داموا يعرفون أنه سيكون عاصيًا، ليكون معي هنا في الجنة؟ هذه هي شكواي. أقدمها نيابةً عن أخي الذي لا يستطيع الوصول إلى هنا لتقديم دعواه بنفسه».
دار رأسي من الاستماع الى التظلمات التي تنهال على قسم الشكاوي، والتي تبدو وكأنها سيل لا ينتهي. أحدهم يطلب الإذن لزوجته، التي ترافقه في الجنة، بأن تحمل وتنجب ليعيش متعة الأبوة مجدداً بصحبة أطفاله الصغار وضحكاتهم ولهوهم. وآخر يريد أن يسمع اغاني فيروز، إذ أن المتوفر هو فقط أصوات الجواري يترنمن بالتسبيح والتحميد والثناء على الله. وثالث يحنّ إلى الأرجيلة ويطلب نكهة المعسّل برائحة التفاحتين التي اعتادها في الدنيا. وآخر يريد شبكة انترنت لمتابعة قنواته المفضلة في اليوتوب وتطبيقات السناب شات والفيس بوك، طلبات تتوالى وشكاوى لا تنقطع، تفتقر الى حلول لا تنتمي الى هذا العالم.
رفعت رأسي فإذا بأزيز أجنحة الحرس يقترب مني. يلقون عليّ بكلاليبهم ليلتقطوني ويحلقون بي خارج سور الأعراف، متجهين إلى دار السلام. أنزلوني عند رضوان على بوابة الجنة.
قال لي مبتسماً: «أخيراً يا ابن السارح، وجدنا اسمك في قائمة المفقودين».
أجبته بارتياح ممزوج بقلق: «الحمد لله، ولو أن عبارة المفقودين لا تبدو مطمئنة».
قال بنبرة جادة: «لم يحن وقتك بعد».
تتسارع دقات قلبي: «ماذا؟ إذن، ما الذي أفعله هنا؟»
أجابني بابتسامة خفيفة: «حدث لبسٌ عند عزرائيل، قابض الأرواح. ليست هذه أول مرة يخطئ فيها، ويبدو أن هذا العمل قد أثّر عليه. سمعت أنه قدّم طلباً للانتقال إلى وظيفة أخرى».
سألته بفضول: «ما الذي حدث بالضبط؟»
أجاب: «ظنّ أن وقتك قد حان حين غشّت القطة موتك فخدعته ودعست بالخطأ على مسكّن الألم. لكنك لم تمت بعد، ولأنك وصلت إلى هنا وشاهدت ما شاهدت، سنقدم لك عرضاً لا يمكنك رفضه. سنكمل رحلتك ونأخذك في جولة على الجنة والنار، ثم نعيدك إلى دنياك».
تنفست الصعداء وقلت: «يعني، لم أمت بعد؟»
ابتسمت، فقد بدا لي الأمر منذ البداية غير واقعي، لكن متى كانت الآخرة واقعية؟ سأقبل بالعرض، فما الذي سأخسره؟ صحيح أن المرور على الصراط أرعبني، وربما يشيب شعري حين أعود، لكنها ستكون قصة رائعة أرويها لزوجتي على العشاء كل ليلة، كعرض مسبق خاص أُتيح لي، مثلما يُتاح لنقاد الأفلام السينمائية مشاهدة العرض قبل العامة.
أخبرني رضوان أني سأكمل رحلتي بمفردي، وأن قدميّ ستقوداني بلا مرافقة، ولو أني أعلمُ أن أعين الحراس ذوي الأجنحة ستبقى تراقبني. قال لي وهو يشير الى المدخل: «لا تخبر أحداً من أهل الجنة أو النار أنك عائد إلى الدنيا، وتجنب معاشرة أي حورية. تلك هي الشروط».